الفصل التاسع عشر: المعمودية والروح

الفصل التاسع عشر
المعمودية والروح

منذ حلول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة، وهم يدعون الناس إلى الالتفاف حولهم ومشاركتهم هذه الهبة الإلهيّة باعتمادهم: "توبوا وليعتمد كلّ واحد منكم باسم يسوع المسيح لتُغفر خطاياكم ولتنالوا عطيّة الروح القدس" (أع 2: 38).
يدعو مار افرام السرياني جميع الموعوظين، في عظته حول هذا الموضوع، فيقول:
"إنزلوا يا أخوتي والبسوا الروح القدس
من داخل مياه المعموديّة
واختلطوا مع الروحانيّين
خدّام الألوهيّة".

1- فعل المعموديّة
بفضل المياه الأسراريّة، يصبح المعمّد هيكلاً للروح القدس. يخبرنا أوسابيوس أن والد أوريجانس كان يحبّ، أثناء نوم ابنه، أن يكشف له عن صدره، فيقبّله باحترام، كأنّ روحًا إلهيًا قدّس أحشاءه، مظهرًا بذلك "فرح الأب بابنه المعمّد حديثًا".
إن كانت المناولة تجعل المؤمن يشترك بسرّ جسد المسيح ودمه متّحدًا به بواسطة جسده السرّي أي الكنيسة، فالمعموديّة تضفي على المؤمن إشتراكًا فعليًا بسرّ الثالوث الأقدس وبسرّ الكنيسة إذ يصبح ابنًا للآب، أخًا للابن الوحيد، وهيكلاً للروح القدس، ويصبح عضوًا في الجسم الكنسيّ. بهذا المعنى يقول تيودورس المصيصيّ: "بالثالوث الأقدس نؤمن ونعتمد فنصبح جسدًا واحدًا بعمل الروح القدس، يعمله فينا بالمعموديّة، لأننا فيها نصبح أبناء الله وجسدًا واحدًا لربّنا يسوع المسيح".
بحسب تعاليم الكنيسة، تُدخل المعموديّة المؤمنين في حضور الروح وعمله، وبقدر تفاعلهم مع روح الله يستمدّون لحياتهم المسيحيّة ثمارًا كثيرة. فالمعموديّة شرط أساسي للحصول على الروح القدس. فهي التي تعطي هذا الروح: "هكذا في المعموديّة تصبح المياه حشًا للذي يولد. لأنّ نعمة الروح القدس تجبل المعتمد بميلاد ثان وجّعل منه شخصًا آخر"، كما يضيف تيودورس.
فالمعموديّة باتحادها بالروح هي فعل متعلّق بتدبير الله الخلاصيّ. هي فعل يدخل في عمليّة الخلق الذي هو الآخر، فعل محبّة إلهيّة مجّانيّة. إذًا هي في صميم التاريخ الخلاصي، بها يولد الإنسان ولادة جديدة بفعل الروح، ويتحوّل من إنسان إلى إنسان. لقد أظهر تيودورس ذلك عندما قال: "عندما يعتمد المؤمن وينال النعمة الإلهيّة الروحانيّة، يتحوّل كلّيًا إلى شخص آخر: من طبع مائت إلى غير مائت، من فاسد إلى عديم الفساد، من متبدّل إلى ثابت، فيصبح كلّه إنسانًا آخر، فليس طبع الماء بل عمل الروح القدس هو الذي يعطي النعمة في معموديّة الماء".
كذلك هيبوليتوس الروماني (253+) يقول: "أفاض علينا روح الحياة ووشّحنا بسلاح غير فاسد. إذا تأله المعتمد بالماء والروح بعد ميلاده الثاني من الغسل، فسوف يرث السماء بعد قيامة الأموات".
فالمعموديّة تجعلنا إذًا ورثة في ملكوت الله لأنّ المؤمن يصبح وارثًا الآب الأزلي، لكونه صار ابنه بالتبنّي وأخا الابن الوحيد يسوع المسيح.
"داود مسحه صموئيل
ليكون ملكًا على الشعب
وأنتم ها إنّ الكاهن يمسحكم
لتصيروا ورثة في الملكوت" (مار افرام)

2- الروح والماء
بين الماء والروح علاقة وثيقة. كما الهواء والنار والنور لها علاقة بالأرض (التراب) وكلّ ما يتعلّق بالجسد، كذلك ترمز المياه لعمل الله وروحه. فالمياه السائلة والطاهرة والمطهّرة، هذه المياه التي تنزل من السماء للسقي وللإحياء، ولولادة الحياة في الجفاف والعقم، ترمز لعمل سرّي يفوق الإنسان وتصوّراته، ترمز لعمل داخلي ومحيي كعمل الله. فالأمطار هي صورة لمجانيّة الله وعطاياه الغزيرة. هذه الصفحات يمنحنا إيّاها الروح عينه، في المعموديّة التي هي ولادة جديدة بالماء الذي يُرى، والروح الذي لا يُرى. الماء هو رمز للروح الذي يبدّل طبعنا المائت ويجعلنا في حياة جديدة نثمر ثمارًا جديدة، من فرح ومحبّة وسلام... يقول تيودورس: "ليس طبع الماء بل عمل الروح، يعطي النعمة في معموديّة الماء... هذه النعمة تحلّ على المياه وتهيّئها، بهذا الحلول المقدّس المهيب، لتصبح كاملة تُتمّ هذا كلّه، حشا مذهلاً لميلاد جديد. فكلّ من ينزل فيه، تجبله نعمة الروح القدس جبلة جديدة فيولد ثانية في طبيعة بشريّة أخرى سامية".

3- معموديّة الماء ومعموديّة الروح
"أنا أعمّدكم بالماء من أجل التوبة، وأمّا الذي يأتي بعدي فهو أقوى منّي... فهو يعمّدكم بالروح القدس والنار" (مت 3: 11). يدعو يوحنّا للتوبة، لتغيير الحياة وتجديد المسلك والقلب داعيًا الناس للمعموديّة. هذه "الغطسة" هي حمّام خارجي وتجديد داخلي، تغيير حياة كفعل محضّر لمجيء المنتظر.
يقول تيودورس المصيصيّ: "لقد أظهر يوحنّا جليًّا أن ليس له أن يعطي الروح لأنّه لم ينل سوى التعميد بالماء، بواسطة معموديّة التوبة لغفران الخطايا، أمّا ربّنا فيعطي الروح القدس".
ويقول مار افرام:
"هو شهد لمخلّصنا،
بأنّه يعمّد بالنار والروح،
فها إنّ النار والروح يا أخوتي
في المعموديّة الحقيقيّة".

4- معموديّة يسوع
ما كان يبشّر به يوحنّا يتمّ أمامه لكن بطريقة لم يحلم بها. ها إنّ يسوع يُقبل إليه ليعتمد على يديه. قال يوحنّا إنّ من يأتي بعده يعتمد بالروح القدس (مت 3: 11) وإنّ الروح القدس ينزل ويستقرّ عليه (يو 1: 33) ذلك الذي يعمّد بالروح القدس والنار ويغفر خطايا العالم. هذا الانسان أتى يعتمد على يد يوحنًا فكانت الدهشة بادية على محيّاه وعلى لسانه: "أنا أحتاج أن أتعمّد على يدك، فكيف تجيء أنت إليّ" (مت 3: 14)؟
كتب القدّيس يعقوب السروجي متأمّلاً حول هذا الموضوع:
"دنا المسيح من يوحنّا ليعتمد منه،
رآه يوحنّا فردّ يده عن ربّ الناريّين،
حنى رأسه أمام الابن قائلاً:
أنا الواجب عليّ أن أعتمد منك أنت، لأنّك القدّوس.
خشي يوحنّا وخاف وارتعد من ابن الملك،
سجد له شاكرًا وهو يتضرّع بصوت عال:
أرجوك، ربّ، أنا لا أستحقّ الدنوّ منك،
فالهشيم أضعف من أن يضع يده على اللهب".
لقد اعترف يوحنّا أنّ معموديّته بشريّة بظهور الروح الذي ناله يسوع من الله، والماء الذي سكبه يوحنّا عليه. يكرّس يسوع هذه المعموديّة التي لم تكن بالنسبة ليوحنّا سوى رمز وتحضير للسرّ المسيحيّ. يتابع يعقوب السروجي تأمّله فيقول على لسان يوحنّا:
"لقد قلت لعروس النور خطّيبتك:
إنّ العروس سيّدك يعمّد بالروح القدس والنار.
باسمك كنت أعمّدها لتزدان بك،
فباسم مَنْ أعمّدك أنت القدّوس، لا أعلم؟
فكيف أرجع الآن عن كلمتي وأغيّر صوتي
فأعمّدك بالماء كالباقين، يا معمّد الجميع؟"
لقد تعمّد يسوع بالروح. أتى يسوع يعمّد لكنّه كان مقرّرًا أن يقبل عمادًا: "ليكن هذا الآن، لأنّنا نتمّم مشيئة الله" (مت 3: 15). أتى يعطي الروح لكنّه كان عليه أوّلاً أن ينزل في المياه الأرضيّة. أتى يسوع يهدم عالم الخطيئة، منغمسًا في حقل الخاطئين. أتى يكرّس كنيسته بروح التقديس لذا يجب عليه أن يكون مدفوعًا من روح القداسة ليجابه الشيطان (مر 1: 12)، ويعيش أيّامًا مع الأرواح الشرّيرة، ويكون معرّضًا لتجاربها. لقد شرح يوحنّا الإنجيلي جيّدًا معموديّة يسوع، فالذي يستقر عليه الروح هو "حمل الله الحامل خطايا العالم" (يو 1: 29).
لقد تعمّد يسوع على يد يوحنّا الذي قبل العماد من يسوع وهو لم يزل في الحشا. يوم زارت مريم العذراء نسيبتها أليصابات الحبلى بابن في شيخوختها، امتلأت أليصابات من الروح القدس واهتزّ ابنها فرحًا في داخلها (لو 1: 41). لقد نال يوحنّا نعمة الروح من يسوع المسيح الذي كان متأنّسًا في حشا أمّه مريم.
تعمّد يسوع من يوحنّا الكاهن والنبي، ليصبح هو الآخر كاهنًا ونبيًا. لقد كرّسه يوحنّا الكاهن، كاهنًا ونبيًا وملكًا بوضع اليد عليه بالمعموديّة كما فعل صموئيل بشاول وداود النبي والملك. فالكاهن الأوحد قبل كهنوته من سلالة كهنوتيّة ليستطيع أن يبدأ بشارته متمّمًا بذلك الإرادة الإلهيّة والشريعة اليهوديّة.
بالمعموديّة، ظهر يسوع للعلن، نبيًا يحمل بشارة الخلاص: "روح الربّ عليّ، لأنّه مسحني وأرسلني لأبشّر المساكين، أرسلني لأنادي للأسرى بالحريّة، وللعميان بعودة البصر إليهم، لأحرّر المظلومين، وأعلن الوقت الذي فيه يقبل الربّ شعبه" (لو 4: 18- 19) كما ظهر الملك الذي أتى ليملك على القلوب الوديعة: "إنّ مملكتي ليست من هذا العالم" (يو 18: 36). "إنّي ملك. أنا ولدت وجئت إلى العالم حتّى أشهد للحقّ. فمن كان من أبناء الحقّ يستمع إلى صوتي" (يو 18: 37). لقد أظهر يسوع نفسه أخيرًا أنه الكاهن الذي أتى ليقدّم ذاته ذبيحة عن العالم: "هذا هو حمل الله الحامل خطايا العالم" (يو 1: 29).
لقد اعتمد يسوع لا ليتقدّس بالمياه بل ليقدّس المياه ويجعلها تحمل بذار الإلوهيّة، فيصبح كلّ من يعتمد باسمه أهلاً للحياة الجديدة في ملكوت الله السرمديّ.

5- الروح والمياه الأسراريّة
إذا كان هناك علاقة بين الروح والماء فذلك بواسطة يسوع المسيح. المياه لم تتغيّر ولم تعرف فضيلة أخرى جديدة منذ التجسّد، والروح لم يُضَف إليها كقوّة مطهِّرة. لكن، منذ نزول يسوع، الذي استقرّ عليه ملء الروح، في المياه بين الخطأة ليقوم مثلهم بفعل التطهير، يعاد في كلّ مرّة فعلُ الكنيسة هذا فتنزل المياه الأسراريّة على رأس خاطئ، وفي كلّ مرّة تنفتح السماء ويحلّ الروح على ابن جديد لله. بحصر المعنى، ليست المياه هي التي تحمل وتعطي الروح لكنّ مياه المعموديّة، مياه الفعل الأسراري وكلامه، المياه المسكوبة بواسطة الكنيسة تعيد عمليّة اعتماد ابن الله الذي صار انسانًا.

6- روح الابن
ماذا فعل الروح في معموديّة يسوع؟ يدعو الإنجيل كلّه إلى التأمّل بالآب يكلّم الابن وبالآبن يجاوب أباه. لا شيء يمنع أن نضع الروح معهما، كوجه مماثل لهما. في الروح الموجود في المعموديّة نقول ما قاله يسوع لتلاميذه: "هو يكلّمكم ويرشدكم إلى الحقّ كلّه، يأخذ ما هو لي ويطلعكم عليه" (يو 14: 26). فالروح حاضر في الحوار الذي يدور بين الآب والابن.
الروح هو الذي قاد يسوع إلى البريّة ليجرّب من الشيطان وينتصر عليه (مر 1: 12 ي) والمسيح خاضع لمشيئة الله ولروحه القدّوس الحالّ فيه. لكنّ فعل الروح في المعموديّة عنده شيء مميّز وخاصّ. فظهور الروح هو نتيجة لمخطّط الله. لأنّ يسوع أتى يطلب المعموديّة، حلّ الروح القدس عليه لا ليضفي شيئًا جديدًا عليه بل ليشاركه كلمة الله الآتية من السماء: "هذا ابني الحبيب الذي عنه رضيت" (مت 3: 17). ما أحضره الروح هو الآب. فبالروح التقى الابن بالآب. ظهر الروح وكأنّه بيّن للابن اتّحاده بالآب، وكأنّه يضع الابن في وضعه الحقيقيّ كابن للآب. فهو ابن بواسطة الروح. لقد أوضح لوقا دور الروح هذا الذي يجمع الآب بالابن، عندما شكر يسوع أباه لأنّه أظهر ذلك للمتواضعين وللبسطاء، وأخفاه عن الحكماء والفهماء (لو 10: 21). بواسطة الروح في جوّ إلهيّ من القوّة والشفافيّة والتعلّق المتساوي بالمحبّة يلتقي الآب بالابن ويتّحدا.
لقد ظهر عمل الروح في معموديّة يسوع بهذا الرباط الذي يجمع الآب بالابن، هذا الرباط الذي لا ينفصل أبدًا. لقد شعر يوحنّا أنّ نارًا تخرج من يسوع فتقدّست المياه. لم يرَ حمامة تطير وتحلّ على رأس يسوع (فالروح لم يتجسد قط) بل شعر وكأنّ حرارة لا بل نارًا حلّت على يسوع كما تحلّ الحمامة وتستقرّ. لقد ذكر مار يعقوب السروجيّ ذلك عندما قال:
"خرج منه الروح القدس وحلّ على المياه،
فألهبتها حرارة قوّته.
أجّت ناره في الأمواج قبل نزوله،
فجاش النهر شوقًا إليه في اضطرام اللهب العظيم".

7- الروح والصليب
تستبق معموديّة يسوع منذ ظهوره الأوّل، كلّ ما هو المسيح وما هو دوره. هو ابن الله لكنّه لا يظهر كذلك إلاّ بقدر ما يأخذ صورة العبد المتألّم. يعيد ولادة البشر بالروح ويجعلهم أبناء الله. لذا يجب على ابن الانسان أن يغوص في عمق خطايا العالم. منذ هذا اليوم الأوّل لظهوره، تظهر الآلام، آلام الفداء على الصليب. فيسوع أطاع أباه منذ تجسّده مرورًا بالمعموديّة، وصولاً إلى الجلجلة: "تواضع، أطاع حتّى الموت، الموت على الصليب" (فل 2: 8).
يذكّر بولس المؤمنين حقيقة أخذوها يوم معموديّتهم: "ألا تعلمون أنّنا حين تعمّدنا لنتّحد بالمسيح يسوع تعمّدنا لنموت معه، فدفّنا معه بالمعموديّة وشاركناه في موته، حتّى كما أقامه الآب بقدرته المجيدة من بين الأموات، نسلك نحن أيضًا في حياة جديدة؟ فإذا كنّا اتّحدنا به في موت يشبه موته، فكذلك نتّحد به في قيامته" (روم 6: 3- 5). وهذا ثمرة تفكير عميق قام به القدّيس بولس. لكنّ الأناجيل تقول الشيء ذاته وإن بطريقة أخرى. فالروح المعطى بالمعموديّة يأتينا من آلام المسيح.
لقد أظهر الإزائيّون أنّ على المسيح أن يتعمّد، وهذه المعموديّة هي آلامه، مظهرين إياه الفادي وضحيّة خطايا العالم. وما مراده بقوله: "علينا أن نتمّم كلّ برّ" (مت 3: 15) سوى صدى لإعلانه آلامه: "على ابن الإنسان أن يصعد إلى أورشليم ليتألّم" (مت 17: 21).
يُظهر مرقس ولوقا الآلام كمعموديّة. يسأل يسوع ابني زبدى اللذين طلبا مكانًا لائقًا في ملكوته: "أتقدران أن تشربا الكأس التي سأشربها، وأن تقبلا معموديّة الآلام التي سأقبلها؟ فأجابا: نعم" (مر 10: 38). وهذا ما تمّ فعلاً، فيعقوب مات مقطوع الرأس وأخوه يوحنّا مات شهيدًا (كما تقول بعض الشهادات). لقد قبلا معموديّة الآلام كما قبلا من يسوع معموديّة الماء والروح يوم الغسل. فالمسيح أتى بنار، وكم يودّ أن تكون قد اشتعلت (لو 12: 49 ي). فالمعموديّة والنار هما واحد. فالمسيح أتى يعمّد بالروح والنار (لو 3: 17).
عن أيّ نار كان يتحدّث يسوع سوى عن نار العنصرة؟ فالمسيح لم يتكلّم كثيرًا عن الروح الذي سيرسله. لقد ترك هذا الإعلان للأيّام الأخيرة، للساعة التي يحضّر بها تلاميذه للحياة التي تنتظرهم بعد ذهابه (لو 12: 11 ي). فيقوم دور الروح في الأناجيل الأربعة في مساعدة التلاميذ على عبور المحنة التي مرّ بها يسوع، وللإعلان، وللاعتراف أمام العالم كلّه أنّ يسوع هو ابن الله المخلّص، هو الرّبّ والمسيح، داعين الناس إلى التوبة أي أن يعيشوا معموديّتهم الخاصّة ورسالة التبشير بالإنجيل، ونشر الملكوت. وتظهر العلاقة بشكل واضح أكثر في الإنجيل الرابع: "إن عطش أحد، فليجئ إليّ ليشرب. من آمن بي، تفيض من صدره أنهار ماء حيّ" (يو 7: 37- 38). ويوحنّا الذي نال الروح القدس يوضح ذلك: "عنى بكلامه الروح الذي سيناله المؤمنون به، فما كان الروح أعطي حتّى الآن، لأنّ يسوع ما تمجّد بعد" (آ 39).
فالمعموديّة التي يعطيها يسوع هي الروح القدس. وفي التدبير الإلهي لا يستطيع أن يعطي هذا الروح إلاّ بعد أن يشعر بطعم المرارة (يو 16: 7؛ 19: 30؛ 20: 22). أعطى يسوع الروح ساعة موته لتكون الحياة لكلّ من يؤمن به. إنّ المقابلة التي جرت بين يسوع ونيقوديمس، تُظهر بوضوح هذه العقيدة في إنجيل يوحنّا. فالمعموديّة هي "ولادة ثانية" بالماء والروح ضروريّة لدخول ملكوت الله (3: 5) هذه الولادة معقولة لأنّها عمل الروح. إنّ قوّة الروح هذه مستمدّة من ارتفاع ابن الإنسان على الصليب. لينزل الروح من السماء "يجب أن يصعد إلى السماء ذلك الذي نزل من السماء، ابن الانسان الموجود في السماء" (يو 3: 13). على الله أن يعطي العالم ابنه الوحيد (3: 16)، الذي يجب عليه أن يعود إلى أبيه ليرسل المعزّي، أي الروح القدس (16: 7).
يُسرع الجميع إلى المعموديّة، عند سماعه بمجيء ملكوت الله لأنّه يبحث عن واقع جديد ووجود جديد. أقبل يسوع أيضًا متكلّمًا بلغتهم ما يعرفه وحده لأنّ السماوات منفتحة له ويرى ما في داخلها. فمصير الابن الوحيد والحبيب أن يُسلَم لخلاص العالم. فحضور يسوع إلى المعموديّة جعلها تثمر حياة جديدة بالروح القدس، فتُغفَر الخطايا ويحلّ صوت الآب عليه وتُرفَع آيات الشكر من الابن، بواسطة الروح القدس الذي يستقرّ عليه.

8- روح المسيح الممجّد
يكمّل الحاش (= الآلام) والقيامة ما قدّمته المعموديّة من روح بنويّة. إنّهما ينهيان ما ظهر من علاقة بين يسوع والروح. إنّ الترابط بين الآلام والقيامة هو ذاته بين نزول يسوع في مياه الإردنّ وظهوره كابن الله بحلول الروح القدس عليه.
"فلمّا رفعه الله بيمينه إلى السماء، نال من الآب الروح القدس الموعود به فأفاضه علينا، وهذا ما تشاهدون وتسمعون" (أع 2: 33). كلّ علامات المعموديّة تُظهر هنا، تضامن يسوع مع الناس ولاسيّما الخطأة. فمخطّط الله الخلاصيّ الذي ظهر بالإنجيل قاده إلى الموت.
بقوّة الروح المعطى بالموت والقيامة وفي العنصرة، تشهد الكنيسة وتؤمن بهويّة مؤسّسها الحقيقيّة: "مسيح وربّ" (أع 2: 36). بصفة إلهيّة. فكلّ الآيات التي حدثت بعد حلول الروح القدس: التكلّم بلغات متعدّدة، وشفاء المرضى، وانتصار الشجاعة عند التلاميذ على الخوف (أع 2: 4)، هذه العلامات كلّها تعود إلى حدث واحد رئيسيّ: موت المسيح وقيامته مانحًا العالم الخلاص. من الآن وصاعدًا غفرت الخطايا (أع 2: 38؛ 3: 26...). هذه هي الركيزة الأساسية لبشارة الكنيسة. وللحصول على هذه المغفرة هناك طريقة وحيدة: التوبة وقبول المعموديّة. هنا يأتي الروح الذي يمنحه يسوع لكلّ "من آمن واعتمد". فالعمل الخلاصيّ الرئيسيّ الذي ظهر في معموديّة يسوع والذي تحقّق بموته وقيامته، يظهر من جديد على كلّ من يقبل العماد: "توبوا وليعتمد كلّ واحد باسم يسوع المسيح لمغفرة الخطايا". هذه هي مسيرة الخاطئ الذي يقتدي بالمسيح ويصلح سيرته. "فتنالون إذّاك عطيّة الروح القدس". هذا جواب للكرم الإلهيّ الذي يتخطّى كلّ حلم بالتطهير والتجديد، هو عطيّة الله ذاته.
إن كان المسيح خضع لمعموديِّتنا وجعلنا نعبر الطريق ذاته، فلكي يعطينا الروح الذي ظهر عليه، ويعيد العلاقة التي قطعت بين الله والإنسان. وهنا يظهر بوضوح صدى إنجيل متّى في خاتمته: "نلت كلّ سلطان في السماء والأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (28: 18 ي).

9- روح الأبناء
روح الابن هو روح الأبناء. أقبل يسوع إلى المعموديّة كخاطئ فظهر ابنًا وحيدًا لله بفضل الروح وعمله. كذلك المسيحيّون يظهرون أبناء الله على مثال الابن الوحيد.
لقد أظهر بولس هذا السرّ للملأ. منذ اليوم الأوّل، يعرف المسيحيّون بواسطة الروح، أنّ وجودهم يحيي وجود يسوع. فهم يصلّون للآب بالكلمة ذاتها التي صلاّها معلّمهم الإلهي: "أبًا، أيّها الآب" (غل 4: 6). فعمل الروح في المؤمن هو تغيير القلب الذي يجعل الإنسان قادرًا على أن يعيش كابن للآب. هذا العمل الروحي يدفع المؤمن أن يعيش التوبة على حقيقتها، كما يتحرّك الولد لملاقاة والده: "كلّ من نال روح الله هو ابن الله" (روم 8: 14). "والبرهان أنّكم أبناء الله، هو أن الله أرسل في قلوبنا روح الابن فنصرخ أبّا، أيّها الآب" (غل 4: 6). بهذا الوضع كابناء، بواسطة روح الابن الوحيد، تنهمر نعم الله على أبنائه. هم أبناء إذًا ورثة (غل 4: 7). "كلّ ما هو للآب هو لهم". لذا كلّ ما بينهم هو مشترك.
بحصولهم على الروح القدس الواحد، هم جميعًا أبناء، وبالتالي هم جميعًا أخوة. عندما يتكلّم بولس على المعموديّة بالروح، يفكر دائمًا بوحدة المسيحيّين: "جسد واحد وروح واحدة..." (أف 4: 4 ي)، "كلّنا تعمّدنا معًا بمعموديّة واحدة" (1 كور 12: 3؛ غل 3: 26). فلا فرق بين واحد وآخر: "تعمّدنا بروح واحد لنؤلّف جسدًا واحدًا" (غل 3: 26 ي). كما أن المشاركة فيما بينهم حول طاولة واحدة في الإفخارستيّا، هي رمز لوحدة جسد المسيح، كذلك المشاركة بالمعموديّة الواحدة هي رمز لحضور روح واحد في جميع المسيحيّين.
إذا كانت المعمودية تدخلنا إلى حضن الثالوث، فهي تظهر لنا شخص الروح. في العهد القديم يظهر الروح كقوّة إلهيّة تغيّر العالم وتحدث تبديلات جديدة. عمله الداخلي يقود دائمًا إلى الخلق. هدفه إعلان مجد الله، ولكن يظهر الروح منبثقًا من الله ومتّجهًا إلى العالم مظهرًا مشيئة الله حاملاً كلامه إلى أقاصي الأرض. الروح الذي ظهر على يسوع والذي يحيي المعمّدين ليس فقط عمليًا وخلاّقًا، لكن دوره العظيم هو أن يوجّه إلى الله جميع من يوحي إليهم أن يتقرّبوا منه. لا يأتي فقط من الله بل يتوجّه إليه، يكلّمه. فالله هو الذي يوحي بالصلاة للمؤمن وهو الذي يقبلها وما ذلك إلاّ بواسطة فعل الروح. به ينزل كلّ شيء وإليه يعود كلّ شيء. وهذا الوحي كلّه هو عمل ذلك الذي صعد إلى الآب بالروح لأنّه أتى من الآب بالروح.

10- خاتمة
حاولنا في هذه الدراسة إلقاء بعض الأضواء حول العلاقة التي تربط الروح بالمعموديّة. فالمعموديّة هي مدخل جميع الأسرار، بها يصبح الإنسان شخصًا جديدًا، فيعبر من حالة الخطيئة إلى حالة النعمة. ويولد ولادة جديدة، ويضحي ابنًا لله الأزلي بالتبنّي، أخًا للابن الوحيد، وهيكلاً للروح. فالروح القدس وحده هو الذي يبدّل الإنسان من ماديّ إلى روحاني، فيدخله في شركة مع الثالوث الأقدس، وفي شركة مع الكنيسة، جماعة المؤمنين، ويؤهّله لدخول ملكوت الله. أمّا معموديّة يسوع فكانت الفاتحة التي من خلالها يستطيع المؤمن أن يلج في عمق الله ويتّحد به متمّمًا مشيئته على مثال المعلّم الإلهي فيعبر معه من الموت إلى حياة لا نهاية لها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM