الفصل السابع عشر: هل نلتم الروح القدس

الفصل السابع عشر
هل نلتم الروح القدس

وجب على بولس الآتي من فريجية أن يمرّ بالمناطق الجبلية للوصول إلى مدينة أفسس، عاصمة اقليم آسية ومن أكبر مراكز العالم اليوناني الروماني التجارية والدينية. التقى بولس هناك بعدد من التلاميذ الذين لم يكن قد اكتمل تعليمهم، وسألهم: "هل نلتم الروح القدس حين آمنتم؟ فقالوا له: لا، بل لم نسمع أن هناك روحًا قدسًا" (أع 19: 2).
يمثل التلاميذ الأفسسيون اليوم أولئك المؤمنين الذين سمعوا بوجود الروح القدس وبحضوره، وهم لا يعرفونه إلاّ بالاسم أو يذكرونه عند عمل إشارة الصليب. غير أنّ حضور الروح القدس وعمله يشكلاّن ينبوع حياة للكنيسة وبالتالي للمسيحيين كل بمفرده.

مجيء الروح
لقد وعد المسيح اتباعه بمجيء الروح. وينقل لنا البشير يوحنا الوعد الذي قام به يسوع قبل آلامه وموته في حديث الوداع الذي رواه على لسان المعلم أثناء العشاء الأخير والسرّي (فصول 13- 17). حضّر المسيح تلاميذه على هذا الفراق وعزّاهم بمجيء شخص "آخر": "وأنا سأسأل الآب فيهب لكم مؤيّدًا آخر يكون معكم للأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يتلقَّاه لأنه لا يراه ولا يعرفه. أمّا أنتم فتعلمون أنه يقيم عندكم ويكون فيكم" (14: 16- 17).
يستطرد المسيح ليقول لتلاميذه إنه ذاهب إلى الآب وإن الروح القدس سيأخذ مكانه على الأرض. فكما كان المسيح مدة حياته الارضية أداة الوحي الالهي للانسان، كذلك يكون الروح القدس من بعد صعود المسيح إلى السماء. وبالتالي كان حضور الله الموقت في المسيح على الأرض شيئًا حتميًا، لأن المسيح، وهو الانسان الكامل، ما كان ليستطيع أن يبقى على الارض إلى الأبد مع المؤمنين.
كان مجيء الروح منتظرًا منذ البدء. فاليهود عرفوا منذ مئات السنين أن الروح سيحلّ على البشر مع مجيء المسيح. ترك الأنبياء أمثال حزقيال ويوئيل، في اطار نبوءاتهم المسيحانية، شعلة الأمل حيّة في قلوب المؤمنين إذ تنبأوا بأنّ الله سيفيض روحه ليجدّد العالم الذي خلقه. ونعلم أن النبوءة قد تحقّقت: لقد نزل الروح القدس على المسيح يوم عماده في الاردن بشكل حمامة. كان ذلك علامة ليجعل من يسوع "مسيحًا" (Christ). وكما أن وعد المسيح قد تحقّق واكتمل في يسوع، كذلك انتظار الانبياء قد تجلّى في حلول الروح القدس على التلاميذ عندما اختبروه يوم العنصرة.
مع أنّ يسوع صعد بالجسد إلى أبيه، بقي حضور الله مستمرًا بطريقة جديدة حسب وعد المسيح لتلاميذه. أجل، لقد تمّ هذا الوعد عندما عاد التلاميذ إلى أورشليم بعد الصعود وانتظروا هناك. ويقدّم لنا سفر أعمال الرسل نصًا يوضح لنا فيه تتمة هذا الوعد: "ولما أتى اليوم الخمسون، كانوا مجتمعين كلهم في مكان واحد، فانطلق من السماء بغتة دويّ كريح عاصفة، فملأ جوانب البيت الذي كانوا فيه، وظهرت لهم ألسنة كأنها من نار قد انقسمت فوقف على كل منهم لسان، فامتلأوا جميعهم من الروح القدس، وأخذوا يتكلمون بلغات غير لغتهم، على ما وهب لهم الروح القدس أن يتكلموا" (2: 1- 4). يظهر لنا من قراءة هذا النص أننا في إطار العهد القديم حيث يتجلى حضور الله في العناصر الطبيعية الخارجية. تذكرنا "النار" بالعلامة التي أعطاها الله لموسى في العليقة المشتعلة، وبحضور الله مع العبرانيين في الصحراء إبان خروجهم من مصر. لكننا نجد هنا مظهرًا جديدًا مميّزًا: لقد انقسمت النار ووقفت على كل واحد بمفرده. ليس حضور الله ببعيد عنّا، بل إنه يسكن في الشعب المسيحي بطريقة خاصة كعربون لتلك العلاقة التي حصلنا عليها في المسيح. كان الله قبل مجيء المسيح حاضرًا بين شعبه ولكنه مفصول عنه. أمّا الآن فقد أصبح واحدًا معه. نستخلص في القول إذا كان وضعنا تشابهًا بين الله والانسان: لقد أصبح الانسان تلك العليقة المشتعلة بنار اللاهوت وبقي غير محترق بالنار. لقد اختار الله أن يسكن فيما بيننا بهذه الطريقة لتكون علامة الوحدة بينه وبيننا.
هدف الله في خلقه الانسان أن يكون معه إلى الابد؛ ولكنّ هدفه باء بالفشل بسبب الخطيئة. وهذا ما دعا ابن الله أن يأتي إلى العالم ليحلّ عقدة آدم ويحرّره من معصيته وينشله من سقوطه. نجح المسيح في عمله اذ نتج عن ذلك العمل إرسال الروح القدس. كما أننا نلمس الآن لمس اليد أنّ ما أعدّه المسيح في حياته على الارض يدخل في حيّز الكمال. فحضور الروح في حياتنا هو تتميم لمخطط الله الخلاصي لنا. قال القديس اثناسيوس الاسكندري: "لقد أصبح الله انسانًا ليجعلنا أهلاً لقبول الروح القدس".
تدلّ هذه الخبرة الوحيدة لمجيء الروح القدس، لنا نحن اتباع المسيح، على بدء حياة الكنيسة كما نعرفها اليوم. ليست الكنيسة جماعة بشرية مرتبطة بالمعتقدات نفسها فحسب، بل إنها تؤلّف جسمًا حيًا في المسيح لأن روحه يحيا فيها. وبالتالي، إننا أحياء في المسيح، ليس لأننا نسير معه في الجسد أو لأننا نتبعه، بل بالاحرى لأن الروح القدس يحركنا ويدفع الحياة فينا. فالروح الذي شوهد في عماد يسوع هو الروح نفسه في الكنيسة، وهو الذي يخلقها ويعطيها الحياة الالهية. فالكنيسة بالتالي، والروح القدس "نسمتها"، تصبح اكتمال تجسّد الله في العالم.
تحتفل الكنيسة المسيحية بمجيء الروح القدس يوم العنصرة أو الخمسين، ويمثّل هذا العيدُ نقطة الذورة في السنة الليتورجية، بينما يقيم اليهود يومَ الخمسين احتفالاً للعهد الذي قطعه الله مع شعبه على جبل سيناء. أصبح اسرائيل، من خلال هذا العهد، شعب الله، وتسلّم عطيّة الشريعة. يشدّد هذا العيد بالتالي على قصد الله، ليس لأنه حرّر شعبه من العبودية فحسب (هذا معنى "الخروج" Exodus)، بل لأنه دخل معه في علاقة ودّية ومستمرة، أي أنه قطع معه عهدًا أبديًا. تحتفل الكنيسة، من جهة أخرى، في عنصرتها الجديدة بعطاء الروح القدس الذي يشكّل المخطط نفسه الذي رسمه الله. لا يقوم هذا التدبير على إعتاقنا من الموت فحسب (هذا معنى "الفصح" Pascha)، بل على قطع عهد جديد معنا يختمه الرب بسكنى روحه القدوس فينا.
يؤلّف حلول الروح النقطة الذروة في كشف الله لنفسه، كذلك يغدو موسم العنصرة كمال عيد فصح الكنيسة. لقد جعلت القيامة علاقة حميمة بين الله والبشر. ثم تحقّقت هذه العلاقة بمجيء الروح الذي سكن فينا. إن الروح، الذي لم يعطَ حسيًا حتى تمجيد يسوع، يفجِّر الآن من المسيح القائم من بين الاموات انهارًا من الماء الحيّ لحياة المؤمنين (راجع يوحنا 7: 37- 39). وللتشديد على الظوَاهر الحيّة لحضور الروح القدس اعتمدت بعض الكنائس البيزنطية عادة تزيين الكنائس بالاغصان الخضراء والزهور في يوم العنصرة.
تقيم الكنيسة البيزنطية في الوقت نفسه احتفالاً بظهور الثالوث الاقدس يوم العنصرة. يختبر المؤمنون لأول مرة حضور الروح القدس المختلف. لقد عرف تلاميذ يسوع الله الآب، واعترفوا بيسوع ابنه المتجسد، والآن يلتقون بالروح القدس ويرونه كشخص "آخر". لقد أظهر المسيح بإرساله الروح أنّ الله ثالوثًا (ثلاثة أقانيم في إله واحد).
تحيا الكنيسة من الروح الذي يعمل فيها من خلال كل شيء تعمله بايمان. لا يملك المؤمن، بالرغم من ذلك، صورة واضحة للروح ليتأمله كما يتأمّل صورة المسيح. نحن نرى في يسوع شخصه المتجسد، ونروي باستمرار حياته العلنية، ونكرر كلامه، ونرسم ايقوناته، وننظر في عينيه... غير أنّ الروح يبقى لنا مجهولاً "مغفلاً" لأنه لم يصبح بشرًا. لا نستطيع بالتالي أن نصفه أو نرسم أيقونته. ينتج عن ذلك أنّ وجوده الشخصي يبقى سريًا وخفيًا وغير موصوف. فنشعر به وبحضوره من خلال أعماله التي نختبرها في الكنيسة.
الطريقة الشعرية هي السبيل الوحيد للكلام عن شخصية الروح. لقد كشف لنا الروح عن ذاته من خلال الصور: "حمامة" في عماد يسوع في الاردن، "ريح وألسنة نار" يوم العنصرة. من الواضح أن هذه التشابيه تعود إلى بعض مظاهر أعماله التي نعرفها. يستعمل يسوع صورة أخرى عندما يصف خبرتنا بالروح، ويتخذ مثل "العماد" (أع 1: 5)، أي "الغطس" في علاقة وثيقة مع الروح. لقد شبّه الانبياء الروح بالذي "يمسح" مختاريه، وهي صورة تعبّر عن "تعبئة" وعن الدخول في الشخص. إنّ الانسان الذي يحصل على هذه المسحة يصبح "ممسوحًا" أو "مسيحًا". نجد هذه الصورة مكتملة فينا عندما نحصل على سر الميرون المقدس أو التثبيت، ونُمسح بالروح القدس لنصبح مسحاء آخرين.
يتكلّم القديس بولس عن الروح القدس ويشبهه بختم في علاقتنا مع الله. وتستعمل الكنيسة البيزنطية هذه الصورة في سر الميرون المقدس عندما يمسح الكاهن المعتمد بزيت الميرون معلنًا: "ختمُ موهبة الروح القدس". يصبح المعمّد خاصة الرب عندما يختمنا الرب بروحه. فالروح القدس هو، بحسب القديس باسيليوس الكبير، "عربون الميراث الآتي وباكورة الخيرات الابدية" (الليتورجية الالهية). ويدعوه الرسول بولس "الضمانة" لأن نحصل على الحياة الابدية: إنه "عربون ميراثنا، وهو الذي يعدّ فداء خاصته للتسبيح بمجده" (أف 1: 14).
يقول القديس يوحنا الدمشقي، إن الروح إله حقيقي "مساو للآب والابن في كل شيء... لأن له كل ما للآب والابن، عدا اللاولادة والولادة" (الايمان الارثوذكسي، الكتاب الاول، المقالة الثامنة 9). غير أننا لا نعلم كيف أن الروح يتعلق بالآب والابن ما عدا الانبثاق والرسالة. لقد كُتب الكثير عن تلك العلاقة ولكننا نعلم الشيء اليسير من الوحي لأن عمل الروح يشير إلى المسيح وليس إلى نفسه. إنه يبقى لنا السر المخبَّأ، والكنز الدفين بدون اسم، والشخص الذي لا نستطيع أن نعرفه، وكما يقوله عنه القديس سمعان اللاهوتي الجديد: "أنه مخبَّأ في ألوهيته، وظاهر في أعماله فقط".

عمل الروح
يأتي الروح إلينا ليس ليسكن فينا أبديًا فحسب، بل بالاحرى يأتي ليتحد فينا بطريقة حميمة. يقول القديس بولس في هذا الصدد: "إن روح الله يحلّ فيكم" (1 كور 3: 16)، ويعطي بالتالي حضوره حياة للكنيسة. يذكّرنا سفر التكوين بأنه عندما نفخ الرب على الخواء، بدأت الخليقة الأصلية تأخذ كيانًا. ينفخ الله للمرة الثانية روحه على الأرض، وفي "ذلك الدوي كريح عاصفة" تنبعث فيها الحياة الجديدة.
نؤمن بأن الروح يحيي الكنيسة ويقوّيها ويفعّلها. كما كان حضور المسيح الارضي يعطي قوة وشجاعة للذين تبعوه في الجبل، كذلك حضور الروح يمنح قوة جديدة للكنيسة. لا ننسى أن حياة الروح القدس ظهرت على الارض بطريقة دراماتيكية ومؤثّرة. نقرأ في سفر أعمال الرسل أن الذين حلّ عليهم الروح يوم الخمسين اختبروا تغييرًا تامًا وجذريًا. لقد انقلبوا من أناس خائفين مذعورين إلى أشخاص ينشدون عظائم الله بجرأة واقتناع. لقد زال التردد لأنهم ليسوا وحيدين؛ لا يحتاجون بعد الآن أن يتّكلوا على قواهم الشخصية ومواهبهم فحسب، لقد حصلوا على حياة جديدة فيهم هي حياة روح الله. لقد أثّر حلول الروح القدس في نفس هؤلاء الأشخاص كما تنبأ العهد القديم ووعد المسيح بذلك. هذه كانت العنصرة الأولى.
تعبّر حياة الروح في الكنيسة عن مفاهيم كثيرة. فالروح هو ينبوع كل قداسة وكل قدرة ومصدر جميع المواهب التي نحصل عليها. نقول في سحر يوم الاحد: "الروح القدس ينبوع الكنوز الالهية" (أناشيد المراقي، اللحن السابع). نستطيع القول إنّ كل شيء جيد وحسن نقوم به في الكنيسة يصدر عن الروح. ترتل الكنيسة يوم العنصرة ترنيمة تشدّد فيها على دور الروح القدس وعلى ارتباطنا به في كل شيء: "إنّ الروح القدس يهب كل شيء: يفيض النبوءة ويكمّل الكهنوت. يعطي الحكمة للأميين ويظهر الصيادين متكلمين باللاهوت. وهو يرتّب كل نظام الكنيسة. فيا أيها المعزّي المساوي للآب والابن في الجوهر والعرش المجد لك" (الغروب، قطع المزامير).
تأتي أول موهبة الروح نتيجة لقول المسيح الذي وعد به تلاميذه، أن الروح سيجعلهم يفهمون كل شيء عنه: "هو يشهد لي" (يو 15: 26). كما أنه "يعلمكم جميع الاشياء ويذكركم جميع ما قلته لكم" (يو 14: 26). إن الرسل الذين سبق لهم أن شاركوا يسوع في حياته على الأرض يحفظون ذكرى ما عمله وقاله، وسيساعدهم روح المسيح القائم من بين الاموات على ادراك معنى أعماله العميق. سيجعلهم أيضًا هذا الروح يدركون تدريجيًا حقيقة يسوع ومعنى الاشياء وصلتها بيسوع. تأخذ بالتالي جميع الاحداث والنبوءات والتعاليم مكانها في فسيفساء رسالة البشرى الانجيلية، ويجد الرسل أنفسهم مشاركين للمرّة الاولى في اعلان هذه البشارة. لا تقوم شهادة الرسل على التعليم بجرأة فحسب، بل إنها ترتكز على الفهم والحقيقة. وراح الرسل على مرّ الزمن يدوّنون هذه البشرى تحت إمرة الروح القدس. ثم اعترفت الكنيسة في الاجيال التالية بحضور الروح في هذه الكتب ودعتها كتبًا موحاة.
الروح القدس هو روح الحق الذي يجعل الانجيل معروفًا في العالم. إنه أيضًا واهب الحياة، "وبه تتفجّر مجاري النعمة وتروي الخليقة كلها للحياة المحيية" (أناشيد المراقي للاعياد). لقد سكن الروح القدس فينا منذ العنصرة، ويعطينا الحياة الالهية ويشركنا في الطبيعة الالهية. فالروح القدس هو المقدّس الذي يجعلنا نقترب من القدوس لنكون قديسين. ونصبح، كما هي الكنيسة، "أمّة مقدسة"، و"شركة القديسين"، هذا الشعب المقدس بقدرة روح الله وفعله.
إننا ندرك أن الروح القدس هو ينبوع القداسة في الكنيسة عندما نؤلف الجماعة "الليتورجية". عندما تجتمع الجماعة المسيحية للعبادة، يعمل فيها الروح القدس ليكون ملكوت الله حاضرًا على الارض. تعبّر الجماعة المتعبدة من خلال هذه النعمة العظيمة عن حقيقة الكنيسة وعن محتواها: إنها شعب واحد في المسيح، يقف أمام الله الآب في شركة الروح القدس. بالاضافة إلى ذلك، يفقد اجتماعنا الليتورجي معناه بدون الروح القدس لأننا نجتمع وحدنا للصلاة. بينما يحقق حضور الروح معنا حياة الله ويجعلها حاضرة فينا. وهذا ما نعبّر عنه في بدء احتفالاتنا الليتورجية في الكنيسة البيزنطية عندما نستدعي الروح القدس في هذه الصلاة الجميلة "أيها الملك السماوي،..." ندل في طلبنا "هلمّ واسكن فينا" على أن يكون الروح حاضرًا في جماعتنا المصلية ويجعل منها أكثر من جماعة أشخاص ترفع صوتها للصلاة. إننا نبتهل إليه بأن تصبح الصلاة قناة توصل حياته إلينا. يستجيب الرب لهذا الدعاء عندما نرفعه بإيمان كما يؤكده لنا الرسول بولس: "كذلك فإن الروح أيضًا يأتي لنجدة ضعفنا لأننا لا نحسن الصلاة كما يجب ولكن الروح يشفع لنا بأنّات لا توصف" (روم 8: 26).
لا نصلي عمومًا إلى الروح القدس في خدماتنا بعد هذا الدعاء في بدء الصلوات. يدل ذلك على أننا نؤمن بأن هذه الصلاة قد استجيبت، وأن الروح يصلي الآن معنا وفينا. تدفعنا هذه الثقة إلى أن نرفع الدعاء إلى الله الآب الذي هو ينبوع الألوهية ومنه يأتي الابن والروح القدس. يزيدنا هذا الوعي إيمانًا بأن الروح يعمل في وسطنا كلما اجتمعنا، إذ إنّا متيقّنون بأن الاسرار المقدسة هي نقطة الذروة في العبادة المسيحية. نعترف أنه من خلال الاسرار يعمل الروح ليغيّر المؤمنين بطريقة سريّة. ليست الاسرار شعائر وطقوسًا يعبّر من خلالها المؤمنون عن تقواهم وإيمانهم فحسب، بل إنها لقاءات صوفية (Mystique) أسرارية مع الله. لا ينفك الروح في هذه اللقاءات من أن يجيب الكنيسة في تغيير المؤمنين بقدرته الالهية. يعلن الشماس في الليتورجيا المارونية بتعابير قويّة عن هذا التعبير عندما يستدعي الكاهن الروح القدس على القرابين: "ما أرهب هذه اللحظات، أيها الاحبّاء. سينزل الروح القدس ويظلّل هذه القرابين المعدّة لتقديسنا". ندرك أن الاسرار المقدسة في عبادة الكنيسة هي الاحداث التي يعمل من خلالها الروح القدس مباشرةً ليقدّس الشعب. روح الحق وواهب الحياة للكنسية هو أيضًا المؤيد، كما يدعوه المسيح (راجع يو 14: 16). يستعمل الانجيل كلمة (Paraklètos) "البارقليط" وهو لفظ يوناني مقتبس من لغة القانون يدلّ على من يُستدعى لدى المتهم للدفاع عنه. فالروح القدس هو المحامي والمساعد والمدافع، والمعزي والشفيع؛ إنه حاضر دائمًا للقيادة وعند الحاجة، وهو حسب التعبير الرياضي "المدرّب" المسؤول في فرقته.
يقود الروح الكنيسة ويدعمها في بحثها لتخدم الرب. إنه الروح المؤيد الذي يقف بجانب الرسل والآباء ليدلهم على الاتجاه الذي تمشي على خطاه الكنيسة في تفسيرها التقليد المقدس وتحديده. عندما نظر الرسل في مسألة "تهويد" المسيحيين وإجبارهم على اتباع الطقوس اليهودية، نراهم يعبّرون عن قرارهم بالوجه التالي: "فقد حسن لدى الروح القدس ولدينا إلاّ يُلقى عليكم من الاعباء سوى ما لا بدّ منه" (أع 15: 28). كان الرسل متيقّنين أن الروح واقف بجانبهم ليساندهم ويقودهم؛ لقد اتكلوا على مساعدته ووجوده بينهم (لا تزال المجامع المسكونية تستعمل الطريقة نفسها لإعلان قراراتها!).
تابعت الكنيسة بعد الرسل اتكالها على مساندة الروح لها ليوضح السبيل أمامها، خصوصًا حين كانت تلتئم في مجامع وسينودسات. علينا أن نشدّد على أن هذا الوعي بوجود الروح لم يكن متوفرًا لدى جميع رجالات الكنيسة، ويعلمنا تاريخ الكنيسة بأن ذلك الوعي كان لدى أولئك الذين قضوا حياتهم باتصال وثيق بالله. لنأخذ مثالاً. عندما فهم معلمو كنيسة أنطاكية إرادة الروح، كان ذلك عائدًا إلى ارتباطهم ووعيهم بالروح. يصف لنا سفر أعمال الرسل هؤلاء "فبينما هم يقضون فريضة العبادة للرب ويصومون، قال لهم الروح القدس: أفردوا برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه" (13: 2). هكذا، حيثما واصلت الكنيسة بحثها عن إرادة الروح وسارت في اتجاهه، جاءت أعمالها مطابقة له وبقيت للمؤمنين ركيزة في مسيرتهم المسيحية. وحيثما بحث المؤمنون في تسيير أعمال الكنيسة بدون اتصال مع الروح، زالت أعمالها معهم. لقد توخّى الروح القدس أن لا تبتعد الكنيسة عن المسيح أبدًا. فكما قلنا سابقًا تدلّ أعمالها على اتصالها أو ابتعادها عن وجود روح الله فيها. يعطينا غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم صورة رائعة عمّا يحصل في الكنيسة عندما تضع ثقتها في الروح المؤيد: "بدون الروح القدس، يبقى الله بعيدًا، والمسيح في الماضي. يصبح الانجيل حرفًا مائتًا. تغدو الكنيسة مؤسّسة فقط، وتصبح السلطة مسألة سيطرة، والرسالة قضيّة دعاية والليتورجيا ذكرى والحياة المسيحية عبودية خلقية. بينما بالروح القدس، يقوم الكون ويئن بآلام ولادة الملكوت، وينهض المسيح فينا. ويصبح الانجيل ينبوع حياة، وتظهر الكنيسة حياة الثالوث. وتصبح السلطة خدمة تحرير، والرسالة عنصرةً. وتغدو الليتورجيا ذكرانية وتسبق الحدث. ويصبح العمل الانساني مؤلهًا" (راجع خطابه إلى مجلس الكنائس العالمي 1968).
يعمل الروح القدس في الكنيسة بطرق كثيرة: إنه يُلهم ويقدّس ويقود. يقوم بعمله من خلال المواهب المختلفة التي يغدقها على المؤمنين. يروي لنا سفر أعمال الرسل على أن كل مؤمن قد وُهب نعمة خاصة في سبيل هدف عام أي بنيان الكنيسة. وهذا ما دفع بولس إلى التشديد على هذه الفكرة في رسالته الاولى إلى أهل كورنتوس: "إن المواهب على أنواع وأما الروح فهو هو، وإن الخدمات على أنواع وأما الربّ فهو هو، وإن الاعمال على أنواع وأما الله الذي يعمل كل شيء في جميع الناس فهو هو. كل واحد يتلقّى من الروح كلام حكمة، والآخر يتلقى وفقًا للروح نفسه كلام معرفة، وسواه الايمان في الروح نفسه، والآخر هبة الشفاء بهذا الروح الواحد، وسواه القدرة على الاتيان بالمعجزات، والآخر النبوءة، سواه التمييز ما بين الارواح، والآخر التكلم باللغات، وسواه ترجمتها. وهذا كله يعمله الروح الواحد نفسه موزّعًا على كل واحد ما يوافقه كما يشاء" (12: 4- 11). كذلك بكلام موجز في رسالته إلى الرومانيين: "... ولنا مواهب تختلف باختلاف ما أعطينا من النعمة: فمن له موهبة النبوّة فليتنبّأ وفقًا للإيمان، ومن له موهبة الخدمة فليخدم، ومن له التعليم فليُعلّم، ومن له الوعظ فليعظ، ومن أعطى فليُعط بنيّة صافية، ومن يرئس فليرئس بهمّة، ومن يزحم فليرحم ببشاشة..." (12: 6- 8).
ثم يتابع بولس في رسالته الاولى إلى الكورنتيّين الكلام عن الخدم الكنسيّة المرتبطة بالمواهب التي أفاضها الروح فيها. هناك الرسل والانبياء والمعلّمون والرعاة والمبشّرون والشافون وصانعو العجائب. هناك أيضًا الذين لهم مواهب الاسعاف وحسن الادارة والتكلّم بلغات (راجع 1 كور 12: 28). نجد أكثر هذه الخدمات في كنيسة اليوم بالاضافة إلى تلك التي وُجدت منذ أيام الكنيسة الاولى. لم تُمنح المواهب للخير الفردي ولكنها أعطيت للخير العام. أجل، إنها مُنحت لا للمنافسة بل لتعمل معًا "لبنيان الجماعة" (1 كور 14: 12).
يشبّه بولس تنوع المواهب بعمل الجسد المؤلف من أعضاء كثيرة، حيث لكل عضو دور خاص به ومكمّل للعضو الآخر. لقد أعطي لكل واحد منا أن يجرع من كأس الروح كيلاً مختلفًا، حتى نستطيع أن نُغني الجميع. زد على ذلك أنّ هذه المواهب المعطاة إلى الافراد في جسد المسيح هي ممنوحة إلى الكنيسة ككل. يقول القديس باسيليوس في كتاب "القوانين المطوّلة" الذي وضعه في الجيل الرابع الميلادي: "لمّا كان يمتنع على الشخص الواحد أن ينال كل المواهب الروحية، وكانت مواهب الروح تُعطى على مقدار إيمان كل إنسان (روم 12: 6)، كان أنّ موهبة كل واحد تصبح في الحياة المشتركة شائعة بين الجميع: "فيعطى واحد كلام الحكمة، وآخر كلام العلم، وآخر الايمان، وآخر مواهب الشفاء..." (1 كور 12: 8- 10). وأنّ من ينال موهبة من هذه المواهب لا ينالها لأجل نفسه بل بالحرّي لأجل الآخرين..." (السؤال السابع، $2).

الروح القدس في حياة المؤمن
يعمل الروح القدس من خلال عملنا في الكنيسة ويقودنا ليجعل منّا أمَّة مقدّسة. لا يسكن هذا الروح في كنيسة "خيالية" ومبنيّة على النظريات ومختلفة عنا نحن أعضاءها. لكنه يسكن بيننا وفينا خاصّة نحن الذين "خُتمنا" به في سر الميرون المقدس. يقول بولس إن الجماعة المسيحية كلها وإن المؤمن الفرد أيضًا "هيكل الروح القدس" (راجع 1 كور 3: 16 و6: 19). يمنح الروح المواهب لكل مؤمن يسكن فيه، وأساس هذه المواهب هو الايمان. فالمسيرة التي نتخذها لنسير في خطى الروح ونودع ذواتنا وبعضنا بعضًا للمسيح الاله، تأخذ خطها من روح الرب. يقول بولس: "... لا يستطيع أحد أن يقول: "يسوع رب" إلاّ بإلهام من الروح القدس" (1 كور 12: 3). الروح العامل فينا وحده قادر على أن يعلمنا أن نرى يسوع ربًا وسيد الخليقة وملكنا.
يعي المؤمن في مسيرة الايمان هذه أنه خاطئ، ويتحقّق بالوقت نفسه أن الله كلي القداسة وأنه بعيد عنه في رغباته وأشواقه وأعماله. وإذا ما حصل على وجود الروح يحسّ بمعنى الخطيئة فيه وفي المجتمع حوله. يشعر المسيحي حينئذ بالحاجة لأن يمضي وقتًا أطول من حياته بالتوبة، ويركز مجددًا على وضعه ويكون أهلاً لأن يُدعى "هيكل الروح". فالنمو في الايمان يعني للمؤمن أيضًا النمو في ادراك طبيعته الخاطئة.
يحقّق لنا هذا الوعي أن المسيح قد سامحنا. تأتينا هذه النظرة من الروح القدس إذ هي موهبة من مواهبه الكثيرة. أجل، إنها الثقة والدالة بأن محبة الله لنا تفوق خطيئتنا؛ وهذا أيضًا من عمل الروح القدس فينا الذي يجعلنا ندرك معنى وجودنا "بالمسيح". يخوّلنا اتحادنا بالمسيح التأكيد بأنّ خطيئتنا قد غُفرت لنا وأننا أصبحنا أولاد الآب السماوي. يكتب بولس: "إن الذين ينقادون لروح الله يكونون أبناء الله حقًا. لم تتلقوا روح عبودية لتعودوا إلى الخوف، بل روح تبنٍّ به ننادي: أبّا، يا أبت! وهذا الروح نفسه يشهد مع أرواحنا بأننا أبناء الله" (روم 8: 14- 16). تقوم موهبة الروح الاولى التي أعطيت لكل مؤمن على أساس هذا الادراك أنه دُعي في المسيح وأنّ المسيح يطلب إليه جوابًا على هذه الموهبة. يشير ذلك كله أن الله قد أحبنا بابنه الوحيد وسامحنا عن خطيئتنا وها هو الآن يدعونا لأن ندخل من جديد في شركته.
يأتي هذا النمو في الايمان بالدرجة الاولى بواسطة الصلاة، وهي أيضًا موهبة من مواهب الروح. نكتشف، كلما تقدّمنا في حياة الصلاة، أننا غير مؤهلين لأن نرفع الشكر إلى الله أو أن نطلب إليه حاجاتنا، إذ تنقصنا تعابير الدعاء. وهنا يأتي عمل الروح: "كذلك فإن الروح أيضًا يأتي لنجدة ضعفنا لأننا لا نحسن الصلاة كما يجب، ولكن الروح نفسه يشفع لنا بأنّات لا توصف. والذي يختبر القلوب يعلم ما هو نزوع الروح، فإنه يشفع للقديسين بما يوافق مشيئة الله" (روم 8: 26- 27). هذا هو موضوع أسبوع الصلاة من أجل "وحدة المسيحيين" لهذه السنة 1998.
لا نصلي لوحدنا، بل الروح يحرك فينا الارادة لنسأل الله ما نحتاجه. إنها نعمة عظيمة لنا وتعزية لقلوبنا عندما نتحقّق أن الروح يشركنا في صلاته. كما أن الروح حاضر في حياتنا الشخصية كذلك هو موجود في وسط الجماعة المسيحية! وإذا ما لاحظنا أن صلاتنا غير مقبولة، يغدو عمل الروح "شاقًا" ليجعل منها موافقة لمشيئة الله!
تعتبر "صلاة يسوع" الصلاة الشخصية المفضّلة في التقليد البيزنطي، التي تتألف من الجملة التالية: "أيّها الرب يسوع المسيح ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ". ترتكز هذه الصلاة على حضور الروح المحيي الدائم، إذ إنّ المؤمن لا يعبّر عن شعوره الخاص أو إبداعه الشخصي من خلالها. ويدعوه التقليد الكنسي إلى ترداد هذه الصلاة الجميلة مرات كثيرة في بحر اليوم وفي كل عمل يقوم به. يتحرك الروح فينا ليعيد السلام إلى قلوبنا حين ندرك من هو الله، ومن نحن في حضرته!
والموهبة التي يريد الروح منحها إلى جميع المؤمنين هي "المحبة" التي يدعوها القديس بولس "أعظم" المواهب (رج 1 كور 13: 1- 13). ستتوقف النبوءات، وتصمت الالسن، وتزول المعرفة. لقد أعطيت هذه المواهب حينًا من الزمن لتبني الكنيسة، ولكنها لا تدوم. فالمحبة، وهي الموهبة الممنوحة لنموّ المؤمنين الشخصي، تُعطى لتدوم إلى الابد. إنها العلامة الاساسية لحضور الروح فينا والتي بدونها يفرغ معنى كل ظاهرة روحية أخرى. إنها الاصالة التي تضفي على كل عمل مسيحي صفته الشرعية، ويجعل بالتالي فقدان المحبة ذلك العمل ناقصًا.
فالذين تعلّموا أن يضعوا ثقتهم في الرب، وأن يعيشوا بالروح، وأن يحبّوا باسم الله، يعكسون صورة هذه الصفات في حياتهم. فإنهم يطوّرون الصفات التي تدل على وجود الروح المحيي فيهم: "أمّا أعمال الجسد فإنها ظاهرة، وهي الدعارة والزنى والفجور، وعبادة الاوثان والسحر والعداوات والخصام والحسد والسخط والمنازعات والشقاق والتشيّع، والحسد والسكر والقصف وما أشبه. وأنبهكم، كما نبهتكم من قبل، على أن الذين يعملون مثل هذه الاعمال لا يرثون ملكوت الله. أما ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الاخلاق والايمان، والوداعة العفاف... فإذا كنّا نحيا حياة الروح، فلنسر أيضًا سيرة الروح" (غل 5: 19- 23، 25).
يحمل الروح ثمارًا في الذين يتجاوبون مع مواهبه، كما جاء في مثل الزارع كما أورده المسيح، إذ يهب الروحُ الجميعَ نعمه. وحيث يجد الزرع قلبًا متأهبًا وعقلاً ناشطًا، فإنه يتأصل في المؤمن ويحوّل حياته، ويُظهر المواهب التي يضعها بولس في لائحة ثمار الروح.
يُسمّي الآباء القديسون العمل المشترك بين الروح القدس والمؤمن "التعاون" (Synergy). يرسل الله المواهب إلى المؤمن وينتظر منه جوابًا سلبيًا أو إيجابيًا، لأن الله لا يجبر أحدًا على قبول هذه المواهب واستعمالها. يقول القديس اثناسيوس: "لا نخسر طبيعتنا البشرية عندما نحصل على الروح". وتعمل قوّة الموهبة من جهة ثانية في الذين يقبلون المعطي في حياتهم فقط. يصف لنا القديس غريغوريوس النيصي هذا التعامل السري بين الروح والمؤمن: "لا تقدر نعمة الله أن تفتقد الذين يهربون من الخلاص. كما لا توجد فضيلة انسانية قوية ملائمة لتحمل النفوس التي رفضت النعمة على القيام بحياة حقيقية أفضل... لكن، عندما تجتمع الاعمال الصالحة ونعمة الروح معًا، فإنها قادرة على أن تفيض في نفس المؤمن الحياة السعيدة". يُفهم من ذلك أنه عندما يعمل الله والمؤمن معًا، فمواهب الروح تحمل ثمارًا كثيرة. وعندما لا يتم هذا التعاون، يبقى شكل الشعائر المسيحية الخارجي محفوظًا فقط. والفرق بين حياة مليئة من الروح والقيام بالاعمال المسيحية بطريقة ميكانيكية، هو درجة التعاون التي تحصل بين الروح وبين المؤمن المدرك بأن الروح يعمل فيه تلك الاعمال.

وعي المؤمن لحضور الروح
لا تزال الكنيسة (وكذلك المؤمنون) تختبر مواهب حلول الروح عليها يوم العنصرة وعمله في مسيرتها. لقد نال المؤمن الروح القدس عندما حصل على سر العماد، وارتبط به من خلال سر الميرون المقدس. يستطيع كل مؤمن أن يوثِّق علاقته بالروح ليصبح هيكلاً لسكناه. وهكذا يغدو سر الميرون التعبير الاسراري لهذا الاشتراك السرّي (Mystique) في الروح القدس. تُبنى العلاقة من خلال هذا السرّ بين المؤمن والروح الذي لم يكن حاضراً قبلاً، كما أننا في العماد ندخل في وحدة جديدة مع المسيح. يصبح المؤمن هيكل الروح الساكن فيه، وتبدأ حياة جديدة في الروح.
يُعطى سر الميرون المقدس في التقليد البيزنطي بطريقة بسيطة مرتبطة مع سر العماد. يصلي الكاهن على المعتمد ويقول: "... هب له ختم موهبة روحك القدوس القدير والمسجود له"، ثم يمسح جسمه بزيت الميرون المقدس. أدخل الميرونُ في الكنيسة الاولى ليمثِّل حضور الروح الذي ينفذ في المؤمن. كما أن يسوع هو المسيح أي "الممسوح" لأن روح الله كان فيه، كذلك المؤمن يصبح "مسيحًا آخر" عندما يحصل على الميرون. ينفذ الروح فينا من خلال هذه المسحة ويسكن فينا بطريقة لا توصف. يقول القديسة كيرلس الاورشليمي: "انتبه ألا تقع في خطأ وتحسب الميرون كسائر الطيوب. فكما أن الخبز الافخارستي ليس بخبز عادي بعد استدعاء الروح القدس، كذلك الميرون المقدس لم يعد طيبًا فحسب بعد الاستدعاء، بل أيضًا هو موهبة المسيح الذي يجلب معه حضور الروح القدس بعمله الالهي" (التعاليم الاسرارية 3: 3).
إنه من الهام جدًا لحياتنا الخاصّة مع الله أن نحصل على الروح في عمادنا، كما أننا لا نستطيع بدون هذه الموهبة أن نصل إلى ملء شركتنا مع الله التي تأتينا في المسيح. بالرغم من ذلك، علينا أن نتساءل من وقت إلى آخر عن درجة الشركة مع الروح فينا. إنه من الجائز أيضًا أن نكون قد نسينا هذه الموهبة ولم نعد نفهم حقيقة عظمتها أو نعي خبرة النور الذي يصدر منها. وهذا ما دعا القديس سمعان اللاهوتي الجديد إلى التأكيد بأن المصيبة الكبرى التي تحل في المسيحيين هي أن يجهلوا أن الله يحيا فيهم. يقول القديس: "يصرّح العديد من المؤمنين بأن الروح القدس فيهم ولم يختبروه، ولكنهم يؤمنون أنهم حاصلون عليه منذ العماد المقدس، على أن المؤمنين يجهلون معنى هذه الموهبة الحقيقية". فيشبّه القديس المؤمنَ الممتلئ من الروح القدس بامرأة حامل، لأن الاثنين يعيان ما حصل لهما: "كما أن المرأة تعرف جيدًا أنها حامل إذ إن الجنين يرتكض في بطنها، ولا تستطيع نكران ذلك، كذلك الانسان الذي اتخذ صورة المسيح فيه يعرف حركاته (أي نوره) ووثباته (أي مجده). أجل، يدري المؤمن بأن المسيح مصوّر فيه ويراه كالنور الذي يملأ سراجه".
يقرّ القديس سمعان كالعديد من الآباء القديسين بأن موهبة الروح القدس قد أعطيت لنا حين حصلنا على سرّ العماد المقدّس. ولكن علينا أن نطوّر وعينا لحضور هذا الروح في حياتنا الشخصية. كذلك، وبطريقة متناقضة ظاهريًا، علينا أن نحصل على الروح أسراريًا لنجعل هذا الوعي حقيقة. كما أنه علينا في الوقت نفسه أن نتعمَّق في معنى هذا الحضور فينا وإلاّ فإننا معرّضون لكارثة رهيبة إذ إنّ الروح يهملنا ولا يعود يحيينا. عندما نأخذ موهبة الروح أسراريًا، علينا أن نجيب على هذه الموهبة بالسعي إلى تفهم حضور الروح فينا. فالذين تظهر فيهم حياة الروح هم الذين يدركون بطريقة عميقة حضوره الداخلي الباطني.
هذا الوعي الشخصي لحضور الروح هو أيضًا موهبة من الله، علينا أن نطلبها منه في الصلاة. أجل، إن الصلاة تتماشى مع هذا الوعي. نهدف في صلاتنا أن ندرك حضور الروح. وعندما يصبح هذا الوعي جزءًا من حياتنا، تصبح الصلاة بدورها جزءًا من حياتنا. وعندما نعرف جيدًا أن روح الله حاضر فينا، فالاتصال بالله يغدو فرحًا ومغامرةً أكثر منه صعوبة، كما يحصل مع الكثير من المسيحيين. يشبّه القديس مكاريوس الكبير الشركة المثمرة مع الروح الساكن في المؤمن بزواج: "إنه مثل زوجة تصبح واحدًا مع زوجها عندما توقّع العقد. هكذا تكون الشركة مع الروح الذي يصبح روحًا واحدًا: "ومن اتحد بالرب فقد صار وإياه روحًا واحدًا" (1 كور 16: 17).

خاتمة
تهدف الحياة المسيحية إلى اتحاد النفس بالله، وهذا أيضًا ما تبغيه الصلاة. ينتج عن ذلك كله أنه على تعليمنا المسيحي أن يعي بادئ ذي بدء أن روح الله يسكن في المؤمن. لا يقوم تعليم الصلاة إذًا على الاكثار من حفظ الصلوات أو على إيجاد تعابير خلاّقة في الصلاة الشخصية، بل يتوخّي التشديد على النقاط الأساسية لفهم الصلاة وهي أنّ الروح هو الله معنا، وسر الميرون هو الروح الذي يأتي إلى حياتنا، والصلاة هي خبرة الروح فينا. من هنا نسأل المسؤولين على التعليم المسيحي أن يستدعوا الروح القدس في صلواتهم وفي تحضير مدارسهم، وأن ينبّهوا التلاميذ إلى حضور الروح الذي يصلّي فيهم ويقودهم بالوقت نفسه إلى الله، أبي الجميع.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM