الفصل الثامن والعشرون: إله يسوع يدخل العالم اليهودي والعالم الوثني

الفصل الثامن والعشرون
إله يسوع يدخل العالم اليهودي والعالم الوثني

رسم لنا أع صورة الله في خطّ الانجيل. فالله في الانجيل يفعل الخير بواسطة حياة يسوع. وفي أع يتركّز عمل الله على قيامة يسوع. في الانجيل، ينعم الشعب بتدخّل الله، وفي أع (وهذا هو الجديد)، تتوسّع حلقة الناعمين ببركة الله. وهكذا نصل إلى صورة إله لا يتوجّه إلى فئة صغيرة أو شعب واحد، بل يتوجّه إلى جميع البشر.

1- الله لا يحابي أحدًا
أجل، لم يعد إله الآباء إله نسل واحد. إنه الاله الشامل. كان قد عبّر بولس عن هذه الفكرة في تعليمه (رج روم 3: 21- 5؛ 21، كو 1: 26- 27؛ أف 3: 5- 6). ولكن لوقا تفرّد بإبراز هذه الفكرة في أسلوب إخباري. نتذكّر هنا ارتداد كورنيليوس (أع 19: 1- 11: 18) ومجمع أورشليم (ف 15) والعبارات التي وجّهها بولس مرارًا وتكرارًا إلى الوثنيين (أع 13: 46؛ 18: 6؛ 28: 27- 28) ويعود لو 3: 23- 28 بنسب يسوع إلى آدم. أما المستفيد من معجزات إيليا وأليشاع فهما غريبان عن شعب الله (لو 4: 24- 27، رج أع 2: 39، 3: 25- 26). ونتذكّر أيضًا الاطار المسكوني الذي فيه تتمّ الرسالة: إن رومة التي هي آخر محطات أع ليست بعدُ أقاصيَ الأرض.
ولنقرأ في هذا المجال أع 10: 34- 35: "أرى (أعرف، قد أدركت) في الحقيقة أن الله لا يحابي" (لا يفضّل أحدًا على أحد): ليس الله متحيّزًا، ولا يتصرّف بطريقة اعتباطية. لا يجرؤ لوقا أن يقول مثل هذا الكلام عن الله. ولكنه يشير إلى ما اكتشفه بطرس. إذا كان الله لم يتغيّر، فهذا يعني أن نظرة بطرس إلى الله قد تبدلّت. قال: "أراني الله أن لا أحسب أحدًا من الناس نجسًا أو دنسًا".
ولكن من هو الانسان الذي يرضي الله؟ قال لوقا: "فمن خافه من أية أمة كانت وعمل الخير، كان مقبولاً عنده" (أع 10: 35). فمن يخاف (خوفًا ممزوجًا بالمحبّة) الله ويدوّن إيمانه في حياته أعمال بر (محبّة الله ومحبّة القريب)، ينال رضى الله.

2- غضبة الآلهة
نقرأ في الاخبار التقوية المدوّنة في عهد قسطنطين أن نجاح المرسلين هدم الهياكل الوثنيّة وحطّم الاصنام. في ذلك الوقت، أغلقت الهياكل وأزيلت الأوثان. أما في زمن لوقا، فلم تصل المسيحية إلى هذه القوّة، لأن العبادات المزاحمة ما زالت قائمة. كل ما تطلبه الكنيسة (وما يطلبه لوقا بطريقة ضمنية) هو مكان تحت الشمس، هو وجود قانوني. إن الضيقات والاضطهادات تسبق الدخول إلى ملكوت الله. تحدّى الايمان المسيحي هذه الديانات، فجابهتا وقاومت.
أمّا العالم اليهودي، ففضّل صورة خاصّة به عن الله، ورفضَ الابنَ الذي هو صورة الآب. والصراع الذي بدأ منذ البداية بين المجمع (أي الشعب اليهودي) والكنيسة، إنتهى في أع 28 بانفصال نهائي. خرج اليهود من عند بولس وكأن كل حوار انتهى (أع 28: 29).
ردّد لوقا كلمة يسوع: "الحق أقول لكم: لا يُقبل نبيّ في وطنه" (لو 4: 24). وتحدّث عن أورشليم قاتلة الأنبياء (لو 13: 34؛ رج لو 11: 49؛ أع 7: 52- 53). والكرّامون هم قتلة لم يحترموا الابن نفسه (لو 20: 9- 16). هم شعب قساة الرقاب وأصحاب القلوب المغلقة وغير المختونة (أع 7: 51- 53؛ رج لو 11: 47- 52). يقودهم رؤساء لا يريدون أن يكونوا خدامًا (يقدم لو 22: 24- 27 النظرة المعاكسة). إن تاريخ الخلاص هو تاريخ قساوة القلب لدى الشعب اليهودي (أع 7). ونحن نجد السيناريو نفسه من مدينة إلى مدينة، من الناصرة (لو 4: 16- 30) إلى أورشليم (لو 22- 23) وانتهاء برومة (أع 28: 16- 29) وحتى أقاصي الأرض. فالذين فرض فيهم أن يعرفوا الله، لم يتعرفوا إليه في مرسليه. وسوف يستعمل بعض اليهود اسم يسوع بصورة تعسفيّة ليطردوا الشياطين. ولكن هجم عليهم الروح الشرير وتمكّن منهم وغلبهم (أع 19: 16).
أما سائر العبادات والعقائد فأحسّت أنها في خطر: الكهنة الوثنيون، السحرة والعرّافون، من سمعان الساحر إلى صنّاع أفسس. كلهم حاولوا مجابهة نشر الانجيل: سمعان الساحر في السامرة (8: 9- 24). عليما في قبرص (13: 4- 12). نلاحظ أن عليما كان يهوديًا. وهناك سادة الجارية العرّافة في فيليبي (16: 16- 24)، وصنّاع أفسس الصاغة (19: 33- 40). ونذكر أيضًا عبّاد زوش وكهنته في لسترة (نحن نجهل موقفهم في النهاية، 14: 11- 18). نرى الفرق في حادثة أفسس بين ما كتبه أع وكتبه كتاب أعمال يوحنا: لم تكن هناك حلقات خطابية وأعمال عجبية، بل نهاية خفية توافق وضع المسيحية الاجتماعي. أما أعمال يوحنا فروت انتصار الرسول بصورة شاهدها الجميع: سقط هيكل أفسس. أما أعمال بطرس فتبيّن كيف أن سمعان الساحر أخزي في ساحة رومة العامة (فوروم).
ولكن رغم الهجوم اليهودي والوثني على الكنيسة الناشئة ومناخ العنف المسيطر، قدّم لوقا لاهوتًا خاصًا مبنيًا على الحوار. قدّم لاهوتًا طبيعيًا. أي لا يستند إلى الوحي المباشر، بل إلى العقل. وهذا ما سنراه في خطبة بولس في الاريوباج.
إن تعليم أع 17 يوازي التعليم الذي يقدّمه بولس إلى اليهود خلال كتاباته كلها: إذا تعمّقتم في علاقتكم بالالوهة عبر ارتداد داخلي، تكتشفون أن الاله الذي تحسّون به هو الاله الذي يبشّر به المسيحيون. وإذ أراد لوقا أن يمدّ الجسور بين الاحساس الوثني وهذه العقيدة المسيحية، جعل على شفتَيْ بولس أجمل ما في الوثنية من كلام عن الالوهة: الاثينيون هم متديّنون (17: 22). قد تدّل هذه الكلمة على الايمان أو على الوسواس. فعلى السامعين أن يختاروا، والخطبة تُقرأ في إطار فلسفي وديني على طريقة اليونانيين، كما تفسّر إنطلاقًا من التقليد التوراتي. فإله أع 17 هو الخالق الذي تتحدّث عنه السبعينية (17: 26، من إنسان واحد، من آدم)، وهو أيضًا الاله الواحد الذي يتوق إليه فلاسفة اليونان (من مبدأ واحد). إنه الاله الذي نصل إليه على مستوى البحث النظري. فيبقى على القارئ أن يلتقي، من خلال هذه الخطبة، بالاله الذي يكشف عن نفسه أو الاله الذي يصنعه الانسان على صورته. وقال لوقا: الله غضَّ نظره عن أزمنة الجهل، ولكنّه يدعو الآن الناس كلهم إلى التوبة... ولكن الاثينيين انفجروا في الضحك، سيبقون مع الاله الذي أرادوه. أما ديونيسيوس الاريوباجي وداماريس (17: 34) فقد سمعا الخطبة بآذان الايمان والمحبّة فدخل الخلاص إلى بيتهما.

3- إله الوحي
هنا نعود إلى خطبة بولس في أثينة (أع 17: 22- 31) ونطرح على نفسنا سؤالين: ما هي العلاقة بين الاله الذي يتكلّم عنه بولس والموضوع الخاص بالكرازة المسيحية؟ هل الاله الذي يتحدّث عنه بولس هو أيضًا إله العهد القديم؟

أ- الله الذي أقام يسوع من بين الأموات
أولاً: في الخطبة عينها
نلاحظ أن الخطيب لا يتلفّظ باسم يسوع مرة واحدة. هذا ما نجده أيضًا في خطبة اسطفانس (أع 7: 1- 53). يتحدّث اسطفانس أمام القضاة عن يسوع دون أن يسمّيه. فينتظر إلى النهاية ليشير إلى الأنبياء، "الذين أعلنوا مجيء البار الذي أسلمتموه وقتلتموه" (آ 52). وأسلوب خطبة أثينة لا يختلف عمّا في خطبة اسطفانس. ففي النهاية يشير بولس إلى الدينونة التي يتّمها الله "برجل اختاره فبرهن لجميع الناس عن اختياره بأن أقامه من بين الأموات" (أع 17: 31).
يتحدث بولس مباشرة عن الدينونة. أما قيامة يسوع فتبدو كفالة يقدّمها الله ليدلّ على الدور السامي (الدور الديّان) الذي سيقوم به يسوع. هنا نقابل هذا النص مع نهاية خطبة بطرس في قيصرية. اختار الله الاثني عشر ليكونوا شهود قيامة يسوع (أع 10: 4- 41)، فيعلنوا للشعب ويشهدوا "أنه هو الذي جعله الله ديّان الاحياء والموتى" (آ 42). وينطلق بطرس من شهادة الانبياء فيزيد في إطار الدينونة: "كل من يؤمن به ينال باسمه غفران خطاياه" (آ 43). فالعلاقة بين قيامة يسوع ووظيفته الاسكاتولوجية في أع 10 تتأمّن بشهود الحديث الفصحي الذين هم في الوقت عينه كافلي بُعده الاسكاتولوجي. أما أع 17 فلا يتكلّم عن شهود القيامة. بل يقدّم القيامة بشكل مباشر على أنها كافلة للدور الذي سيلعبه يسوع في دينونة الكون كله.
إن تذكّر الدينونة المرتبط ارتباطًا وثيقًا بقيامة يسوع، يشكّل خاتمة الخطب الرسولية (أع 2: 38- 40؛ 3: 23، 26؛ 13: 38- 41؛ رج أش 1: 10). إن الخطيب يحاول أن يؤثّر في السامعين، فيدعوهم إلى تأمين مغفرة خطاياهم بواسطة الايمان (أع 10: 43؛ 13: 38- 39) أو التوبة (أع 2: 38؛ 17: 30).
إن أع 17: 31 يجعل من قيامة يسوع برهانًا على دوره الاسكاتولوجي. ولكن نتساءل: كيف تكون القيامة برهانًا بالنسبة إلى شيء آخر؟ أليست القيامة في حدّ ذاتها موضوع إيمان؟ إن القيامة هي عمل قام به الله. والايمان وحده يساعدنا على التعرّف إلى فعل الله هذا. فإذا قلنا إن القيامة هي برهان، فنحن نعني الشهادة الآتية من الله، والتي تؤكّد أن يسوع هو حقًا ذاك الذي يدين الاحياء والموتى.
ثانيًا: في الاطار الاخباري
إن الاطار الاخباري (أع 17: 16- 21، 32- 34) الذي فيه أدخل لوقا خطبة أثينة، يدلّ على أن العمل الذي به أقام الله يسوع، وإن ذُكر في نهاية الخطبة، يشكّل ذروة التعليم المسيحي.
تورد آ 18 أن بولس "كان يبشّر بيسوع والقيامة". هذا الانجيل (أو البشارة) قد أساء فهمه سامعون مأخوذون بفرضيّات شركيّة. وقد دُعي بولس لكي يوضح موقفه. ففي إطار المشهد الذي افتتح الخطبة، كل ما يقال عن الاله الحقيقي هو مدخل إلى المسألة الاساسية وهي قيامة يسوع. لهذا انتهت الخطبة بذكر هذه القيامة. نعرف في آ 32 ردّة فعل السامعين فنحسّ كأنهم لم يتوقفوا إلاّ عند هذه الفكرة. فسواء كنا في أثينة أو في أورشليم، فالقيامة هي التي تقسم الناس بين مصدِّق ورافض. وسؤال بولس أمام الملك أغريبّا يجعل الوضع كما يراه لوقا: "لماذا لا تصدّقون أن الله يقيم الموتى" (أع 26: 8)؟
ولكن يبقى أن شرك السامعين في أثينة يثير صعوبة لا يثيرها التعليم عن القيامة في محيط يهودي: إن الايمان بقيامة يسوع يفترض الايمان بالله الذي أقام يسوع.
فالتعليم عن المسيح يفترض معرفة الاله الحقيقيّ. والملاحظة التي تفتح خطبة أثينة تفهمنا لماذا تتحدّث هذه الخطبة مطوّلاً عن الله. ولكن هذا الموضوع الاساسي في الخطبة لا يستطيع أن ينسينا ما كان نقطة الانطلاق ونقطة الوصول. عنيت: إعلان قيامة يسوع. فنحن هنا أمام الكرازة المسيحية.

ب- الإله الذي خلق الكون وكل ما فيه
هل الاله الحقيقي الذي تعلنه خطبة أثينة هو إله العهد القديم؟ الجواب هو نعم ولا. نعم في ما تقوله الخطبة. ولا في ما لا تقوله.
أولاً: ما تقوله الخطبة
ما تقوله الخطبة عن الاله الحقيقي يعني علاقته بالكون والانسان. تقول إن كل شيء صُنع بيده. فبداية التوسّع الاول مميّزة: "الله الذي صنع الكون وكل ما فيه، الذي هو سيّد السماء والأرض". العالم أو الكون: كوسموس في اليونانية. تدلّ الكلمة على مجمل الوجود. كما تدلّ على "وعاء" يضمّ كل ما في الوجود.
وتتحدّث آ 26 عن توقيت الازمنة وتحديد السكن للبشر. هذا ما يذكّرنا بسفر التكوين (1: 28) حين يقول إن الله "خلق البشر من أصل واحد ليسكنوا على وجه الأرض كلها". أما ما تقوله آ 27 ج- 28 عن قرب الله من الانسان، فهو يفترض التعليم البيبلي حول الانسان المخلوق على صورة الله (تك 1: 26- 27).
أجل، إن الاله الحقيقي التي تتحدّث عنه خطبة أثينة، هو الخالق الذي تحدّثنا عنه أولى صفحات التوراة.
ثانيًا: ما لا تقوله الخطبة
لا تقول الخطبة شيئًا عما أوحى الله بنفسه إلى شعب اختاره، وهذا أمر له معناه. من هذا القبيل تتميّز خطبة أثينة (أع 17: 22- 31) وخطبة لسترة (أع 14: 15- 17) عن كل العظات الموجَّهة إلى سامعين يهود في سفر الاعمال: فخطبة اسطفانس تنطلق من وحي الله لابراهيم (أع 7: 2- 8). وخطبة بولس في مجمع انطاكية بسيدية تبدأ مع اختيار الآباء والخروج من مصر (13: 17). فالاله الحقيقي هو "إله آبائنا" (3: 13؛ 5: 30)، "إله شعب اسرائيل" (13: 17).
لم تتحدّث خطبة أثينة ولا خطبة لسترة عن العلاقة المميّزة بين الله وشعب خاص، فجاء هذا الصمت مرافقًا لصمت حول أصل الخطيب: فالسامعون لا يعرفون أنه يهوديّ. نحن بعيدون هنا عمّا في أع 16: 20 (هما يهوديان). وإذا كان بولس قد حدّث الأثينيّين في لغة المخاطب الجمع (بعض من شعرائكم أنتم)، فهذا الضمير يدلّ على أنه غريب في نظر الوثنيين. أما في نظر القارئ المسيحي فهو يدلّ على أن الرسول لا يتضامن مع سامعيه في عبادتهم للأوثان.
لم يتكلّم الخطيب عن شعب خاص، فاهتم بكل الشعوب. فشدّد على العلاقة بين الله والبشر كلهم، بين الله وكل واحد، بين الله والناس في كل مكان (آ 24، 27، 30). فالله الذي يتحدّث عنه بولس يتميّز بالشمولية.

خاتمة
هنا نلتقي مع انجيلي متى ولوقا. حين أورد متّى نسب يسوع، انطلق من ابراهيم فتوجّه بكلامه إلى شعب واحد تمَّت فيه مواعيد الله. وحين أورد لوقا نسب يسوع، وصل إلى آدم الذي هو ابن الله. هذا ما فعله بولس في خطبتي انطاكية بسيدية وأثينة. في الأولى توجّه إلى بني اسرائيل (أع 13: 16 ي) وتحدّث عن الآباء. أما في الثانية فتوجّه إلى أهل أثينة ومن خلالهم إلى جميع الوثنيين. هل نسينا أن رسالته لا تتوقّف عند أبناء شعبه؛ فالله قد أرسله إلى شعب اسرائيل وسائر الشعوب ليفتح "عيونهم فيرجعوا من الظلام إلى النور ومن سلطان الشيطان إلى الله" (أع 26: 17- 18).
هذه هي نظرة بولس وهذه هي نظرة لوقا حين نتبع بولس لا في أورشليم والسامرة وحسب، بل إلى أقاصي الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM