الفصل الثلاثون: مبادرة الله ونداؤه في رسائل القديس بولس

الفصل الثلاثون
مبادرة الله ونداؤه في رسائل القديس بولس

حين نعود إلى كتابات القديس بولس، يلفت انتباهنا المكانة الفريدة التي يمثّلها يسوع المسيح في فكره. فالمسيح الممجّد الذي ظهر لرسوله على طريق دمشق وكشف عن نفسه له في ذلك الوقت، قدّم نفسه على أنه ابن الله. "الله بنعمته اختارني، أعلن ابنه فيّ لأبشّر به بين الأمم" (غل 1: 15- 16). فالتعليم البولسي هو في أساسه تعليم كرستولوجي. فالمسيح هو مبدأ كل شيء ووسطه وغايته. ومع ذلك، لا نستطيع أن ننسى مكانة الله الآب. فالقديس بولس يرى، شأنه شأن اليهود في عصره، أن الله هو الينبوع الأول، هو العناية الشاملة، هو الغاية السميا لجميع الكائنات. لا شيء يُصنع من دون مبادرته، ولا شيء يحصل إلاّ به.
من أجل هذا نحاول أن نكتشف عمل هذا الاله في رسائل القديس بولس. نتوقّف عند ثلاثة أفكار: مبادرة الله الآب، الصلاة التي نرفعها إلى الله الآب، نداء الله الآب لنا.

1- مبادرة الله الآب
إن هذه المبادرة لا تشرف فقط على فكر بولس من الداخل، بل هو لا يني يعبّر عنها بوضوح تام وباستمراريّة لاشكّ فيها. هو يذكر اسم يسوع مرارًا. ويذكر اسم الله الآب وخصوصًا في القسم العقائدي (1- 11) من الرسالة إلى رومة. فالانجيل هو حقًا انجيل المسيح وقد أعلنه خلال حياته الأرضية. بل موضوع الانجيل هو يسوع، الانجيل هو يسوع. هذا ما نقرأ مثلاً في 1 تس 3: 2. يقول بولس: "أرسلنا تيموتاوس معاوننا في "انجيل المسيح". وفي 1 كور 9: 12: "احتملنا كل شيء لئلاّ نضع عقبة في طريق إنجيل المسيح". وفي روم 15: 19: "من أورشليم إلى اليركون أعلنت انجيل المسيح".
ولكن في نظر بولس، الانجيل هو "انجيل الله". يقول في 1 تس 2: 2: "كانت لنا الجرأة لكي نبشّركم بانجيل المسيح". ويعود إلى القول عينه في آ 8، 9، كما في روم 1: 1 (دُعي بولس ليعلن انجيل الله)؛ 15: 16 (وأنا أخدم انجيل الله). فالانجيل عند بولس، كما في الفقاهة الازائية، هو "انجيل ملكوت الله" (مر 1: 15). الكلمة هي كلمة الرب (1 تس 1: 8، أي الرب يسوع)، وكلمة الله أيضًا. يقول الرسول: "نحمد الله لما تلقّيتم من كلام الله" (1 تس 2: 13).
يتحدّث بولس عن سرّ المسيح (أف 3: 4: أن تعرفوا كيف أفهم سر المسيح)، كما يتحدّث عن "سر الله" (كو 2: 2: معرفة سر الله)، وعن سر مشيئته. فالسرّ يدلّ على مخطّط الله الازلي. أخفي في الماضي على البشر، وكُشف الآن في شخص يسوع. تتحدّث كو 1: 26- 27 عن "السر الذي كتمه الله طوال الدهور والاجيال، وكشفه الآن لقديسيه الذين أراد الله لهم أن يعرفوا كم كان هذا السر غنيًا". ويقول بولس في أف 1: 9- 10: "كشف لنا الله سر مشيئته الذي ارتضى في نفسه أن يحقّقها، أي التدبير الذي يتمّمه عندما تكتمل الازمنة فيجمع في المسيح كل شيء في السماوات وعلى الأرض". مخطّط الله هو أن يُجمل ويستعيد ويجمع. مخطّط الله هو أن يجعل يسوع رئيس البشرية كلها، بل سيّد الكون، سيّد السماوات والأرض.
ويكلّمنا بولس عن النعمة التي نالها في المسيح، عن "نعمة ربِّنا يسوع المسيح" (روم 6: 20). بل هو يكلّمنا عن مبادرة نعمة الله، خصوصًا في بداية حياته التبشيرية: "الله بنعمته اختارني وأنا في بطن أمّي فدعاني إلى خدمته، وعندما شاء أن يعلن ابنه فيّ..." (غل 1: 15- 16). وسيقول في 1 كور 15: 10: "بنعمة الله أنا ما أنا عليه الآن، ونعمته عليّ لم تكن باطلة...". بل يعود الرسول إلى الهدف الاساسيّ إلى كل عمل الله، إلى مخطّطه الخلاصي فيقول: "وقضى الله بسابق تدبيره أن يتبنّانا بيسوع المسيح على ما ارتضى وشاء، لحمد نعمته المجيدة" (أف 1: 5- 6).

2- صلاة نرفعها إلى الله الآب
كلفا يعرف كم يتكلّم بولس عن الصلاة، عن صلاته وصلاة المؤمنين. ونذكر بصورة خاصة صلوات الشكر والطلب، ولاسيّما في بداية الرسائل. فصلاة بولس تتوجِّه عادة إلى الله الآب بواسطة ابنه يسوع. يقول لأهل أفسس (1: 2): "عليكم النعمة والسلام من الله أبينا ومن الرب يسوع المسيح". ولأهل كورنتوس: "أشكر الله لأجلكم دومًا على النعمة التي وهبها لكم في المسيح يسوع" (1 كور 1: 4). والله "هو الذي يحفظكم ثابتين إلى النهاية" (آ 8).
هناك مرات عديدة ترتفع الصلاة فتتوجّه إلى الله الآب أو الرب يسوع المسيح. ما هم؟ فالابن مساو للآب، وما نطلبه من الآب نطلبه من الابن. يقول بولس في نهاية 2 تس (3: 5): "هدى الرب قلوبكم إلى ما في الله من محبّة وما في المسيح من ثبات". ثم يقول (آ 16): "رب السلام نفسه يمنحكم السلام في كل وقت وفي كل حال".
وخلال حديثه عن اللمَّة من أجل الكنائس، يربط بولس عطاء المؤمنين بنعمة الله: "يدعو (= أهل أورشليم) لكم من أجل نعمة الله الفائقة فيكم (يا أهل أخائية، عاصمتها كورنتوس). فالحمد لله على عطيّته التي لا توصف" (2 كور 9: 14- 15). وسيقول لأهل فيليبي (1: 3 ي): "أحمد إلهي كلّما ذكرتكم... فأنا واثق بأن الذي بدأ فيكم عملاً صالحًا سيسير في اتمامه". فعل شكر عن النعم السابقة سيتحوّل فيما بعد إلى صلاة حارّة من أجل المستقبل: "لا تقلقوا أبدًا. بل اطلبوا حاجتكم من الله بالصلاة والابتهال والحمد" (فل 4: 6).
وتذكر الرسالة إلى أفسس (5: 19- 20) المزامير والتسابيح والاناشيد الروحية". وتقول: "رتّلوا وسبّحوا للرب في أعمات قلوبكم، واحمدوا الله حمدًا دائمًا على كل شيء، باسم ربنا يسوع المسيح" (رج كو 3: 16: "شاكرين الله من أعماق قلوبكم"). هي صلوات تتوجّه إلى المسيح، بل صلوات تتوجّه إلى الله باسم المسيح. هذا ما نقرأ في كو 3: 17: "ومهما يكن لكم من قول أو فعل، فليكن باسم الرب يسوع، حامدين به الله الآب".
المسيحي هو الذي يدعو باسم الرب يسوع. يتوجّه بولس إلى كنيسة الله في كورنتوس. إلى الذين "قدّسهم الله في المسيح يسوع ودعاهم ليكونوا قديسين مع جميع الذين يدعون في كل مكان باسم ربنا يسوع المسيح، ربّهم وربنا" (1 كور 1: 2). هذا هو تحديد المسيحي. ينطلق فيه القديس بولس من العهد القديم، فيطبّق على يسوع ما قالته التوراة (يوء 3: 5) عن الله. ويبيّن الرسول أن الفروقات على مستوى العرق أو الأهل قد زالت. فما يجمع المسيحيين في فئة واحدة هو أنهم يدعون اسم الرب. "لا فرق بين اليهودي والوثني" (غير اليهودي)، لأن لهم كلهم ربًا واحدًا يفيض خيراته على كل من يدعوه. (فالكتاب يقول:) "كل من يدعو باسم الرب يخلص" (روم 10: 13).
يتوجّه المؤمنون في الليتورجيا إلى الله الآب، ولكنهم يوجّهون صلاتهم باسم الرب يسوع. وهذا لا يعني فقط أنهم يتلفّظون بأفواههم باسم يسوع. بل هم يتّحدون بالرب يسوع. ومنذ الآن، ليسوا هم الذين يصلّون، بل هو المسيح يصلّي فيهم إلى الله الآب فيدعوه باسم خاص به: أبّا، أيها الآب. وأصالة الصلاة المسيحية لا تقوم فقط بأنها تتوجّه إلى الله الآب، بل بأنها تتوجّه إليه بربنا يسوع المسيح. فيسوع ليس فقط وسيطًا ومتشفّعًا، بل هو الوسيط الوحيد بين الله والناس (1 تم 2: 5).
ونذكر في النهاية المجدلات التي فيها نرفع المجد ونبارك المسيح والله الآب. تحدّث بولس عن المسيح الذي جاء في الجسد، الذي هو الكائن على كل شيء. الذي هو إله مبارك إلى الأبد (روم 9: 5. أو: تبارك الله إلى الأبد). ويقول بولس عن نفسه: "سينجّيني الرب من كل شرّ ويحفظني لملكوته السماوي. فله المجد إلى أبد الدهور آمين." (2 تم 4: 18).
ونجد صلوات هي بشكل مجدلة في 2 كور 1: 3- 7: "تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح...". أو في أف 1: 3- 4: "تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، باركنا في المسيح كل بركة روحية في السماوات...". أو في 1 تم 1: 17: "لملك الدهور، الاله الواحد الخالد غير المنظور، كل إكرام ومجد إلى أبد الآبدين. آمين" (رج روم 16: 25- 27؛ أف 3: 20- 21). هذه الصلوات تُنشد مجدَ الله الآب، مع التشديد على مكانة يسوع كوسيط العهد الجديد.

3- نداء الله الآب
أ- أولوية الله الآب
شدّدت الصلاة على أولويّة الله الآب في عمل الخلاص. وسيشدّد موضوع النداء على هذه الاولويّة بشكل أقوى. فالنداء إلى النعمة والنداء إلى المجد، وكل دعوة في الكنيسة، تُنسب إلى الله.
العبارات كثيرة في هذه المعنى وهي جد واضحة. نقرأ في 2 تس 2: 13- 14: "اختاركم الله منذ البدء للخلاص في تقديس الروح والايمان بالحق. إلى هذا دعاكم الله بإنجيلنا لتنالوا مجد ربنا يسوع المسيح" (رج 1 تس 5: 9: جعلنا الله للخلاص). وسيؤكّد بولس في نهاية 1 تس (5: 24): "فالذي دعاكم هو أمين". ونقرأ في 1 كور 1: 9 كلامًا يحدّثنا عن الله الآب وعن وساطة المسيح: "أمين هو الله الذي دعاكم إلى مشاركة ابنه يسوع المسيح ربنا" (رج 10: 13: الله صادق يهب مع التجربة وسيلة للنجاة). فالله لا يكتفي بأن يدعو. بل هو يجعلنا جديرين بندائه (2 تس 1: 11: "نسأل إلهنا أن يجعلكم أهلاً لدعوته"). هنا نفهم روم 1: 6 لا بالدعوة إلى النعمة بيسوع المسيح، بل بالدعوة لنعيش المشاركة مع يسوع المسيح، فنكوّن معه شخصًا سريًا: "أنتم كلكم واحد في المسيح يسوع" (غل 3: 28، رج أف 1: 6: ابن في الابن).
وإذ أراد بولس أن يدلّ على جماعة (أو: جماعات) مختاري الله، استعمل لفظة "كنيسة" (أو: كنائس) الله. تكلّم مرّة واحدة عن "كنائس المسيح" (روم 16: 16) فأوجز عبارة واسعة هي "كنيسة (أو: كنائس) الله في المسيح يسوع" (1 كور 1: 2). الكنيسة هي جماعة الذين يدعوهم الله.

ب- النداء إلى الرسالة
إذا كان بولس رسولاً، شأنه شأن الاثني عشر، فهذا يعود إلى أنه تسلّم رسالته مباشرة من المسيح القائم من الموت (1 كور 15: 8). فانجيله هو "وحي يسوع المسيح" (غل 1: 12). وهو بلا شكّ رسول يسوع المسيح على مثال الذين اختارهم يسوع وأرسلهم أمامه.
وكل مرة يطالب بولس بلقب رسول، فهو يذكر اسم الله الآب. فيعلن بصريح العبارة أنه نال هذه الرسالة "بمشيئة الآب" أو "بحسب أمر الآب". أعلن في غل 1: 1 أنه رسول "لا من الناس ولا بدعوة من انسان، بل بدعوة من يسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من بين الأموات". وإذ يتذكّر ظهور المسيح له على طريق دمشق، سيشدّد على المبادرة المجانيّة التي وصلت إليه من الله الذي "بنعمته اختارني وأنا في بطن أمي فدعاني إلى خدمته" (آ 5).
ويختار بولس بكل عناية العبارات التي تصوّر في التوراة دعوة إرميا (1: 5) أو عبد الله (أش 49: 1). وهذا، لكي يبرز تواصل المخطّط الفدائي: فالاله الذي أرسل في الماضي الأنبياء، إختار اليوم بولسَ وأرسله. فالاله الخالق الذي قال: "ليشرق من النور الظلمة"، هذا الاله هو الذي أضاء نوره في قلوبنا (2 كور 4: 6).
ولا يني بولس في جميع رسائله يذكّر بهذه المبادرة الالهية. ففي الله "كانت له الجرأة ليكرز في تسالونيكي انجيل الله في وجه معارضة شديدة" (1 تس 2: 2). والله هو الذي سلّمه مهمّة بأن "يجعل كلمة الله معروفة تمام المعرفة" في كولسي (كو 1: 25). وهو الذي "فتح له باب الكلام ليبشّر بجرأة بسرّ المسيح" (كو 4: 3) وسيتحدّث في أف 3: 2 عن "النعمة التي وهبها الله لي من أجلكم". ويتابع في آ 7: "جعلني الله خادمًا للانجيل بالنعمة التي وهبها لي بفعل قدرته".
بولس يعمل مع الله، وشركاؤه في العمل الرسوليّ (روم 16: 21)، هم في الحقيقة شركاء الله أو خدّام الله (2 كور 6: 4). هكذا يسمِّي تيموتاوس في 1 تس 3: 2: "مشارك الله في كرازة انجيل المسيح" (اختلافات عديدة: خادم الله مشاركنا، خادم الله ومشاركنا، خادم الله ومشاركه). وسنقرأ في 1 كور 3: 9: "نحن شركاء (نحن نعمل معًا) في العمل مع الله". "أنا غرست وأبلّوس سقى، والله هو الذي ينمي" (آ 6).
والرسالة الثانية إلى كورنتوس، التي تتوسّع في موضوع الرسالة، تقدّم ملاحظات وافرة في هذا المجال. بالله يكرز الرسل (2: 17). ومن الله يأتي افتخارهم (3: 5). لأن قدرة الله بالذات تعمل فيهم (4: 7). الله هو الذي يعزّيهم (1: 4؛ 7: 6). وهو الذي يثبّتهم في المسيح (1: 21). وهو الذي يختمهم ويطبعهم بخاتمه (1: 22). "وهو الذي يقودهم في موكب نصره الدائم في المسيح، وينشر بهم في كل مكان عبير معرفته" (2: 14- 15). والله هو "الذي جعل في قلب تيطس مثل هذا الاهتمام" بالكورنثيين (8: 16).
بالاضافة إلى ذلك، سلّم الله إلى الرسل خدمة المصالحة (5: 18). وجعل على شفاههم كلمة المصالحة. وهكذا صاروا سفراء المسيح. فبهم يحرّض الله الناس أن يتصالحوا. أي: أن يشاركوا في الخلاص الذي حمله الله إليهم في المسيح (1 تس 5: 9): "الله جعلنا لا لغضبه، بل للخلاص بربّنا يسوع المسيح". الله اختارنا لننال "مجد ربنا يسوع المسيح" (2 تس 2: 14).

ج- النداء إلى الايمان
الله يدعونا إلى الايمان. ومن خلال هذا النداء، يعود بولس إلى الخيار الالهي الذي يسبقه. هذا ما يشير إليه نصٌّ ذكرناه فيما سبق: "الله اختاركم منذ البداية" (2 تس 2: 13). وبالنظر إلى هذا الخيار الذي تمّ "منذ الأزل"، يدعونا الله في الزمن (آ 14). وهناك مقطع آخر يعلن أن الله هيّأنا لنوال الخلاص بالمسيح (1 تس 5: 9). نحن هنا في إطار المخطّط الخلاصي الازلي. نقرأ في روم 8: 29: "نحن نعلم أن الله يعمل كل شيء لخير الذين يحبّونه، أولئك الذين دعاهم حسب قصده".
فالنداء يقف في سلسلة من الأفعال الالهية يميّزها بولس دون أن يُدخل في الله تعاقبَ الأعمال. وهكذا يُبرز الرسول مبادرة الله، ولاسيّما في روم 8: 28- 30: أعدّهم، دعاهم، برّرهم، مجدّهم. وفي أف 1: 3- 14 نقرأ: اختارنا، تبنّانا، كشف لنا سرَّ مشيئته بأن "يجمع في المسيح كل شيء".
كل هذا يدلّ على أن فداءنا ينبثق من الحب الذي به أحبّنا الله في المسيح (روم 8: 38)، في ابنه الحبيب (أف 1: 6).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM