الفصل الحادي عشر:أنا الرب إلهك وآلهة الأمم ليست بشيء

الفصل الحادي عشر
أنا الرب الهك
وآلهة الأمم ليست بشيء

حين منعت الوصيّة الأولى من الوصايا كل الصور والمنحوتات، أرادت أن تحذّر المؤمن من الخلط بين الاله الواحد والآلهة الوثنية، بين يهوه (الرب) الذي قاد شعبه في البرية وبين بعل الذي يقال عنه أنه يعطي الخصب للأرض والمواشي. غير أن تاريخ التنديد بالصور في اسرائيل لم يكتف بهذا التعبير وحده. بل كان هناك توسّع جديد تواجهَ فيه الايمان في اسرائيل مع عبادات الديانات المجاورة. اكتشف الانبياء التباس الصور. ففكّروا في مدلول الصورة بحدّ ذاتها.

1- لا تصنعوا أصنامًا ولا نصبًا
في نهاية دستور القداسة نكتشف طريقة منع الاصنام التي تدلّ بوضوح على هذا التوسّع الجديد: "لا تصنعوا لكم آلهة كاذبة (أي لا شيء)، ولا تقيموا لكم أصنامًا ونصبًا" (لا 26: 1). إن الكلمة التي تترجم "آلهة كاذبة" (أو: أوثان) نقرأها أيضًا في لا 19: 4: "لا تلتفتوا إلى الآلهة الكاذبة". فهذه الآلهة هي عدم ولا شيء، ولهذا يمنع الالتفات إليها. أما في 26: 1 فعدم الآلهة يرتبط بأنها صور صنعها الانسان.
ما استطاع العبرانيون أن يشجبوا عدم الآلهة الاخرى في إطار ديانة توحيدية دقيقة قبل أن تصبح هذه الاصنام التي تظهر فيها هذه الآلهة، صورًا و"أشخاصًا". بعد هذا، ليس منع العبادة للآلهة الأخرى وأصنامها هو الذي يلقي الضوء على طبيعة هذه العبادة. كل إن منع الصور يلقي الضوء على طبيعة هذه العبادة. وبتعبير آخر، إن التفكير الذي توسّع في اسرائيل حول الصورة وانطلاقًا من منع كل عبادة لآلهة أخرى (والتعبّد ليهوه وحده)، قاد إيمان اسرائيل في حركة واحدة إلى اثنين: تعرّف إلى عدم كل الآية الأخرى. ثم نظمّ منع الصور في وصيّة مستقلة. وهذا ما تشهد له طريقة ورود الوصيّة في نص الدكالوغ كما نقرأ في سفر الخروج.
تقول الوصيّة الاولى: "لا في لك آلهة أخرى تجاهي" (خر 20: 3). فهناك تعارض بين الاله الواحد والآلهة الاخرى. والرب يعلن حقه بأن يعترف به اسرائيل دون سائر الآلهة. وتقول الوصيّة الثانية: "لا تصنع لك صنمًا". لا تصنع لك صورة، لا تصنع لك شيئًا ليس بإله. فالصنم يجعل الله منظورًا وملموسًا. فيصبح في قبضة الانسان. وهكذا يرذل الشعب إله سيناء الذي لا يُرى، الذي هو حرّ في اختياره وتصرّفاته، ويجعل منه إلهًا يتكيّف وإرادة البشر.

2- أشعيا
يتوقّف الشّراح عند تنديد الانبياء بالاصنام. وخاصّة أشعيا الثاني. ما هو الصنم؟ يسبكه الصائغ، ويمدّ عليه صفائح من الذهب ويصوغ له سلاسل من فضة... يتميّز خشبًا لا ينخر ويختار نجّارًا حكيمًا لكي يصنع صنمًا لا يتحرّك" (أش 40: 19- 20). وقال بلسان الرب: "أنتم أقلّ من لا شيء وعملكم ليس بشيء" (أش 41: 24). وقمّة هذا التنديد نقرأها في إر 10: 1- 9: "واحد يقطع شجرة من الغابة، فتنحتها يدا النجار بالقدوم. ثم تزيَّن بالفضة والذهب وتوثّق بالمسامير والمطارق لئلا تتحرّك. فتكون منتصبة كنخلة فلا تنطق. وتُحمل حملاً لأنها لا تمشي. فلا تخافوا من هذه فإنها لا تسيء، ولا في وسعها أيضًا أن تحسن".
كان هذا التنديد حاسمًا، فأفهمنا أن شجب الاصنام تعمّق عبر تفكير في الصورة. فالأصنام هي موضوع هزء، وهي تشبه الذين يثقون بها: لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع، لها فم ولا تتكلّم، لها أرجل ولا تستطيع أن تقف دون أن تتداعى وتسقط. هي لا تستطيع شيئًا لأنها صنع بشر، صنع صانع. نلاحظ هذه العبارة التي تعود إلى هوشع (8: 6؛ 13: 2؛ 14: 4)، وهي تنعكس في الطريقة التي بها يعبّر الكاتب عن منع الصور (لا تصنع لك). وهذا ما يتواتر في أقوال الانبياء المندّدة بالأصنام (أش 2: 8؛ 31: 7؛ إر 1: 16؛ مي 5: 12؛ مز 115: 4؛ تث 4: 28؛ 27: 15).
وحين يسخر أشعيا بالأصنام في ف 44، فهو يجعل من الانسان (لا الله) الفاعلَ في كل الجمل: هو الذي يزرع الشجرة، يقطفها، يصوّر شكلاً، ويفبرك الصنم. وفي النهاية، حين يسجد أمامه، فهو لا يفهم أنه يسجد لما صنعته يده. إذن، لا كيان للصنم. فرغبة الانسان أعطته شكلاً. والانسان يُسحَر بهذا الصنم.
ولكن حين شجب الانبياء بطلان عبادة الاصنام، وحين ألقوا الضوء على هذا الجهل الذي هو في أساس كل شرك، فقد استندوا إلى وعي في إيمان اسرائيل ليقدّموا شيئًا جديدًا. وقادهم التفكير حول الصور إلى الغاية من صنع الصور، فانطلقوا من الألفاظ التي تدلّ على الصنم. فكل هذه الألفاظ ترتبط بعمل الصنّاع، ومدلولها يتعلّق بالشيء الذي صُنع بل بطريقة صنعه. فحين تسمّي اللغة العبرية الصنم، فهي لا تنسى أنه صنع الانسان. فلفظة "فسل" العبرية تدلّ على الصورة المنحوتة. ولفظة "مسكه" على صورة مسبوك.
هذه الملاحظة هي مهمّة لأنها تتيح لنا أن نفهم موضوع الصورة، كما تتضمنّه لفظة الصنم: فلفظة "تمونه" أي صورة، تدلّ على "فبركة" الصنم في خطّ به نصنع شكلاً من الاشكال. نحن لسنا أمام موضوع التقليد والمحاكاة، بل أمام موضوع التمثّل (أي ما يجعل الشيء حاضرًا). فالصورة لا تعني هنا فقط نسخ الأصل أو انعكاسه، بل ظهور شكل. وفي العبادات المجاورة لاسرائيل، ظهور هذا الشكل كان الحدث الذي يجعل الاله حاضرًا وقدرته في متناول الانسان. وهذا ما ينتقده الانبياء: الادّعاء بأن الانسان يستطيع أن يتمثّل الله ويصوّره. شدّدوا على أن الاصنام هي صنع أيدي البشر فشجبوا عدم فاعليّتها. فالاصنام هي صور. وبما أنها صور فلا سلطة لها. إنها عدم. إنها لا شيء.

3- سخرية الأنبياء
لا ترتبط هذه السخرية باحتقار لسائر الشعوب، بل بيقين يقول إن الانسان لا يستطيع أن يعيش ملء حياته في الحق والبرّ، إن لم يقرّ بسيادة الرب (يهوه). وإذ أراد الانبياء أن يكونوا أمناء لوحي يهوه، رفضوا رفضًا جذريًا أن يأخذوا بعين الاعتبار المسافة بين قدرة الاله التي "يجسّمها" الصنم واليد البشرية التي صنعت هذا الصنم. فبما أن الصنم هو صنع بشر، فهو يرتبط بعالم يُسقطه الانسان. وما يراه الانسان هو فقط صورة عن رغبته الخاصّة. لذا، فالذين يثقون بالصنم يضلّون ويصبحون باطلاً (لا شيء) (أش 44: 9) على مثال الصور التي أسقطوها (إر 2: 5؛ مز 115: 8).
وإذ يستعيد تث 27: 15 كلمة اللعنة ضد إنسان يفبرك صنمًا، فهو يزيد أن الصنم هو صنع يد صانع. وهكذا جدّد هذا النصّ الشجب لعبادة الاوثان: فحين يسجد الانسان أمام صنم صنعه، فهو يُؤخذ بسحر صورة صنعها، وبالتالي فهو يسجن نفسه في سلطة كاذبة لا يمتلكها الصنم، ويعود إلى حلقة رغبته الباطلة والفارغة.
غير أنه يستحيل أن نفهم معنى ومغزى منع الصور دون أن نتساءل عن العلاقة بين هذا المنع وبين الحرب على عبادة الأصنام. فإن تجاهلناها عجزنا عن ادراك البعد التاريخي لتفسير هذا المنع. ولقد قال أحد الشرّاح: كل تفسير لا يربط ربطًا وثيقًا منع الصور بمجمل وحي يهوه، لا يصل إلى جوهر المسألة.
فمنع الصور ينتج عن ردّة فعل محافظة في وضع متأزّم ساعة بدت هويّة اسرائيل كشعب يهوه مهدّدة بالانحلال. ولكن ردّة الفعل هذه بدت من دون تفسير، لأنّ لا شيء يتيح لنا أن نؤكّد أن عناصر من ديانة يهوه لعبت دورًا في ردّة الفعل هذه. لاشكّ في أن هذه العناصر المميّزة التي تشكّل خاصيّة إيمان اسرائيل لم تتوضّح إلاّ في نهاية هذا النموّ التاريخي. ولكن إذا أردنا أن نفهم هذا النموّ في بعده التاريخي الخاصّ، وجب علينا أن نقول إن هذه الخاصيّة كانت حاضرة منذ البداية.
هذا لا يكفي لكي نقول إن عبادة الآلهة الغريبة كانت المحرّك الحقيقي الذي قاد إلى منع الصور. بل يجب أيضًا أن نبيّن عدم توافق عبادة يهوه مع عبادة الآلهة الغريبة، وبالتالي أن نلقي ضوءًا على ما يشكّل حصرُ العبادة في يهوه. نستطيع القول إن تحريم الصور عبّر عنه الكتاب في حقبة متأخرة، عبر أزمات سبّبتها مواجهة مع عبادات الشعوب المجاورة لاسرائيل. لكن السؤال الحقيقي الذي يتطلّب جوابًا هو أن نعرف لماذا قادت هذه المواجهة إلى التحريم لا إلى شيء آخر.

4- سفر التثنية
هنا نعود إلى تث 4: 10- 24 الذي هو النصّ الوحيد في التوراة الذي يقدّم تفسرًا عن تحريم الصور. ففي سيناء، حين تكلّم الله من خلال النار، لم يرَ اسرائيل أيّة صورة (تمونه)، بل سمع صوتًا يكلّمه. فما يشكّل هويّة اسرائيل في علاقته بيهوه هو حصرًا سماع هذه الكلمة. وإذ أراد الكاتب الاشتراعي أن يشدّد على هذا الوضع، ذكّر بتحريم الصور: "بما أنكم ما رأيتم صورة يوم كلّمكم يهوه... فلا تعملوا صنمًا ولا صورة...". وهكذا يتقبّل تحريم الصور أساسًا لاهوتيًا: إنه يبدو في علاقة مع وحي الله بالكلمة. ولكننا نستطيع القول أيضًا إن تحريم الصور يدخل هنا ليوضح معنى الكلمة التي يوجّهها الله للانسان، والتي بها يكشف له عن ذاته.
حين يلتفت الله إلى الانسان، فالكلمة التي يوجّهها إليه تبدو بشكل أمر ووعد. وبما أنها كذلك، فوحي الله لا يمكن إرجاعه إلى ظهور في شكل من الاشكال. قال تث 5: 4: "كلّمكم الرب وجهًا إلى وجه في الجبل من وسط النار". وهذا "الوجه إلى وجه" لا يعني أن الله كان منظورًا ومرئيًا. لقد كان قريبًا وقريبًا جدًا بحيث لم يستطيعوا رؤيته. بعد هذا، تكون الوظيفة الاساسية لتحريم الصور بأن تذكّر اسرائيل بأن وجوده (وهويّته) يرتبط بمبادرة الله الآتي إلى لقائه.
إن تحريم الصور شكّل في تاريخ اسرائيل رهان إيمانه في مواجهته مع الشعوب المحيطة به. ففي الاطار الديني الذي يطبع بطابعه الشرق الاوسط، ميّز هذا التحريم شعب اسرائيل، وجعل من هذا الشعب القاسي الرقاب شعبًا غريبًا وسط الأمم. فلا نتصوّر خارج اسرائيل عبادة من العبادات من دون صورة للاهوت. فما كان الناس يقدرون أن يكرّموا الآلهة ويعبدوها لو مُنعوا من صنع صورة يقدّمونها للآلهة كجسد تستطيع به أن تكون مرئية وتظهر قدرها. فوظيفة الصورة هي أن تمثّل الاله وتجعل الناس يتّصلون به. وهذه الوظيفة ضرورية للبشر الذين لا يستطيعون أن يقيموا نظامًا أو يقوموا بمشروع إذا لم تبيّن لهم الآلهة الطريقَ الواجب اتباعها، إذا لم تدلَّهم هذه الآلهة على رضاها عليهم.
لا نظنّ فقط أن الصورة تجعل الاله في متناول الانسان. فالعبادة المؤدّاة إلى الصورة لا تتوجّه إلى الصورة نفسها، بل إلى الاله الحاضر في الصورة: والاله لا يتماثل مع الصورة، بل هو يسمو عليها، وهو بنعمة منه يقيم فيها بحضوره. لاشكّ في أن الصورة تؤوّن (تجعلها حاضرة الآن) قدرة الاله، ولكنها تشدّد في الوقت عينه على المسافة التي تفصل عالم الآلهة عن عالم البشر. فكل القوى التي تتحكّم بالرغبة التي يعرفها البشر بصورة ناقصة (مثل: الحيوية، الخصب، القوّة، الجمال، العقل)، يمتلكها الآلهة امتلاكًا لا يقاربه ذبول.
ونعود إلى ارشاد تث 4 فنقرأ في آ 17- 18، ما يمنع تصويره صنمًا: "ممّا في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء من تحت الأرض" (تث 5: 8). هذا يعني أننا لا نجد في أي منطقة من مناطق الكون واقعًا يمكن أن نشبّهه بالله، يمكن أن يمثّل الله. إذن، لا واقع في العالم يستطيع أن يكون حدثًا ظهوريًا، لأن لا واقع شفافًا أمام حضور الله: لا نستطيع أن نُرجع هذا الحضور الإلهيّ إلى أفق العالم.

خاتمة
حين تجعل الصورُ الله مرئيًا، فهي تخفي حضور الله. ولكن قدرتها على إخفائه تأتيها من واقع وهو أن هذا الحضور هو حضور خفيّ، لا يصل إليه الانسان. فتحفّظ الله الذي يبقى خفيًا حين يقترب من المؤمن، كان محنة عميقة ومؤلمة لإيمان اسرائيل (إلى متى تخفي عني وجهك؟). ولهذا، لا نستطيع أن نفسّر منع الصور (ووظيفته مواجهة الانسان مع تحفّظ الله) تاركين جانبًا المحنة للايمان. فكيف نفهم أن يبقى الله خفيًا للذين أحبوه وتمنّوا حضوره، كما يبقى للذين مالوا عنه وأهملوا وصاياه؟
كيف نفهم أن يكون الله خفيًا؟ بمعنى التسامي المحض. بما أن الله يتجاوز هذا العالم الذي خلقه، فالانسان لا يدركه. فالله يتجاوز امكانيات الادراك لدى الانسان. فكل ما يستطيع الانسان أن يدركه أو يتصوّره أو يتخيّله يقع في أفق العالم. وبقدر ما موضوع منع الصور هو التمييز بين الله والعالم، نستطيع القول إن تسامي الله يتجاوز العالم مع هذا المنع.
فمنذ الآباء حتى أشعيا الثاني، تعرّف اسرائيل إلى الطابع الاسكاتولوجي للوحي. أي إن الافق الذي يفتحه الوعد والوصيّة (على مجيء الله في آخر الأزمنة) لا نستطيع أن نرجعه إلى هذا العالم. فالصورة تربطنا بالتاريخ. أما الوحي فهو يفتحنا على العالم الآخر، على حضور الله الذي يبدأ هنا في الايمان ويتجلّى فيما بعد في العيان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM