الفصل الحادي والعشرون: مديح الحكمة.

 

الفصل الحادي والعشرون

مديح الحكمة (24:1 - 34)

1- المقدّمة

هذا الفصل الذي هو أشهر فصول الكتاب بسبب التعليم الذي يقدّمه والجمال الشعريّ الذي يزيّنه، مؤلَّف تأليفًا متوازيٌّا، ويُقسمَ قسمين. في الأوّل (آ 1 - 11) خطبة الحكمة المشخَّصة. هي تبدو كشخص يقول: »خرجتُ من فم العليّ« (آ 3). وفي القسم الثاني (آ 22 - 34)، اعتبارات خاصّة يقدّمها الكاتب حول الحكمة وعلاقتها بشريعة العليّ.

تبدأ الحكمة فتتكلّم. تنشد، تعلن مجدها وسط شعبها، شعب ا؟، كما قال السريانيّ. أصلها من ا؟ ونشاطها في السماء، وعلى الأرض. وتورد ما قاله ا؟ لها: أين يجب أن تقيم. وترسم صورتها المحبوبة عبر الأشجار ولا سيّما الأرز والزيتون. ثمّ تدعو تلاميذها لكي تستضيفهم لديها: »تعالوا إليّ أيّها المشتاقون« (آ 19). ولكن كيف نجد الحكمة؟ هي في الشريعة. فقد تماهت الحكمة مع الشريعة. يكفي أن نمارس الشريعة لنقتني الحكمة التي تقابَل بأشجار الفردوس وأنهارها. أجل، عالم الحكمة هو عالم جنّة ا؟.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 1. مديح الحكمة هو العنوان الذي نجده في المخطوطات، ولا ينطبق إلاّ على آ 1 - 22: ما هي الحكمة وما هو دورها في الخلق وفي الخلاص؟ بما أنّ الحكمة موجودة قبل الخليقة، فهذا يعني أنّ الشريعة موجودة منذ الأزل. هذا ما قاله التقليد اليهوديّ اللاحق. أمّا المسيحيّون فتأثّروا بهذا التعليم للكلام عن الثالوث وعن الكلمة الذي هو في حضن الآب (يو 1:1ي). الحكمة تعيش في حياة حميمة مع الربّ. هي موجودة في كلّ مكان، وتسود الكون. لكنّها أقامت في شعب إسرائيل، في صهيون، في الخيمة المقدّسة من أجل الخدمة الليتورجيّة.

آ 2. العليّ. أي جماعة الربّ وجماعة القدّيسين. رج 15:5؛ تث 32:2 - 4؛ 1 أخ 28:8. في السريانيّ: جماعة ا؟.

آ 3. تماهت الحكمة مع الكلمة الخلاّقة. وقد يكون الروح موجودًا من خلال العبادة: خرجت من فم العليّ كنسمة الحياة. هذه الحكمة تلج الكون كلّه.

آ 4. مسكني. شكينة أي الحضور الإلهيّ. هو في أعالي السماء حيث يقيم ا؟. عمود السحاب. هناك يدلّ ا؟ على حضوره في البرّيّة (خر 13:21 - 22؛ 33:9 - 10). ماهى فيلون الإسكندرنيّ بين السحابة والحكمة.

آ 7. بحثت الحكمة عن موضع تقيم فيه، فعيّن لها إسرائيل مقامًا. هناك خبر رابّينيّ (ترجوم، تث 33:2؛ تلمود بابل، عبودا زارا 2ب) يقول: عُرضت الشريعة على جميع الشعوب فلم يستقبلها سوى شعب إسرائيل.

آ 10. خدمته. هي خدمة دينيّة، خدمة ليتورجيّة في الهيكل. فالحكمة تقوم بخدمة كهنوتيّة: في خيمة البرّيّة، ثمّ في هيكل أورشليم. الكهنوت مهمّ عند ابن سيراخ (45:6 - 25؛ 50:1 - 21). فشعائر العبادة هي عمل الحكمة، وقد نظّمتها الشريعة.

آ 11. المدينة المحبوبة (مز 48:1 - 3؛ 68:17). هي أورشليم.

آ 14. عين جدي. تقع على الشاطئ الغربيّ لبحر الميت. إشتهرت بنخلها (2 أخ 20:2). واشتهرت منطقة أريحا الحارّة بأشجار الورد. والسهل يمتدّ من جبال يهوذا إلى البحر. هناك كان الزيتون الذي بزيته (بعطره) يُكرَم الآلهة والبشر (قض 9:9).

آ 17. بعض المخطوطات تضيف آ 18: »أنا أمّ المحبّة البهيّة والمخافة والعلم والرجاء المقدّس. ولأنّني خالدة أعطيتُ عطايا لكلّ أبنائي الذين اختارهم ا؟«. قالت الشعبيّة اللاتينيّة: »فيّ كلّ نعمة وطريق وحقّ، فيَّ كلّ رجاء وحياة وقوّة« (رج يو 14:6). غابت الآية من السريانيّة.

آ 21. تحرّك الحكمةُ الرغبة لدى الذين يأكلون ويشربون. فلا يشبع جوعهم ولا يرتوي عطشُهم. تحدّث يسوع عن الماء (يو 4:13 - 14) الذي يروي العطش، وعن الخبز (يو 6:35) الذي يهدِّىء الجوع. فكلّ طعام آخر لا يُشبع. وكلّ شراب آخر لا يروي.

آ 22. قال السريانيّ: »من يسمع لي لا يسقط (لا يعرف السقوط). وكلّ خدّامي لا يعرفون الفساد«.

آ 23. يصوّر الكاتب غنى الحكمة والشريعة، ويقابله بوفرة المياه. رج با 4:1. ميراث. بل »جماعة« (ك ن و ش ت ا، في السريانيّ). أو مجمع. هناك يلتئم اليهود يوم السبت، في الشتات. وهذا مؤكّد منذ النصف الثاني من القرن الثالث ق.م. أضافت بعض المخطوطات آ 2: »تقوَّ بالربّ وتمسَّك به، فالربّ وحده ا؟، ولا مخلّص سواه«.

آ 25. فيشون. نهر من أنهار الفردوس (تك 2:11 - 14). فالشريعة تعيد الخضرة والازدهار إلى أرض تعود فردوسًا كما في البدايات. ماهى الترجوم (تك 3:24) بين الشريعة وشجرة الحياة.

آ 26. الأردنّ. يفيض في زمن الحصاد (يش 3:15؛ 4:18). هو نهر فلسطين.

آ 27. في السريانيّ: ن هـ ر ا (النهر. ربّما يكون خطأ فسقطت الواو: ن و هـ ر ا: النور). بل النيل.

آ 28. لا القديم ولا الأخير. أي جميع البشر. فالجنّة أوسع من أن يحيط بها جميع البشر.

آ 30 - 34. أعجِب الكاتبُ ودعانا إلى الإعجاب معه. تعلّم وهو يريد أن يعلم. قال: »وأنا«. هو يشبه قناة تمرّ فيها مياه الحكمة. هو يشبه الأنبياء الذين يريدون أن ينقلوا تعليمهم إلى الأجيال الآتية. الحديقة. في السريانيّة: ج ن ا: الجنائن. في اليونانيّ: الفردوس.

آ 34. إبن سيراخ علّم فنسيَ تعبه. مثله يفعل معلّمو الحكمة.

3 - شرح الآيات (34:1 - 34)

أ - خطبة الحكمة (34:1 - 22)

بدأت الحكمة تتكلّم أمام الشعب (آ 1 - 2؛ أم 1:20 - 2:1؛ 8:3 - 9:12) فأعلنت أنّها من عند ا؟، وهي وسيطته في الخلق. لهذا، فهي تسود الكون (آ 3 - 6). ولكنّها جعلت إقامتها في إسرائيل (آ 7 - 12) وهناك تظهر قوّتُها (آ 13 - 14) وتُفيض خيراتها (آ 15 - 17). وفي النهاية، تدعو الجميع لكي يشبعوا من ثمارها (آ 19 - 22). هذه الحكمة التي عرشها في السماء وإقامتها في إسرائيل، هي ديانة الشعب الذي اختاره الربّ من وسط جميع الشعوب.

هي الحكمة بذاتها تدلّ على سموّها (آ 1 - 6). تُسرّ بامتداح كمالها المتعالي وسط شعب ا؟ حيث أرادت أن تسكن (آ 8). هي تتوجّه إلى شعب إسرائيل، إلى جماعة العليّ. تقف أمام ا؟ القبر، أمام قدرته. فمجدُ الحكمة يشعّ على الأرض كما في السماء. تماهت الحكمة من جهة مع كلمة ا؟ المشخَّصة (43:26؛ مز 33:6). ومن جهة أخرى، مع نشاط (قدرة) الروح الإلهيّ الخلاّق الذي رفّ على المياه في البدء. قالت إيزيس، إلاهة مصر: »أنا أكبر بنات كرونوس«. فالحكمة تغطّي الأرض مثل الدخان أو الضباب، تحيط بها كلّها مثل شكينَة. قبل أن تتجلّى للبشر وُجدت مع ا؟، وأقامت في أعالي السماء. لهذا تكون السحب عواميد تسند عرشها كما تسند عرش ا؟ (مز 68:35 - 36؛ 97:2؛ 104:3؛ حك 9:10). وحين اتّصل ا؟ بشعبه، انحنى عمود السحاب (خر 33:9 - 10؛ با 3:29).

العرش (كرسيّ في السريانيّ) هو رمز السلطة الملكيّة، وموضع إقامة ا؟. كما يدلّ على مسكن الحكمة (سوفيا، حك 9:4، 10؛ 18:15) في السماء. فالحكمة حاضرة في كلّ مكان، وناشطة كما في أيّام الخلق (آ 5 - 6). تدور حول قبّة السماء (43:12؛ أم 8:27؛ أي 22:14: ح و ج. ش م ي م. دائرة السماء). وعمق القمر يدلّ على المياه التي تحت الأرض وتغذّي الينابيع (1:3؛ 16:16؛ عا 9:3؛ أي 36:30؛ 38:16).

وتبدو آ 6 بشكل انتقالة. فالحكمة حاضرة وتعمل في الكون المادّيّ كلّه. ولكن نشاطها يمتدّ إلى الخلائق الحيّة. فهي التي تبني السلالات والممالك (تث 32:6؛ كلام إيزيس: أنا أميرة كلّ المناطق). وبعد أن لعبت الحكمة دورها في الطبيعة، ها هي تتجلّى في التاريخ. هو نموّ على مستوى الزمن كما على مستوى الرفعة.

والحكمة التي جالت في العالم الواسع (آ 7 - 12) بحثت عن موضع راحة لها بين المائتين، وسألت الربّ أن يعيّن لها حيث تنزل (ا ش ر ا، السريانيّ). فعيّن لها الشعبَ الذي استودعه الحكمة الإلهيّة. فأمر ا؟ (آ 8) الحكمة المتجوّلة أن تسكن بشكل نهائيّ في يعقوب، أن تنصب هناك خيمتها (با 3:17). ورثها إسرائيل، امتلكها. وهذا السكن وسط البشر لا يمسّ الطابع السماويّ للحكمة (آ 9؛ رج آ 3)؛ خُلقت من الأزل (42:21؛ أم 28:23) وقبل كلّ شيء، وهي تواصل وجودها إلى الأبد دون أن تزول، دون أن تترك المكان لأحد آخر.

وارتبطت آ 10 بما في آ 8. إن أقامت الحكمة في إسرائيل، فهي تخدم ا؟ القدّوس الخدمة الليتورجيّة. فهي التي ألهمت الشعب المختار الشعائر التي تليق بالإله الواحد الحقيقيّ، منذ خيمة الموعد في البرّيّة، إلى الهيكل الذي بناه سليمان على تلّة صهيون (أش 8:18. في مدوّنة إيزيس: »لي شُيّدت مدينة بوبستيس«، في الدلتا). وقيل في تلمود بابل (سوطة 33أ): الروح القدس يُقيم في قدس الأقداس. فاختيار ا؟ هذا وهذا المسكن النهائيّ للحكمة جعلا من أورشليم المدينة المحبوبة بين جميع المدن.

ما نقرأ في 11 ب (في أورشليم مسكن سلطانيّ) يوازي ما في آ 8 د (في إسرائيل ليكن ميراثك). أمّا آ 12 فتوجز آ 8 - 9 وتحديدَ تنظيم إسرائيل كشعب تيوقراطيّ يحكمه الكهنة. ففي وقت من التاريخ، وساعة نقلت الحكمةُ وحيَ ا؟ إلى النسل المختار، كما نقلت الإيمان بالإله الواحد، تجلّت بشكل خاصّ في عطيّة الشريعة الموسويّة التي هي تجسيد للحكمة. منذ ذلك الوقت صار إسرائيل »حصّة« الربّ (17:17؛ تث 32:9؛ زك 2:16) وبذلك تمجّد. فالمجد هو نتيجة حضور ا؟، ومشاركة اللاهوت بالحكمة. هذا الاتّحاد الحميم للشعب المختار با؟، هو مجد ا؟ (يو 1:14، 16، 17).

وهذا الحضور الناشط للحكمة في إسرائيل (آ 13 - 17) لم يكن لها بدون ثمر ولا بدون مجد. عظمة هذه الثمار وعذوبتها تشبهان أطيب ما تقدّمه الأرض على مستوى الذوق والرائحة. ذُكر الأرز لعظمته. والسرو لارتفاعه، والنخيل لورقه الجميل وطعم ثماره. جاء من مصر ونبت على شاطئ البحر وفي السهول. هذا ما نجده في عين جدي (يوسيفوس، العاديّات 14/4:1؛ بلينوس، التاريخ الطبيعيّ 5/15:17). واسمها القديم كان: حصاصون تامار. حصاصون النخيلات (تك 14:7؛ 2 أخ 20:2).

والورد الأبيض والأحمر يحبّ الوادي (39:13) ونحن نجده في أريحا. ثمّ الزيتون أوّل الشجر المثمر في البلدان المتوسطيّة.

إنّ الحكمة (آ 15) تقابل عملها الوالج والعذب مع عمل العطور، جاءت بها القوافل من البعيد (37:7). هذا الفيض من العطور الذي نجده في الهيكل، يُبرز وجهة جديدة من دور الحكمة الدينيّ والكهنوتيّ، كوسيطة بين ا؟ والبشر. وتوجز في آ 16 - 17 ما في آ 13 - 14، فتمدّ حسنات الحكمة إلى كلّ الأرض المقدّسة وإلى جميع سكّانها، فتغطّيهم بأغصان البطم الوارفة وتقيم في وسطهم مثل كرمة خصبة. النعمة والغنى والمجد، ذاك هو البعد الروحيّ لهذه الصور التي تدلّ على عطايا الحكمة (4:21؛ أم 3:16؛ 8:18).

بما أنّ الحكمة (آ 19 - 22) توزّع الثمار العذبة والثمينة، فهي تدعو المؤمنين ليشبعوا من مائدتها. إذا كان مجرّد النظر إلى هذه الخيرات يمنح السعادة، فامتلاكها (آ 20) يتجاوز بحلاوته حلاوة العسل. وكما أنّ العسل يقوّي الإنسان ويغذّيه، كذلك تفعل الحكمة فتغذّي بتعاليمها أناسًا لا يعودون يخطأون.

ب - الحكمة والشريعة (24:23 - 34)

وواصل الشاعر كلامه فأعلن أنّ الحكمة وُهبت للبشر وهي تتماهى مع الشريعة التي لا ينفد غناها كعلمٍ أخلاقيّ (آ 23 - 29). مثل هذا العلم سيجعله الكاتب في متناول الجميع (آ 30 - 31). وإن هو ألّف كتابه فلكي يقدّم الخير إلى حلقة واسعة من القرّاء، الآن وفي المستقبل (آ 32 - 34). في المقطع الأوّل (آ 1 - 23) تماهت الحكمة مع ديانة إسرائيل، وهنا نفهم أنّ الاثنتين حاضرتان في كتاب العهد. فبمعرفة الشريعة الموحاة وممارستها، صارت الحكمة (عقل وتعليم وتربية)، صفة داخليّة في الإنسان. ذاك كان هدف مجيء الحكمة من الأعالي إلى الأرض. بدا هذا العرض بشكلٍ مجرّد، وسيوازي في شكل حسّيّ مديح الآباء (ف 44 - 49) الذي يدلّ على حضور ا؟ وسط شعبه. كلّ هذا يدلّ على وعي دينيّ لشعب اعتبر نفسه استُودع الإيمان الحقيقيّ في وجه العالم الوثنيّ. وفي النهاية، نشهد هنا بشكل ضمنيّ كيف أنّ الكتب المقدّسة ملهمة (2 تم 3:16 - 17) فتحمل قوّة التعليم في تضاعيفها.

إنّ سموّ الحكمة المشخّصة (آ 23 - 29) وعظمة عطاياها تضمّنتها الشريعة الموسويّة (با 4:1ي) وأعطاها ا؟ لشعبه في فلسطين وفي الشتات. تُشبَّه هذه الشريعة بأعظم الأنهار. أنهار الفردوس. الأردنّ. النيل. مياهها غزيرة ومخصبة. أنهار لا تنضب. وكذلك الحكمة. شبّه البابليّون الماء بالحكمة وجعلوا في الفردوس »ماء الحياة« بجانب »شجرة الحياة«. والمياه في الكتاب هي رمز بركات ا؟ وعطاياه.

وواصل الكاتب اعتباراته (آ 30 - 34) فتحدّث عن نفسه مواصلاً صورة الأنهر (آ 25 - 27). هو قناة تفرّعت من الشريعة، التي هي نهر تغذّيه الحكمة. فالحكيم لا يقدّم تعليمًا ينبع من شخصه، مثل فيلسوف من فلاسفة اليونان. بل يقدّم بسخاء تعليم ا؟ في الشريعة، بعد أن نعم بهذا التعليم. بدأ فتعلّم شيئًا فشيئًا إلى أن صار نهرًا كبيرًا ومحيطًا واسعًا. وها هو يوزّع هذا الغنى الذي لا ينضب، بحيث يصل إلى أوّل الوافدين ويكفي الآتي في الأخير. فمائدة الحكمة مفتوحة، وبالتالي شريعة العليّ، لجميع البشر.

4 - الخاتمة

في كلّ هذا الفصل تطلّعنا إلى الحكمة في علاقتها با؟ وفي علاقتها بالبشر. فهي تارة صفة إلهيّة وطورًا صفة بشريّة. حسب آ 1 - 2، بدأ ابن سيراخ فجعل الحكمة تتكلّم بشكل خطبة (تقريظ)، وأفهمنا أنّ المتكلّم ليس بإنسان حقيقيّ. فالحكمة تتميّز عن ا؟، لأنّها تصدر عنه (آ 3) وعن الخلائق لأنّها وُجدت قبلها (آ 9) وسلطتها تسمو عليها (آ 5). أصلُها الإلهيّ سرّيّ فتبدو مشارِكة في وجود خالقها خارج الزمن. من جهة، ترتبط ارتباطًا ضمّينًا بمعرفة ا؟ السابقة وبعنايته المستمرّة تجاه البشر. ومن جهة ثانية، بقدرة ا؟ الخلاّقة. دورُها البارز هو دور وسيط بين ا؟ والعالم، وهي أقرب إلى ا؟ منه إلى العالم (آ 9).

هذا ما يدعونا إلى أن نرى فيها صفة إلهيّة، بسبب إقامتها في السماء (آ 4) وقدرتها (سحابة خصبة، آ 3) وتماثلها مع روح الربّ الذي خلق السماء والأرض بترتيب تامّ. إذن، آ 3 - 7 تدلّ بشكل مباشر على حكمة ا؟ نفسها بحيث نستطيع أنّ نتكلّم عن »أقنوم«. كيان إلهيّ نصفه قائم في ذاته ونصفه تجلٍّ سامٍ ؟. هذا الكيان هو تشخيص لصفة إلهيّة، لنشاط إلهيّ.

فهل يعني هذا أنّ ابن سيراخ رأى في ا؟ الأقانيم الثلاثة؟ كلاّ. فإن كانت طبيعة هذه الحكمة فريدة، وإن كان شيء لا يشبهها، فهي لا تُعبَد أبدًا على مثال ا؟. فالمونوتاويّة (أو عبادة ا؟ الواحد) هي مطلقة في شعب إسرائيل وتبقى كذلك حتّى العهد الجديد. فإذا كانت الحكمة، في هذا الفصل، قد مُثِّلت وكأنّها شخص، فهي ليست في شكل من الأشكال شخص إلهيّ. بل إنّ ابن سيراخ. هو شاعر وعالم أخلاق قبل أن يكون لاهوتيٌّا، وفيلسوفًا. واستعارة »السيّدة« حكمة توخّت عمليٌّا أن تتحدّث عن المرأة المتزوّجة (25:1) وتحدّد مثال الفضيلة لديها.

إذًا، لسنا أمام تشخيص شعريّ لصفة إلهيّة أو لحكمة ا؟ الجوهريّة، كما قال البابليّون والفرس والمصريّون واليونان. أمّا التوازي القريب فنجده في »لوغوس« كما عرفته الفلسفة الرواقيّة. تحدّث فيلون عن القوّة (ديناميس) في آ 2. على أنّها ملكة تحيط با؟. والحكمة هي إحدى هذه الملكات التي لا تنفصل عن فكر ا؟. في الحقيقة، يجب أن نفسِّر ف 24 في مقابلة مع ف 1 و16:26 - 17:2.

إن أخذنا بعين الاعتبار متطلّبات الفنّ الأدبيّ، تبدو انتقالة آ 8 واضحة. أراد ا؟ أن يعطي نفسه للبشر بشكل خاصّ. حاور نفسه في مشاورة حميمة. بعد آ 10، كان كلام عن الحكمة كعطيّة ا؟ للشعب المختار في الوحي، وفي الشريعة، ثمّ في نفس كلّ مؤمن، وهناك تتماهى مع الفهم الدينيّ والمعرفة الخلقيّة. والتربية صارت مرادفة للفطنة كفضيلة.

حين نطبّق هذه القاعدة التأويليّة هنا، نفهم أنّ الكاتب توخّى أن يمتدح الحكمة والشريعة، أو بالأحرى أن يُنشد الشريعة، قدمَها وسلطانها، كتجلٍّ وتجسيد للحكمة. هذا ما فهمه العالم اليهوديّ الفلسطينيّ الذي تحدّث عن وجود الشريعة منذ الأزل. قال فيلون »في السكر« 31 ما يلي: »نظنّ أنّ اليهود يرون أنّ الحكمة وشريعة ا؟، وكلمة ا؟، واسم ا؟، وروح ا؟، ليست تجريدًا محضًا بل واقعًا ملموسًا. ويجعلون الواقع الواحد لحكمة الإنسان واسمه وروحه ومجده، وإن بطريقة أقلّ. ولكنّهم لا ينسبون إلى واحدة منها وجودًا شخصيٌّا أي مميّزًا ومستقلاٌّ عن وجود مالكها. وإن اعتبرت هذه الكيانات فاعلة، فبالنظر إلى قدرة مالكها.

ذاك هو المعنى الحرفيّ لهذا الفصل، ولكنّه يتضمّن، أبعد من الحرف، معنًى روحيٌّا، استعاريٌّا استغلّه التقليد المسيحيّ فقال: الحكمة بطبيعتها الإلهيّة، تسكن وسط البشر. نفهمها عن الكلمة المتجسّد. إستلهم يوحنّا سي في وصفه لمجيء كلمة ا؟ إلى العالم. فالحكمة الموجودة في ذاتها والمرتبطة با؟ ارتباطًا وثيقًا ومستمرٌّا، توجّه الفكر نحو شخص مستقلّ. وهكذا عرفنا المسيح في سمات الحكمة الأزليّة كما تحدّث عنها ابن سيراخ، وهكذا يكون هذا النصّ محطّة هامّة نحو التجلّي المتسامي لعقيدة الثالوث الأقدس. هنا قال أثناسيوس، أسقف الإسكندريّة: »ما أراد ا؟، كما في الأزمنة القديمة، أن يُعرف بالصورة وبظلّ الحكمة التي هي في المخلوقات، بل رضي بأن تأخذ الحكمة الحقّة جسدًا وتصبح إنسانًا وتحتمل موت الصليب لكي يستطيع بالإيمان، أن يخلّص بهذا الصليب جميع المؤمنين« (ضدّ أريوس 2:81).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM