الفصل الثامن عشر: في الفطنة والتبصَر.

 

الفصل الثامن عشر

في الفطنة والتبصّر (18: 15 - 20: 31)

1- المقدّمة

بعد مقطع قصير حول الصدقة (18: 15 - 18)، حثَّ ابن سيراخ تلميذه على النظر والتبصّر في مختلف أمور الحياة اليوميّة وفي الحياة الخلقيّة (آ 19 - 29). فالحكيم ينظر مسبّقًا إلى نتائج أعماله ويحفظ نفسه من الخطيئة متأمّلاً في نتائج سيّئة لحياة سهلة (18: 30 - 19: 3) وأقوال طائشة (19: 4 - 20: 31).

يتضمّن هذا المقطع عددًا من القصائد القصيرة وفيها إرشادات وملاحظات حكيمة حول مختلف نشاطات الحياة. والعلاقة بين قصيدة وقصيدة شبه معدومة. تستلهم الأولى (18: 15 - 18) ما قيل في ما سبق (18: 1 - 14) عن رحمة الله وعن واجب الإنسان بالرحمة. وتتابع الثانية (آ 19 - 21) فتقدّم ممارسات عمليّة مرتبطة بغفران الله. وجاء موضوع التبصّر حين ننذر نذرًا (آ 22 - 26): لا نتسرَّع. وإن نذرنا نفي نذرنا في وقته ولا ننتظر ساعة الموت. هكذا يتصرّف الإنسان الحكيم (آ 27 - 29)، سواء قدّم صدقة أو انتظر غفران الله أو نذر.

في 18: 30 - 19: 3 نبّه ابن سيراخ تلميذه من الرغبات الغرائزيّة. فلا بدّ من السيادة على النفس وما يطلّ عليها من شهوات. في القصيدة التالية (19: 5 - 12) يعود الحكيم إلى كثرة الكلام، إلى نقل الكلام وما يمكن أن يحمل من ضرر. وفي القصيدة الأخيرة من هذه المتتالية (آ 13 - 17) نفهم أهمّيّة الإصلاح الأخويّ. نستفهم أوّلاً ثمّ نتدخّل. فالتسرّع لا يمكن أن يحمل الخير. »فاتحْه بالأمر، واعملْ بشريعة العليّ« (19: 17).

المتتاليةُ الثانية (19: 18 - 20: 32) عنوانها الحكمة والجهالة في الكلام والعمل، مع لفظ مفتاح يربط هذه المتتالية بما سبق (18: 15 - 19: 17): الشريعة في 19: 17ب ثمّ 20ب (كلّ الحكمة العمل بالشريعة). أيّ نوع من المهارة يستعمل الإنسان الشرّير؟ ما قيمة الصمت والكلام في محلّه؟ كيف تميّز ظاهر الأشياء وعمقها؟ ما قيمة هديّة يقدّمها لك الجاهل؟ هل الفقر فضيلة أم عار؟ قد يساعدنا الفقر على تجنّب الخطيئة فنندم على ما فعلنا في نهاية يومنا. فالعار هو الكذب. أمّا الحكيم فينجح بكلامه، والفهيم يُرضي صاحب الشأن.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 15. تعلّم كيف تعطي. لا تؤنّب. لا تجرح. يرافق عطاءك الكلامُ الحلو.

آ 16. تأتي الرياح الشرقيّة حاملة الحرّ معها. ولكنّ الندى يرطّب الجوّ. هكذا، تفعل الكلمة التي ترافق العطاء.

آ 18. تُعمي العيون. أو: تجعل العيون تدمع.

آ 19 - 21. إستبق الأمور. إذا كانت الخطيئة تصل بك إلى المرض، وتحاشاها. ففي يوم الافتقاد كيف تهرب من العقاب؟ في 38: 9 - 10، الخطيئة هي عقاب المرض. فاتّضع أمام الله.

آ 24. آخر أيّامك. حرفيٌّا: في الآخرة (سريانيّ). هو عقاب زمنيّ يناله الخاطئ على الأرض وينتهي بالموت الذي يحوّل أشياء كثيرة (آ 26).

آ 27. الزمن الرديء (أيّام الشرّ في السريانيّ)، تكون التجربة قاسية فنقع في الخطيئة.

آ 29. المطر رمز إلى الوفر في العطاء. تضيف بعض المخطوطات اليونانيّة: »الثقة بسيّد واحد ولا التعلّق ببلاهة الأموات«. نجد هنا تلميحًا إلى الآلهة الكاذبة. هي ميتة، ولا سيّد، ولا ربّ إلاّ الإله الواحد.

آ 30. السيادة على الذات. هو عنوان نجده في اليونانيّ.

آ 32. نقرأ في العبريّ: »لا تبتهج بلذّة لا قيمة لها، فتُفقرك مرّتين« (السريانيّ).

آ 33أ. العبريّ: لا تكن شرهًا ولا سكّيرًا. آ 33ب. في اليونانيّ: تكون وكأنّك تضع فخٌّا لنفسك.

19: 1. السريانيّ: العامل السكّير (ف ع ل ا. ر و ي ا). العبريّ: من يعمل هذا. وهكذا جاء اليونانيّ قريبًا من السريانيّ.

آ 2. تحذير من الخمر (31: 25، 23 - 30؛ أم 20: 1؛ 21: 17) ومن النساء (9: 1 - 2، 8 - 9؛ أم 2: 16 - 19؛ 5: 3 - 6، 8 - 14) ومن الزواني (9: 6؛ 14: 22؛ أم 6:26؛ 23:27). نقرأ في العبريّ: »الخمر والنساء تجعل القلب وقحًا، ونفس قويّة تدمِّر صاحبها«. في السريانيّ: »من تعلّق (د ب ق) بالزانية هلك«.

آ 4. خطر الثرثرة. خفيف العقل. بل: القلب.

آ 5. يضيف اليونانيّ: »من قاوم الملذّات توَّج حياته، ومن سيطر على لسانه عاش في سلام«.

آ 6. نقرأ في السريانيّ: »من يكرّر الكلام فهو ناقص (ح س ي ر) العقل«.

آ 10. إحفظه حتّى القبر. أو: كن قبرًا لا يخرج منه كلام. حرفيٌّا: ليَمُت معك. في السريانيّة: إن سمعتَ كلمة، لتمُتْ في قلبك.

آ 13. الإصلاح الأخويّ. فاتحْه بالأمر. وربّما: وبّخْه بعد أن تسأله، كما في السريانيّ.

آ 17. تطلب الشريعة من المؤمن أن يتصالح مع عدوّه (لا 19: 17). هنا أضافت بعض المخطوطات اليونانيّة آ 18: مخافة الربّ بدء رضاه عنك، وبالحكمة تفوز برضاه.

آ 19. معرفة وصايا الربّ تأديب يمنح الحياة، ومن يعمل بما يرضيه يأكل من شجرة الخلود. كلّ هذا لا نجده في السريانيّ.

آ 20. مخافة الربّ التي يتحدّث عنها معلّمو الحكمة تظهر خاصّة في ممارسة الشريعة. يضيف اليونانيّ: ومعرفة قدرته. آ 21: »الخادم الذي يقول لسيّده: لا أعمل ما يرضيك، يُغضب من يُطعمه ولو عمل به فيما بعد«.

آ 24 - 25. هناك حكمة رديئة، فطنة، فهم، مهارة رديئة. فالعنصر الأدبيّ هو ما يعطي لملكات الإنسان قيمتها. في آ 25 يضيف اليونانيّ: »وذاك يدلّ على حكمته حين يبرّر حكمه«.

20: 1 - 8. موضوع الصمت وقلّة الكلام. في آ 1 - 4: كيف نعاقب؟ شرط أن يكون في وقته ويتمّ بلطافة. في آ 5، نسكت ساعة يجب السكوت، ونتكلّم ساعة يجب الكلام.

آ 3. في السريانيّ: لا خير لمن يوبّخ الشرّير. هذا ما يتوافق مع آ 1.

آ 4. لا نفرض الفضيلة بالقوّة. ترجمة بديلة: من يمارس البرّ مكرهًا. أو: من يقضي في الناس بالعنف.

آ 6. الصمت ليس بالضرورة علامة عن الحكمة. الحكمة تقول لنا متى نصمت ومتى نتكلّم.

آ 8. يبغض الناس من يتكلّم بألفاظ فلا يفهمه الناس، ومن يكثر من الكلام فلا يترك مجالاً لأحد. هناك من يحاول أن يفرض نفسه (32:9). إنّ لفظ »م ش ل« يدلّ على كلام بالأمثال، لا على التسلّط. أضاف اليونانيّ: ما أجمل أن نرى توبةَ من نوبّخ، هكذا ننجو من خطيئة متعمّدة.

آ 9. ما نعتبره حظٌّا سعيدًا (29:9) قد تكون له نتائج تعيسة.

آ 12. سبعة أضعاف. رقم رمزيّ يدلّ على أنّنا دفعنا الثمن غاليًا ونحن نعتبر أنّنا وفّقنا في الشراء.

آ 14. يضيف اليونانيّ: وكذلك عطيّة الفقير المجبر على العطاء، لأنّه ينتظر مكافأة عليها. حرفيٌّا: له عيون كثيرة بدلاً من عين واحدة. له سبع عيون كما قال السريانيّ واللاتينيّ. إذن، هو ينتظر أن تعطيه سبعة أضعاف.

آ 15. ويمنّن كثيرًا. يذكر عطاياه ويذكرها فيُذلّ ذاك الذي نال عطاياه. رج تلمود أورشليم 4: 13 - 14.

آ 17. ذاك هو رأي الكاتب في وضع مثل هذا الإنسان. يضيف اليونانيّ: »ماله، ما ناله بقلب مستقيم، ولا يبالي أيضًا إن هو ما ناله«.

آ18. الزلّة. مثلٌ انتشر عند حكماء العالم القديم. قال أحيقار (3: 63): »يا ابني. إن زلق إنسان وسقط، فهذا خير من خطأ اللسان؛ فإن مات في سقطته، فهو ينجو من سهام التجربة، أمّا إن أخطأ بلسانه فيسقط في التجربة«. وقال في 3: 73: »خير لك أن تعثر برجلك من أن تعثر بلسانك«. في العالم اليونانيّ، نجد المثل عند زينون. في السريانيّ (الذي يبدو قريبًا من العبريّ): »كالماء المصبوب على كل حجر، هكذا لسان الشرّير بين الصدّيقين«.

آ 19. السريانيّ: »كما لا يمكن أنّ تُؤكل الألية بدون ملح، هكذا الكلام الذي لا يُقال في وقته«. الأحمق هو الذي لم يعرف تعليم الحكماء.

آ 21. قد يُحفظ الفقير من بعض المخاطر، فيمارس الفضيلةَ لأنّه لا يستطيع أن يفعل شيئًا آخر. ولكنّه يخطأ حين يخجل فلا يقاوم أحمق (آ 22) أمامه، أو يعد وعودًا لا يستطيع أن يفيها (آ 23). راحة ضمير. في الأصل: الراحة، راحة النوم. عند ذاك يستطيع أن يفكّر، يفحص ضميره (آ 21).

آ 24 - 26. الكذب، خطورته، حكم الله عليه. رج 7: 13. في السريانيّة: يرثان (ن و ر ت ن) الهلاك.

آ 26. السريانيّ: »نهاية الكاذب العار، وخزيه يهلك معه«.

آ 27. في اليونانيّ نقرأ العنوان: أقوال مأثورة. ماذا تفيدنا الحكمة؟ واجب الإنسان بأن يلبس الحكمة لباسًا. نقرأ: الحكيم بكلامه. في السريانيّ: »يكفي الحكيم القليل لكي يبيّن نفسه، والرجل الحكيم يتسلّط (ن ش ت ل ط) على العظماء«.

آ 28. العمل الصالح يحمل ثماره. والمكانة المميّزة تساعد الإنسان على التدخّل وإنهاء الظلم. هكذا فعل دانيال حين نجّى سوسن من حكم بالموت (دا 13: 1ي). وقد نفهم: يُغفر له ما فعل من جور.

آ 31. يضيف اليونانيّ: »أن تبحث بثبات عن الربّ أفضل من أن تعيش حياتك بدون ربّ«.

3 - شرح الآيات (18: 15 - 20: 31)

أ - قصائد قصيرة (18: 15 - 29)

إنّ آ 15 - 18 تستلهم الاعتبارات السابقة. فرحمة الله هي نموذج رحمة الإنسان. فلا يكفي أن نُكثر العطايا، بل يجب أن نوزّعها بقلب واسع ونقدّمها بلطف وحنان. فالطريقة التي بها نعطي هي خير من الشيء الذي نعطيه. والكلمة الطيبّة تشكّل مرارًا إحسانًا أهمّ من عون مادّيّ يرافقها. هي مثل الندى الذي يرطّب النبات من الريح الآتية من الشرق التي تحرق كلّ شيء وتيبّسه (إر 18: 17؛ أي 27: 21؛ يع 1: 11). هذا يعنى كما تقول البسيطة أنّ كلمة واحدة تكفي لكي تحوّل طابع الإحسان، فتجعله ذلاٌّ للفقير أو عزاء على المستوى المادّيّ كما على المستوى الأدبيّ (43: 22). فالكلمة تبيّن الروح الذي فيه تمّ العطاء. والعواطف الداخليّة تدلّ على إحسان قام به الإنسان فعبّر فيه عن محبّته. قال تلمود بابل (بابا بترا 9ب): »من أعطى فلسًا يُبارك سبعة أضعاف. ومن أضاف كلامًا يبارك أحد عشر ضعفًا«. فهناك فنّ به نرفع قيمة ما نعطي.

أمّا الأحمق (س ك ل ا، في السريانيّ، موروس في اليونانيّ) فترافق عطيّته أقوالٌ جارحة بحيث تتدمَّر قوّةُ العطيّة. ذاك هو وضع البخيل الذي يُعطي ويندم لأنّه أعطى (2 كور 9:7). ويهتف عاليًا أنّه أعطى لكي يُذلّ الشخص الذي أعطاه (سينيكا، الإحسان، 1/1:5ي؛ 2:3). هناك تلاعب على الألفاظ مع العبريّ: رع. ع ي ن: شرّ العين.

والحكيم هو من يستبق الأمور (آ 19 - 21)، ولا ينتظرها أن تستفحل لكي يعالجها. عندئذٍ يُفلت من الصعوبات والفشل. فإذا أراد أن يهتمّ بجسده، يقرّ بخطاياه، لأنّ المرض »افتقاد«، غضب الله. لهذا نستبق دينونة الله فننال رضاه. والنذر أمر صالح (آ 22 - 26). ونحن نفيه ساعة يجب، فنقوم بما ألزمنا به نفوسنا (تث 23: 22؛ عد 30: 3؛ مز 50: 14). نجد أنّ اليهود اعتادوا أن يُكثروا من النذور ويجدوا الحيلة لكي يبرّروا (ز ك ي، في السريانيّ) نفوسهم ولا يفوا بما وعدوا به الله. رج با 6: 34؛ ملا 1: 14؛ جا 5: 3 - 5. مقال »ندريم« في التلمود.

قبل أن ننذر نذرًا نفكّر: هل نقدر على الوفاء به؟ لهذا نكون كمن تصرّف بتهوّر، وجرّب الله. وبالتالي جعل عائقًا بينه وبين عطاء الله. وهذا التنبّه يعيشه الحكيم أيضًا في حياته الروحيّة (آ 24). يكون سلوكه مدفوعًا بالخوف من الحكم الأخير، لأنّ الله يستر (أو يميل) وجهه عن الخاطئ (تث 31: 17، 18؛ 32: 30؛ مز 10: 11؛ 30: 8).

وكذلك في الأمور اليوميّة (آ 25 - 26) يتطلّع إلى حكم الله الأخير. فالازدهار موقّت، وعجلةُ الحظّ تدور وتدور بسرعة، وقد ينقلب الوضع من الصباح إلى المساء (أش 18: 13؛ مز 90: 6؛ أي 4: 20) ولا سيّما في أوقات قاسية لا تعرف الثبات (21:4). أما هذا الذي عرفه هامان ومردخاي، في سفر أستير؟

والخاتمة واضحة (آ 27 - 29): الحكيم يستبق الأمور، يتنبّه لها في كلّ أعماله، فلا يجذبه عن طريق ا؟ سحرُ العالم الشرّير الذي يعيش فيه. إقتنع بمبادئ حياته القيّمة، التي ثبّتتها مقابلةٌ مع الخبرة اليوميّة، فامتدح الذين يقاسمونه معتقدادته. هو يراعي الحكمة. يحبّها لا لأنّها له، بل لأنّه لها. وهكذا يحمل أسرارها إلى كلّ من يريد.

ويشدّد ابن سيراخ على حالتين خاصّتين تبدو فيهما الفطنة مهمّة: سيادة الرغبات الشهوانيّة (18: 30 - 19: 3) وسيادة اللسان (19: 4 - 20: 31).

ب - الرغبات الشهوانيّة (18:30 - 19:17)

إنّ الرغبات أو الشهوات الداخليّة (آ 30 - 33) هي ينبوع عدد كبير من الشرور. ومن أراد السعادة وانتظرها وطلب أن يحافظ عليها، يبتعد عن هذه الرغبات (إر 3:17) ويمتنع عمّا تُقدّم له لئلاّ يذَلّ حين يُستعبَدُ لها، ويفرح أعداؤه حين يرون انحطاطه، ويشمتون (6:4).

هذا الإرشاد العامّ ينطبق أوّلاً على حياة الرفاه والسهولة، وبشكل خاصّ على ملذّات البطن (ت ع ن ج، في العبريّ، ت ف ن ي ق ا، في السريانيّ)، التنعمّ في حياة من الفجور، فالدمار ينتظرنا. وفقرنا فقران (ش ن ي م، في العبريّ، ت ري ن، في السريانيّ). رج أم 23: 21. هنا نقرأ »سمبولي«: مشاركة في الطعام. والمعنى: لا تصرف مالك في الولائم (9: 5). أشار الكاتب هنا إلى ما يُفعل في العالم اليونانيّ والرومانيّ. كان كلّ واحد يحمل حصّته في سلّة (ستيريس) تُعلَّق فوق رأس الحاضرين. وقد نكون أمام دعوة إلى وليمة تقام في حضرة الإله الوثنيّ، كما وُجد منها في حفريّات كورنتوس (بطاقة دعوة).

وشرّ الأمور يكونُ حين ندفع مالاً استدنّاه ويجب أنّ نردّه. إذن، لا يحقّ لنا أن نتصرّف به، ولكنّ ذاك هو تسلّط الرغبة التي لا تتراجع أمام أيّة وسيلة، حتّى السرقة والتهرّب والدمار الشخصيّ، للوصول إلى أهدافها. قال العبريّ في آ 33: لا تكن شرهًا وسكّيرًا ولا مال في صرّتك. ويتابع: من يفعل هكذا لا يغتني. لا يعود يشتغل. وبما أنّ مصروفه يتجاوز إمكاناته، فالدمار آتٍ سريعًا إليه.

وقد يظنّ السكّير أن لا خطأ في عمله (19: 1 - 3) فيتهامل. في الواقع، على الإنسان أن يسير قدمًا ولا يتراجع، في الخير، في الفضيلة، وحين لا نتقدّم نتراجع. وحين لا نربح نخسر. إذن، نتجنّب الأخطار الصغيرة لئلاّ نقع في الكبيرة. نقطة ماء لا تغرق السفينة، ولكنّ النقاط تفعل. وجُرحٌ واحد لا يميت، ولكن حين تكثر الجراح. ويأتي كلام عن الخمر والنساء. قرأنا في العبريّ لفظ »ع ز هـ«، الجرأة، الشجاعة (8: 15): فالسكّير لا يفكّر بنتائج عمله. لا يحسب حسابًا لشيء. ولكن مثل هذا الإنسان يخسر ما يملك. إنّ رذائل اللحم والدم تدمّر الثروة، تدمّر النفس، تدمّر الجسد (آ 3) وتعدّ الإنسان للموت وإلى فساد القبر.

مع آ 4 - 5 هي انتقالة. فالمنفعة الشخصيّة التي نفهمها فهمًا صحيحًا تتوافق مع ممارسة الفضيلة. فمن استند إلى غرائزه وإلى أوّل كلام يسمعه، لا عقل له (6: 7). ومن لا يفكّر إلاّ بإرضاء نفسه سيكون ضحيّة خفّته وتهوّره.

والرذيلة المنتشرة انتشارًا بين الناس هي عدم الاعتدال باللسان (آ 6 - 12). هي تظهر في عدّة أشكال (رج 22: 27 - 23: 27). فمبدأ الحكمة الكبير في هذا المجال، هو التحفّظ. نعرف أن نسكت فننجو من شرور عديدة. وكلمات العالم تعلن أنّ الصمت هو من ذهب. قالت حكمةُ آني المصريّ: »كلمة خرجت من فمك تسير بسرعة. وإن كرّرتها تخلق لك العداوة«. إذن، الحكيم لا يكشف أسرارًا (كلامًا) وصلت إليه. قد نستمع إلى الثرثار، ولكنّنا لا نثق به، وبعد وقت نحتقره ونستعديه. ومع ذلك، فليس من الصعب حفظ اللسان. فأنت لا تموت إن لم تتكلّم (آ 10). هي صورة الخمرة التي تشقّ الزقاق. وصورة المرأة الحبلى التي ستضع ولدًا. هو حكاك بل وجع عميق. ولا بدّ من أن نتخلّص منه. مثلُ هذا الإنسان يحسّ بحمل ثقيل يجب أن يتخلّص منه. وإن تكلّم هدأ وكأنّه انتزع سهمًا دخل في لحمه.

وقاعدة الصمت ليست مطلقة (آ 13 - 17)، فهناك وقت يجب فيه أن نتكلّم. فالكلام هو من فضّة. ولكن نستعمله بفطنة. فالتنبّه على مستوى اللسان يطلب أن لا نحكم على إنسانٍ بسرعة. نوبّخه، نتهّمه، نتحدّث مع الصديق، نسأل قبل أن نقوم بالإصلاح الأخويّ. هذا السهر المحبّ يُبعد الخطأ ويمنع العودة إلى ما سبق. ولكن إن أقدمنا على الإصلاح، نتحلّى بالرحمة وبالفطنة. ولا نتسرّع في اتّخاذ موقف. هذا الكلام يتوجّه بشكل خاصّ إلى من عنده مسؤوليّة: لا يقبلون بخبر خاطئ. لا يقفون عند ظنون. بل يتصرّفون بمخافة الله.

ج - الحكمة والجهالة في القول والعمل (19: 18 - 20: 31)

إنّ التوسّع (آ 20 - 24) حول الحكمة الحقيقيّة والحكمة الكاذبة (آ 20 - 30) الذي يحرّكه تذكُّرُ شريعة الله (آ 17)، ليس استطرادًا في المعنى الحصريّ للكلمة. فهو يبيّن أنّ الحكمة الحقيقيّة تتضمّن التسلّط على اللسان (4: 24؛ أم 10: 18ي)، وأنّ وهج أصحاب الكلام لا يرتكز مرارًا إلاّ على الكذب والرياء. فالحكيم الحقيقيّ يخاف الله (1: 16، 18؛ أم 1: 17؛ 9: 10؛ أي 28:28) ويعمل (بوييسيس، رج 51: 19؛ يع 1: 25) بفرائضة ولا سيّما في ما يتعلّق بالقريب وباللسان (مز 111: 10؛ روم 2: 13؛ يع 3: 13ي). لهذا فالمعرفة النظريّة للشرّ التي يدلّ عليها الثرثار المفتري ليست حكمة الفضيلة، كما أنّ نوايا الخطأة ليست حكمة حقيقيّة تؤول إلى الخير.

فهناك شكلُ حكمةٍ ومهارة مكروه، حين يميل بنا إلى الشرّ. قال أفلاطون: »كلّ علم ينفصل عن العدل وعن سائر الفضائل، هو دجل لا حكمة«. ويبقى أنّ نقصًا في الفهم يفضَّل على نقص في الفضيلة. فصاحب الفهم بسيط يبقى محترمًا، ولا ينقصه سوى الحكمة الآتية من الله. فهو في بساطته أصدق من الذي يخفي نفسه وراء علم قد يكون باطلاً.

فعلمٌ يسمّي نفسه حكمة ولكنّه مهارة (آ 25 - 30)، يحاول أن يصل إلى ما يريد (مثلاً حكم القاضي وتشويه العدل، خر 23: 6) بكلّ الوسائل. فهذا المعتَبر حكيمًا لا يتراجع أمام رياء كريه يدلّ على شقائه العميق. يبدو كأنّه لا يرى ولا يسمع، وحالته كئيبة. ولكنّه يُخفي في قلبه أسوأ النوايا. يُبعد عنه الظنون لكي يسيء إلى القريب. فيبقى على الحكيم أن يتنبّه إلى مثل هذا الإنسان فيتعرّف إلى عواطف قلبه.

واستعاد سي 20:1 - 8 موضوع الإصلاح الأخويّ (19:13 - 17) الذي هو صالح إن نحن أخذنا به في الوقت المناسب وباستقامة داخليّة وخارجيّة. لا غضب، لا قلّة صبر، لا عنف. هذا يعني أنّنا نستدرك الأمور، نتنبّه لها لكي يكون العتاب ناجعًا. لهذا يُفضَّل الصمتُ مرارًا على الكلام في غير وقته (آ 1). غير أنّ قاعدة الصمت ليست مطلقة. قد يكون هناك حقد أو مرارة تجاه القريب. لماذا لا نفرّغ قلبنا بدلاً من أن نلوك الغضب، ونكوّن دينونة باطلة، ونقطع علاقة صداقة بعد لوم جائر. قد تشير آ 3 إلى مثل هذا الخطأ (إلاتوسيس) أو إلى توبيخ يسمعه إنسانٌ فيستفيد منه. يُقرّ بأنّه أساء الصنع (17:27) وكلّ شيء يعود إلى مكانه. هذا يفهمنا أهمّيّة السيادة على النفس في الإصلاح الأخويّ بحيث لا تحملنا رغبتُنا الجامحة.

فالتدخّل المفرط (آ 4) هو عقم كلّه. لن نحصل على النتيجة المرجوّة التي تساعد الآخر على التخلّص من الشرّ الذي فيه. عند ذاك يكون الصمت أفضل من فيض كلام يُفلت من فمنا فيحتقرنا الآخرون. أمّا الحكيم فلا يتكلّم إلاّ إذا كان له ما يقوله، ويقوله في الوقت المناسب ممّا يبرّر تدخّله (أم 15:23؛ جا 3:7). أمّا الثرثار فيتكلّم في الوقت المناسب واللامناسب. يتجاوز (هيبارباينو، لا ينتظر الوقت. في السريانيّ: لا. ن ط ر. ع د ن ا). ضاعت الفطنة. وإذ يظنّ الأحمق أنّه يفرض نفسه بكثرة كلامه (مز 12:4 - 5)، لا يعود الناس يحتملونه.

نستطيع أنّ نستنتج من الملاحظات السابقة (آ 9 - 13) أنّ الحكيم ليس ذاك الذي يُكثر الكلام، كما يظنّون. فالصمت، عادة، هو علامة عقل يفكّر، وتمدُّ آ 9 - 17 هذا الاستنتاج على مختلف الأوضاع في حياة الإنسان: لا نثق بالظواهر. فما نحسبه شرٌّا قد تكون له نتائج حسنة. فهناك أمثال: لا تكرهوا شرٌّا. وخير تقبّلناه قد يكون بلا فائدة، وعطاء للقريب ينفعنا كثيرًا. والمجد البشريّ لا يحمي من السقوط والعثرات، ساعة الوضيع يمكن أن يصل إلى أرفع الكرامات (مز 113:7؛ لو 1:52). ظنّ إنسان أنّه نجح في عمل، فإذا هو فشل. أنّه ربح فإذا هو خاسر وقد سرقه من ظنّهم أمناء له. لا يحتاج الحكيم إلى الكلام الكثير (ب م ع ط، في العبريّ، ز ع و ر، في السريانيّ: قليل) ليحترمه الناس ويحبّوه (آ 7 - 8). أمّا الأحمق فيحاول أن يجتذب محبّة الآخرين (خاريتس) ولكن بلا نتيجة. هو لا يعرف أن يحكم على الأمور.

فالحكيم يتنبّه (آ 14 - 17) فلا يضلّ حكمه بعطايا تُوهَبُ له. فإن تلقّى شيئًا من خاطئ، لا يغشّه هذا السخاء الذي يطلب مصلحته، لأنّ البخيل (أو الحسود) لا يُعطي إلاَّ ليأخذ أكثر (14:9). وسلوكه لا يجعلنا ننغشّ أمام عواطفه. فالبخيل يُرسل الصنارة مع الطعم ليحصل على سمكة كبيرة. يتكلّم عمّا فعل، يُذِلّ من أعطاهم، يتواقح (دا 3:14؛ 4 مك 6:4). ويشتكي من الناس لأنّهم لا يعرفون فضله. جميع الناس يهزأون من هذه الحماقة التي تحاول أن تتسلّط على الآخرين. وهناك ضرر آخر يحمله صاحب الكلام المستفيض نقرأه في ما يلي.

ففي آ 18 - 20 مقابلة بين ذاك الذي يقع على الأرض وذاك الذي يزلّ لسانه. فاللسان الرديء يحصد ما زرع، كالماشي الذي يزلق ويسقط ساعة لا ينتظر. هذا ما يدلّ على قلّة تهذيب حين نتشكّى من سائر الناس وننتقد كلامهم. وإن حصل للأحمق فقال قولاً حكيمًا، فهذا يكون في غير وقته (أم 26:7، 9)، هو لا يقدر إلاّ أن يقترف أعمالاً خرقاء.

وإذا كان الفقير (آ 21 - 26) يلغي مناسبات الخطأ بالقول (آ 21)، فالخجل الكاذب هو ينبوع أخطاء في هذا المجال (آ 22 - 23) ولا سيّما الكذب الذي هو عار (آ 24 - 26). من الواضح أنّ خطر الكلام الذي لا فائدة فيه يصل إلى الغنيّ الذي لا عمل له، أكثر من الفقير الذي يعمل نهاره كلّه (19: 28). ولكنّ الفقير يخضع للحياء البشريّ (4: 21) فيتنكّر لمعتقداته الدينيّة والخلقيّة (لو 9: 24 - 26) ويتردّد في رفض وعدٍ لا يستطيع القيام به. رفضُ الكلام هذا قد يدمِّر الصداقة. في الواقع، نصل بهذا الضعف إلى حياء حقيقيّ يمسّ اسم الكاذب، ونحن نتجنّبه حين نسود لساننا. فالكذب شرّ من السرقة، لأنّ السارق يأخذ أشياء مادّيّة، أمّا الكاذب فيمسّ الحقّ وشرف الإنسان(7: 13؛ مز 5: 7؛ أم 6: 17 - 19).

وتنتهي هذه المتتالية (آ 27 - 31) بذكر فوائد الحكمة. تجاه الأحمق الذي يضرّ نفسه بكثرة الكلام، يتقدّم الحكيم في طريق الكرامة بكلام موزون فيحترمه عظماء هذا العالم (8:8). يمكن أن يكون هذا الرجل يهوديٌّا يعيش في بلاط ملك وثنيّ (يوسف، دانيال). فكما أنّ الزارع المجدّ يجمع غلّة وفيرة، يستطيع الحكيم أن يفعل الخير وينال الرحمة للآخرين. ولكن ليحذر أن يُفسده المجتمع (8: 2؛ خر 23: 8؛ تث 16: 19): يشترون صمته بالمال، فلا يقول الحقّ. ويغمض عينيه لئلاّ يرى (أش 56: 10). عندئذٍ تصبح حكمته بلا فائدة، ويشارك في الشرّ الذي يحصل لأنّه لا يكشفه. فصمتُه أخطر من كلامه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM