الشعب يصرخ في الضيق

الشعب يصرخ في الضيق
المزمور الرابع والاربعون

1. المزمور 44 هو مزمور توسّل تنشده الجماعة بعد هزيمة ألمَّت بها. كُتب في عهد الملوك، وأنشد من جديد عندما هُدمت أورشليم وسُبي سكانها سنة 587. كما أنشد أيضًا في عهد المكابيّين. وفي كل إنشاد، كان الشعب يقابل بين الحالة الحاضرة السيئة والحالة الماضية التي كان الله فيها ينصرهم فيفهمهم أن الخلاص لا يمكنه أن يأتي إلاّ على يد الله. فقم لنصرتنا يا رب وافتدنا من أجل رحمتك.

2. صرخة الضيق يطلقها الشعب في المحنة مذكرًا الرب بمواعيده.
آ 2- 9: يبدأ إسرائيل صلاته فيتذكّر الماضي المجيد. هل يمكن أن يبقى الله اليوم صامتًا لا يتحرك بعد أن عمل ما عمل من أجل شعبه؟ وهذا التذكير مناسبة لكي يجدّد الشعب ثقته بالله ملكه، ويعرف أنه إن كان انتصر في الماضي فالفضل كل الفضل يعود للرب الذي كان راضيًا عنهم فأعطاهم أرض الميعاد.
آ 10- 17: ويقابل الشعب بين الماضي المجيد والحاضر الهزيل: طُرد إسرائيل من بلاده ونُهبت أرضه. لم يخرج الله مع جيشه، بل حارب مع جيش العدو وعمل على تشتيت شعبه كسيّد يبيع قطيعه، وهكذا صار شعب الله موضوع شماتة عند الاعداء المستهزئين به.
آ 18- 23: ويعلن الشعب أن ذلك حصل لهم رغم أمانتهم للعهد مع الرب. فالشعب لم ينسَ ولم يخن الرب ولم يحد عن طريق العهد، فلماذا عامله الرب كذلك؟
آ 24- 27: نداء إلى محبّة الرب لكي يعيد بناء شعبه. لماذا يبقى الرب نائمًا بينما الاعداء عديدون؟ ليستيقظ الرب وليحط شعبه برحمته كما كان يفعل في القديم. كان الله في الماضي أمين لمواعيده، ليكن اليوم أمينًا في أعماله فلا يتخلّى عن شعبه.

3. طلب سفر التثنية (4: 9) من كل جيل في شعب الله أن يخبر الاجيال الآتية بأحداث الخلاص التي تمّت للشعب في زمن موسى. فيد الله القديرة أنقذت إسرائيل من مصر (خروج 13: 3- 14) وغرسته في أرض الميعاد (إر 11: 17) بعد أن اقتلعت أممًا عديدة (تث 11: 23- 24). هذه الذكريات الحيّة استعادها المرتّل ليبعث الرجاء من أجل تحقيق المواعيد التي تحدَّث عنها الانبياء. ولكن الحالة الحاضرة ليست كما تأمّل الشعب الذي يعض التراب الآن بعد الهزيمة التي حلّت به فلم يبقَ له إلاّ أن يصرخ من أعماق شقائه إلى الربّ ليخلّصه اليوم كما خلّصه في الماضي من عبودية مصر.
4. عندما ذكر القديس بولس الآية 22 في الرسالة إلى الرومانيّين (8: 36)، حسبَ أن المزمور يناسب حالة الكنيسة الأولى التي حملت رسالة المسيح فاضطهدت. واليوم لا يزال شعب الله يُضطهد في هذا البلد أو ذاك من أجل اسم المسيح (مت 5: 11- 12). ولهذا ننشد نحن هذا المزمور إن كنّا نعاني الاضطهاد أولاً متذكّرين أنه إذا تألّم عضو تألّمت جميع الاعضاء (1 كور 12: 26) وأن على الكنيسة أن تبقى متضامنة في صلاتها لكي يخلّصها الله ويخلّص جميع أبنائها من أجل اسمه ومن أجل محبّته.

5. تأمّل
الشعب يعيش في الضيق، وهو ينادي الرب. ويذكّره بأمانته. في الماضي فعلتَ فلماذا لا تفعل الآن؟ في الماضي خلّصت. فهل قصرت يدك اليوم عن الخلاص؟ في الماضي كنت تسمع. فهل صرت "أصمّ" كآلهة الوثنيّين؟ في الماضي كنت ترى. فهل لك عيون لا تبصر مثل عيون الاوثان؟ مثل هذا الكلام الذي قد يكون تجربة في قلب المؤمن، على مثال ما حدث لأيّوب، يتبخّر سريعًا حين يغوص الانسان في صلاة عميقة. حين يتطلّع إلى الكون العظيم الذي خلقه الله. إلى جمال هذا الكون. فإن كان جميلاً، فالرب أجمل منه. وإن كان عظيمًا فالرب هو سبب عظمته. وإن اعتنى الله بأصغر المخلوقات، أما يهتمّ بمؤمنيه؟ أما يهمّه مصير شعبه؟
الشعب يعيش في الضيق، فأين الرب موضوع افتخاره ومديحه؟ هو الذي فعل منذ البدء. سيطر على قوى الغمر والشرّ وكوّن العالم في نظام عجيب. هو الذي رافق شعبه الضعيف حتى الإقامة في أرض كنعان مع سائر الشعوب التي كانت هناك وظلّت. فإذا كان الشعب في الماضي قد نال كل هذه النعم والبركات، فالسبب هو الربّ. فأين هو الرب الآن؟ قال المرتّل: سمعنا. سمعنا منذ زمن بعيد. أخبرنا آباؤنا، ربّما أجدادنا. في الأيام القديمة. فبدا وكأنه لا يرى ما يفعله الرب اليوم، ولا ما فعله بالامس القريب.
الله يفعل، هذا ما لا شكّ فيه. الله يتدخّل في تاريخ الكون ويوجّهه إلى النهاية. ولكن المؤمن لا يرى بسبب الضيق الذي يضغط على قلبه والأعداء الذين يحيطون به. لهذا، فهو يتذكّر ما عمله الله. والتذكّر يجعل أعمال الله وكأنها حاضرة الآن. بل إن هذا الحضور هو سبب بركة وأعمال جديدة. فالله يحضر ليفعل. وينظر ليخلّص. ويسمع ليتدخّل. ذاك كان تصرّفه في أرض مصر. وتصرّفه في أرض كنعان. وهكذا يكون تصرّفه في كل مكان وزمان. يبقى على المؤمن أن يتجاوب مع عمل الله. فيجسّد في حياته وفي تاريخ شعبه تدخّل الله الخفيّ. لن يفعل الله إلاّ إذا فعل المؤمن. فالله يكمّل ما نبدأ به. لا شكّ في أن المبادرة هي منه. وهي تحرّك إرادتنا في الأعماق. ولكنه ينتظر أن يتحرّك الانسان، أن يقوم ويمشي، لكي يجعل من أعماله المحدودة وكأنها "عمل الله". الله يتبّناها بعد أن ينقّيها ويطهّرها ويحملها إلى كمالها. فكما يتبنّى كل واحد منا، فهو يتبنّى أعمالنا ويحبّنا بما نحن وبما نفعل. فيا لسعادتنا. وعند ذاك لا نكتفي بأن نقول سمعنا. بل رأينا. تلك كانت صرخة أيوب في آخر محنته: كنت قد سمعت عنك. أما الآن فرأتك عيناي.

6. أصرخ إليك النهار كلّه ولا تسمع. هذا ما يقوله مز 22: 3. وأصرخ إليك الليل ولا تحرّك ساكنًا. ولكن ليس هذا لهلاكي. فصمتك يقف في وجهي لا ليجعلني أرتاب بك، بل لكي يجعلني أفهم. فما معنى: لكي أفهم أنك تسكت؟ يعني أنك لا تستجيب طلباتي الزمنيّة لتفهمني أنه يجب عليّ أن أنتظر الخيرات الأبديّة.
إذن، الله لا يتخلّى عنّا. وحتّى إن بدا أنه تركنا، فهو يأخذ منّا فقط الشيء الذي أخطأنا حين رغبنا فيه، ويعلّمنا ما يجب أن نرغب. فإن كان الله يمنحنا دومًا خيور الأرض، إن عشنا دومًا في الوفر، إذا لم نعرف في كل حياتنا المائتة الحزن والضيق والألم، فسوف نقتنع شيئًا فشيئًا أن هذه امتيازات يمنحها الله لعبيده. ولا نعود نطلب منه شيئًا أعظم من هذه الخيور. لهذا، فهو يمزج عذوبة هذه الحياة بمرارات الشدّة والضيق. ليجعلنا نرغب في الحياة الأخرى التي تحمل عذوبتُها الخلاص. (أوغسطينس).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM