الفصل الثاني والثلاثون: غضب الله وبره في رسائل القديس بولس

الفصل الثاني والثلاثون
غضب الله وبره في رسائل القديس بولس

غضبُ الله عبارة بشرية تدلّ على رفض الله للخطيئة في العالم. وحكمته ترتبط بعمله في تدبيره الخلاصي ولاسيّما تجاه العالم الذي أظهر غباوة لا حدّ لها فلم يعرف الله. أما برّ الله فيدلّ على قداسته وتعامله مع البشر ليجعلهم أبرارًا، أي عاملين بمشيئته، حافظين لوصاياه. هذه هي "الصفات" التي تساعدنا بعض الشيء على التعرّف إلى وجه الله حسب التعبير البشري الذي يؤكد شيئًا ولا يعتّم أن ينفيه. فالله أكبر من أن تحدّه مفاهيمنا والكلمات التي نستعملها.

1- غضب الله
قد هيّأنا الله في حبّه للحصول على الخلاص بواسطة ربنا يسوع المسيح. ولكن أما تتضمّن هذه التهيئة المسبقة الشجب والحكم بالهلاك الابدي؟ فهل يكون الاله الذي دعانا إلى الايمان والمجد هو أساس الخطيئة والهلاك الابدي؟ هذا ما نظنّه حين نستعمل عبارات العهد القديم التي تشدّد بقوّة على الله سبب وعلّة كل شيء.

أ- الغضب
يتحدّث العهد الجديد عامة وبولس خاصّة عن محبّة الله. ولكنهما يتحدّثان أيضًا عن غضبه. لا نجد كلمة "غضب" في الأناجيل إلاّ مرة واحدة على لسان يوحنا المعمدان (مت 3: 7= لو 3: 7: "يا أولاد الافاعي من علّمكم أن تهربوا من الغضب الآتي"؟) ومرتين على لسان يسوع. في المرة الاولى حين يتحدّث عن دينونة الرب لاورشليم والحكم عليها (لو 21: 23): "ستنزل النكبة على هذا البلد وغضب الله على هذا الشعب". ومرة ثانية حين يتحدّث عن المؤمن الذي ينال الحياة الابدية، واللامؤمن الذي يعرف الهلاك الابدي. "من يؤمن بالابن فله الحياة الابدية. ومن لا يؤمن بالابن، فلا يرى الحياة، بل يحلّ عليه غضب الله" (يو 3: 36). فمن رفض الايمان خسر كل حماية أمام دينونة الله أو غضبه.
ولكننا نجد لفظة الغضب ما يقارب خمس عشرة مرّة في رسائل القديس بولس (1 تس، روم، كو، أف) وعشر مرات في سفر الرؤيا. نقرأ مثلاً في 1 تس 2: 15 عن اليهود الذين قتلوا الرب يسوع والأنبياء واضطهدونا، والذين لا يرضون الله ويعادون جميع الناس. "لقد جاوزوا الحدّ بخطاياهم. لهذا، سينزل عليهم في النهاية غضب الله" (آ 16). وفي 5: 9 يدعونا بولس إلى اليقظة. "فالله جعلنا لا لغضبه بل للخلاص". أما سفر الرؤيا (16: 19) فيتحدّث بالاحرى عن غضب الله ضد الأمم الوثنية ولاسيّما "بابل العظيمة" التي تدلّ على رومة عاصمة العالم الوثني.
تعود لفظة الغضب إلى العهد القديم حيث تشكّل مفهومًا أساسيًا. فإذا عدنا إلى التوراة نرى أن النصوص تتحدّث عن غضب الله أكثر من حديثها عن غضب الانسان. هذا لا يعني أن الغضب يحدّد الله في العهد القديم، كما يحدّده الحب في العهد الجديد (1 يو 4: 8). وهذا لا يعني أيضًا أن الغضب صفة من صفات الله بجانب الحبّ والامانة والرحمة.
لا ننسى هنا التحديد الذي نقرأه في خر 34: 6: "الرب الرب إله رحيم حنون، بطيء عن الغضب وكثير المراحم الوفاء" (إله أمين وصادق). أجل، الرب هو الرب لأنه محبّة (رحمة) وغفران. وسيستعيد نحميا (9: 17) هذا الكلام عينه ويطبّقه على الشعب العائد من المنفى (ظنّ أن الله غضب عليه وضربه): "أنت إله غفور، حنون، بطيء عن الغضب، كثير الرحمة".
غير أن الرب الذي هو إله المراحم هو في الوقت عينه إله الغضب ولا يني الانبياء يذكّرون شعب اسرائيل ويحذّرونه: هم ينتظرون يوم الرب (يوم مجيئه، وحضوره) كيوم خلاص. ولكن قد يكون يومُ الرب يومَ غضب، لا للأمم الوثنية فقط، بل لشعب اسرائيل نفسه. نقرأ مثلاً صف 1: 14 ي: "قريب يوم الرب العظيم، قريب وسريع جدًا. يوم الرب قصير مرّ يصرخ فيه الجبّار. يومُ حنق ذلك اليوم، يوم ضرر وضيق، يوم سوء ومساءة، يوم ظلمة وسواد..." (رج هو 1: 5؛ عا 5: 18). هكذا سوف يتدخّل الله. لن يكون يومُه يومَ نصر، بل يوم فشل. فالله يعامل شعبه الخائن وكأنه "عدوّ" له.

ب- غضب الله
ولكن كيف تنسب التوراة إلى الله عاطفة لا ترضاها عند الانسان؟ ففكرة الكتاب المقدّس عن الله هي أسمى وأنقى من كل تعبير بشري. نحن بالاحرى أمام استعارة يعبّر بها العهد القديم بالصورة والتشبيه، عن ردّة فعل الله أمام خطيئة الانسان. وهو يتجنّب في النسخة العبرية واليونانية (السبعينية) كل ما يدلّ على أن الخطيئة تصيب كيان الله أو تؤثّر في شخصه الحميم. مثلاً، يتحدّث إرميا عن الذين يستعدون للذبائح الوثنية لكي "يغيظوا الله". فيجيب الرب: "فهل هم حقًا يغيظونني؟ ألا يعود ذلك عليهم بالعار" (إر 7: 19)؟ أما يجب أن يستحوا؟ ألا تحمرُّ وجوههم خجلاً. وبعد هذا، يحلّ العقاب فيعبّر عن "غضب الله ورفضه لهذه الممارسات"
قد نستطيع أن نتحدّث عن خطيئة "تغيظ" (تحمله على الغضب الشديد) الله. ولكن من الافضل أن نقول: إن الخطيئة تثير الله وتعاكسه. وهكذا ندلّ على أن لا توافق اطلاقًا بين الله والخطيئة. وهناك نتائج لا مفرّ منها تستتبع قرار الانسان بأن يعارض الله، بأن يكتفي بذاته (دون العودة إلى الله. ينقطع كالغصن عن الشجرة)، بأن يتصرّف حسب مشيئته الخاصّة لا مشيئة الله. هذا هو عمق أعماق الخطيئة، وهذا ما لا يريده الله.
غضبُ الله يقابل ما سيسمّيه اللاهوتُ اللاحق العدالة التي تحمل العقاب. فغضب الله ليس في حدّ ذاته عدالة تحمل العلاج إلى المؤمن، عدالة تحمل الشفاء بل الموت. ونحن نفهم الموت في المعنى الواسع حرمانًا ممّا نسمّيه الخلاص: بقدر ما يتعمّق على مدّ العصور مضمونُ الحياة، يتعمّق في موازاته مضمونُ الموت الذي هو نتيجة من نتائج غضب الله. ولكنه يُعتبر منذ البدء "هلاكًا" يقدّم لنا نموذجه كارثةُ الطوفان في "زمن الغضب" (سي 44: 17).
لهذا فغضب الله وخلاص الله يتعارضان ويتناقضان. والخلاص لا يكون ممكنًا، إلاّ ساعة يتوقّف الغضب. وهذا واضح في أقدم النصوص وفي أحدثها عهدًا. فآخر الاخوة المكابيين، حين طلب الخلاص لشعبه، توسّل إلى الله أن "يوقف غضبه" (2 مك 7: 38). ودانيال صلّى إلى الرب قال: "كما كنت بارًا (أظهرت برارتك بأعمال من أجل شعبك) في كل أعمالك، عُد عن شدّة غضبك على مدينتك أورشليم" (دا 9: 16). كم نحن قريبون ممّا فعله موسى بعد حادثة العجل الذهبي. عاد إلى سيناء يتوسّل إلى الله "ليضع حدًا لغضبه" (خر 32: 12).

ج- دينونة في آخر الازمنة
إن غضب الله الذي هو نتيجة تمرّد الانسان، يظهر بصورة رئيسية في الدينونة الاسكاتولوجية، وذلك حين يتثبّت بشكل نهائي في هذا التمرّد، فلا يعود مجال للتوبة. هذا ما نسميه عقاب جهنّم.
ما كان صحيحًا بالنسبة إلى العهد القديم حيث الغضب يميّز يوم الرب (يهوه)، يبقى صحيحًا بالنسبة إلى العهد الجديد حيث المضمون ينحصر في إطار اسكاتولوجي، في إطار نهاية الازمنة من موت ودينونة. ذكرنا مثلين في الفقاهة الازائية. الأول نقرأه في مت 3: 7= لو 3: 7. والثاني في لو 21: 23. وأكثر الامثلة عند القديس بولس تدلّ على هذا "اللون".
نقرأ في 1 تس 1: 10: "منتظرين مجيء ابنه من السماوات، وهو الذي أقامه الله من بين الأموات، يسوع المسيح الذي ينّجينا من الغضب الآتي". يتحدّث عن الغضب الذي يتجلّى حين يحكم الله على الخطأة في مجيء ربنا (رج 1 تس 5: 9: "جعلنا الله لا لغضبه"). ونقرأ في روم 2: 5: "ولكنك بقساوة قلبك وعنادك تجمع لنفسك غضبًا في يوم الغضب (أي: يوم الديانة الاخيرة) حين تنكشف دينونة الله العادلة". وفي آ 8: "بالغضب والسخط والضيق على المتمّردين الذين يرفضون الحق وينقادون إلى الباطل" (رج 3: 5: "إذا أنزل غضبه").
لا شكّ في أن غضب الله يستطيع أن يظهر منذ هذه الحياة: فمنذ الآن هو يصيب اليهود الذين لا يؤمنون، الذين يعارضون ارتداد الوثنيين (1 تس 2: 16: "يمنعونا من تبشير الأمم الوثنية) لهذا يسمّون "آنية غضب" (روم 9: 22). أي: أناس تجاهلوا طرق الله وتعلّقوا بالخطيئة فصاروا موضوع غضب الله. صاروا كثمرة ناضجة للهلاك.
والحقبة التاريخية السابقة للمسيح تدلّ في نظر القديس بولس على غضب الله. كما نقرأ في روم 1: 18 ي: "فغضب الله معلن من السماء على كل كفر الناس وشرّهم. هم يحجبون الحقّ بمفاسدهم..". ولكن هذا الغضبَ يعلن منذ الآن في خطيئة الفئتين أي اليهود والوثنيين، في تمرّدهم على الله. هناك عناد لدى اليهود الذين يتشبّثون في كفرهم وعدم أمانتهم. وهناك مفاسد تميّز العالم الوثني وليس آخرها الخطايا التي تناقض طبيعة الانسان.
إن غضب الله الذي هو ردّة فعل على خطيئة الانسان، يفترض هذه الخطيئة: في الواقع ليس الله هو الذي يرفض الانسان ويرذله، رغم ما يتصوّره الانسان. بل هو الانسان الذي يرفض بإرادته الحرة الله ومحبّته. والتعليم البيبلي واضح في هذا المجال. فالتوراة تؤكّد بقوّة التنافر الجذري بين الله والخطيئة، وهي تمنعنا أن نرى أصل الحاجز في الله. الحاجز الذي تضعه الخطيئة فينا هو من صنع الانسان وحده.
هناك عبارات بولسية أسيء فهمها، خصوصًا في روم 1: 24 ي ("أسلمهم الله إلى شهوات قلوبهم")؛ 9: 11- 2. نحن نفهمها في إطارها وبالنظر إلى المسألة التي يطرحها بولس: فهو لا يعالج الحكم بالهلاك على الافراد، بل الدور الذي جعله الله لشعبه في تاريخ الخلاص: ففرعون ليس نموذج "الهالكين" (في جهنم)، بل هو يمثّل اسرائيل الذي يعلن بولس أن الله لم يرذله (روم 11: 1- 2)، ويكشف سرَّ ارتداده في المستقبل (روم 11: 25 ي).
فهذه الفصول التي بدأت بصرخة تدلّ على القلق والغمّ (روم 9: 1- 5)، إنتهت بصرخة اعجاب وشكر أمام غنى الله الخلاصي، أمام معرفته وحكمته وسيادته على التاريخ، أمام طرقه التي تحيّر عقول البشر المحدودة. فهذا الاله أمّن انتصار رحمته. ووجد للشر الذي لم يصنعه، وللخطيئة التي هي تمرّد الانسان على مخطّطه الخلاصي، وجد له موضعًا في مخطّط الخلاص عينه (روم 11: 33، 36).
فعلى موضوع الغضب الذي يعلّمنا أن الله يعاقب الخطيئة، أضاف القديس بولس أيضًا موضوعًا بيبليًا، هو موضوع حكمة الله. حين فكّر بالخطيئة وبالاسباب السرية التي لأجلها يسمح الله بالخطيئة، هتف: "ما أعمق غنى الله وحكمته وعلمه! وما أصعب إدراك أحكامه وفهم طرقه" (روم 11: 33)!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM