الفصل التاسع:الروح البارقليط

الفصل التاسع
الروح البارقليط في إنجيل يوحنا

إن خطب الوداع في ف 13- 17 تتضمّن خمسة توسيعات حول البارقليط. ارتبطت بعضها ببعض بشكل متراخ، ولكنها جاءت قريبة فيما بينها. بما أننا هنا أمام النصوص الوحيدة التي تتحدّث عن البارقليط فتدلّ به على الروح القدس، نبدأ فنوردها ثم نفسّرها.

1- بارقليط آخر (14: 16- 17)
"وأنا أطلب من الآب فيعطيكم بارقليطًا يبقى معكم إلى الأبد. هو روح الحقّ الذي لا يقدر العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه. أما أنتم فتعرفونه، لأنه يقيم معكم وهو فيكم"
تعود أصالة هذا المقطع الأول إلى أنه يقدّم الروح كـ "بارقليط آخر". فالبارقليط الأول هو المسيح الذي بصفته متشفّعًا (1 يو 2: 1) ينال من الآب عطيّة روح الحقّ. لسنا هنا أمام عطيّة ثابتة، تبقى معهم، مقابل ذهاب يسوع. إن لفظة "معكم" ترتبط بعبارات نجدها مرارًا في العهد القديم، وتدلّ على حضور الله ومساعدته لأصفيائه. منذ هذا القول الأوّل سمّي البارقليط "روح الحقّ". جاءت هذه العبارة في قمران على مستوى كوسمولوجيّ (على مستوى الكون) ومستوى أخلاقيّ. أما في انجيل يوحنا، فالتعارض بين عالم لا يستطيع أن يتقبّل الوحي (1: 10؛ 8: 23؛ 15: 18 ي؛ 16: 8) وبين الروح الذي سبق له وعمل في التلاميذ، يتيح لهم أن يتعرّفوا إلى عمله في يسوع. فالفعل "رأى" يدلّ على نظرة إلى شخص يسوع. فالعين والعقل يريان سرّ شخص يسوع وحضور عطيّة الروح فيه. بما أن العالم لا "يرى" فهو لا يستطيع أن يتقبّل في يسوع الروح القدس. أما التلاميذ فيرون حضور الله لأنه يقيم معهم في يسوع. وفي الوقت عينه يسمعون الوعد الذي وجّهه إليهم يسوع بحضور أكثر حميميّة وأكثر حياة.

2- الروح يعلم، يذكّر (14: 26)
"ولكن البارقليط، وهو الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي، سيعلّمكم كل شيء ويجعلكم تتذكّرون ما قلته لكم".
يقابل القول الثاني بين زمنين في الوحي: الزمن الذي فيه أقام يسوع قرب تلاميذه. وزمن تعليم البارقليط. يوصف البارقليط هنا بأنه الروح القدس. كنا ننتظر توسّعًا حول دور التقديس الذي يقوم به الروح في خطّ حز 26: 27- 28؛ مز 51: 13. ولكن النصّ شدّد بالأحرى على دور الروح في التعليم. هذا الروح يرسله الآب باسم المسيح. تعبير متواز في الانجيل الرابع وهو يتضمّن ملء الاعتراف بهويّة المسيح، منتظر اسرائيل وابن الله (1: 12؛ 20: 31). تشفّع يسوع من أجل إرسال الروح (آ 16) فقابل التشفّع إيمان التلاميذ الذين تقبّلوا الروح الذي يواصل عمل المسيح.
نجد فعلين يميّزان عمل الروح: علّم وذكّر. يجب أن نفسّر الواحد بالآخر. حتى الآن، كان يسوع المعلّم السامي، ولاسيّما في الهيكل، موضع الوحي (يُستعمل فعل علّم في 6: 59؛ 7: 14، 28، 35؛ 8: 20، 28؛ 18: 20). أيكون تعليم الروح جديدًا بالنسبة إلى تعليم يسوع؟ أتراه يسمو عليه؟ كلا ثم كلا. فإن آ 26 تبيّن أن تعليم البارقليط هو في تواصل مع تعليم المسيح.
التذكّر في نظر يوحنا هو أبعد من عمل بسيط من أعمال الذاكرة. إنه ولوج في المعنى العميق لكلمة من الكلمات أو حدث من الاحداث. وذلك حين نربطه بمجمل تاريخ الخلاص (2: 17، 12، ارتبط طرد الباعة بالقيامة، 12: 16). حين نفهم بفضل روح الحقّ، أن الأحداث الواردة وكل التاريخ السابق يُستعاد ويكمَّل، وأن كل ما يأتي هو امتداد له، نصل إلى الوعي الانجيليّ الذي نكتشفه عند يوحنا.
حين نأخذ بعين الاعتبار السياق الاجمالي منذ آ 22، نفهم طريقة ظهور المسيح لتلاميذه: إقامة الآب والابن لدى الذين يحفظون كلامه (آ 23). ولكن حين تأتي هذه الكلمة فهي لا تُحفظ وتثمر بدون معونة الروح القدس، روح الحقّ الذي يُدخل الكلمة إلى القلوب ويحمّلها الحياة.

3- ينبثق، يشهد (15: 26- 27)
"ومتى جاء البارقليط الذي أرسله إليكم من الآب، روح الحقّ المنبثق من الآب، فهو يشهد لي. وأنتم أيضًا ستشهدون، لأنكم من البدء معي".
يتحدّد موقع القول الثالث في مقطع يعلن الاضطهاد فيبدو متوازيًا مع مر 13: 11: "وعندما يأخذونكم ليسلموكم، لا تهتمّوا من قبل كيف تتكلّمون، بل تكلّموا ما يُوحى لكم في حينه، لأن الروح القدس هو المتكلّم لا أنتم". إن آ 26- 27 في يوحنا تبدوان وكأنهما قد صارتا توسيعًا. لهذا، افترض بعض الشرّاح أنهما في الاصل شطران يبدوان كما يلي: حين يأتي البارقليط يشهد لي. وأنتم ستشهدون لأنكم من البدء معي.
إذا قابلنا هذا القول كما يرد الآن في يوحنا مع ما يوازيه لدى الازائيين، نلاحظ أن الانجيليّ الرابع اهتمّ بأن يحدّد أصل البارقليط، روح الحقّ. فالروح في أصله ينتمي إلى العالم الالهي (3: 8). في 26:15، المسيح هو الذي يرسله. وفي 14: 16، 26، الآب هو الذي يرسله باسم المسيح أو استجابة لصلاة المسيح. وهكذا نكون أمام تطوّر في التعبير العقائديّ.

أ- الانبثاق
إن عبارة "المنبثق من الآب" Ho para tou patros ekporeuetai قد حرّكت عدّة جدالات عقائديّة (Filioque). هل يتحدّث النصّ عن الانبثاق الأزليّ للروح أو عن إرساله في الزمن، في العالم؟ لا نستطيع أن نطرح السؤال بهذا الشكل إذا أردنا أن نفهم فهمًا صحيحًا نصّ يوحنا. فمن الوجهة الغراماطيقيّة (أي الصرف والنحو) ekporeuesthai (خرج) يوازي Exerchesthai الذي يُبنى مع Ek أو مع Para. وفي جملة موسّعة مثل آ 26، يجب أن نلاحظ الاختلافات: في حالة أولى، Ego (أي أنا) يبرز كفاعل فعل Pempo (أرسل) فيدلّ على سلطة الابن في إرسال الروح: نستطيع القول إنه هو الذي يطلبه من الآب ويمنحه للتلاميذ. في حالة ثانية، يوصف الروح الحقّ انطلاقًا من أصله. فكأنه يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالآب. ثم يلعب دورًا شخصيًا، بحيث لا نجد الصيغة الحياديّة (neutre) التي ترافق Pneuma في اليونانية، بل صيغة المذكّر Ekeinos (هو) كفاعل فعل "شهد".
إذن، علاقة الروح هي في الوقت عينه مع الآب والابن كما يقول 16: 13- 15. فالنصّ يشير بشكل واضح إلى الدور الذي يلعبه الروح، ولكنه يجعلنا نستشّف سرّ أصله. إن مرمى البرهان هو أن إرسال الروح لا بُعد له إلاّ إذا تأكّدت العلاقة بالآب. لهذا كانت العبارة "ينبثق من الآب". وهكذا نجد في أشكال اللغة البيبليّة، وحيًا عن أصل الروح. والأخذ بهذه النقطة يقودنا إلى أن نقيم موازاة بين هويّة الروح وهويّة الابن، لأن الاثنين أرسلا من عند الآب.
هذا النصّ هو في أساس قانون الايمان الذي تُلي في مجمع القسطنطينيّة (381): to ek tou Patros ekporeuomenon. ولكن المجمع استعمل اسم الفاعل فأعطى قيمة لا زمنيّة لما ظلّ في النص اليوحناوي مرتبطًا بالإرسال. واللاهوتيون اليونان جعلوا من فعل Ekporeuesthai الفعل الخاص للحديث عن انبثاق الروح القدس. ولكننا صرنا هنا أمام تخصيص يتجاوز حرفيّة النصّ، مع العلم أن الفعل يعني: خرج، مضى، جاء (مت 17: 21؛ 20: 29؛ مر 10: 17، 46؛ 11: 19؛ لو 3: 7؛ أع 9: 28؛ 19: 12).

ب- الشهادة
الشهادة مدلول أساسيّ في لاهوت يوحنا. ونشير إلى أنه في سلسلة الأقوال حول البارقليط، هذا القول يتحدّث وحده عن الشهادة. نحن هنا بلاشكّ أمام مدلول هام، لأن الروح يعتبر في سياق آخر على أنه الشاهد الشاهد. نقرأ في 1 يو 5: 6: "الروح هو الشهادة، الروح هو الذي يشهد، لأن الروح هو الحقّ". ففي نظر يوحنا، ليس الشاهد فقط ذاك الذي يعلن ما رأى وسمع، بل ذاك الذي يلتزم بأن يجعل "القضيّة العادلة" تنجح، ويفسّر ما رأى وما سمع.
ويعطي يو 5 لائحة الشهود من أجل يسوع (آ 31- 43). لا يُذكر الروح بشكل مباشر، بل الكتاب المقدّس (آ 45- 47). عاد يسوع إل شهادة موسى، كما أعلن أن أشعيا رأى مجده (12: 41). مثل هذه القراءة تتجاوز القراءة اليهوديّة التقليديّة وتثير معارضة السامعين. هكذا لجأ الانجيلي الرابع إلى استعمال شخصيّ للكتاب المقدّس فاستند إلى نصوص عرفتها الفقاهة المشتركة. وكما أن الروح يعلّم الرسل تفسير الكتاب (14: 26)، فهو يلقي الضوء على العلاقة بين العهد الأول وعمل يسوع الذي هو ملهم الكتب المقدّسة وكاشف معناها التام.
إن شهادة التلاميذ (5: 27) تترافق مع شهادة الروح (رج أع 5: 32): هو البارقليط الذي يُسند عملهم. وإذا أخذنا السياق بعين الاعتبار، فنحن قبل كل شيء أمام جواب يُعطى من فوق أمام المحاكم (رج مر 13: 11). الروح القدس هو "منذ البدء" كافل الأمانة للتقليد الرسولي، والمعلّم الذي يتيح لنا أن نلج في الحقيقة كلها (16: 13) لنقدّم جوابًا على حاجات الساعة.

4- يجيء الروح، يوبّخ (16: 7 ب- 11)
"إن كنت لا أذهب لا يجيئكم البارقليط. أما إذا ذهبت فأرسله لكم. ومتى جاء وبّخ العالم على الخطيئة والبرّ والدينونة. أمّا على الخطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي. وأمّا على البرّ فلأني ذاهب إلى الآب ولن تروني. وأمّا على الدينونة فلأن سيّد هذا العالم قد دين".
في هذه الخطبة الوداعيّة الجديدة، التي توازي في جزء منها ف 14، قدّم يسوع كسبب للتعزية ضرورةَ ذهابه لكي يأتي البارقليط. فكما أنه بعد موته، سوف يعمل تلاميذُه أعمالاً أعظم (14: 12)، كذلك في سيستطيعون مجابهة العالم بمساندة البارقليط. ولكن أين يتدخل الروح القدس؟ على ساحة العالم أو في قلب المؤمنين. هو "يوبّخ" العالم، يدلّه على أخطائه. وهنا تتوزّع التفاسير من أكثر تفاؤلاً إلى أكثر تشاؤمًا: إن البارقليط يأتي بالعالم إلى التوبة. أو: إن البارقليط يحكم على العالم حكمًا لا استئناف فيه.
إذا أخذنا بعين الاعتبار 14: 17، لا نرى كيف يستطيع العالم أن يتقبّل التنبيه من البارقليط، وهو ما هو عليه من شرّ. ونحن نقرأ في آ 11 أن رئيس هذا العالم قد حكم عليه. فإذا أردنا أن نفهم التعبير، يجب أن ننطلق من صورة "المحكمة السماويّة" كما في أي 1- 2 حيث يظهر أمام الله المتّهم، وكما في دا 10: 13 حيث يظهر المتشفّع من أجل شعب الله. فالبارقليط يظهر هنا في وظيفة "المتّهم" على مثال موسى (يو 5: 45). يدلّ على خطيئة العالم في مجال الخطيئة والبرّ والدينونة. فالصورة هي التي نراها في رؤ 12: 9- 10 حيث يبدو الشيطان متّهم الاخوة.
هذه الصورة التي تعود إلى عالم الرؤى والجليان، تحتاج أن نوضحها. إن البارقليط يتدخّل في قلب المؤمن ليدلّ في وجه اعتراضات العالم واتهاماته، على أن المسيح كان على حقّ. وهذا التدخّل ملحّ إلى درجة كبيرة، لأن الحرم الذي رفعه المجمع (أو: الجماعة) اليهوديّ (16: 1- 4)، قد رمى التلاميذ في حيرة وضياع.
إن الشرح المتعلّق بالخطيئة واضح: فالخطيئة في انجيل يوحنا هي رفض الايمان (3: 19- 21؛ 9: 41؛ 12: 37- 38). والخاطئ الأكبر هو الذي يعتبر أنه "يرى" فينغلق على النور. ورفضُ الايمان يقود إلى الموت (8: 24). يسوع هو بلا خطيئة (8: 46). ومع ذلك، فقد حكم عليه اليهود كمجدّف، لأنه قال إنه مساو لله. (5: 18؛ 10: 33). إذن، لا يستطيع البارقليط أن يُظهر خطيئة العالم إلاّ إذا بيّن شرعيّة اعلاناته حين يتكلّم عن نفسه.
وبعد الخطيئة، البرّ. عن أيّ برّ يتكلّم يوحنا؟ هنا لا نعود إلى بولس الرسول، بل إلى تمثّل من النمط الجليانيّ. فيسوع هو البار، بمعنى الصادق (أع 3: 14؛ 7: 52). ونتذكّر أش 53: 11 حول "عبد الرب": "يرى ثمرة تعبه ويكون راضيًا. وبوداعته يبرّر (في العبريّة: ي ص د ق) عبدي الصدّيق (ص د ي ق في العبريّة) كثيرين من الناس ويحمل خطاياهم". والنشيد المسيحيّ المتهوّد الذي نقرأه في 1 تم 3: 16 (تبرّر في الروح) يلقي ضوءًا على هذه الفكرة. فبتدخّل قدرة الله التي تعطي الحياة، أقيم المسيح "بارًا" ساعة تمجّد لدى الآب. هنا يبيّن البارقليط للمؤمنين أن عودة المسيح إلى الآب (16: 5) هي علامة انتصاره وتمجيده (17: 1- 5). وهي في الوقت عينه عربون تدخّله الذي يعين أخصّاءه فيتشفّع من أجلهم.
والشرح الثالث حول الدينونة ينبّهنا إلى أننا في أسلوب قانونيّ لدى قراءتنا 16: 7ب- 11. فالدينونة (والحكم) على رئيس هذا العالم قد صدرت ساعة رُفع ابن الانسان (12: 31). نحن هنا في ذات الاسلوب الجليانيّ الذي نجده في سفر الرؤيا (12: 9- 10: اليوم تمّ النصر لإلهنا ولمسيحه بعد أن سقط التنين أي الحيّة الجهنميّة). إذن، تمّ النصر بموجب القانون، فيبقى التنفيذ رغم كل حشرجات الشيطان. غير أن البارقليط يسلّم إلى المؤمن روحانيّة أشخاص قد انتصروا بحسب قول يسوع: "ستعانون الشدّة في العالم، ولكن تشجّعوا فأنا غلبت العالم" (16: 33).

5- متى جاء أرشد (16: 12- 15)
"عندى كلامي كثير أقوله لكم بعد، ولكنكم لا تقدرون أن تحتملوه. فمتى جاء روح الحقّ أرشدكم إلى الحقّ كله، لأنه لا يتكلّم بشيء من عنده، بل يتكلّم بما يسمع ويخبركم بما سيحدث. سيمجّدني لأنه يأخذ كلامي ويقوله لكم. كل ما للآب هو لي. لذلك قلت لكم: يأخذ كلامي ويقوله لكم".
إن القول الأخير حول البارقليط يرتبط بالقول الذي سبقه بواسطة الضمير "هو": متى جاء هو (آ 13). غير أنه يتميّز عنه. فالبارقليط لم يعد هنا المدافع، بل موجّه المؤمنين في طريق الحقّ. والفعل الذي يرد في البداية (آ 12)، يقابل زمنين في الوحي، كما في 14: 25- 26. وهكذا يكون 16: 12- 15 قريبًا جدًا من القول الثاني (14: 26). بل هو يستعيده ويتعمّق فيه.
ترتبط عبارة "يقودكم إلى الحقّ كلّه" بالمزمور: "اهدني في حقيقتك وعلّمني، أنت الله مخلّصي" (مز 25: 5). فالحقيقة تدلّ في نظر صاحب المزامير على شريعة الله كقاعدة سلوك. وفي الترجمة اليونانيّة تقوّى المعنى الذي قرأناه في الاصل العبريّ. "اهدني (أرجو أن تقودني) نحو معرفة أكمل لحقيقتك (= لفرائضك) وعلّمني". لم نعد في نص يوحنا أمام قاعدة سلوك، بل أمام ولوج عميق في تعليم يسوع. بعد ذلك، سوف نجد مقابلة بين الكلام بالامثال (16: 29) والكلام المكشوف (16: 29): هذا الكلام الذي يصل إلينا بشكل مباشر، يقدّمه البارقليط باسم المسيح ويحلّ محلّه.
وتقدّم آ 13ب (يتكلّم بما يسمع، ويخبركم بها يحدث) تبريرًا ينطلق من أصل الوحي (العقل المتكلّم عند يوحنا يدلّ عادّة على الوحي). كان يسوع قد أعلن أن تعليمه لا يأتي منه، بل من الآب الذي أرسله (7: 16). أما هنا فيُقال عن الروح القدس أنه ينقل ما سمعه. ويفسّر سماعُ الروح القدس للآب بعبارة أخرى: "يأخذ ممّا هو لي". وما "هو لي" هو ما يمنحه الآب لابنه (آ 15أ). فبكلمات بسيطة جدًا، يجعلنا الانجيل نستشفّ سر الاتصال في الله. وهكذا نشاهد سلسلة من "النقل": الآب ينقل كل شيء إلى الابن (رج مت 11: 27). والروح يأتي إلى الابن ليستقي التعليم الذي سينقله إلى التلاميذ.
وهدف هذا التدخّل هو تمجيد المسيح. فالفعل "مجّد" الذي هو مهمّ جدًا في انجيل يوحنا، لا نجده هنا إلاّ في الأقوال حول البارقليط، وهكذا يكون هنا ليدلّ على الغاية الأخيرة لتدخّله. فالمسيح طلب في حياته، لا مجده الخاص، بل مجد الآب (7: 18؛ 8: 54). وفي ساعة انتقاله، طلب من أبيه أن يمجّده لكي ينال البشر الحياة الأبديّة (17: 2). ومجدُ المسيح هذا هو إشعاع سلطانه الخلاصيّ (12: 36) بالتوافق مع إرادة الآب (3: 16). ويكون البارقليط العامل في هذا المجد، لأنه يُنمي التلاميذ في الايمان فيكشف لهم الأمور الآتية.
في هذه الظروف يكون المعنى الأساسي لفعل "أخبر" (كشف) هو كشف المعنى الاسكاتولوجيّ الذي يرتبط بكلمة المسيح وعمله. فكما أن البارقليط بالتذكّر يجعل التلاميذ ينمون في فهم أقوال المسيح (14: 26)، كذلك فهو يبيّن لهم أن سرّ الخلاص الذي أعلنه الأنبياء قد تحقّق الآن. وهذا الوحي بالنسبة إلى ما سيأتي يرتبط بنظرة يوحنا إلى الساعة (4: 21؛ 5: 25).
غير أننا لا نستبعد لهذا الفعل معنى "أعلن المستقبل"، حين نعرف أن يوحنا يستعمل ألفاظه مرارًا في معنيين. هذا ما نجده في سفر الرؤيا حيث نسمع تعليم المسيح ينقله الروح إلى الكنائس (رؤ 2- 3). كما نسمع إعلانًا يقول إن قوى الشيطان لن تتغلّب على عروس الحمل. فوظيفة الوحي لدى الروح لا تنحصر في الاضاءة على علاقة الابن بالآب، بل تشير أيضًا إلى "زمن الكنيسة"، فتجعلنا ندرك كيف تستطيع الكنيسة أن تعيش السرّ الفصحيّ.

خاتمة
حين انطلقنا من تعليم يوحنا حوله البارقليط. تعرّفنا إلى وعد الروح القدس الذي أعطاه يسوع لتلاميذه خلال الاضطهادات (مر 13: 11 ومر). وقد وسّع الانجيليّ هذه الوجهة وعمَّقها، لأن دور البارقليط لا ينحصر في أزمة من الأزمات، بل يمتدّ ويقوم بعمل داخلّي في قلب الرسل، بعد أن أعطي ليقيم معهم إلى الأبد (14: 16- 17). سُمّي الروح في العالم اليهوديّ "روح النبوءة". ولكن تحدّد موقعُ عمله في الماضي. فبحسب نظرة المعلّمين، ابتعد الروح عن اسرائيل بعد الأنبياء حجّاي وزكريا وملاخي. أما في التقليد المسيحي، فقد أعلن يوحنا آنيّة عطاء الروح واستمرار وجوده في قلب المؤمنين (14: 17، مع فعل لبث، أقام).
يبدو أن يوحنا توخّى أن يوضح تمثّلات المؤمنين في العالم اليهودي وفي الجماعة المسيحية. فمن قول إلى قول نلاحظ المترادفات بين البارقليط وروح الحقّ والروح القدس. كانت صورة المتشفّع. أخذها يوحنا وحوّلها فأضحت صورة شخصية. فالبارقليط لا يعمل داخل الصلاة كما عند بولس الرسول (روم 8: 23، 26- 27)، بل كموجّه في الحقّ كله، لأنه روح الحقّ. هي عبارة تعود في الأصل إلى قمران، ولكنها تظهر في مجالا مختلف كل الاختلاف. لم نعد أمام الجهاد الخلقيّ ضد روح الاثم، بل أمام ولوج في الوحي الذي حمله المسيح. واللافت هو أن الأفعال والعبارات التي تصف عمل البارقليط، تتسجّل في إطار المعرفة: عرف، ذكّر، شهد، ردّ ووبّخ، أدخل في الحقّ، تكلّم، أخبر وكشف. وهو إذ يقيم إلى الأبد مع التلاميذ، فهو يحفظهم في الأمانة للتعليم الذي تلقّوه من البدء. ونلاحظ كما في المواعيد المتعلّقة بالروح أن موضوع الكلمة يرتبط بموضوع الروح ارتباطًا وثيقًا.
وما يلفت نظرنا أخيرًا، هو تركيز هذا التعليم على يسوع المسيح. فكل قول، وإن اختلف شكله، يشدّد على دور المسيح في إرسال البارقليط. وهكذا قيل إن البارقليط هو "أنا" المسيح، هو مسيح آخر. ومجيء المسيح الذي أعلن مرارًا يتمّ في مهمّة الروح. ومع ذلك، فالروح لا يحلّ محلّ المسيح "وكأنه يلغيه". فرسالته تقوم بأن يمجّد المسيح، فيجعل كلمته تثمر، ويدلّ رغم اعتراضات العالم، أن المسيح هو الغالب، وأن سرَّ الحياة يكمن في عبور مسيرته الفصحيّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM