تقديم
"أحبب وافعل ما تشاء". هذا ما قاله أوغسطينس، أسقف هيبونة (عنابّة، الجزائر) في أفريقيا الشماليّة وهو يعظ في المؤمنين المعمّدين، خلال أسبوع الآلام من سنة 407. شرح رسالة يوحنا الأولى، وكان منشغلاً بهرطقة الدوناتيين التي قسمت كنيسة افريقيا خلال القرن الرابع، وشدّد على وحدة الايمان التي لا يمكن أن تكون حقيقيّة إلاّ إذا رافقت المحبّة مثل هذا الايمان.
كتب يوحنا ثلاث رسائل، فجاءت تلتقي في أكثر من نقطة مشتركة. تشير كلها إلى وضع من الصراع. جاءت الرسالة الثالثة بطاقة وجّهها الشيخ (وقد يكون يوحنا الرسول) إلى شخص محدّد فحدّثه عن أهميّة الضيافة بالنسبة إلى المرسلين المتجولين. أما الرسالة الثانية فتوجّهت إلى جماعة ترتبط بالشيخ، فحذّرها من خصم هو الانتيكرست، المناوئ للمسيح، المسيح الدجّال. وبدت الرسالة الأولى بشكل مقال هجوميّ يندّد بالخصوم، ويقدّم التعليم الحقّ. قالوا: هي عظة قبل أن تكون رسالة. سمعتها الجماعات اليوحناويّة العائشة في أزمة ايمانيّة خلال السنوات 90-95.
بدأت الجماعات اليوحناويّة في سورية. ثم امتدّت شيئًا فشيئًا فوصلت إلى آسية الصغرى بعاصمتها أفسس. ولا ننسى أن التقليد يجعل يوحنا الحبيب ينهي حياته في أفسس. عاشت هذه الجماعات من روحانيّة الانجيل الرابع الذي هو شهادة نقلها "المؤسّس" الذي هو "التلميذ" الذي كان يسوع "يحبّه". عادت هذه الجماعات إلى البدء، إلى بدء إعلان البشارة ومسيرة الايمان في هذا الجزء ممّا يُسمّى اليوم تركيا. وقدّمت كلامًا لاهوتيًا أرادت أن تعمّق فيه معرفتها للمسيح.
ولكن تنوّعت الجماعات، وتنوّعت التفاسير. راحت فئة في خطّ الانجيل فبدت أمينة للتعليم الذي وصل إليها منذ البدء، فاعتبرها كاتب الرسائل "في الحق" في خطّ من قال: أنا هو الطريق والحقّ والحياة. أما الفئة الثانية فارتبطت بتيّارات غنوصيّة سوف تتوضّح كتابة خلال القرن الثاني المسيحيّ. كتب "يوحنا" ليثبّت الأولى في الايمان الذي يعود إلى التقليد، وليفهم الثانية الضلال الذي تتخبّط فيه، وفي الوقت عينه تعتبر أنها في الحقّ. لهذا جاءت أقوال 1يو بشكل متوازٍ: إذا قلنا إننا نشاركه ونحن نسلك في الظلام كنّا كاذبين... أما إذا سرنا في النور... إذا زعمنا أننا بلا خطيئة خدعنا أنفسنا... أما إذا اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل. وتتوالى الرسالة في شكل جدليّ، فتفضح الخصوم الذين هم أنبياء كذبة ومسحاء دجّالون. فأي توافق بين الحياة المسيحيّة والخطيئة؟ وما هي هذه المعرفة التي لا تصل بنا إلى المحبّة الأخويّة؟ وماذا يعني الايمان إن هو فصل الابن عن الآب، والمسيح عن يسوع، فاعتبر أن ابن الله لم يأت في الجسد. بل إن المسيح حلّ على يسوع في العماد وتركه قبل الصليب. وهكذا تنزّه الله في حياته مع البشر عن الألم والضعف والموت. وهكذا دخلنا في عالم من الهراطقة، بدأ مع الفلسفة اليونانيّة التي تعتبر المادة شرًا، وانتهى في هذا الشرق الذي أنكر أن يكون ابن الله صار بشرًا وسكن بيننا.
تلك هي أفكار تدخل إلى رسائل يوحنا الثلاث. ونحن بحاجة إلى قراءتها لأن مشاكلنا لا تختلف كثيرًا عن مشاكل الكنيسة في القرن الأول المسيحيّ. هكذا نعود إلى إيماننا بالله الآب والله الابن، بعلاقة محبتنا بالله مع محبتنا للقريب، بثقة تفهمنا أننا نغلب العالم بما يقدّم من شرور وشهوات "لأن الذي فينا أقوى من الذي في العالم"، لأن الله الذي معنا أقوى من إبليس الذي في العالم، وفي النهاية، لأن يسوع غلب العالم، ويدعونا لكي نشاركه في هذه الغلبة.