الفصل الخامس عشر: العنصرة والتقليد اليهودي

الفصل الخامس عشر
العنصرة والتقليد اليهودي

يعلن سفر الأعمال أن الحدث الرئيسيّ في إرسال الروح قد تلاقى مع الاحتفال بالفصح اليهوديّ. فمع أن الروح القدس كان قد أعطي للرسل في مساء القيامة، حسب تقليد يورده يو 20: 19- 23، فقد اهتمّ لوقا اهتمامًا خاصًا بإرسال الروح في اليوم الخمسين بعد الفصح والقيامة. فالحدث يرتدي في نظره مدلولاً مميّزًا في هذا السياق المحدّد. وقد نستطيع أن نتساءل: أما توجّه صاحب سفر الأعمال في اختياره لبعض التفاصيل التاريخيّة التي حفظها التقليد المسيحيّ الاولاني، برغبة في تصوير التوازي بين ما حدث يوم العنصرة والاحتفال اليهوديّ لهذا العيد الذي يذكّر المؤمنين بحصاد القمح؟
نبدأ فنتوقّف عند اهتمام المسيحيين الأولين بالتلاقي بين مهمّة الروح والعنصرة اليهوديّة. نتعرّف أولاً إلى المدلول الديني لهذا العيد لدى اليهود في القرن الأول ب م. فهم يحتفلون في هذا اليوم بالعهد الأول وعطيّة الشريعة على سيناء. ثم ندرس التقليد المسيحيّ الأوّلاني بما فيه من فيض الروح، وتدشين العهد الجديد، وعطيّة الشريعة الجديدة، التي كُتبت هذه المرّة في قلب من لحم لدى المؤمنين (2 كور 3: 3). هي شريعة داخليّة وهبها لنا شخص حيّ هو الروح القدس.

1- مدلول الفصح اليهوديّ
حين نقابل أع مع سائر كتابات العهد الجديد، نفهم الأهميّة الكبرى التي يوليها لوقا لعيد الفصح. ولكن في العالم اليهوديّ، في القرن الاول ب م، كان هذا العيد في المرتبة الثانية: لم تذكره روزنامة حزقيال (45: 18- 25)، كما لا يُذكر في العهد القديم إلاّ بشكل عابر وفي زمن متأخّر خارج النصوص الليتورجيّة. ومقال "شبوعوت" في المشناة يلمّح إليه تلميحات عابرة، فلا يحسّ بالحاجة إلى أن يفرز له مقالاً كاملاً كما فعل بالنسبة إلى سائر أعياد السنة.

أ- العنصرة في العهد القديم
غير أن العنصرة كانت عيدًا من أعياد الحج، التي فيها يُجبر الاسرائيليّ على الذهاب إلى أورشليم. ولكن الوافدين لم يكونوا كثرًا كما في عيد الفصح وعيد المظال. وكان العيد يدوم يومًا واحدًا في فلسطين، ويومين في الشتات، ساعة يمتدّ الفصح والمظال إلى ثمانية أيام. ولكن، وإن لم يكن عيد العنصرة شعبيًا، شأنه شأن غيره من الأعياد، فقد كان يجتذب الجموع كما قال يوسيفوس للمشاركة في "تظاهرات" ضد السلطة الرومانية.
اختلف عيد العنصرة عن عيد الفصح والفطير، وعن عيد المظال، اللذين كانا في القديم عيدين زراعيين، ثم ارتبطا بحدث طبعَ تاريخَ الخلاص بطابعه (الخروج من مصر للفصح، والاقامة في البريّة للمظال)، فظلّ فقط عيد الأسابيع. فالأيام الخمسون تجري منذ تقدّمة أول حزمة من الشعير، كباكورة الغلّة "غداة السبت" (لا 23: 11- 15) حتى نهاية حصاد القمح، بعد سبعة أسابيع، حيث كانوا يقدّمون رغيفين من الحنطة الجديدة. فسّر الفريسيون "غداة السبت" في معنى اليوم الذي يلي السبت. وقد أشار بولس الرسول إلى هذه الفريضة الليتورجيّة، ساعة تكلّم عن الباكورة في معرض حديثه عن قيامة يسوع التي حصلت غداة الفصح اليهوديّ: "المسيح قام من بين الأموات، باكورة الذين رقدوا" (1 كور 15: 20).
نستطيع أن نقرأ وصفًا مفصَّلاً لاحتفالات العنصرة اليهوديّة في لا 23: 15- 21. سمّاه العهد القديم "عيد الحصاد" (خر 23: 16)، "عيد الاسابيع" (خر 34: 22؛ تث 16: 9- 13)، "عيد البواكير" (عد 28: 26). أما فيلون الاسكندراني والمؤرخ يوسيفوس فلا يذكران عيد الخمسين، عيد العنصرة.
العنصرة عيد الفرح (تث 16: 11؛ أش 9: 2)، عيد الشكر لله على جميع حسناته، ولاسيّما نهاية الغلال في هذه الأرض المقدّسة التي أعطاها لشعبه: نتذكّر هنا هذا الطابع حين نسمع الرسل يذيعون في مختلف اللغات "عظائم الله" (أع 2: 11). وقد يشرح فرحةَ العيد، الاستفهامُ المليء بالسخرية الذي أطلقه الناس عن الرسل فقالوا: "لقد امتلأوا خمرًا". هم سكارى (أع 2: 13). فردّ بطرس أن الساعة هي الثالثة، أي التاسعة صباحًا، ساعة صلاة الصباح الرسميّة والذبيحة اليوميّة (أع 3: 1). وكان اليهود قد اعتادوا أن لا يأكلوا ولا يشربوا شيئًا قبل تلك الساعة.
مع تقدمة الحزمة الأولى، وهي تقدمة ترتبط أقلّه ارتباطًا كرونولوجيا بالفصح، صارت الخمسون يومًا احتفالاً واحدًا لعيد الفصح الذي يمتدّ إلى سبعة أسابيع. وهذا "الخمسين" الذي فسِّر كعيد فصحيّ واحد، سوف نجده لدى الكتّاب المسيحيين، وهو يعود بلا شكّ إلى نظرة قديمة موروثة من المجمع. والعهد الجديد يربط أيضًا رباطًا صحيحًا بين إرسال الروح وسرّ الفصح والقيامة. يقول يوحنا مثلاً: "وعنى (يسوع) بكلامه الروح الذي سيناله المؤمنون به. فما كان الروح أعطي حتى الآن، لأن يسوع ما تمجد بعد" (يو 7: 39؛ رج 14: 24؛ 16: 7؛ 19: 30؛ 20: 22). غير أن لوقا تفرّد فضمّ فيض الروح والعنصرة في إضمامة واحدة: هو الروح الذي أرسله المسيح "بعد أن رفعه الله بيمينه" (أع 2: 33) في قيامته المجيدة.
وهذا الرباط مع الفصح، يشرح أيضًا الاسم الذي أعطاه الرابينيّون للعيد: الاحتفال الختاميّ: نحن في الوقت عينه أمام ختام زمن الفصح وفصل الحصاد. هي تسمية قديمة لأننا نجدها عند يوسيفوس في شكلها الأرامي أو العبري.
في التقليد المسيحيّ، وبعد القرن الرابع ب م، سيطرت الوجهة التاريخيّة على الوجهة اللاهوتيّة، فتوزّع عيد الفصح في أيامه الخمسين، على عدّة أعياد ترتبط بأحداث خاصّة في التاريخ المسيحي: الفصح، الصعود، العنصرة. وصارت العنصرة تذكر فقط فيض الروح في اليوم الخمسين. ويبدو أنه كان تطوّر مماثل في الفكر اليهوديّ: فمنذ زمن العهد الجديد، نال اليوم الخمسون أيضًا مدلولاً خاصًا ارتبط بتاريخ الخروج. وهكذا انتهت مسيرة تحوّل الأعياد الزراعيّة الكبرى إلى تذكّرات تاريخيّة. وصار العيد القديم، عيد الحصاد أو عيد الأسابيع، تذكارًا لإعلان الشريعة على جبل سيناء.

ب- في أوساط الاسيانيين
نجد شهادة على هذا المدلول في الحقبة السابقة للمسيحيّة، وذلك في "كتاب اليوبيلات". فهذا المؤلّف كان من أهم الكتب في جماعة قمران، بعد أن اكتشفت في مغاور بريّة يهوذا أجزاء من عشرة مخطوطات تورد بعض ما في هذا الكتاب. ثم إن الكلندار الليتورجيّ الذي تتبعه الجماعة، هو ذاك الذي يوصي به كتاب اليوبيلات. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، قد يكون يسوع تبع مثل هذا الكلندار للاحتفال بفصحه الأخير. وهكذا نستطيع أن نفترض أن التلاميذ الأولين عرفوا أفكار هذا الكتاب المنحول. والحال أن كتاب اليوبيلات يجعل عيد العنصرة في الخامس عشر من الشهر الثالث (سيوان) في ذات التاريخ الذي فيه وصل الوحي إلى موسى وقُطع العهد في سيناء.
ما يميّز هذا المؤلّف المنحول هو نظرته إلى "عيد الأسابيع". هو بكل حقّ عيد العهد والاحتفال الديني الأهمّ في نظر الكاتب. فنحن نعرف أن "عيد الأقسام" يعود إلى العهد الأول الذي عُقد مع نوح (6: 17). والذي تجدّد مع ابراهيم (15: 2) واسحاق ويعقوب. سقط هذا العهد في عالم النسيان بعد الآباء، فأخطأ الناسون، ولكن أعيد "بناؤه" في سيناء. وجمْع العنصرة مع الوحي السينائي والعهد، ليس أمرًا خاصًا بكتاب اليوبيلات. فنحن نجده في منحولات أخرى مثل رؤيا عزرا وأخنوخ السلافي، والعاديات البيبليّة المنسوبة إلى فيلون والتي دوّنت في نهاية القرن الأول ب م، ولكنها تضمّ تقاليد أكثر قدمًا.
فرض كتابُ اليوبيلات الاحتفالَ السنوي (في اليوم عينه) "بعيد الأقسام" من أجل تجديد العهد (6: 17). أما وثيقة صادوق من جهتها، فتنتهي في وصف احتفال الدخول في "جماعة العهد الجديد"، وهو الاسم الذي به سمّى أهل هذه الشيعة أنفسهم. ففي هذا النصّ نجد كلمة "أقسم"، "قسم"، وهذا ما يفترض تلميحًا إلى "عيد الاقسام".
وعرف "نظام الجماعة" في قمران أيضًا قسم الدخول في العهد: "حين ينضمّ الواحد إلى الجماعة، فمن يأتي إلى مجلس الجماعة، ليدخلْ عهد الله بحضرة كل المتطوّعين. وليلزم نفسه بقسم يُجبره على الارتداد إلى شريعة موسى بحسب كل ما تفرضه، وذلك من كل قلبه وكل نفسه" (5: 7- 9). وفي صلاة تبدو هي أيضًا مرتبطة "بعيد الأقسام" يتوجّه المؤمن إلى الله في الكلمات التالية: "هيّأتهم ليكونوا منفصلين عنك... وجدّدت لهم عهدك المؤسَّس على رؤية سيناء المجيدة وأقوال روحك القدوس، وعلى أعمال يديك وكتاب يمينك الذي هو الشريعة".
إذن، نجد في قلب الحياة الليتورجيّة في قمران، عيد تجديد العهد. وشهادة "كتاب اليوبيلات" تتيح لنا أن نعود إلى القرن الثاني ق م لنجد أصل هذا الاحتفال في أوساط الاسيانيين. ونلاحظ بشكل عابر، أن مدلول عيد العنصرة هو ذاته لدى السامريين في القرن الأول. وهم يحتفلون اليوم أيضًا بوحي أعطي لموسى في السبت السابع بعد الفصح، أي ليلة العنصرة.
بما أن أجزاء من كتاب اليوبيلات ووثيقة صادوق، قد وُجدت في مغاور قمران، نستطيع أن نفترض أن الاسيانيين احتفلوا بالعنصرة كعيد الشريعة والعهد، تذكّرًا لوحي سيناء. وهذا ما توضّحَ حين نُشرت وثائق قمران ونُقلت إلى اللغات الحديثة.

ج- في اليهوديّة الرسميّة
قلنا إن يوسيفوس لا يربط العنصرة بعطية الشريعة. ولا فيلون يروي في "حياة موسى" إعلان الشريعة في سيناء. ولكن قد نكون أمام صدفة في نقل النصّ. وفي أي حال، يجب أن ننتظر الكتابات الرابينيّة في القرن الثاني ب م، لكي نجد تأكيدًا واضحًا يقول إن الشريعة أعطيت في اليوم الخمسين بعد الخروج من مصر، وهو اليوم الذي يوافق عيد العنصرة. وتُذكر كلمة لرابي يوسي بن شلفتا (حوالي 150) في "سدرعولام" (5): "ذبح بنو اسرائيل حمل الفصح في مصر في 14 نيزان، وكان اليوم يومَ الخميس.... في الشهر الثالث، في اليوم السادس من الشهر، أعطيت لهم الوصايا العشر، وكان اليوم يوم السبت".
وقال رابي أليعازر (حوالي 270) من جهته، إن العنصرة هي حقًا "اليوم الذي فيه أعطيت الشريعة" (تلمود بابل، مقال الفصح 68ب). منذ ذاك الوقت، صارت العنصرة في العالم اليهودي عيد الشريعة، مع الاحتفاظ بالطابع القديم كعيد زراعيّ: فاليهود الاتقياء يُمضون ليلهم في قراءة الشريعة. هذا العيد قد طُمس بإدخال عيد "فرح الشريعة" الذي ينهي في الخريف الاحتفالَ بعيد المظال.
قد نستطيع أن نتساءل: أما نقلت النصوص الرابينيّة المتأخّرة تقليدًا أقدم من الزمن الذي فيه دُوِّنت؟ أما نستطيع القول إن اليهوديّة الرسميّة قد قامت قبل المسيح بالتقارب بين الشريعة والعنصرة؟ إن الإشارة الكرونولوجيّة في خر 19: 1، التي بحسبها وصل العبرانيون إلى سيناء، في الشهر الثالث لخروجهم من مصر، تدعونا إلى أن نضمّ الحدث الرئيسيّ لعطيّة الشريعة (وقطع العهد الذي لا يحتفل به عيد من الأعياد الدينيّة) إلى الاحتفال الليتورجيّ الوحيد في ذلك الشهر الثالث، أي عيد العنصرة. فالطابع الزراعي لهذا العيد الذي لا يعني الكثير لسكّان المدن، قد يكون دفع بعض التيارات اليهوديّة في زمن مبكّر، إلى إيجاد معنى آخر له يرتبط بالتاريخ المقدّس.
إن 2 أخ 15: 10 لم يعد بشكل واضع إلى "عيد الاسابيع". ومع ذلك، فقد جعل في الشهر الثالث عيدًا دينيًا احتفل به في زمن آسا (910- 870) من أجل تجديد العهد، وفيه يلتزم كل واحد بقسَم جديد.
ومهما يكن من أمر، فالتراجيم تحدّد بالضبط موقع إعلان الشريعة خمسين يومًا بعد الخروج من مصر، في السادس من سيوان، أي في عيد العنصرة بحسب الكلندار الفرّيسي. وهي تقدّم وليمة العهد في خر 24: 11 في عبارات يستعملها تث 16 للحديث عن الاحتفال بالعنصرة: "فرحوا بتقادمهم التي قُبلت برضى". وكما يحصل في موضع آخر من التوراة، طبّقوا على هذا الطقس الذي ما عادوا يفهمونه (= وليمة عهد الشيوخ أمام الرب) عبارة عباديّة تعود إلى زمن متأخّر. ولكن هذا أوحى للترجوم بأن مشهد العهد في سيناء، هو حقًا العنصرة الأولى.
ولكن الأدب الرابيني نفسه قد احتفظ بآثار قديمة جدًا للعنصرة كعيد الشريعة. لاشكّ في أن نصوص التلمود لا تتيح لنا أن نعود إلى ما قبل القرن الثاني ب م. ولكن حسب المشناة، حطّم موسى لوحي الشريعة في 17 تموز (الشهر الرابع). وهذا ما يؤكّده فيلون المزعوم في العاديات البيبليّة (19: 7). كان ذلك أربعين يومًا بعد السادس من سيوان. إذ أقام موسى أربعين يومًا على الجبل بعد قطع العهد (خر 24: 18؛ 32: 19)، جعل هذا التقليد عطيّة الشريعة في اليوم الذي عيّد فيه الفريسيون عيد العنصرة.
غير أن هناك عددًا من الكتّاب يظنّون أن العالم اليهوديّ الرسميّ لم يأخذ بضمّ الشريعة إلى العنصرة إلاّ بعد دمار الهيكل سنة 70ب م: صارت طقوس التقدمة مستحيلة، ففرح المعلّمون حين اكتشفوا معنى جديدًا انطلاقًا من تلميحات النصّ البيبلي نفسه، ومن أفكار شعبيّة وُجدت في الأوساط الاسيانيّة. ولكن هناك آخرين ذكروا الاختلافات في حساب الخمسين يومًا والاحتفال بالعنصرة في ثلاثة أيام مختلفة، في زمن المسيح، لدى الاحزاب اليهوديّة الرئيسيّة الثلاثة: الفريسيون، الصادوقيون، الاسيانيون. فاعتبروا أن في أصل هذا الجدال الليتورجي وُجدت نظرة قبلَ بها البعضُ ورفضها البعض الآخر، ترى في العنصرة احتفالاً بعطيّة الشريعة. في أي حال، يدلّ هذا الجدال على أن هذا العيد لم يكن من الدرجة الثانية كما نظنّ حين نقرأ المراجع الرابينيّة اللاحقة.
ونستطيع أن نقول بإيجاز، إن بعض التيارات اليهوديّة في زمن العهد الجديد، قد اعتبرت العنصرة عيد الشريعة وعهد اسرائيل مع الرب. وقد تكون هذه التيارات هي الرسميّة في أرض اسرائيل.

د- في النصوص الليتورجيّة
وهناك عنصر آخر يجب أن نهتمّ به كل الاهتمام لنكتشف المعنى القديم لعيد العنصرة. نحن ننطلق من الدور الذي لعبته النصوص الليتورجيّة في تثبيت "لاهوت" العيد وتطوّره. كما نهتمّ بمعرفة النصوص الكتابيّة التي كانت تُقرأ وتفسَّر في المجامع اليهوديّة في القرن الأول ب م. في فلسطين، وحتى القرن الرابع، قُسم البنتاتوكس والأنبياء (وربّما المزامير) ثلاثة أقسام، بحيث تُقرأ التوراة كلها في دورة تمتد على ثلاث سنين. بعد ذلك، وُضعت دورة سنويّة. غير أن العلماء لا يتّفقون على قدم النظام الذي يمتدّ على ثلاث سنين. لكن بعضًا منهم استند إلى معطيات متلاقية، فقدّموا نظام القراءات المجمعيّة المعمول به في بداية القرن الأول المسيحي أو قبل ذلك الوقت.
فالدورة الثلاثية السنين جعلت قراءة الدكالوغ أو الوصايا العشر لعيد العنصرة. وهذا التطابق يثبت تفسير العيد على أنه عيد الشريعة. وقد احتفظت لنا التراجيم بنشيد طويل حول الدكالوغ، تدلّ بنيتُه على أنه استعمل في الليتورجيا. دوّن في أراميّة فلسطين، ولكنه عاد إلى زمن قديم. "عند ذاك تلفّظ الله بكل هذه الكلمات: الأولى، حين خرجت من فم القدوس (تبارك اسمه) كانت كالعواصف والبروق والمشاعل". وأحيط بكل هذه الكلمات مشاعل تطير في الهواء، وجاءت كلمة الله فدوّنت على لوحَيْ حجر. ويتكرّر المشهد عينه للكلمات التالية.
وتحدّث تلمود فلسطين أيضًا عن قراءات من البنتاتوكس: تث 16؛ لا 23؛ خر 19 (ارتبط بالعيد قبل المسيحيّة). فهناك جزء قديم من ترجوم فلسطيني وُجد في القاهرة يدلّ على أن خر 19: 1- 20: 23، كان يُقرأ في "عيد الأسابيع". وكانوا يقرأون راعوت فيدلّون على الطابع الرعائي لهذا العيد، لأن ما يحدث في هذا السفر يتحدّد موقعه في "الخمسين" الممتدّ من حصاد الشعير إلى حصاد القمح.
أما القراءات النبويّة المفروضة فهي حز 1 (ق حز 1: 4 وأع 2: 2)؛ حب 3. قد استعملت نسخة حبقوق الاراميّة في قمران، وهذا يعني أنها معاصرة للمسيحيّة. وهي تتكلّم عن "الغفران الذي يُمنح للذين يتوبون إلى الشريعة من كل قلبهم"، وعن "المعجزات والعجائب" التي يصنعها الله من أجلهم. هذا ما يجعلنا قريبين من أع 2: 38، 43. أما المزامير التي تُقرأ في عيد العنصرة فهي مز 26 و68، مع العلم أن مز 68 قد استعمله بولس الرسول للحديث عن عطيّة الروح.

2- التقليد المسيحيّ الأول
أ- من الصعود إلى العنصرة
حين نعود إلى التقليد المسيحيّ الأولى نرى أنه حتى القرن الرابع، كاد المؤمنون يحتفلون بالصعود والعنصرة في اليوم الخمسين. فصعود يسوع إلى السماء وحلول الروح يتّحدان اتحادًا ليتورجيًا. كيف نفهم هذا الواقع الغريب؟
يبدو أن المسيحيّين الأولين رأوا في صعود المسيح صورة تامة عن صعود موسى على جبل سيناء. فموسى صعد في اليوم الخمسين بعد الفصح ليأخذ الشريعة "المكتوبة بإصبع الله" ثم ينقلها إلى اسرائيل. ويسوع الذي صعد إلى الآب، أرسل إلى تلاميذه الروح الذي هو الشريعة الباطينيّة الجديدة.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نلاحظ أن النصوص التي استعملها العهد الجديد ليربط رباطًا واضحًا تمجيد يسوع ومهمّة الروح (لو 24: 49؛ أع 1: 4؛ 2: 32؛ يو 20: 17- 22؛ أف 4: 7- 12)، هي التي استعملها أدب قمران فإيراد مز 68 في أف 4: 8 يلفت انتباهنا. فالرسول لا يورد المزمور بحسب النص العبريّ (أخذت الناس جزية)، بل بحسب النسخة الآراميّة المستعملة في المجامع: "إذ صعد إلى العلى.... أعطى عطايا للبشر". نحن هنا أمام تلميح واضح إلى إرسال الروح. وقد فهمت الآراميّة هذه الآية عن موسى الذي صعد إلى الجبل ليأتي بالشريعة من هناك. إذن، طبّق القديس بولس على صعود المسيح تفصيلاً استعمله التقليد اليهوديّ من أجل موسى. وقد يكون مز 68 هذا قد أثَّر في تدوين أع 2: 33.
واحتفظت التراجيم أيضًا بنصّ (تث 30: 12- 13) يُشدّد على صعود موسى إلى جبل سيناء ليأتي بالشريعة (عكس يونان الذي نزل). وهذا النصّ استلهمه بولس الرسول في روم 10: 6- 8: "لا تقل في قلبك: من يصعد إلى السماء"؟ وسيردّد الآباء مرارًا أن يسوع في الصعود، صعد إلى السماء ليأتي بالشريعة الجديدة التي هي الروح القدس.
صوّرت بعض النصوص اليهوديّة صعود موسى بتفاصيل تذكّرنا بالصعود (النور، الغمام). والايقونات دلّت على أن صانعيها تصوّروا الصعود، لا بحسب معطيات أع، بل بشكل صعود إلى سيناء، مع المسيح الذي يمسك بيده درجًا يرمز إلى الشريعة. نحن هنا أمام تشابه مدهش بين هذه الطرق في تصوير الصعود والمشاهد التي تصف صعود موسى على جبل سيناء، على النواويس التي تعود إلى الحقبة القسطنطينيّة. وهذا ما يفهمنا أن المسيحيّين في فلسطين نظروا إلى العنصرة كعيد الشريعة والعهد.
ولكن سبق وقلنا إن هذه النظرة وُجدت لدى التيارات العائشة على هامش العالم اليهوديّ. فهل نجد علاقة بين هذه التيارات والمسيحيّة الأولى؟ هذا ما لا شكّ فيه، ولاسيّما لدى الاسيانيّين الذين اقتربت أفكارهم ممّا كتبه لوقا في انجيل الطفولة وسفر الأعمال: تنظيم الجماعة، مشاركة في الخيرات، العماد، عشاء المحبّة، اختيار متّيا، خطبة اسطفانس ضدّ الهيكل، اهتمات بالنصوص التوراتيّة الواحدة... فقد يكون عدد من المسيحيين الأولين قد انتموا إلى جماعة قمران. وسفر الأعمال يعطينا عن كنيسة أورشليم فكرة قريبة عن "جماعة العهد الجديد" كما ترسمها مخطوطات البحر الميت.
هذا ما يدفعنا إلى القول بشكل معقولة إن العنصرة اتّخذت بالنسبة إلى المسيحيين الأوّلين شكل عيد الشريعة الجديدة: فهموا أن يسوع حين أرسل الروح، قد أعطى الشريعة الجديدة والنهائيّة، التي لم تحفر في لوحين من حجر، بل في لوحين من لحم ودم (حز 11: 19؛ 36: 26؛ إر 31: 33). لم تكن بعد شريعة خارجيّة، بل عطيّة شخص هو "روح الله الحيّ" (2 كور 3: 3). لهذا اهتموا كل الاهتمام بأن تبدأ الكنيسة انطلاقتها في يوم العنصرة.

ب- تأثير العالم اليهوديّ
إذا كان لوقا قد جمع العنصرة إلى سيناء، نتساءل: أما نجد تلميحات أخرى إلى نظرات يهوديّة ترتبط بمشهد إعلان الشريعة على الجبل؟ هنا نذكر فيلون، فيلسوف الاسكندريّة، الذي اعتبر أن العنصرة هي عيد الحصاد وحسب. ولكنه حين استعاد خبر عطيّة الشريعة، فسّر كيف أفهم الله كل واحد وصاياه العشر: بما أن الله لا صوت له، فقد أخرج صوتًا عجيبًا امتزج بالنار، فذهب يطرق آذان الجميع، حتى الأبعدين، فيرنّ كلهجة في كل نفس من نفوسهم (الوصايا العشر 33: 35). وقد بلغ هذا الصوت إلى جميع الشعوب. هنا نتذكّر فكرة النار التي تتحوّل إلى لغة مفهومة ومرئيّة. ونقابل مع أع وهذا الصوت الذي جاء فجأة من السماء، وألسنة النار التي حطّت على كل واحد منهم، والخطب التي تُليت في كل لغات العالم.
وتتكلّم الأخبار اليهوديّة أيضًا عن ظهور البرق والنار والصوت والنار (في العبريّة: ألسنة من نار في أش 5: 24) على سيناء. وهناك تفسير حرفيّ كما في خر 20: 8 قال إن الشعب "رأى" الأصوات، وهذا ما فرض الكلام عن صوت الله الذي كشف عن نفسه بشكل نار ولهيب.
وهناك أخبار تعود إلى القرن الثاني ب م، فتقول إن النار ظهرت على رأس بعض المعلّمين المشهورين المنشغلين بدراسة التوراة وشرحها: وهكذا ترتبط النار بالشريعة. وهناك خبر عرفته مدارش رابي اسماعيل ورابي عقيبة، في القرن الثاني ب م، فرأى أن الشريعة عُرضت على جميع الشعوب، في البريّة التي بدت بشكل موضع حياديّ. فالوثنيون أنفسهم قد دُعوا لئلاّ يلوموا الله ويقولوا له: "لو عرفنا لقبلنا الشريعة نحن أيضًا".
وهناك نسخة أخرى تقول إن الشريعة أعطيت في أربع لغات، هي لغات القريبين من أرض اسرائيل بشكل مباشر. سأل بنو عيسو: "ما الذي كتب فيها"؟- "لا تقتل". فرفضوا أن يقبلوها. وفعلوا العمونيون والموآبيون مثلهم، لأنه كُتب: "لا تزن". ومثلهم فعل بنو اسماعيل بسبب الوصيّة التي تمنع القتل. وحده اسرائيل أجاب نعم (خر 19: 8).
ولكي تسمع جميع الشعوب صوت الله، قال التقليد إن الشريعة أعلنت في سبعين لغة (تلمود، السبت 88ب)، وهذا ما يقابل 70 شعبًا وجدهم المعلّمون في تك 10. هذه الأخبار تدلّ على الشموليّة التي لن تعمّر طويلاً في العالم اليهوديّ.
هل من رباط بين الأخبار الجميلة المرتبطة بسيناء، مع خبر أع 2؟ نحن في الحالتين أمام تيوفانيا، أمام ظهور إلهيّ. إذن، سنجد هنا وهناك ظواهر ترتبط بظهور الله مثل الرعد والبرق والنار والدخان (عب 12: 18، 22). وإذا كان الزلزال المذكور في خر 19: 18 ليس له ما يقابله في أع 2، فهو سيظهر في أع 4: 31 حيث حلّ الروح القدس على المصلّين.
وسيفهم الرسل في عيد العنصرة على ضوء نبوءة يوئيل، أن الشريعة الجديدة تقدَّم إلى جميع البشر. تاريخ عطيّة الروح يلقي ضوءًا على تعليم المعلّم في هذا المجال. ويذكر لوقا "مجيء أناس من كل الأمم التي تحت السماء". ويشدّد على هذه اللغة العالميّة العلويّة التي تجعل السامعين يدهشون. هذه الألسنة الملهمة هي علامة سابقة ورمز لشهادة سيحملها الرسل إلى أقاصي الأرض.
وهناك تقارب آخر بين مشهد سيناء والعنصرة، من خلاله الاسم الذي أعطي للجماعة التي تلقّت شريعة الله: اكلاسيا. الكنيسة. هذه اللفظة استعملت مرارًا في أع لتدلّ على الجماعة المسيحيّة الأولى. سينطلق الترجوم مثلاً من خر 19: 1 فيشدّد على وحدة القلوب يوم ولادة اسرائيل كجماعة دينيّة مقدّسة، فيقول: "انطلقوا من رفيديم فوصلوا إلى بريّة سيناء، وخيّموا في البريّة: خيّم اسرائيل هناك تجاه الجبل بقلب متحدّ (أو: كانوا قلبًا واحدًا)". ويشدّد النص عينه على إجماع العبرانيين على قبول الشريعة الالهيّة "بكل قلبهم". وهكذا نلتقي مع جماعة المؤمنين في أورشليم "الذين كانوا قلبًا واحدًا وروحًا واحدًا" (أع 4: 32). هذا التفصيل الذي نجده في أع، وفي التقاليد اليهوديّة حول سيناء، يعيدنا إلى نظرة تربط العنصرة بعطيّة الشريعة وذبيحة العهد.

خاتمة
كل المقاربات التي قدّمناها تتيح لنا أن نظنّ أن الرسل والمسيحيين الأوّلين قد فهموا العنصرة تدشينًا للعهد الجديد وإعلانًا للشريعة الجديدة التي أعلنها الأنبياء، وبداية للجماعة الاسكاتولوجيّة التي كانت جماعة (اكلاسيا) البريّة صورة لها: والمعتمدون الثلاثة آلاف يمثّلون البشريّة كلها بانتظار أن يصبحوا خمسة آلاف (أيَ الجماعة الكاملة، 50 × 100)، وهم باكورة الحصاد الاسكاتولوجي العظيم. فصهيون أورشليم هي سيناء العهد الجديد. ويسوع هو موسى الجديد الذي بعد أن صعد إلى الله، أرسل إلينا الروح بحسب نمطيّة نقرأها في أع 7: 17- 46.
إن خبر العنصرة المسيحيّة الأولى قد جمع طبقتين من التقاليد: طبقة اليهود الذين ظلّوا يحتفلون بالعيد مع أبناء دينهم. وطبقة المسيحيين الذين جمعوا ثمار الفكر المسيحيّ حول حدث إرسال الروح على ضوء التقاليد اليهوديّة السابقة. ونحن نفترض أن صاحب أع الذي أراد أن يعطي صورة كاملة عن العنصرة المسيحيّة ويشدّد على طابعها الشموليّ، انقاد لهذه المعطيات في اختيار الألفاط التاريخيّة التي احتفظ بها، ليتحدّث عن هذا الجديد الذي هو إرسال الروح على الجماعة الأولى من أجل خلق جديد يبدأ في أورشليم فيصل إلى أقاصي الأرض.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM