اسمعوا يا جميع الشعوب

اسمعوا يا جميع الشعوب
المزمور التاسع والاربعون

1. المزمور 49 هو مزمور تعليميّ ينطلق من مسألة الثواب والعقاب (مثل سفر أيوب) ليقول لنا إن لا أحد يستطيع أن يفلت من الموت بدون تدخّل الله الخاص (مز 15). ويتذكّر المرتّل أناشيد مصر أو مقاطع سفر الجامعة التي تقول إن البناء والحكمة والفن باطل، فيستنتج أن الشر قصير العمر وأنه سوف يصيب كل انسان غنيًا كان أو فقيرًا... كلام هذا المزمور يتوجّه إلى كل أنسان، يهوديًا كان أو وثنيًا. فالموت لا يميّز بين مختون وغير مختون، بين كبير وصغير، بين غني وفقير، رغم أن الأغنياء يحسبون أن حظَّهم سيختلف عن حظ باقي الناس بسبب أموالهم. وإذا كان من تمييز، فالله يميّز عندما يفتدي نفس البارّ من يد الموت ويأخذها إليه بعيدًا عن الجحيم.

2. لا يستطيع الانسان أن يشتري الأبدية بأمواله مهما كثرت.
2- 5: نداء معلّم الحكمة إلى الحاضرين ليسمعوه.
6- 13: الموت دمار للأشرار وحياة للأبرار عندما يفتديهم الله.
يدعو المرتّل جميع الشعوب ليسمعوا تعليمًا جديدًا عن الحياة البشريّة وينظروا إلى الغني المفتخر بغناه الذي يعتبر أن ماله يحلّ له جميع مشاكله بما في ذلك الموت. يسأل الناس هل يستطيع الانسان أن يشتري كل شيء بماله؟ فيجيب المرتّل: كما أنك لا تفتدي حياة صاحبك بمالك كذلك لا تفتدي حياتك بمالك، لأن كل كنوز الأرض لا تكفي فدية عن الانسان وتجعله لا يموت. سلطة المال عابرة. أما سلطة الموت فدائمة، ولهذا لا ينجو منه الغني فيحيا إلى الأبد، بل يموت مثل سائر الناس، يموت كالحكيم والجاهل والغبيّ ويترك وراءه غناه لآخرين. بنى قصورًا لم يسكن فيها إلاّ بضعَ سنوات، ولكنه سيكون في قبر سيسكنه إلى الأبديّة ويترك قصوره لغيره. وتأتي اللازمة في آ 13 وتتردّد في آ 21: يشبه الغني البهيمة التي لا فهم لها والتي تُؤخذ إلى المسلخ دون أن تعرف إلى أين هي ذاهبة. ويظهر الموت حينئذ مثل راع يجمع قطيعه في الجحيم، مثوى الموتى، فلا نعود نميّز بين الغني والفقير، ولا نعود نعرف الحكيم من الجاهل.
سخر المرتّل من الغني الذي يماثل البهائم بتفكيره، ونظر بعطف إلى الفقير الذي يعرف أنه ذاهب إلى الموت: لم يسمّ مدنًا وقرى باسمه، ولكنه عاش وهو عارف إلى أين هو صائر. عرف أن المال لا يفتدي نفس الانسان (أي شخص الانسان)، بل الانسان هو وحده من يفتدي نفس الانسان. فإن نزل المؤمن إلى الجحيم فالرب سوف يأخذه من هناك كما أخذ أخنوخ (تك 5: 24) وإيليا (2 مل 2: 9) بينما يبقى الغني في الجحيم (لو 16: 22). ويستخلص المرتّل الأمثولة: لا تخف إذا نجح الغني، ولا تتساءل بقلق إذا كان الله أمينًا لدعوته وكلمته. فعند الموت أنت تحصل على الجواب وتتعرّف إلى أمانة الله: عند ساعة الموت يفتح الغني عينيه فيعرف أنه صار فقيرًا معوزًا.

3. كان منظر الغني يؤلم التقيّ الاسرائيليّ: الغني ينجح والبار ينجح، الشرير يخسر والبار يخسر، ويطلق المرتّل صرخته: لماذا؟ ثم يدعو جميع الشعوب بمن فيهم اليهود، ليلقي إليهم بعض الاضواء على هذه المسألة التي تحمل الانسان على الشكّ بكلمة الله ومواعيده.
ما هو مصير الذين يبنون حياتهم وسعادتهم على المال، ويضحّون من أجل هذا المال حتى بأقربائهم وأصدقائهم؟
الجواب الأول: الموت يعيد إلى العدم كل خليقة على الأرض، فمن نسي هذه الحقيقة، صار شبيهًا بالبهائم. وفي عالم الموت يصبح البشر كغنم يقوده الراعي.
الربّ يفتدي حبيبه، وهو أحد المساكين، وينتزعه من مخالب الجحيم، ويأخذه كأخنوخ أو إيليا، أو يقيمه مع الموتى بحسب وعد الرب: "ستحيا موتاك" (أش 21: 19) ويستيقظ بعضهم للحياة الأبدية (دا 12: 2).
4. نهاية حياتنا على الأرض هي بداية حياتنا مع المسيح الذي أحبّنا والحبّ أقوى من الموت.
5. يقدّم الملك النبيّ في هذا المزمور دروسًا عظيمة وخفيّة. فما كان ليدعو العالم كله لكي يأتي ويستمع إليه. وما كان اختار المسكونة مسرحًا، لو لم يرد أن يعلّمنا حقائق عظيمة تفرض نفسها، وتستحقّ أن تقدّم لمثل هذه الجماعة الواسعة. فهو كنبيّ لا يتكلّم فقط إلى اليهود، بل يتوجّه كرسول وانجيليّ إلى الجنس البشريّ كله. فالشريعة كانت توجّه تعليمها إلى أمّة واحدة، في زاوية من زوايا الأرض. أما الكرازة الانجيليّة فدوّنت على كل سطح الأرض، وامتدت إلى أطراف المسكونة، وجالت في المناطق التي تنيرها الشمس بأنوارها. كانت تعاليم الشريعة مقدّمة بدائيّة وخدمت الشجب والموت. أما تعليم الكرازة فحملَ النعمة والسلام.
بما أن المرتّل دعا الكون كله ليسمع أقواله، فلنلبِّ دعوته ونرى ماذا يريد أن يعلّمنا هذا الملفان ومعلّم الجنس البشريّ. هل تدعو البشارة جميع البشر بلا تمييز، البرابرة والفلاسفة والأناس العاديين؟ أجاب: نعم. ولهذا بدأ مزموره بهذه العبارة: "أيها الشعوب اسمعوا كلكم". وأضاف موضحًا فكره: "أنتم يا جميع الساكنين الأرض، وأنتم يا بني البشر". أي تعليم عجيب، وهو يتوافق مع جميع العقول. لهذا، لسنا فقط أمام نداء عاديّ يوجّه إلى جميع البشر، بل أمام معلّم يدعوهم لكي يسمعوا أقواله بجدّ وانتباه.
وبعد هذا النداء، تُضبط الكبرياء التي قد يحسّون بها بسبب كثرة عددهم. فالاستعداد اللازم لتعليم الحكمة هو التوبة والتواضع والقلب المحرّر من كل عجرفة وعاطفة تكبّر. وكيف يضبط هذا الاكتفاء وهو باطل؟ يذكّرهم بطبيعتهم البشريّة... لهذا أضاف: "وأنتم يا بني البشر". آباؤكم بشر مثلكم، مبدأهم وأصلهم الأرض. فكيف يستطيع التراب والرماد أن يتكبّر (سي 10: 9)؟ اعتبروا من هي أمّكم، وليوقف هذا الاعتبار كل عاطفة كبرياء. اعتبروا أنكم "تراب، وإلى التراب تعودون" (تك 3: 9) فتبعدوا عنكم كل عجرفة. هؤلاء هم السامعون الذين أريدهم. وأودّ أن أجعل فيكم عواطف اعتدال لاهيِّئكم لفهم كلماتي.
"الأغنياء والفقراء". أنظروا نبل الكنيسة وسخاءها. وكيف ننكر هذا النبل ساعة لا يكون الاختلاف في الوضع سببًا لمحاباة الوجوه بين التلاميذ؟ فهي تنشر تعليمها بلا تمييز بين الفقراء والأغنياء، وتجعلهم يتّكئون معًا إلى طاولة مشتركة... وها أنا أدعوكم كلكم، ونحن من طبيعة واحدة، والأرض كلها هي مدينتنا المشتركة. لا أقبل الاغنياء وأرذل الفقراء، ولا أدعو الفقراء واستبعد الاغنياء. بل أدعو الجميع بلا تمييز وفي الدعوة التي أطلقها، ليس من أوّل ولا آخر. فكلّهم مدعوّون في الوقت عينه. فالجماعة واحدة. والعظة واحدة. والجمهور واحد. وكل شيء مشترك بيننا. أنتم أغنياء، ولكنكم خرجتم من ذات الطين، ودخلتم إلى العالم الدخول عينه. أصلكم وأصل الفقير واحد. أنتم أبناء البشر، والفقراء أيضًا. (يوحنا فم الذهب).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM