الفصل السادس عشر: الروح القدس في الكنيسة الأولى

الفصل السادس عشر
الروح القدس في الكنيسة الأولى

إن أعمال الرسل ورسائل العهد الجديد تجعلنا في اتّصال مع أناس أنعشهم الروح القدس، وجماعات امتلكها روح الله. وهذه الخبرات الفرديّة أو الجماعيّة دلّت على حضور الروح العامل في المسيحيّ وفي الكنيسة. جاءت نفحة من السماء، ومرّت على هذه الكنيسة الفتيّة، فوعت أنها تعيش ربيعًا روحيًا هو فيض الروح الذي يدشّن الأزمنة الأخيرة. فزمن الروح الذي أعلنه الأنبياء، صار واقعًا وحقيقة.
كان العهد القديم قد استشفّ هذا التجديد. فهذه النفخة الالهيّة التي نفخت الحياة في الانسان الأول المخلوق على صورة الله، هذا الروح الذي حلّ على الأنبياء، فأعطاهم القوّة لكي يعلنوا كلمة الله. هذا الروح القدس سيبدّل في يوم من الأيام القلب تبديلاً جذريًا، ويخلق شعب الله الجديد.
فالعهد الجديد يخلف العهد القديم. وروح العنصرة ينفخ على الجماعة الأولى. وفي المعمودية، يجعل الروح من المسيحيّ انسانًا جديدًا. هذا الروح ما زال يعمل في الكنيسة خلال مسيرتها وفي المسيحيّ الذي يأتي ويقيم فيه.

1- الروح القدس والكنيسة
أسّس يسوع كنيسته على الصخرة وأمّن لها ثباتًا أبديًا. وقبل أن يترك أخصّاءه بشكل نهائيّ، وعدهم بموهبة الروح القدس الذي ينفحهم حياة جديدة، ويؤمّن الوحدة والنموّ لهذه المجموعة التي تلتئم في الايمان باسمه. وهكذا غُطِّس الاثنا عشر في الروح القدس (أع 1: 5، 8)، اجتاحهم حضوره، امتلأوا من قوّته، وحرّكتهم حيويّته.
وفي الواقع، في يوم العنصرة، دوّى صوت يشبه صوت الريح في البيت الذي كان الرسل مجتمعين فيه. "ظهرت لهم ألسنة منقسمة، كأنها من نار، واستقرّت على كل واحد منهم. فامتلأوا كلّهم من الروح القدس" (أع 2: 3- 4). هذه الموهبة الالهيّة تدلّ من جهة على أن عهد الخلاص قد تدشّن كما أنبأ به النبي يوئيل فقال: "ويكون في الأيام الأخيرة، يقول الرب، أني فيض من روحي على عبيدي وإمائي" (أع 2: 17، 18؛ رج 5: 33). ومن جهة ثانية دفعت هذه الريح العاصفة شهود المسيح إلى أقاصي الأرض، فاستطاعت جميع الشعوب أن تسمع صوتهم. لقد نالت الجماعة المسيحيّة موهبة دلّت على أنها ستشمل الكون، وأن رسالتها ستكون فاعلة.
لسنا أمام نعمة عابرة، ولا أمام موهبة أعطيت صدفة وبشكل ثانويّ. فعهد الروح القدس قد ابتدأ وهو يرافق تاريخ الكنيسة ويُشرف على تكوينها: منذ الآن يسكن الروح القدس في الكنيسة. قال بولس الرسول: "في المسيح بُنيتم معا لتصيروا مسكن الله في الروح" (أف 2: 22).
وكما أن البناء لا يثبت إلاّ باندماج الحجارة والمواد التي تؤلّفه، فالكنيسة لا تعرف الوحدة والمتانة إلاّ برباط الروح. فالروح هو الذي يحفظ التماسك بين جميع المؤمنين، ويضمّهم في الوحدة. لا وحدة ماديّة، بل وحدة حياتيّة. فنحن أمام ضمّ الاعضاء العديدين إلى جسد المسيح: "عيشوا حياة جديرة بالدعوة التي دُعيتم إليها... واجتهدوا بأن تحافظوا على وحدة الروح برباط السلام. فإن الجسد واحد والروح واحد" (أف 4: 1- 3؛ رج فل 1: 27).
ليست الكنيسة فقط مجموعة من الأعضاء المتفرّقين، يضمّهم موضوع واحد هو اعتراف إيمانهم. هي مشاركة (كوينونيا)، هي مشاركة عميقة واتحاد باطنيّ في الروح القدس (فل 2: 1؛ رج 2 كور 13: 13). "لقد اعتمدنا كلنا بروح واحد لنكون جسدًا واحدًا، يهودًا ويونانيين، عبيدًا وأحرارًا" (1 كور 12: 13).
وكما تنعش النفس الجسد وتحرّك الأعضاء، وتوجّهها، وتشرف على الوظائف في الجسم كله، فترسل الأوامر، وتلهم وتوجّه كل نشاط، كذلك يفعل الروح القدس الذي هو نفخة الحياة في الكنيسة. فهو ينعش كل الأعضاء، ويلهمهم. ونحن نتعرّف إلى تأثيره وقدرته في الأعمال العظيمة التي يدفعنا للقيام بها. من هنا هذه المواهب الخارقة التي يسمّيها بولس الرسول "كاريسمة" والتي هي هديّة أعراس المسيح لكنيسته. هي عطيّة مجانيّة تدلّ على كرم الرب وسخائه.
فهناك بعض الجماعات (مثل جماعة كورنتوس) التي نعمت بهذه المواهب. "أشكر الله في كل حين لأجلكم، على نعمة الله المعطاة لكم في المسيح يسوع، لأنكم به قد اغتنيتم في كل شيء في كل كلام وكل معرفة، على قدر ما توثّقت فيكم شهادة المسيح، حتى إنكم لا يعوزكم بعدُ شيء من المواهب" (1 كور 1: 4- 7).
هذه المواهب المتنوّعة تنوّعًا كبيرًا، تجد أولاها وأثبتها في موهبة الكلام. فمن نال الروح القدس دفعه هذا الروح لكي يشهد للمسيح، لكي ينشد حسنات الله، لكي ينقل إلى الآخرين اليقين الذي يُضرم قلبه. هو يحترق في الداخل، والنار التي فيه تنتقل إلى الآخرين بحيث إن فيض الروح يسبّب في حريق يقضي على العالم الوثنيّ ويقيم مُلك يسوع المنتصر على أنقاضه.
فرجال الروح لا ينالون فقط رؤى (أع 19: 6)، بل يعلّمون كملافنة وأنبياء ومبّشرين ووعّاظ. بل إن بعضهم قد نال موهبة لكي يرئس الجماعات وينظمّها. وآخرون موهبة السخاء العجيب فيعطون ولا يحسبون حسابًا لعطائهم. وآخرون نالوا موهبة المعجزات وشفاء المرضى. ولكنهم يفعلون كل هذا لخير القريب وبناء الكنيسة.
قال بولس الرسول: "لا جرم أن المواهب على أنواع، إلاّ أن الروح واحد... وكل واحد إنما يُعطى إظهار الروح للمنفعة العامّة. فالواحد يُعطى من قبل الروح كلام حكمة. والآخر كلام علم، بحسب الروح عينه. والآخر الإيمان بذلك الروح عينه. والآخر موهبة الشفاء بالروح الواحد عينه. وآخر إجراء العجائب. وآخر النبوءة. وآخر تمييز الأرواح. وآخر أنواع الالسنة. وآخر ترجمة الالسنة. وهذه كلها يفعلها الروح الواحد بعينه، موزّعًا كيف شاء، على كل واحد خصوصًا" (1 كور 12: 4- 11).
هذه المواهب ليست حظوة للافراد، وليست مناسبة للفوضى. بل هي ضروريّة من أجل حياة الكنيسة ووحدتها بحيث تعي رسالتها. وتظهر هذه المواهب بشكل خاصّ بمناسبة الاجتماعات الليتورجيّة حيث يتدخّل المشارك فيها بممارسة موهبته الخاصّة لبناء اخوته. فكما أن الجسد البشريّ يمتلك أعضاء مختلفة، وكل عضو يمارس الوظيفة الخاصّة به فيؤمِّن مع الآخرين الحياة للجسم كله، كذلك المواهب المختلفة، فهي تجعل المسيحيّين يتعاونون في قلب الجماعة. إنهم مبدأ تماسك وتناغم.
وهكذا نفهم بسهولة كم كان تنشيط الجماعات العباديّة في الكنيسة الأولى، يحرّك حرارة في الصلاة وبهجة في اللقاء. هذا يتحدّث عن الآتي، وآخر يجترح معجزة. ذاك امتلك إيمانًا به ينقل الجبال. وذلك وزّع جميع أمواله للفقراء وما ترك لنفسه شيئًا. هذا معلّم يكشف أعمق وجهات حكمة الله. وذاك يجعل المؤمنين يدركون لا محدوديّة محبّة الله. هذا نبيّ يعزّي الحزانى، وذاك يقوّي القلوب الخائرة. ففي حضور الروح الفاعل، كان النور والجمال والقوّة بحيث إن اللامؤمنين الذين يشهدون هذا الفيض كانوا يخرّون على وجوههم ويعلنون أن الله حاضر في كنيسته (1 كور 14: 25). أن إصبع الله هي هنا.
إن كان هذا الظهور الساطع للروح شاملاً ومجانيًا، إلاّ أن الرسل وخدّام الكنيسة هم الذين ينعمون به في الدرجة الأولى. بطرس، بولس، اسطفانس، فيلبس... إنهم كالمدينة المبنيّة على جبل، كالسراج الذي يُوضع على مكيال. صاروا مشهدًا للملائكة والبشر، وراح إشعاعهم إلى البعيد. فوظيفتهم تشكّلهم كخدّام للروح القدس بعد أن أنارتهم وحركّتهم أوامره، فأطاعوا دفعه لهم ونعموا بقوّته.
وبولس الذي اختاره المسيح، ما استطاع أن يأخذ مكانه وسط الرسل إلاّ بعد أن "امتلأ من الروح القدس" (أع 9: 17؛ رج 13: 9؛ 1 كور 7: 40؛ 2 كور 6: 6). والذين يرئسون الجماعة المحليّة ويوجّهونها، لم يعيّنوا في "وظائفهم" صدفة واتفاقًا. فالروح القدس هو الذي أقامهم "ليرعوا كنيسة الله" (أع 20: 28). وحين أحسّ الرسل أن الأمور الماديّة تكاثرت عليهم، وقرّروا أن يتكرسوا كليًا للصلاة والكرازة، اختاروا سبعة خدّام "مملوءين من الروح القدس والحكمة" (أع 6: 3- 5).
وحده الروح القدس الذي هو النور والحق، يكفل إيصال الايمان كاملاً. وذاك هو أول واجبات "الرؤساء". قال بولس لتلميذه تيموتاوس: "إحفظ الوديعة الصالحة بعون الروح القدس الساكن فينا" (2 تم 1: 14). فالروح القدس الذي هو ينبوع حرارة الحياة وقداستها، قد رمزوا إليه بالنار. لهذا، فهو يوبّخنا على تهاملنا، ويحرّك فينا الغيرة. فالرسائل إلى الكنائس السبع التي تفتتح سفر الرؤيا، تتضمّن هذا التنبيه الذي يتكرّر وكأنه قرار وردّة: "من له اذنان فليسمع ما يقوله الروح للكنائس" (2: 7، 11، 17، 29؛ 3: 6، 13، 22). والروح هو الذي ينفح الفرح الذي يميّز جماعة المخلّصين: "كان التلاميذ ممتلئين من الفرح والروح القدس" (أع 13: 52). وقال بولس الرسول في روم 14: 17: "ملكوت الله برّ وسلام وفرح في الروح القدس". وقال في 1 تس 1: 6: "تقبّلتم كلمة الله، رغم المحن العديدة، بفرح أتاكم من الروح القدس".
والكنيسة والروح يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بحيث إن صوتهما صار صوتًا واحدًا. فجماعة المؤمنين تحسّ بدفع الروح الذي يحرّكها ويحييها، فتتطلع إلى عودة المسيح: "فالروح والعروس يقولان: تعال أيها الرب يسوع" (رؤ 22: 17). ماراناتا. تعال يا ربّ. وسلطة الربّ لا تنفصل عن سلطة الروح الذي يجعل كلامهم صادقًا، أهلاً للتصديق، لأنه يفعل في قلوب السامعين كما يفعل في فم المتكلّمين. وجاءت فرائض مجمع أورشليم على الشكل التالي: "الروح القدس ونحن قد ارتأينا أن لا نحمّلكم ثقلاً فوق هذه الأشياء التي لا بدّ منها" (أع 15: 28).
إذا كان الرسل لا يسوسون الكنائس إلاّ بعون الروح القدس، فهذا الروح عينه هو الذي يعطيهم الجرأة الضروريّة والحكمة ليدافعوا عن القطيع الذي سلّم إليهم من الهجمات الآتية من الخارج. فحين سجن السنهدرين بطرس ويوحنا، وفرض عليهما بأن يبرّرا موقفهما، بدأ بطرس المرافعة. وقال لوقا عنه في سفر الاعمال (4: 8؛ رج 5: 13): "امتلأ من الروح القدس". فكلمة الرسول فاعلة. هي لا تُقاوَم لأن الروح يتكلّم بفمه. وشهادته ليست شهادة انسان، بل شهادة الاقنوم الثالث من الثالوث الاقدس الذي يُبطل كل اعتراض ومقاومة.
الروح القدس هو قوّة تدافع. هو المحامي البارقليط. سيحمي المتَّهم البريء ويبرّر موقفه. وهو بشكل خاصّ قوّة تحرّك نشاط الكنيسة الارساليّ لتحتلّ العالم كله. نراه يتدخّل لكي يوجّه المبشّر فيلبس نحو وزير ملكة الحبشة المستعدّ للارتداد إلى الله (أع 8: 29، 39). وحين كان بطرس في يافا يتلو صلاته في ساعة الظهر على سطح البيت، أفهمه الروح القدس بأن عليه أن يذهب إلى قيصريّة البحريّة، إلى الضابط الروماني كورنيليوس وإن يكن وثنيًا غير مختون. وحين فاضت موهبة الروح على جميع السامعين، ما استطاع هامة الرسل إلاّ أن يمنح المعموديّة لهذه الاسرة التي جاءت إلى الايمان (أع 10: 47045؛ 11: 15؛ 15: 8). وهكذا، حين ردّ بولس إلى الايمان أول وثنيّ، أدخل الكنيسة في سبيل جديد، وشكّل ديانة لا تعرف حدود الاعراق والاثنيات، وفتح الخلاص لكل النفوس المنفتحة على نداء الله أكانت يهوديّة أم وثنيّة.
وإذ كان شاول (أو بولس) وبرنابا الذي "كان رجلاً صالحًا، ممتلئًا من الروح القدس والايمان" (أع 11: 24)، يقيمان في أنطاكية، تدخّل الروح القدس خلال الاجتماع الليتورجيّ، وتوجّه إلى أنبياء هذه الكنيسة الذين هم يوصلون قراراته، وأعطى الأوامر من أجل أولى الرحلات الرسوليّة الكبرى. الروح هو الذي اتّخذ المبادرة. وهو الذي وضع التصميم. "قال الروح القدس: إفرزوا لي شاول وبرنابا للعمل الذي ندبتهما إليه" (أع 13: 2).
فانتشار الانجيل ونموّ الإيمان وارتداد النفوس، كل هذا هو عمل الروح القدس. فهو الذي ينمي الكنيسة ويقرّر الوسائل المناسبة والطرق الملموسة والمباشرة من أجل هذا النموّ. مثلاً، أراد أن يتوجّه بولس ورفاقه إلى ترواس وأوروبا، فمنعهم الروح من الدخول إلى بيتينية (أع 16: 6- 7)، كما أنه هو الذي أجبر الرسول على التوجّه إلى أورشليم سنة 58 وأعلمه أنه سوف يقيّد هناك (أع 20: 22، 21: 11). فهو الذي رأى مسبقًا بل قرّر أن يكون أسر بولس شهادة للمسيح في عاصمة الامبراطوريّة. الروح ينبّه الكنيسة إلى الأخطار التي تنتظرها (1 تم 4: 1). كما يعلن عن حدوث مجاعة فيحرّك الاخوة لكي يعين بعضُهم بعضًا (أع 11: 28): "أنبأ أغابوس بالروح، أنها ستكون مجاعة شديدة في المسكونة كلها".
هذه التوجيهات المدهشة تبقى قليلة بالنسبة إلى العون الذي يمنحه الروح القدس للرسل في رسالتهم التعليميّة. فالعالم قد ارتدّ إلى الايمان بإعلان الانجيل. غير أن هذا الاعلان لم يُدرك الناسَ إلاّ بفضل نعمة وُضعت على شفاه الوعّاظ فأعطت كلمتهم فاعليّة كبيرة. هذا ما قاله بولس: "إن تبشيرنا بالانجيل لم يَصر إليكم بالكلام فقط، بل بالقوّة أيضًا وبالروح القدس وبكمال اليقين" (1 تس 1: 5). وقال أيضًا: "ولم يكن كلامي وكرازتي بما لكلام الحكمة من بلاغة، بل ببيان الروح والقدرة، لكي لا يقوم إيمانكم على حكمة الناس، بل على قدرة الله" (1 كور 2: 4- 5). وزاد في الرسالة عينها: "ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لكي نعرف ما أنعم به الله علينا من النعم. ونتكلّم عنها لا بأقوال تعلّمها الحكمة البشريّة، بل بما يعلّمه الروح معبّرين بالروحيات عن الروحيات" (آ 12- 13). وتحدّثت 1 بط 1: 12 عن "عون الروح القدس المرسل من السماء" إلى الذين بشّروا "المغتربين في الشتات" (1: 1).
ونجاح الرسالة أمر يفوق الطبيعة، بحيث يستطيع المبشّر أن يعلن أن هذا النجاح يدلّ على صدق الرسالة. فجماعة كورنتوس التي ردّها بولس، هي رسالة توصية إلهيّة ينشرها الرسول في كل مكان، لأنها تظهر مصداقيّة رسالته: "هي رسالة كُتبت بروح الله الحيّ" (2 كور 3: 3) الذي أضاء قلوب الوثنيين ولامسها بإلهاماته.
لاحظ لوقا "مؤرخ" الكنيسة الأولى السرعة المدهشة التي بها امتدت الكنيسة. حدث ذلك بدون عنف، في العالم المتمدّن، فنسب هذا النموّ مباشرة إلى عمل الروح القدس. قال: "وأما الكنيسة في كل اليهوديّة والجليل والسامرة فكانت في سلام. تُبنى وتسلك في خشية الرب. وتزداد نموًا بمؤازرة الروح القدس" (أع 9: 31). الكلمة اليونانيّة هي "باركلاسيس" أي تحريض وتعزية وتشجيع. نسبت "الباركلاسيس" إلى الروح القدس، فبدت عملاً إلهيًا فاعلاً وسريًا يجلب أعضاء جددًا إلى الكنيسة، وأمّنت الانتشارَ الرسوليّ الذي هو في الوقت عينه فكر وعقيدة وإرادة وأخلاق. وحين يتسلّم شهود المسيح القائم من الموت عونَ الروح القدس، يُعطون أولاً ثقة باطنية مطلقة يسميها بولس "بريسيا" (أي دالة)، ويعارضها بالخوف والتردّد، فتتيح للمؤمنين أن يتصرّفوا بجرأة. بالإضافة إلى ذلك، مُنحوا موهبة الاقناع والتحريض، فلامسوا بحرارة ملحاحة، وهم خطباء لا موهبة بشريّة لهم، قلب السامعين فما قاوموهم (روم 12: 8؛ فل 2: 1؛ 1 تم 4: 13).
وهكذا عمّد بولس يوم العنصرة ثلاثة آلاف شخص (أع 2: 40- 41). وبرنابا الذي كان من أفضل الخطباء في المسيحيّة الأولى، قد سمّي مع ذلك "ابن باراكلاسيس". تطعّمت عنده الصفات البشريّة التي وُلدت معه بموهبة الروح، فرُفع إلى أسمى المراتب في كلام الإقناع من أجل الانجيل. عرف كيف يقنع ويبرهن ويشجّع، وفي النهاية ثبّت قلب الهلينيين في تعلّقهم بالرب (أع 11: 22- 24؛ رج 13: 15 ي). وحين سمع المؤمنون مثل هذا الكلام، عرفوا الأمانة والاستمرار رغم المحن التي تصيبهم (أع 15: 31).
إن "تعزية" (باراكلاسيس) الروح القدس هي أحد مواضيع الخطبة النبويّة وشكلاً من أشكالها. هي نعمة الواعظ الملهم: "من يتنبّأ يكلّم البشر بلغة تبني وتحضّ وتشجّع" (1 كور 14: 3). هذا يعني أن النبوءة ظلّت في جوهرها نظامًا من نظم الكنيسة كما في كل مجتمع تيوقراطيّ (أي: يحكمه الله). فالله ما زال يكلّم المؤمنين بفم الوعّاظ. ونحن نكتشف صوته الخاص في النتائج المدهشة التي تصل إلى القلب وإلى العقل: أنوار، تعزيات، قوّة متجدّدة. كل هذا لا يمكنه أن يأتي إلاّ من الروح القدس. فكأننا أمام نداء مباشر يرسله الله إلى النفس. وهكذا يثبت المؤمنون في إيمانهم، واللامؤمنون يرتدّون دون أن يستطيعوا مقاومة هذا السيف الذي يلج إلى أعماقهم (عب 4: 12- 13؛ أف 6: 17). الله يعلّمهم كلهم (1 تس 4: 9) بحيث لا يُقاوم كلام التعزية الذي يصل إليهم (2 كور 8: 4، 17).
نستخلص من كل هذا أنّ نموّ الكنيسة العدديّ في العالم اليونانيّ والرومانيّ والنجاح العجيب على مستوى المحبّة والحرارة والسلام في هذه الديانة الجديدة، يعودان إلى خدمة الرسل. وأن هذه الخدمة ترتبط بنعمة الروح القدس وعمله ومواهبه. لقد رأى المسيحيّون الأوّلون تحقيق الوعد الذي أعطاه يسوع للاثني عشر: "ستنالون قوّة بحلول الروح القدس، فتكونون لي شهودًا" (أع 1: 8). فالروح القدس الذي هو نقطة البداية في الرسالة المسيحيّة ونقطة النهاية، يفعل في القلوب فيتابع عمل يسوع المسيح الشاهد للنور ومخلّص العالم. وتتحد الكنيسة مع الروح اتّحادًا وثيقًا جدًا بحيث إن سفر الرؤيا يقابل علاقتهما بالعلاقة بين العروس والعريس، كما نقابلها بعلاقة النفس والجسد بحيث لا ينفصل الواحد عن الآخر.

2- الروح القدس والحياة المسيحيّة
إذا كان الروح القدس يوجّه الكنيسة كلها وينعشها، فهو أيضًا يمارس عملاً متدانيًا وصامتًا ومتواصلاً في قلوب المؤمنين. بما أنه ينبوع كل حيويّة وكل قدرة علويّة، فهو ينفح الحياة الإلهيّة في جميع المؤمنين. وكما تميّز العهد القديم بسلطان الشريعة وعبادة الحرف، كذلك يتحدّد العهد الجديد بالروح وبالحياة التي ينفحها هذا الروح (2 كور 3: 6).
في المعموديّة حيث يتكوّن المسيحيّ، يصبح المعمّد الجديد خليقة جديدة. وإلى الروح القدس يُنسب هذا التحوّل. في هذا يؤكّد بولس الرسول أن الله خلّصنا بطريقة مجانيّة، مرّة واحدة، بحسب رحمته، "بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي أفاضه علينا بغزارة بيسوع المسيح مخلّصنا" (تي 4: 5- 7). فطقس التغطيس أو الرش يوصف بلفظة "بالينجاسيس" أي ولادة من جديد، إحياء جديد بالنسبة إلى وضع تعيس وسابق. إذن، نحن أمام تحوّل جذريّ يتيح للمعمّد الذي نال طبيعة جديدة، أن يدخل في العالم السماويّ ويحيا حياة تختلف كل الاختلاف عن الحياة السابقة. لهذا، يشدّد النصّ على التجديد الذي تُحدثه نعمة العماد.
فالروح القدس يجدّد المؤمن. كان انسانًا عتيقًا فصيَّره انسانًا جديدًا. ألّهه. وكما كان روح الرب في البدء يرف على المياه لكي يُخصبها بقوّته الخلاّقة (تك 1: 2)، هكذا يفعل الروح في التدبير المسيحيّ. هو أساس كل تجديد وكل خلاص. "أما نحن فيجب علينا الشكر لله بلا انقطاع من أجلكم أيها الإخوة أحبّاء الربّ، لأن الله قد اختاركم من البدء ليخلّصكم بتقديس الروح القدس والايمان الحقّ". هذا ما قالته 2 تس 2: 13. ونقرأ في روم 7: 6: "وأما الآن فقد برئنا من الناموس... بحيث نخدم بجدّة الروح لا بعتق الحرف" (رج 2 كور 4: 16؛ كو 3: 10).
هذا العمل هو ملء العمل. وهو عميق جدًا بحيث إن بولس شدّد على هذا التحوّل التّام فقال: الروح القدس "أفيض بغزارة علينا" (تي 3: 6). فالفعل "أ ك. ك ي و" يدلّ على أخذ الماء الذي يُصبّ، يمتدّ، يفيض. وهو يدلّ هنا على عطيّة الروح القدس، على حلول الروح بعطاياه (روم 5: 5). هذا الفعل استعمله بطرس ليتحدّث عن معجزة العنصرة (أع 2: 17، 33). غير أن هذه العنصرة قد صارت منذ ذاك الوقت واقعًا مستمرًا في كل مسيحيّ. لسنا هنا أمام "بخل" (أو: تقتير) ينزل على المؤمن "نقطة بعد نقطة"، بل أمام الوفر والفيض والغنى (روم 10: 12؛ أف 2: 4؛ 1 تم 6: 17). فكأننا في بركة نغطس فيها فتغمرنا (أع 1: 5؛ 11: 56).
وبما أن عطايا الله لا ندامة فيها، فعمل الروح القدس لا يكون عابرًا، بل هو يفعل على مدّ الحياة المسيحيّة. لهذا يقال إن المسيحيين قد ارتدوا (1 كور 12: 13). قد امتلأوا (أف 5: 18). قد صاروا هيكل الروح القدس (1 كور 6: 19) الذي يقيم فيهم (روم 8: 9، 11؛ 1 كور 3: 16؛ 2 تم 1: 14). ووضعُ اليد هنا علينا من قبل الروح، هو مهمّ ومتواصل بحيث يسمّى المؤمنون مسيحيين لارتباطهم بالمسيح، ويسمّون "روحانيين" لارتباطهم بالروح القدس (1 كور 3: 1).
فالانسان الجديد يعارض الانسان البدني (من لحم ودم. علامة الضعف والميل إلى الخطيئة)، الانسان الذي سيكتفي بما هو بشريّ. لأن الروح يمتلكه كله. هكذا سمّى بولس مسيحييّ غلاطية: "أنتم الروحيون" (6: 1). لقد نلتم امتيازات العهد الجديد. والاسرائيليّ الحقيقيّ الذي له مواعيد الحياة الابديّة، لن يكون ذاك الذي خُتن ختانة منظورة في لحمه، في بدنه، بل ذاك الذي تجهّز قلبه لعمل الروح القدس (روم 2: 29). وكما أن الموت ارتبط بالبدن (باللحم والدم، بالعنصر البشري) ارتبط الروح بالحياة. وهكذا حين نقول إن المسيحيين روحيّون، نعني في الوقت عينه أنهم أحياء.
أجل، الحيويّة في كل مؤمن هي مشاركة في حيويّة الروح القدس. فالمسيحيّ يسلك، يحيا، بحسب الروح، بحسب إلهاماته (روم 8: 4؛ غل 5: 25). هنا نستطيع أن نتميّز صدق ولادته الالهيّة. وبهذه الصفة يرتبط كل سلوكه الاخلاقيّ: "فجميع الذين يقودهم روح الله هم أبناء الله" (روم 8: 14؛ رج غل 5: 18). إذن، نحن في الدرجة الأولى أمام روح النبوءة أو روح التبنّي: بدلاً من أن نحيا في الخوف، كعبيد يخضعون بشكل منفعل وهم يرتعدون من القصاص الذي ينتظرهم، فنحن أبناء الله، وقد نلنا من الروح القدس الثقة الحميمة بأننا مع الله في علاقات حقيقيّة هي علاقة الابن مع أبيه. وهذا اليقين هو من الوضوح، بحيث لا يتردّدون في أن يستندوا إلى هذه الامتيازات وهذه الحقوق. هم يقفون أمام الله بثقة الاطفال وبالمحبّة التي هي ميزة الأبناء الحقيقيين، وينعمون بالآبوّة الالهيّة. فيقول لهم بولس الرسول: "نلتم روح التبنّي الذي فيه نصرخ: أبّا، أيها الآب" (روم 8: 15).
إن حياة يوجّهها الروح القدس لا يمكن إلاّ أن تكون حياة من التقديس: "قد تقدّستم، قد تبرّرتم باسم الرب يسوع المسيح وروح إلهنا" (1 كور 6: 11). هذا يعني أن المرتدّين قد طهروا من الخطيئة بفعل الروح القدس. فما عادوا ملك أنفسهم، بل تكرّسوا لله (روم 15: 16).
والحياة حركة باطنيّة طوعيّة تتوسّع شيئًا فشيئًا وتمتدّ. إذن، يُدفع المسيحي نحو النموّ الروحيّ، ويُدعى إلى كمال لا يتوقّف، إلى ملء حياة الله، "لأن الله وضع فينا ختمه، وجعل عربون روحه في قلوبنا" (2 كور 1: 22) كبذار من أجل النموّ نحو الكمال. وحين نقول إن المسيحيّ يسكنه الروح القدس، فنحن نعني أنه لا يستطيع أن يبقى جامدًا. فنعمة عماده تتوسّع لكي تجعله يدرك ملء قامة المسيح. ونفحةُ الروح القدس الحيّة تدفعه إلى مثل هذا التطوّر وهذا النموّ: فحيث الروح هناك ديناميّة فائقة الطبيعة، ديناميّة الإلهام والقوّة.
وهكذا نستطيع أن نقاوم الميل إلى الشرّ، نستطيع أن نميت فينا أعمال الجسد (روم 8: 13). أن نمارس كل فضيلة. "فأقول لكم: اسلكوا في الروح، فلا تقضوا شهوة الجسد. فإن الجسد يشتهي ضدّ الروح، والروح ضدّ الجسد... فإن كنتم تنقادون للروح فلستم بعد تحت الناموس... أما ثمرة الروح فهي المحبّة. ثم الفرح والسلام وطول الأناة واللطف... فإن كنا نحيا بالروح، فلنسلك أيضًا بحسب الروح" (غل 5: 16- 25).
وهكذا تُعتبر كل الفضائل كنتيجة لهذا المبدأ العلويّ الذي هو الروح القدس. فهو بشخصه أو بعطاياه يُثمر فينا الحياة الالهيّة ويغذّيها وينميها. فما عاد المسيحيّ فقط انسانًا ثقِّف على المستوى الاخلاقيّ، بل ابن الله الذي يمتلك قدرة الله، بحيث يمتدّ تأثير الروح على كل صفة فيه فيروحنه بشكل تدريجيّ.
ولقد فصّل رسول الأمم بعض نتائج سكن الروح فينا وعمله. شدّد في الرسالة إلى أفسس على القوّة المتواصلة التي ينفحها الروح فينا: "ليهب لكم على حسب غنى مجده أن تتأيّدوا بقوّة روحه في الانسان الباطن" (3: 16). وقال في 2 تم 1: 7: "ما أعطانا الله روح فزع، بل روح قوّة ومحبّة وامتلاك نفس". وبفضل هذا الروح، يستطيع المسيحيّ أن يجمع في أصعب ظروف هذا العالم الشرّير، الشجاعة والفطنة، الغيرة والحنان (غل 6: 1).
وذكّر بولس الكورنثيين أن الروح يحافظ على موضوع الايمان. كما يربطنا ربطًا حميمًا بهذا الايمان، ويدفعنا إلى إعلانه في الخارج: "ما من أحد ينطق بروح الله ويقول: يسوع مبسل. لا يستطيع أحد أن يقول: يسوع رب، إلاّ بالروح القدس" (1 كور 12: 3). وبما أن الايمان هو عربون ما ننتظر (عب 11: 1)، فالروح عينه يُلهم خضوع القلب والعقل للوحي، كما يثير فينا الرجاء ويحرّكه: "فليملأكم إله الرجاء بكل فرح وسلام في الايمان، حتّى تفيضوا رجاء بقوّة الروح القدس" (روم 15: 13). وهذا النموّ في الفرح والسلام يتيح لنا أن ننعم مسبقًا بالسعادة الآتية، ويثبتنا في الرجاء.
ثم إن امتلاك الروح هو عربون عطيّة المجد (2 كور 5: 5). فمن وعى سكن الروح فيه، تولّد لديه تأكيد الحياة الابديّة والقيامة. لأن الروح القدس يعمل من أجل تحقيق هذا المصير السعيد. فهو يفهمنا أن الخيرات الأرضيّة عابرة، باطلة، ويكشف لنا العالم الآتي الذي يسحرنا بجماله (عب 6: 4- 5). وهكذا، عندما يخضع المسيحيّ للروح، يتوجّه إلى ملء امتلاك الله، وتصبح حياته نداء نحو الموطن الأخير: "نحن الذين لهم باكورة الروح، نئنّ في أنفسنا منتظرين التبنّي وافتداء أجسادنا، لأننا بالرجاء مخلّصون" (روم 8: 23- 24).
أما المحبّة فتتفرّع بشكل مباشر من الروح القدس كما من نبعها، لأنها ليست سوى فيض حبّ الله نفسه فينا: "أفيضت محبّة الله في قلوبنا بالروح الذي أعطيناه" (روم 5: 5). فجميع المسيحيين ينالون هذه العطيّة، ويكونون متّحدين بعضهم مع بعض حين يشاركون فيها (روم 15: 30). امتلأوا غيرة لخدمة الله، واشتعلت روحهم بنار الروح القدس الذي رمزت إليه ألسنة النار في يوم العنصرة (أع 2: 3). فقال القديس بولس: "كونوا على غير توان في الغيرة، وعلى اضطرام بالروح. فأنتم تخدمون الربّ" (روم 12: 11).
فلا أسوأ من أن نطفئ هذه الشعلة (1 تس 5: 19). لأننا عند ذاك نزدري سخاء الله المجاني وملء عطاياه تجاهنا. فحنانيا وسفيرة عوقبا لأنهما غشّا الروح القدس، كذبا على الروح القدس (أع 5: 3، 9). وبنو اسرائيل القساة الرقاب، رُذلوا لأنهم قاوموا دومًا الروح القدس (أع 6: 51)، فرذلوا تعاليمه وشهادته. وما أكثر عدد المسيحيّين الذين يخونون الروح (أف 4: 30) ويرفضون الاستماع إلى نداءاته. فكأني بهم ينكرون طبيعتهم الجديدة كـ "روحانيين" وينسون أنهم نالوا الختم الإلهيّ في يوم فدائهم. وفي النهاية، من جدّف على الروح القدس اقترف الجريمة الكبرى التي لا تُغفر في هذه الدنيا ولا في الأخرى.
فإذا كان الروح القدس الذي هو نور وقوّة، يقود كل الحياة الاخلاقيّة، فهو سيقود بالحريّ العلاقات الحميمة بين المسيحيّ والله. "لنا الوصول في روح واحد إلى الله" (أف 2: 18)، الذي هو إله محبّ يستقبلنا. يبدأ فينير النفس حول طبيعة الله الحقيقيّة، حول كمالاته، حول مقاصد رحمته، حول الحقائق الفائقة الطبيعة، لأن "ليس من يعرف ما هو في الله سوى روح الله" (1 كور 2: 11- 12). وقالت أف 1: 17: "يؤتيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد، روح الحكمة والوحي في معرفته". بما أن روح الله يلج أعماق الله، فهو يستطيع أن يُدخلنا في فهم سرّه العميق، أن يجعلنا نكتشف أعمق أفكاره.
ولكن تدخّل الروح يبدو ضروريًا بشكل خاصّ في الصلاة. فهو يقودنا ويُسندنا: يعلّمنا ماذا نقول لله. كيف نقترب منه ونلامسه. يعلّمنا الاستعدادات اللازمة. قال القديس بولس: "الروح يعضد ضعفنا، لأنّا لا نعرف كيف نصلّي كما ينبغي. لكن الروح نفسه يشفع فينا بأنّات تفوق الوصف. والذي يفحص القلوب يعلم ما ابتغاء الروح، لأنه بحسب الله يشفع في القديسين" (روم 8: 26- 27). وبما أن هذا هو سرّ الصلاة التي يستجيبها الله، لا نستطيع أن نصلّي إلاّ بالروح: "صلّوا كل حين في الروح كل صلاة ودعاء" (أف 6: 18). وقال يهوذا في 20- 21: "أما أنتم أيها الأحبّاء، فابنوا أنفسكم على إيمانكم الأقدس وصلّوا في الروح القدس، واحفظوا أنفسكم في محبّة الله".
والاخلاقيّة المسيحيّة كلها هي أخلاقيّة الروح القدس. فهو الذي أخذنا على عاتقه في المعموديّة، ويوجّه كل نموّنا العلويّ على الأرض، ويقودنا إلى ملء السعادة مع الله. هو فينا منذ الآن "عربون الحياة الأبديّة" الذي يدلّ على أننا صرنا وارثين لملكوت السماوات. ولكن لا اللحم ولا الدم يستطيعان أن يرثا الملكوت السماويّ (1 كور 15: 50). لهذا، يمتلك الروح يومًا بعد يوم نفوسنا، فيعمل على روحنة حياتنا بقدر ما نخضع لإلهاماته وعمله فينا. وستكون قيامةُ الموتى عملَه الأخير، فيدخل فينا فيصبح جسدُنا روحانيًا بعد أن كان "حيوانيًا" أو "نفسانيًا". ويتميّز حينذاك هذا الجسد بالنور والقوّة وعدم الفساد. وهكذا تقابل المجازاةُ السماويّة الحياة الروحيّة التي يحياها المسيحي الذي وُلد ثانية من الماء والروح. فيحصد كل انسان ثمرة تكون طبيعتها كطبيعة البذار الذي بذره: فمن زرع في الجسد، حصد الفساد من الجسد. ولكن "من زرع في الروح حصد من الروح الحياة الابديّة" (غل 6: 8). وبما أن الروح حياة، فالروحانيّون يملكون في طبيعتهم الحياة التي لا تزول، حياة الله بالذات.
منذ العنصرة انقسمت البشرّية على الأرض فئتين: فئة الانسان الحيواني الذي لا يفهم شيئًا من أمور الروح (1 كور 11: 14) ويظلّ بالتالي غريبًا عن المسيح في الخارج. "من ليس فيه روح المسيح فهو ليس له" (روم 8: 9). لهذا يسمّى "الانسان العتيق". ثم هناك فئة الانسان الروحاني أو الانسان الجديد الذي يلتصق بالمسيح. "فالذي يقترن بالرب يكون معه روحًا واحدًا" (1 كور 6: 17). أما المسيحيّون فيشكّلون هذه الفئة الثانية. إنهم "في جدّة نظام الروح" (روم 6: 6). هم ينتمون إلى العهد الجديد الذي هو "العهد الجديد في الروح" (2 كور 3: 6)، والذي يقوم خدّامه "بخدمة الروح" (آ 8). لهذا، يتلخّص كل شيء في حياة كل مؤمن كما في انتشار الكنيسة وتنظيمها، في المسألة الروحانيّة: لا خلاص خارجًا عن الروح.
وبما أن الحياة المسيحيّة هي حياة مع الأقانيم الإلهيّة الثلاثة، نستطيع أن نشدّد على وحدة المؤمن مع الآب أو مع الابن. ولكن بولس الرسول يقول أيضًا: نحن "مبرّرون في المسيح" (غل 2: 17). أو "في الروح" (1 كور 6: 3). المؤمنون يقدَّسون في المسيح (1 كور 1: 2) أو في الروح (روم 15: 16). يعمَّدون في المسيح" (غل 3: 27) أو في الروح (1 كور 12: 13). في الحقيقة، الروح هو روح يسوع (روم 8: 9؛ رج غل 4: 6)، "والربّ هو الروح" (2 كور 3: 17). ومع ذلك، فإلى الروح تُنسب عطايا الله ووصولها إلينا. لهذا نقول إن كل شيء في الكنيسة يُبنى بناء مسيحيًا، يُبنى على المسيح، ويحيا حياة روحيّة في الروح، ويتوجّه نحو المحبّة، لأن الله هو محبّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM