الفصل الثالث عشر:المؤمنون وعمل الروح :بولس

 

 

الفصل الثالث عشر
المؤمنون وعمل الروح في رسائل القديس بولس

في مقال سابق حاولنا أن ندخل في خبرة الروح، وفي هذا المقال نتوقّف عند الذين يختبرون عمل الروح هذا، عند المستفيدين من حضوره وتأثيره. الروح يكشف معنى التعليم المسيحيّ، ويدلّ الجماعة على حسنات الله. هو يفعل كقوّة يقين تساعد على إقامة كنيسة المسيح. فبعمل الروح يظهر مدى جديد. كان كلام حول دور الروح في نقل التعليم، وها نحن أمام النتائج التي حصلت عليها الجامعة.
نتوقّف هنا عند محطتين الروح والجماعة في رسائل بولس، وخبرة الروح أو الروح والرسول.

1- الروح والجماعة
إن العلاقات التي تقوم بين الروح والجماعة هي متنوّعة. ونحن نحتفظ بأربع: تتحدّد الجماعة بالنسبة إلى الروح. الروح هو ينبوع الاعتراف الايمانيّ الذي يكوّن الجماعة. الروح والمواهب المعطاة للجماعة. الروح ووحدة الجماعة.

أ- الجماعة تتحدّد بالنسبة إلى الروح
نتوقّف عند فل 3: 3 و1 كور 3: 16. نقرأ في النص الأول: "فنحن أهل الختان الحقيقيّ لأننا نعبد الله بالروح ونفتخر بيسوع المسيح ولا نعتمد على أمور الجسد". وفي الثاني: "أما تعرفون أنكم هيكل الله، وأن روح الله يسكن فيكم"؟
أولاً: نعبد الله بالروح (فل 3: 3)
السياق هنا كما في 1 كور 3: 16 سياق هجوميّ. في هذه الظروف، الروح هو ما يدلّ بجلاء على هويّة الجماعة. في فل 3: 3 هاجم بولس خصومًا لا يفرضون الختان على أهل فيلبي، بل يفتخرون بختانتهم. في هذا الهجوم، ذكّر الرسول بالختان الحقيقيّ، فحذَّر الفيلبيين بعبارة قاسية تجاه خصومه (آ 2: إحترسوا من الكلاب، إحترسوا من عمّال السوء). فطبيعة الجماعة التي تصوّر كـ "الختان" تحدّد في ثلاث عبارات تبدأ بأل التعريف. ونحن لا نفهمها إلاّ على ضوء روم 2: 28- 29 (فما اليهوديّ هو اليهوديّ في الظاهر... الختان هو ختان القلب بالروح) وغل 4: 13- 14 (الذين يمارسون الختان لا يعملون بأحكام الشريعة... يريدون أن يفاخروا).
لقد بدأ عهد جديد. وأوضح بولس فكرته منطلقًا من شخصه (3: 4 ي). فالمجد الموضوع في المسيح والافتخار به يحلاّن منذ الآن محلّ اتكال على الجسد (على اللحم والدم)، أي على الختان وبالتالي على الشريعة. هذا الوضع الجديد يصل بحركة تعميق الختان التي بدأت في العهد القديم (إر 4: 4؛ 9: 24؛ تث 10: 16) إلى الذروة. تجاوز بولس الحركة التوراتيّة، وعرض ختانًا جديدًا عارض "ختان اللحم"، واستعمل كلمة تُفهمنا أن الختان الذي يعتدّون به لا علاقة له بالختان الحقيقيّ. فالذين ينتمون إلى الختان كما يفهمه بولس يؤدّون عبادة بروح الله، يجعلون اتّكالهم على المسيح. فروح الله يفتح مساحة عباديّة جديدة في خطّ الانتظار النبويّ (إر 31: 31- 34؛ حز 36: 26 ي). عندئذ يخلق الروح جديدًا، يخلق جماعة من نمط جديد.
ثانيًا: روح الله يسكن فيكم (1 كور 3: 16- 17)
ويؤكد 1 كور 3: 16- 17 على ظهور الروح كميزة الجماعة المسيحيّة. حين يشير بولس إلى طبيعة هذه الجماعة، فهو يشدّد على العمل الذي قاربه الكارزون بالانجيل. ذكر تعليمًا يعرفه الكورنثيون. فسمّى الجماعة "هيكل" و"مسكن الله". جعل منها الموضوع الأقدس. تحدّث العهد القديم عن الهيكل الذي هو بيت الربّ، وأنه يتطلّب قداسة من الذين يدنون منه ويلامسونه. استعاد بولس هذا الموضوع ولكنه بدّل موضعه. طلب قداسة من قبل الجماعة (ومن قبل المسيحي) لأنها "هيكل الله". وزاد بولس "الذي يسكن فيكم". فأساس العمل الذي حقّقه بولس وأبلوس وسائر البنَّائين هو يسوع المسيح (آ 10- 11)
بعد الآن، صارت الجماعة (لا هيكل أورشليم) الموضع الذي يسكن فيه روح الله. لقد انتقلت امتيازات الهيكل المادي الذي هو مركز حضور الله وعلامة الاختيار، إلى الجماعة المسيحيّة. وسكنُ الروح هذا يمنح الجماعة طابعًا خاصًا. فروح الله الذي هو موضوع انتظار في العهد القديم، قد صار عطيّة ثابتة للجماعة. وهذا الحضور يعطي الجماعة طابع التقديس، طابع التكريس (آ 17)، ويبيّن لماذا يجب أن تُحترم.

ب- الروح ينبوع الاعتراف الايمانيّ الذي يكوّن الجماعة
يبدأ 1 كور 12- 14 بثلاث آيات (1 كور 12: 1- 3) تلعب دورًا أساسيًا من أجل فهم المجموعة. ثلاث آيات مرتبطة بعضها ببعض. وآ 3 هي نتيجة آ 2 التي فيها يذكر بولس ماضي الكورنثيين. بعد ذلك يأتي إعلان احتفالي (أما الآن فاعلموا) في آ 3 فيشكّل معلومة أولى حول ما يجب أن يعلم الكورنثيون لئلا يبقوا جاهلين في ما يخصّ "الروحيين"، موضوع ف 12- 14. فلا تكون معلومات الكورنثيين دقيقة حول الروحيين إلاّ بقدر ما يسمعون هذا التعليم الأساسيّ المعطى في آ 3 بعد تذكّر وضعهم السابق (آ 2).
تتألّف آ 3 من شقّين يتضمّن كل منهما إعلانًا وذكرًا للروح (روح الله. الروح القدس. بعد ذلك يُذكر "الروح" فقط). غير أن هذين الشقين ليسا مماثَلين لأن الثاني يبرز أستحاله جذريّة لدى الانسان بأن يقول "يسوع ربّ، إلاّ في الروح القدس". فإذا أردنا أن نحدّد وظيفة الروح القدس، وجب علينا أن نحدّد معنى آ 3.
ونبدأ مع كلمة "ح ر م" (أناتيما في اليونانية). وعظ بولس عن المصلوب، وهذا يعتبر مرحلة من مراحل الايمان المسيحي، فيجب أن يتبعها الاعتراف بالقيامة. فإعلان الصليب لا يمكن أن يكون للمسيحيّ الكلمة الأخيرة. وحين نقول يسوع "ملعون" (في الحرم، في إطار غضب الله)، نبقى على مستوى موت المصلوب، وهذا ما يدركه كل إنسان. فالموت قد يُعتبر في التفسير اليهوديّ لعنة كما يعتبر ينبوع مصالحة. ولكن حتى في هذه الحالة الثانية، يكون الايمان مبتورًا إن لم يؤكّد سيادة يسوع كالرب القائم من الموت.
في 1 كور 12: 3 تؤخذ عبارة "يسوع ملعون" كوحدة تامّة على مثال إعلان "يسوع الربّ" مع أنها لا تعلن الايمان المسيحي. مع "يسوع ملعون"، يصوّر بولس موقف الأشخاص الذين لبثوا على مستوى المصلوب وما وصلوا إلى الربّ الذي يكوّن الجماعة المسيحيّة. في الشقّ الأول من النقيضة، استعمل بولس عبارة "يتكلّم في روح الله"، لأن ذاك هو اعتداد من يتكلّمون بألسنة. وهكذا يدلّ الرسول على ضعف التكلّم بألسنة لأنه لا يعود بالضرورة إلى اعتراف إيماني صحيح يأخذ بعين الاعتبار كل سرّ المسيح. وحده الروح القدس يتيح لنا أن نفهم معنى موت يسوع ونرى في هذا الموت الربّ. وهكذا يفتحنا الروح على الايمان.
يؤكّد بولس هنا كما في 1 كور 2: 6- 12 ضرورة عمل الروح لندرك من هو يسوع. غير أن الروح لا يظهر في 1 كور 12: 3 كمجرّد عامل كشف، بل كذلك الذي يقيم علاقة مميّزة مع المؤمن (في الروح القدس). فالروح يمكننا من إدراك الواقع المسيحي والتعبير عنه. لهذا شدّد النصّ على الكلام الذي يتحقّق داخل الجماعة. فالروح يتيح لنا أن نتكلّم كلامًا حميمًا لا ينفصل عن الروح الذي يعمل من أجل الخدمة في الجماعة. غير أن هذا التأكيد الأول حول الكلام كان ضروريًا بالنظر إلى واقع الكورنثيين. فاعتراف الايمان هو عمل الروح الأول، لأنه يكوّن الجماعة. مقابل هذا، كان الاعتراف الكرستولوجي الصحيح علامة تدلّ على أن المؤمن يعمل في الروح.
التعبير الايماني يرتبط بالروح. والعبارة "الناقصة" تدلّ على غياب هذا الروح. عند ذاك يبدو اعتراف الايمان امكانيّة للتدقيق في حضور روح الله أو في غيابه. فالروح يقود الجماعة التي لم تعد خاضعة للأصنام. وهكذا يجعل بولس جميع الكورنثيين متساوين تجاه الروح، ويحذّر "الغيورين" من خطبة انخطافيّة لا شيء يقيّدها.
إن عبارة "في روح الله" توازي عبارة "في الروح القدس". فالأولى ضروريّة بعد آ 2. هنا نشير إلى أن الروح ليس قوّة لا شخصيّة. فهذه القوّة ترتبط بالله الذي كشف عن نفسه في تاريخ اسرائيل. وهذا الروح يمنعنا من التلفّظ باعتراف إيماني غير كاف. والعبارة في الشق الثاني من آ 3 تحمل مدلولاً مختلفًا. فالروح هو في أصل الجماعة المسيحيّة، لأنه يستطيع وحده أن يقودنا إلى تعبير إيمانيّ صحيح. هنا نتذكّر أن المسيحيين يسمّون مرارًا "قديسين" في الرسائل البولسيّة (روم 1: 7؛ 1 كور 1: 2؛ 2 كور 1: 1؛ فل 1: 1). وهكذا يُبرز بولس التقليد الجماعيّ مذكّرًا بأن الروح يحرك فينا القول الصحيح الذي يرافقه العمل.

ج- الروح والمواهب المعطاة للجماعة
إن مطلع 1 كور 12 جعلنا ندرك يقينًا أساسيًا عند بولس الرسول: يُعطى الروح للجماعة. يضمّ الجماعة في اعتراف واحد بالربّ يسوع. وهذا القول عن عطيّة الروح نجده في ف 12- 14، ويرافقه تأكيد حول تنوّع ظهورات الروح.
أولاً: نظرة إجمالية إلى ف 12- 14
تحتلّ ف 12- 14 مكانها في مجموعة (ف 11- 14) يهتمّ فيها بولس بالجماعات في كورنتوس (تصرّف النساء، الافخارستيا، مكانة "الظهورات" المنسوبة إلى الروح). ومع ذلك فهي تشكّل وحدة مستقلّة تبدأ في 12: 1 (لا أريد أن تجهلوا) وتنتهي في 14: 38 (فإن تجاهل ذلك فتجاهلوه). هو بولس يردّ على وضع محدّد، ويجذّر نداءاته الملموسة في أساس التعليم المسيحيّ نفسه. بدأ بولس فأعلن موضوعه: "أما في ما يخصّ المواهب الروحيّة". وجاء كلامه في ثلاثة أقسام: المواهب (12: 4- 31أ). الطريق العظمى (12: 31ب- 13: 13). جواب على السؤال المطروح (ف 14).
في مرحلة أولى يتطرّق بولس إلى ما حقّقه الروح مستعملاً لفظة "مواهب". ويأتي تأكيد (تنوّع المواهب، روح واحد) يبدأ مقطعًا (آ 4- 11) يكشف عمل الروح بالنسبة إلى الجماعة. في مرحلة ثانية يدلّ بولس التائقين إلى خيرات منظورة، على الخير الذي لا يُستغنى عنه. وفي مرحلة ثالثة يردّ بولس على السؤال المطروح بعد أن يشير إلى المبادئ الأساسيّة.
ثانيًا: الروحيّات والمواهب
إن بنية ف 12- 14 تعبّر عن فكر بولس. من جهة، تقع الروحيات في إطار أوسع هو المواهب. ومن جهة أخرى، لا معنى للروحيات (أو المواهب الروحية) إلاّ بقدر ما تُشرف المحبّةُ على عملها. فالروحيات والمواهب لا تترادفان، لأن الروحيات جزء من المواهب.
ونلاحظ بعض ميزات المواهب
* هناك علاقة بين التنوّع والوحدة (1 كور 12: 4- 11). فالخيرات، وإن اختفلت في ظهورها، تشارك في الهدف الواحد. يقدّم بولس التنوّع للكورنثيين الذين حصروا المواهب في الروحيّات. غير أن هذا التنوّع الظاهر يستند إلى وحدة على مستوى الأصل نجدها في تضمين (آ 4: الروح الذي يمنحها؛ آ 11: يعمله الروح الواحد)، وفي تكرار مثلَّث (روح واحد، ربّ واحد، إله واحد). ونجد ثلاث ألفاظ تُبرز التنوّع والوحدة وتعني الواقع الواحد من ثلاث زوايا: الموهبة، الخدمة، النتيجة التي نحصل عليها من الأعمال. وبعد آ 7، سنفهم أن المواهب هي تجلّي الروح. وتنوّع المستفيدين يدلّ على تنوّع المواهب.
* إن هذه المواهب تدلّ على تجلّي الروح، وترتدي وجهة ملموسة: كل مسيحي يختبر نتائجها داخل الجماعة. فالموهبة ترينا الروح عاملاً وهو يعمل بشكل مجانيّ دون أي استحقاق من قبلنا.
* لا معنى للمواهب إلاّ في إطار جماعيّ وفي تفكير حول الجسد. وفي 1 كور 12: 12- 27، تتداخل الصورة والواقع. هناك صورة الجسد كما عرفها العالم القديم. وهناك واقع العلاقات المتبادلة بين أعضاء الجماعة الواحدة. غير أن الصورة (أو: مثَل الجسد) هي أيضاً واقع عند بولس، لأنها تعبّر عن الوحدة. ومن خلالها نكتشف الوضع في كورنتوس. فالأشخاص يعبّرون عن نفوسهم بالنظر إلى وضعهم في الجماعة. هناك الذي يحتقرون نفوسهم لأنهم يحسّون بعقدة الضعف. وآخرون يعتبرون أن الخدم التي يقدّمها بعض الأشخاص ليست بسامية. والألفاظ عينها تعبّر عن تدخّل الله في تركيب الجسد كما في تنظيم الجماعة.
* لا نبحث عن هذه المواهب وكأننا نستطيع أن نستولي عليها. بل نحن نتقبّلها بالشكر وهي تُعطى لنا مجّانًا. يبقى علينا أن نطلب الموهبة العظمى، موهبة المحبّة.
* مكانة الروح في هذه المواهب. يُذكر الروح كالفاعل. وهناك ثلاثة حروف جرّ (بواسطة، حسب، في) في اليونانيّة، تعبّر عن دور الروح: ننال بواسطة الروح، حسب الروح، في الروح. وهذا التعدّد يتيح لنا أن ننظر إلى الواقع عينه في أشكال عمل مختلفة. مع "ديا" (بواسطة) نكتشف دور الفاعل. مع "كاتا" (حسب) المعيار والأساس. أما "إن" (في) فتحفظ معنى "بفعل" (1 كور 12: 3). وهكذا يبدو الروح العامل، الأساس، المحيط لهذه المواهب. وفي 1 كور 12: 10 تنتمي موهبتان (النبوءة، التكلّم بألسنة) إلى فئة الروحيّات في كورنتوس. جعلهما بولس في آخر اللائحة وأرفقهما بموهبة تجعلهما يصلان إلى القيمة الحقّة. وهكذا تقابل 1 كور نظرة الكورنثيين إلى الروح- المظهر والروح الذي هو ينبوع حياة في الجماعة.
ثالثًا: الروحيات وعلاقتها بالروح
لا نعرف أصل لفظة "كريسمة" (أو: موهبة). ولكننا نعرف أن بولس هو الذي أدخل هذه اللفظة إلى اللغة المسيحيّة انطلاقًا من العالم الهلينيّ. الكريسمة هي نتيجة "كاريس" (أي: النعمة) كعمل واحسان وهديّة. في روم 5: 15 ي و6: 33، تبدو اللفظة محدّدة فتعني خيرًا خاصًا، التبرير، الحياة الابدية. وفي روم 11: 29، تدلّ على الخيرات التي أعطيت لشعب اسرائيل. وفي 1 كور 1: 7 (رج آ 5)، تدلّ كريسمة على مجمل الخيرات المعطاة للجماعة من أجل تثبيتها في شهادة المسيح. وفي 2 كور 1: 11، تعود بنا كريسمة إلى خلاص نعم به بولس. وفي 1 كور 7: 7 تُوجّه كريسمة أنظارَنا إلى بناء الجماعة. يتنوّع معنى اللفظة ولكنها لا ترتبط بالروح.
رابعًا: الروحيّات والروح
قام بولس بتمييز بين المواهب (كريسماتا) والروحيات (بنفماتيكا). وهكذا وسّع النظرة إلى الروح وابتعد عن فكر الكورنثيين. عندئذ اهتمّ بالمواهب التي يعتبرها الكورنثيون علامة عن الروح كالنبوءة والتكلّم بالألسنة. وحالاً دلّ على سموّ النبوءة على التكلّم بألسنة (1 كور 14: 1). ونظر إلى الوضع على مستوى بناء الجماعة. فالذي يتكلّم بألسنة يخدم مصلحته الخاصّة. والذي يتنبّأ هو مفيد لبناء الجماعة. وإذ حدّد 14: 3- 4 هدفَ النبوءة، شدّد على هذا الفرق الأساسيّ. إن ف 14 يتحدّث عن جماعة ليتورجيّة. وصلاة الذي يتكلّم بألسن، شأنها شأن من يتنبَّأ، ترتبط بالكتاب المقدس.
في 1 كور 12- 14، اهتمّ بولس بأن يحدّد موقع طبيعة المواهب المعطاة للجماعة المسيحانيّة. فعلمُ الروح يُوجّه إلى الجميع ويبدو متنوّعًا في أشكاله الملموسة. والروح يُعطى للجميع، ولكن ظهوراته متنوّعة، لأن الروح يعطى في الأساس إلى الجماعة. لا يجهل بولس مواهب الروح وكأنها في شكل واحد، ولكنه يدلّ أن الروح يُعطى للجميع وإن أعطيت هذه الموهبة المحدّدة لهذا أو ذاك.
لا نستطيع أن نخلط بين الروح والمواهب التي يسمح لنفسه بأن يمنحها للمؤمنين. وعمل الروح ليس كما يقول الكورنثيون، ليس على مستوى المظاهر الخارجيّة. هو يعمل في الحياة اليوميّة داخل الجماعة.

د- الروح ووحدة الجماعة
إن هذا العمل المتعدّد واليومي الذي يقوم به الروح في الجماعة، هو عمل جوهريّ من أجل وحدتها. في 1 كور 12- 14، ذكّر بولس الكورنثيين الذين اعتبروا نفوسهم أدنى من الآخرين، أن مكانتهم في الجماعة لا يُستغنى عنها، وإن كانوا لا يمتلكون المواهب التي يرغب الناس أكثر ما يرغبون فيها. أما أعضاء الجماعة الذين حسبوا نفوسهم في مستوى عال، فقد دُعوا إلى أن يتذكّروا تضامن الأعضاء في الجسد. فالمواهب تُعطى من أجل خير الجميع. ولا يُحرم منها أحد. وهي تعطى من أجل بناء الجماعة بناء متناسقًا، لأن "الله ليس إله فوضى، بل إله سلام" (14: 33).
تتحقّق الجماعة باعتراف الايمان، وتعود وحدتها إلى الأصل المشترك للمواهب المعطاة لها. والروح يلعب دورًا حيويًا في توزيع هذه المواهب (1 كور 14: 4- 11).
أولاً: أساسات الوحدة (1 كور 12: 12- 13)
إذ أراد بولس أن يعبّر عن وحدة الجماعة، استعمل مثلاً معروفًا جدًا تمتزج فيه الصورة بالواقع، هو مثل الجسد. وقبل أن يطبّق المثل على وضع الجماعة في كورنتوس، بيّن أسس وحدة الجماعة. في آ 4- 11، قدّم بولس الروح كعامل وحدة أصليّ تجاه المواهب المتعدّدة. وتابعت آ 12- 13 الفكرة حول الوحدة وزادت إشارة كرستولوجيّة. وتابع موضوع الوحدة بواسطة المثَل بعد أن عبّرت آ 13 عن فكرة الكليّة. وإذ تضمّ الجماعة أعضاء ينتمون إلى مجموعات بشريّة مختلفة، فهي تقدّم نفسها كصورة مسبقة لوحدة البشريّة.
يقول لنا بولس في 1 كور 12: 13 أمرين اثنين. الأول: فنحن كلنا تعمّدنا بروح واحد لنكون جسدًا واحدًا. الثاني: وارتوينا من روح واحد. الجسد هو جسد المسيح، والعماد قد يعني طقس الماء كما يعني مجمل التنشئة المسيحيّة التي تجعلنا نغطس في المسيح. وفي هذا يلعب الروح دور وسيط في جمع المسيح إلى المؤمن.
ثانيًا: روح واحد مع الرب (1 كور 6: 17)
نقرأ: "من اتحد بالرب صار وإياه روحًا واحدًا". تجاه مغالط الكورنثيين، شدّد بولس على أهميّة الجسد واستعمل قولين يستند إليهما أهل كورنتوس: "كل شيء يحلّ لي" (آ 12). "كل خطيئة يرتكبها الانسان هي خارجة عن جسده" (آ 18. ذاك جواب بولس). إذ أراد بولس أن يعيد الاعتبار إلى الجسد الذي لا أهميّة له في نظر الكورنثيين، اهتمّ بمصيره ووضعه الحاضر وشدّد على العلاقة بين المسيحيّ والمسيح. في آ 16- 17 دلّ على التوازي بين اتحاد بزانية واتحاد بالمسيح. وهكذا أفهم الكورنثيين أنه يستحيل أن نوحّد عضو المسيح بزانية. في الحالة الأولى يصير الاثنان جسدًا واحدًا. وفي الثانية روحًا واحدًا. في آ 16، استعمل بولس لفظة "جسد" (سوما) لا "البدن" (ساركس) ليدلّ على الواقعيّة بين الوحدتين. في آ 17، لجأ إلى "الروح" ساعة انتظرنا "الجسد". وفي آ 19 حدّد وجهته فقال: جسد المسيحيّين هو هيكل الروح القدس.
إن تأكيد آ 17 لا يقود إلى فكرة تماه صوفيّ. لكن "الروح" يدلّ على عظمة جسد المسيحيّ ويعبّر عن الوضع الجديد الذي ولده عمل المسيح المؤسّس (آ 20). يتحدّد موقع المسيحيّ بين معطى حاضر هنا ومستقبل يجب أن يتحقّق. من هنا نداءات بولس المستندة إلى الوضع الحاضر. فالوحدة في الجماعة تمرّ في الاتحاد بالمسيح. وهذا الروح الواحد يبيّن ما هو منذ الآن جسد المسيحي: إنه خليقة جديدة لا يُفهم من دون العودة إلى الروح القدس. وهكذا يبدو الروح مرتبطًا بالمسيح. فيلعب دور وساطة في الاتحاد بين المسيح والمؤمن. والاتحاد بالمسيح يتمّ بواسطة الروح الذي هو ميزة العهد المسيحانيّ، فيجعلنا نفهم هذا النصّ على ضوء نظرة عامة من التماهي بين الروح والمسيح: فالوحدة بين المسيحي والمسيح تتحقّق بمشاركة في خير (هو الروح) يمتلكه المسيح. وهكذا يكون الروح من به نختبر المسيح القائم من الموت.
ثالثًا: الروح والشراكة
هناك نصان بولسيان يربطان رباطًا واضحًا بين الروح والشراكة (كوينونيا، 2 كور 13: 13؛ فل 2: 1).
* 2 كور 13: 13
في النص الأول (2 كور 13: 13) نقرأ تمنيًا نهائيًا يمتاز باتساعه: اعتاد بولس أن يذكر نعمة الرب يسوع المسيح. أما هنا فنجد توسعًا كان الدافع إليه سياق تاريخي نجده في 2 كور10- 13. سيطرت الانقسامات في الجماعة، فأجبر بولس على التلفّظ بكلمات قاسية ضد الخصوم. لهذا انتهت الرسالة بتمنّ حول المحبّة (أغابي) والشراكة. والعبارة الاحتفاليّة التي نقرأها في 2 كور 13: 13 تقرّر أن تضع حدًا لكلّ النزاعات التي نجد آثارها في هذه الرسالة (تحدّث بولس عن روح آخر في 2 كور 11: 4). وحين ذكر في النهاية الشراكة والروح، نزع كل التباس، وقدّم لنا هذه الآية من الوجهة الديناميكيّة. فالنعمة والمحبّة والشراكة أعطيت، ولكن بولس يدعو الجماعة لكي تعيش من هذه الخيرات. وهكذا يُترجم الانشداد بين ما هو حاضر الآن، وما ليس هو بعد هنا، بين صيغة الحاضر، وصيغة الأمر. ثم إن الروح يلعب دورًا هامًا في الكلام الذي وجّهه بولس إلى جماعة كورنتوس.
في 2 كور يُسهم الروح في إعطاء الجماعة المسيحيّة الجديدة خاصيّتها (2 كور 3). وهو أيضًا عربون الملء الآتي (2 كور 1: 22؛ 5: 5). وإذ دعا الجماعة لكي تكتشف أسسها وينابيع وحدتها، جاء هذا التمنّي في موضعه. بدأ بـ "نعمة الرب يسوع المسيح" وانتهى "بشراكة (أو شركة) الروح القدس". هنا نقول: الروح يعطي الشراكة، ونحن نمتلك الروح بواسطة هذه الشراكة. وإذا عدنا إلى 1 كور 12: 4- 11، 12- 13 و6: 17، نعرف أن الروح يتيح الاتحاد بين المسيح والمسيحيين. وهو الذي به تأتي الخيرات إلى الجماعة. ولكنه يشكّل أيضًا المناخ الذي فيه تتمّ هذه الشراكة.
إن التوازي بين العبارات الثلاث في 2 كور 13: 13 (نعمة ربنا، محبة الله، شركة الروح)، وإعطاء دور للروح في تكوين الجماعة المسيحيّة، يلعبان دورًا في فهمنا لعمل الروح كذلك الفاعل في الجماعة. هنا نقابل هذه الآية مع روم 5: 1- 5 حيث عمل الله تجاه الجماعة يُفهم كعطيّة تتحقّق بعمل المسيح ومعونة الروح. ولكن الروح يلعب أيضًا دورًا ناشطًا تجاه الجماعة المسيحيّة.
"شركة الروح القدس" هي في الوقت عينه مشاركة المسيحيّين في هذه القوّة التي أعطيت لهم، وتأكيد على عمل الروح القدس تجاه الجماعة. إن الله يجعلنا نبلغ إلى مشاركة يجب أن تتجدّد دومًا. والجماعة تتقبّل الروح وتحيا منه. وفي الوقت عينه، هذا الروح هو ينبوع هذه الشراكة.
* فل 2: 1
إن عبارة "شركة الروح" في فل 2: 1 هي قريبة من عبارة 2 كور 13: 13. ولكن السياق يختلف عن الآخر. إن فل 2: 1- 4 يرتدي شكلاً احتفاليًا ويهيّئ نشيد آ 6- 11. كما هو جزء من مجموعة تصل إلى آ 18. إن 2: 1- 18 يشكّل نداء موجّهًا إلى الفيلبيّين، يتركّز أساسًا على نشيد آ 6- 11، ولكنه لا يهمل الرباطات التي تضمّ الجماعة إلى الرسول (آ 1- 2، 12- 18). قبل أن يحرّضهم بولس على الوحدة، يذكر أسس الوحدة. وبما أننا في جو الشراكة نفهم أن الروح المذكور هنا هو روح الله.
بدا الروح في الرسائل البولسيّة كذاك الذي يتيح الوحدة في الجماعة: الروح عينه يحرّك الوحدة ويدلّ على أنه المحيط الذي فيه تحقّق الجماعة وحدتها، كما يدلّ على ذاك الذي يجعل الاعضاء يشاركون في هذه الوحدة. وبالمحبّة التي هي ثمر الروح تنمو الشركة في الجماعة.

2- الروح والرسول
أفرد بولس على مدّ رسائله مكانة هامّة في حياة الجماعات. ولكن هذا لا يعني أنه يحاول بنفسه أن يُفلت من عمل الروح. لهذا سوف نتوقّف عند الدور الذي يلعبه الروح في حياة بولس وفي عمله الرسوليّ.

أ- بولس والروح
حين نتعرّف إلى دعوة بولس (غل 1: 15- 16)، نرى أنه لا يقول شيئًا عن الروح. إذا تطلّعنا إلى الحديث عن الروح في غل، نقسم هذه الرسالة قسمين. في ف 3- 4، يرد الروح 18 مرة. ولا يرد "الروح" مرة واحدة في غل 1- 2 حيث يحدّثنا بولس عن دعوته وعلاقته بسائر الرسل. ففي خبر بولس عن دعوته، يشدّد على استقلاليّته عن أورشليم. فقد نُقل إليه إنجيله وتعلّمه بوحي من وحي يسوع المسيح. وقد أوحاه له الله في ابنه (غل 1: 15- 16). وهكذا تركّز كل الخبر على شخص يسوع المسيح. تلك سمة أساسيّة، لأن هذا الوحي يجعله على مستوى سائر الرسل.
وهكذا تجنّب بولس كل مزج. دعوته لا تعود إلى عمل الروح، بل هو رأى يسوع ربنا (1 كور 9: 1) الذي عليه تأسّست دعوته. وخلال الرسالة، ليس قائد الرسالة هو الروح، بل الرب القائم من الموت.
وبدا بولس متحفّظًا أيضًا تجاه الخبرات الفائقة التي بها يفتخر بعض المسيحيين أو بعض الذين يسمّون نفوسهم رسلاً. لا يخفّف الرسول من هذه الخبرة ولكنه يدلّ على ما فيها من التباس. فلا يُحكم على الرسل على هذا المستوى. هناك كورنثيون يتمسكون "بالروحيات" ولاسيّما بالتكلّم بألسنة. حذّرهم بولس من اعتبار مفرط لموهبة لا تبني الجماعة، مع أنه نعم بها هو (1 كور 1: 18- 19). أكرهه خصومه فأعلن أنه ليس أقلّ من الرسل في شيء: "فالعلامات على أني رسول أظهرتها بكل صبر بينكم، من معجزات وعجائب وأعمال خارقة" (أو أعمال قدرة، 2 كور 12: 12). يشير هذا النصّ إلى أعمال لافتة ترتبط بنشاط الرسول. فالوضع الهجومي وحده هو الذي دفعه إلى ابراز هذه الظواهر الخارقة. هذا التحفّظ لا يدهشنا عند بولس، لأن الروح لا يرتبط عنده بمثل هذه الامور. بل بالحكمة، والتواضع وآلام المسيح، والضعف. هذا ما يميّز الرسول.
وربط بولس إرساله إلى الأمم بالقائم من الموت، فما أبرز عملاً خاصًا من الروح. مع أن كل واحد استطاع أن يختبر قوّة الروح الذي يعمل في كرازته (1 كور 2: 4؛ 1 تس 1: 5؛ روم 15: 19). إن عمل الروح يشهد لحقيقة الكرازة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية اعلان الكلمة يُظهر الروح (غل 3: 1- 5). فالروح يشهد على مصداقيّة الكرازة الرسوليّة لأنه قوّة يقينيّة. وبما أن الرسول يتوجّه إلى جماعات جاءت من العالم الوثني، فالروح يعمل في هذه الجماعات بحيث يقرّب بولس بين الروح والوثنيين (غل 3: 14: بركة ابراهم إلى الوثنيين فننال بالايمان الروح). لقد دلّ بولس على أن الروح حاضر في النشاط الرسولي، ولكنه لا يربط الرسالة بالروح (كما هو حال الأنبياء في العهد القديم)، كما أن الروح لا يوجّه الرسالة. فالقائم من الموت هو مبدئ الرسالة.

ب- الروح والرسل
إن الروح يلعب دورًا هامًا في النشاط الرسوليّ إلى حدّ كبير بحيث إن بولس يميّز الخدمة (دياكونيا) الرسوليّة كـ "خدمة الروح" (2 كور 3: 8). فالرسل هم "خدّام عهد جديد، لا عهد الحرف، بل عهد الروح" (2 كور 3: 6). فالروح هو العامل الأول في قلب النشاط الرسولي: "نعم، تبيّن أنكم رسالة المسيح جاءت على يدنا، وما كتبناها بحرف، بل بروح الله الحيّ" (2 كور 3: 3).
ويدافع بولس عن نفسه في 2 كور 6 فيشدّد على "النزاهة والمعرفة وطول البال والرفق" ويصل إلى "الروح القدس" أو "روح القداسة". هذا الروح هو روح النشاط الرسولي. والروح هو العامل في قلب هذا النشاط: حبّ بدون مواربة، كلمة الحقيقة وقدرة الله.
إن "امتلاك" الروح القدس يتيح للرسول أن يعطي رأيه في أوضاع جديدة لا يستطيع أن يسندها إلى كلمة الربّ (1 كور 7: 40). وهناك أوضاع يعطي فيها بولس رأيه الشخصي (آ 25). وفي ظروف أخرى يعلن انتماءه إلى المسيح.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM