الفصل التاسع والعشرون: إله الوثنيين في خطبة أثينة

الفصل التاسع والعشرون
إله الوثنيين في خطبة أثينة

لا ينظر بولس. إلى الاله الذي تتحدّث عنه الخطبة في أثينة (أع 17: 22- 31) من زاوية اتحاده بشعب اسرائيل، بل في علاقته بالعالم والجنس البشري كله. ولكن هل فهم سامعوه هذه العلاقة وهم الذين يجهلون الوحي البيبلي المرتبط بشعب من الشعوب؟ هل نستطيع الوصول إلى الاله الحقيقي في طريق غير طريق التاريخ؟ الجواب هو نعم. نبدأ بطريق العقل الطبيعي. وهكذا نفهم جواب بولس على سؤال الفلاسفة (أع 17: 18). ثم ننتقل إلى الديانة الوثنية. فالوثنييون يعبدون من لا يعرفونه، يعبدون الاله الذي جاء بولس يبشّرهم به (آ 23). وهناك أخيرًا الحس الدينيّ الذي لا يختلط بمسيرة العقل ولا بممارسات دينيّة نتبرّأ فيها.

1- طريق العقل الطبيعي
أ- معرفة الله
أراد الخطيب أن يقود سامعيه إلى معرفة الله. ولكن بمَ تقوم هذه المعرفة؛ نقرأ الفعل مرتين في المقدمة الاخباريّة. فقد أعلن فلاسفة أثينة رغبتهم بأن يعرفوا هذا المذهب الجديد الذي يبشّر به بولس (أع 17: 19) كما رغبوا في معرفة معنى هذه التعاليم (آ 20).
تهيّأت الخطبة فانطلقت من كتابة دوِّنت على مذبح مكرّس "للاله المجهول" (آ 23). هناك التباس في البداية، والقارئ المسيحي يعرف أن بولس يضع في كلامه غير ما يظنه سامعوه. لهذا أردف في الحال قائلاً: "فهذا الذي تعبدونه ولا تعرفونه هو الذي أبشّركم به" (آ 23 ج). قد يظن الوثنيون أنهم سيتلقَّون معلومات عن إله سيتّخذ محله بين سائر الآلهة. أما القارئ المسيحي فينتظر شيئًا آخر.
وتنتهي الخطبة بهذه الكلمات: "وإذا كان الله غضّ نظره عن أزمنة الجهل (عدم المعرفة)، فهو الآن يدعو الناس كلهم في كل مكان إلى التوبة" (آ 30). تقابل هذه الخاتمة بين زمنين: الزمن الماضي الذي هو زمن الجهل، والزمن الحاضر الذي يحمل دعوة إلى التوبة.
لا تعني التوبةُ فقط عودة العقل إلى الله، بل هي تشبه ما نقرأ في الخطب الرسولية. مثلاً في أع 2: 38: "توبوا وليتعمّد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح". ونقول الشيء عينه عن الجهل الذي لا ينحصر في المستوى العقلي. إنه جهل يستحقّ اللوم، جهل يجب أن نرتدّ عنه. وهكذا ننتقل من معرفة تعني البحث عن معلومات إلى جهل خاطئ يُفرض علينا أن نعود عنه.

ب- الكلام والمناقشة
قبل الخطبة نرى بولس يناقش اليهود في المجمع، كما يناقش أولئك الذين يلتقي بهم في الساحة العامة (آ 17). ثم نرى الفلاسفة يجادلون بولس (آ 18) بعد أن رأوا فيه واعظًا يعلن بشرى وخبرًا طيبًا (آ 18). لهذا السبب بدأ بولس خطبته: "فهذا الذي تعبدونه ولا تعرفونه هو الذي أبشّركم به" (آ 23). يتوافق هذا الكلام مع ما في خطبة لسترة القصيرة حيث يقول المرسلان: "جئنا نبشّركم" (أع 14: 15). وتنتهي خطبة أثينة في الخط عينه: الله يدعو الناس إلى التوبة (أع 17: 30).
نحن هنا أمام كرازة، لا أمام تعليم فلسفي. وفي النهاية سنصل إلى ذلك الذي أقامه الله من بين الأموات، أعني يسوع المسيح.

ج- البرهان في الخطبة
لسنا هنا فقط أمام برهان عقلي. فالعناصر الرواقية (يشدّدون على وحدة العالم) انضمت إلى عناصر بيبلية في تقليد العالم اليهودي المطبوع بالعالم اليوناني. فالعبارات الرواقية في أع 17: 27- 28 (هو غير بعيد عن كل واحد منا. فيه نحيا ونتحرّك ونوجد) لم تعد مطبوعة بالحلولية كما عند الرواقيين.
انطلقت الخطبة من طرق تعبير يقبل بها السامعون، وحاولت أن تجعلهم يقبلون بنتائج لم يكونوا ليتوقّعوها. وينتهي كل شيء بثلاثة طروح رئيسية. الاول، الله لا يقيم في هياكل. الثاني، لا يحتاج الله إلى ذبائح نقدّمها له. الثالث، لا يشبه الله الاصنام الميتة. وتنتهي هذه الحالات الثلاث من النفي بنداء إلى التوبة. والمهم ليس أن نعرف إن كان الله موجودًا أم لا، بل أن نعرف كيف نتصرّف معه.
هنا نعود إلى خطبة لسترة (أع 14: 15- 17). دعا بولس وبرنابا الوثنيين ليرتدوا إلى الاله الحيّ الذي صنع السماوات والأرض والبحر وكل ما فيها. فالزمن الحاضر يجعل الناس في وضع جديد يختلف عن وضع الاجيال السابقة حيث "ترك جميعَ الأمم تسلك طريقها". "ومع ذلك كان يشهد لنفسه بما يعمل من الخير: أنزل المطر من السماء وأعطى المواسم في حينها، ورزقنا القوت وملأ قلوبنا بالسرور".
وهكذا استند الخطيب، شأنه شأن الفيلسوف، إلى نظام الكون، فحاول الارتفاع إلى معرفة الله.

2- طريقة الديانة الوثنية
أ- موقف المسيحية
إن حكم المسيحي على الديانة التي يمارسها الوثنيون، يختلف باختلاف الوجهة التي نقف عندها. هذا ما نفهمه حين نقرأ شروح بولس للكورنثيين فيما يتعلّق بأكل اللحوم الآتية من ذبائح الوثنيين. في وجهة أولى، لا يرى بولس ضررًا ولا محذورًا: ليس الوثن بشيء (1 كور 8: 4). واللحوم التي قدّمت للوثن لم يتبدّل فيها شيء. ولكن هناك وجهة ثانية. في الذبائح الوثنية، ما نذبحه إنما نذبحه للشياطين لا لله (أو لما ليس بإله). فمن أكل من هذه اللحوم كان مشاركًا للشياطين وأثار غيرة الله (1 كور 10: 20، 22). بدأ موقف الرسول حياديًا (لا خير ولا شرّ في هذه اللحوم) ثم صار سلبيًا (يمنع أكل مثل هذه اللحوم).

ب- ممارسة الديانة الوثنية
تتميز ممارسة الديانة الوثنية بالخوف والتطيّر. تحدّث بولس عن تديّن الوثنيين، فدلّ بكلامه على ديانة غريبة عليه. فتشبّه بالوالي فستس (الروماني) حين تحدّث عن الديانة اليهودية أمام أغريبا الملك اليهودي (أع 25: 19). أراد أن يجتذب السامعين إلى كلامه فأشار إلى العاطفة الدينية لدى أهل أثينة.
وشاهد بولس المعابد التي شيّدها الاثينيون. كما توقّف عند الخدمة العبادية: "فالإله الذي خلق كل شيء والذي هو سيّد الكون، لا تخدمه أيد بشريّة، كما لو كان يحتاج إلى شيء" (أع 17: 25).

ج- موضوع العبادة الوثنية
حين تصل الخطبة إلى العبادة الوثنية فهي لا تبقى على الحياد كما فعلت حين تحدّثت عن تعبّد الاثينيين. فما اكتفت بالقول إن الاله الحقيقي لا يمكن أن يكون موضوعًا ضمنيًا للعبادة الوثنية، بل تجنّبت أن تنسب إليها هذه الفكرة. فحين انتقلت من الاله الحقيقي إلى الآلهة الوثنية، أدخلت لفظة وسيطة.
ففي آ 23، بعد أن ذكر بولس "الاله المجهول". كان بامكانه أن يواصل: "الذي تعبدونه ولا تعرفونه، أنا أبشّركم به". تواصلٌ سهل وممكن وسيأخذ به كتاب القراءات في الطقس البيزنطي. ولكن النص الاصحّ هو: "هذا (لا مذكر ولا مؤنث) الذي تعبدونه ولا تعرفونه، هذا هو الذي أبشّركم به". وهكذا وضع الخطيبُ حاجزًا بين الاله المجهول الذي يعبده الاثينيون والاله الذي يبشّر به بولس. فهذا ليس ذاك. هناك شيء ما يجمع الاثنين هو الجهل. جهل يتعلّق بشيء نعبده. فبين الاله المجهول الذي هو اله أن الآلهة، والاله الواحد الذي خلق العالم، جاء اسم الاشارة "هذا" ففصل بينهما فصلاً قاطعًا.
وفي آ 29، أورد بولس بيت شعر من أراتس: "نحن من نسله" (آ 28 ج). وأردف: "ما دمنا من نسل الله". أما بدا الخطيب وكأنه ماثل بين الاله الحقيقي والإله الذي يتكلّم عنه الشاعر، أي زوش إله الآلهة عند اليونان؟ لا نشعر بالصعوبة إلاّ فيما بعد، ساعة نستخرج النتيجة. هناك هجوم على الأصنام وعلى كل ما تمثله هذه الصور. ولكن من تمثّل؟ أنها لا تمثّل الاله الحقيقي، هذا ما لا شكّ فيه. فلا تماثيل له وهو ليس معروفًا في أثينة. وهي لا تمثّل أيضًا الاله المجهول الذي لا اسم له ولا صورة. هنا تدخل لفظة وسيطة. هو لا يقول "الله". بل "الالوهية" لا تشبه أصنامًا لا روح فيها. وهكذا ننتقل من عالم الآلهة الوثنية إلى الاله الحي.
وهكذا يعتبر الخطيب أن العبادة للاله الحقيقي هي غير العبادة للأصنام رغم ما يجمع بينهما وهو مذبح الاله المجهول. فالعبادة للآلهة الوثنية تدلّ على جهل للاله الحقيقيّ لا بدّ أن نتوب عنه.

3- الانسان الباحث عن الله
أ- بحث واكتشاف
نسبت خطبة أثينة لخلق الانسان هدفين: أن يجعل الأرض آهلة (آ 26)، أن يبحث (يلتمس) عن الله (آ 27 أ). حين نقول إن الانسان صُنع لكي يبحث عن الله، فهذا يفترض أن هذا البحث يصل إلى اكتشاف. وبالتالي أن الانسان يستطيع في أعماق كيانه أن يجد الله. هذا ما نقرأه في آ 27: هناك امكانيّة نظريّة بأن نجد الله، ولكن الناس لم يصلوا إلى هذا الاكتشاف في الواقع. قال بولس: "لعلّهم يلتمسونه فيجدونه". نحن نفهم هذا الارتياب لدى الخطيب حين نعرف أنه يتوجّه إلى السامعين. لم يصلوا في الواقع إلى الاله الحقيقي. لهذا، تجنّب لومهم بطريقة مباشرة، فشدد على صعوبة التعرّف إلى الله من دون "وحي" خارجي.

ب- التمس، وجد
ويُطرح سؤال أول: كيف نفهم "التمس" و"وجد" حين يكون الله موضوع هذا الالتماس وهذا الوجود؟ هل نحن أمام مسيرة عقلية، أم نفهم هذين الفعلين في المعنى البيبلي فنطبّقهما على فعل إرادي؟ هل نحن في العالم اليوناني أم في العالم اليهودي؟ لا ننسى أولاً أن هاتين الحضارتين امتزجتا في اليهوديّة الهلينيّة (أي التي تطعمّت بالحضارة اليونانية). ونكتفي بقراءة حك 13- 15 التي تميّز ثلاث فئات في العالم الوثني،. أولاً، هؤلاء الذين يعبدون قوى الكون: هم حمقى (حك 13: 1- 9). ثانيًا، "الاشقياء" الذين يعبدون أصنام الذهب والفضة والحجر والخشب التي صنعتها أيدي البشر (13: 10- 15: 13). ثالثًا، (المصريون) الذين وصلوا إلى ذروة "الجنون" (والجهل) حين عبدوا الحيوانات (15: 14- 19).
نتعرّف في الفئة الأولى إلى الرواقيين الذين ليسوا مخطئين مثل الآخرين. فإن ضلّوا، فهم في الواقع يبحثون عن الله ويرغبون في اكتشافه (13: 6). ولكن هذا لا يمنع أنهم لا يستطيعون أن يجدوا ربّ الكون (آ 9). فالمسيرة العقليّة لا تكفي. فنحتاج إلى مسيرة روحية.

ج- أساس اكتشاف الله
ويخطو الخطيب خطوة أخرى. هو لا يقبل بامكانيّة نظريّة لاكتشاف الله. بل يشير إلى أساس هذا الاكتشاف ويقدّم سببين لذلك. أولاً، إذا كان البشر يستطيعون في أعماق كيانهم أن يجدوا الله، فلأن الله "ليس بعيدًا عن كل واحده منا. ففيه نحيا ونتحرّك ونوجد" (أع 27- 28). ثانيًا، نحن من نسل الله وأهل بيته، وهذا ما جعل الشاعر يقول: "نحن من نسله" (نحن أبناؤه) (آ 28- 29). هذان الاعتباران يحيلاننا إلى الرواقية.
لم يجد الوثنيون الله وظلوا في جهل تجاهه. ولكن، كان بامكانهم أن يجدوه، وقد حاول ذلك بعض منهم. ومع أن الرواقيين أكّدوا أن الله قريب من كل انسان وأن البشر هم من نسله، إلاّ أنهم أظهروا أنهم لم يجدوا الله. والبرهان هو أنهم ظلّوا متعلّقين بممارسات وثنية. غير أنهم وجدوا شيئًا قد يوجّههم إلى الله. هم لم يبلغوا إلى ملء النور، ولكن تلمّساتهم جعلتهم في الخط الصحيح.

خاتمة
ما قاله بولس عن الله خالق الأرض وديّان المسكونة، يكفي ليلقي ضوءًا كاشفًا على عبارات تلفّظ بها الرواقيون. في هذا الضوء الجديد، اتّخذ الفكر الدينيّ لدى الرواقييين بُعدًا إيجابيًا. فظهر كأنه بحثٌ جعلنا ندرك بعض الشيء وإن لم يصل إلى اكتشاف الاله الحقيقيّ. هذا البحث عن "إله مجهول" جعله بولس أمام موضوعه الحقيقي وسيسير آباء الكنيسة في خطه فيجدون لدى الوثنيين بذار الايمان وإلوحي. فالاله السامي ليس فقط ذاك الذي يتدخّل في التاريخ في ظروف خارقة. إنه حاضر في الكون وفي أعماق كل انسان. فيه حياتنا وفيه وجودنا. يكفى أن ننزل إلى أعماقنا، فحضوره فينا حميم مثل حضور نفسنا في نفسنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM