الفصل السادس عشر: مسؤوليّة الإنسان وجزاء الله.

 

الفصل السادس عشر

مسؤوليّة الإنسان وجزاء الله(14: 20 – 16: 23)

 

1- المقدّمة

هذه المتتالية هي خاتمة القسم الأوّل من الكتاب (1:1 - 16: 23). توخّت أن تحثّ التلميذ على ممارسة النصائح التي وردت سابقًا. فالحكمة تصنع السعادة (14: 20 - 15: 10). والإنسان الذي ينعم بالحرّيّة يستطيع أن يصنع الخير ويتجنَّب الشرّ (15: 11 - 20). فالله يعاقب الخطيئة (16: 1 - 23).

في مرحلة أولى تصوَّر الكاتبُ البركة التي ينالها الإنسان الباحث عن السعادة وعن طرقها وسبلها، بعدد من الصور وأهمّها الصيّاد الذي يسعى وراء »طريدته« الحكمة، لكي يُقيم في ظلّها هو وأولاده. وفصَّل هذه البركة التي تُمنَح لمن يلاحقها بعزم واندفاع؛ هي أمّ. هي عروس. وهي تأتيه إن هو حفظ الوصايا. لهذا، فالأشرار لا يصِلون إليها.

في مرحلة ثانية، يعالج ابنُ سيراخ حرّيّة الإنسان في اختياره. ويتأسّف على الأولاد الأشرار الذين سينالون العقاب الذي يستحقّون. في 15: 11 نقرأ: »لا تقل من الربّ خطيئتي، فالربّ لا يعمل ما يُبغضه«. هذا يعني أنّ الإنسان مسؤول. وإن عاقبه الله لا يكون ظالمًا، بل عادلاً. فالله يرى كلّ شيء، يعرف كلّ أعمال الإنسان. أيحاول الإنسان أن يختفي من وجه الربّ؟ هو مجنون. فالربّ الذي خلق الكائنات يعرف موضع كلّ واحد منها. فنتذكّر مز 139: »يا ربّ اختبرتني فعرفتني، عرفتَ قعودي وقيامي، وتبيّنتَ أفكاري من بعيد. أنت تراقب سفري وإقامتي، وتعرف جميع طرقي«.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 20. هي دعوة إلى الإنسان من أجل حياة حميمة مع الحكمة، ونحن نكتشفها من خلال الأمثال والأقوال المأثورة. وهذه الحياة منبع سعادة كالشريعة التي يتأمّل فيها الإنسان (مز 119: 15، 23، 148). قال سي 15: 1: »ومن يعرف الشريعة ينل الحكمة«.

آ 22 - 27. صورة الصيّاد الذي يلاحق طريدته. والبدويّ الذي ينصب خيمته أو يبحث عن ظلّ تحت أغصان الشجر في أوانِ الحرّ. صورتان تدلاّن على عطش الباحث عن الحكمة وما تحمله معها من خيرات.

آ 26. يجعل أولاده. في العبريّ: يجعل عشّه (ق ن هـ).

آ 27). وفي مجدها. في العبريّ: يسكن (ش ك ن) في حمايتها. في السريانيّة: في ديارها. هذا »المجد« يدلّ على الغمام الذي يكشف حضور الربّ (خر 16: 10؛ حز 1: 28). رج شكينة كما في أدب المعلّمين.

15: 1. البارّ يجازى خيرًا. ما يميّزه مخافة الربّ. أي التعبّد له وطاعته. ومن يعرف. في السريانيّة: من يعلّم (ي ل ف). مثل هذا المعلّم سيكون له دور كبير في العالم اليهوديّ في أيّام ابن سيراخ. هو يدرس الشريعة ويضعها موضع العمل. يعرضها، يفسّرها، وهو مسؤول عنها.

آ 2. كعروس بكر. العبريّ: كزوجة صباه. الحكمة صارت شخصًا وتلعب دورًا هو دور الربّ في آ 3 - 8. هي أمّ. أش 49: 14 - 15. هي عروس. رج أم 5: 18؛ حك 8: 2، 9. نلاحظ أنّ اللقاء مع التلميذ يتمّ بمبادرة من الحكمة.

آ 3. رمز الخبز. رج أم 9: 5. رمز الماء. رج تث 32: 2.

آ 5. أمّا البليد فيجب أن يسكت حين الكلام عن أمور الجماعة. أضاف اللاتينيّ في نهاية الآية: »تملأه روح حكمة وفهم، وتُلبسه لباس مجد«.

آ 6. رمز الإكليل. رج 1: 11 - 8؛ 25: 6؛ أم 4: 9.

آ 9 - 10. نحن أمام مديح الحكمة. في العبريّ: في فم الحكيم يُعلَن المديح. ثمّ: من يمتلك الحكمة يعلّمها.

آ 11 - 20. هنا يتوسّع ابن سيراخ في مسألة الشرّ الأدبيّ. أي الخطيئة: الله ليس صاحب الخطيئة. هو يكره الخطيئة التي لا تفيده في شيء. هو خلق الإنسان حرٌّا. وسلوك الإنسان يرتبط بحرّيّته في اختيار ما يختار. وهكذا يردّ سي على كلام الخاطئ الذي يجعل الخطيئة من مسؤوليّة الله. كان ذلك كلام الإنسان: المرأة التي أنت أعطيتَني.

آ 14. في البدء. العبريّ: أسلمه إلى عدوّه. وتركه حرٌّا. ي ص ر. نيّة، مشورة. صار معنى اللفظ في الأدب الرابّينيّ: الغريزة، الميل إلى الشرّ. قال تلمود بابل في قدشين 30ب: »خلقتْ الغريزة الشرّيرة وخلقتْ الشريعة لشفائها. إن تمرّستم في دراسة الشريعة، لا تسقطون في سلطتها«. رج أقوال الآباء 4: 2.

آ 15. العبريّ: »إن أردت تحفظ الوصيّة وتتبيّنها لصنع رضاه. إن آمنتَ به أنت أيضًا تحيا«. وكذا في السريانيّ أيضًا.

آ 16. إختيار بين الخير والشرّ. رج تث 11: 26؛ 30: 15، 19؛ إر 21: 8. طريقان أمام الإنسان.

آ 18 - 19. معرفة الله شاملة. رج 17: 15؛ أم 5: 21؛ 15: 3، 11. في 19: 2 العبريّ: »عينا الله تريان مصنوعاته«. في السرياني: تريان كلّ شيء.

آ 20. أضاف العبريّ: لا يرحم صانع الباطل، وكاشف السرّ (السريانيّ). في اللاتينيّ: »لا يرغب بكثرة الأولاد الأشرار الباطلين«.

16: 1 - 4. اعتُبر النسل العديد بركة من عند الربّ (تث 28: 4، 11؛ أم 13: 22؛ 17: 6؛ مز 115: 14؛ 127: 503؛ 128: 3). أمّا سي فيفضّل النوعيّة على الكمّيّة. وغياب الأولاد أفضل من نسل الأشرار. رج حك 4: 1: »خير للإنسان أن يكون بلا أبناء، على أن يمتلك الفضيلة«.

آ 3أ. حياتهم. طول حياتهم. أو ما يقال من مديح عنهم في حياتهم. وأضافت بعض المخطوطات اليونانيّة: »لأنّك تستطيع أن ترى آخرتهم وتبكي موتهم قبل الأوان«.

آ 4. بعقل واحد. في العبريّ: بلا أولاد ويخاف الربّ. الأشرار. يبدو أنّنا أمام تلميح إلى عائلة طوبيّا الآتية من بني عمّون، والتي كان لها الأثر الكبير في السياسة. وإلى شمعون الثاني عظيم الكهنة (ف 50).

آ 5 - 10. تقابلت خبرة سي مع دروس التاريخ السابق. ذُكرت أربعة أحداث. الجبابرة (آ 7). أو: الأمراء حسب العبريّ. رج تك 6: 1 - 7. سكّان سدوم (آ 8). رج تك 19: 1 - 20. الكنعانيّون (آ 9). بنو إسرائيل في البريّة (آ 10). هم الستّمئة ألف الذين لم يستطيعوا الدخول إلى أرض الموعد (عد 1: 46؛ 11: 21؛ 14: 20 - 35).

آ 5ب. رج أي 16: 2.

آ 6. أحداث تعود إلى زمن الخروج ولا سيّما العصيان على موسى. رج عد 11: 1؛ 16: 1 - 35؛ مز 78: 21.

آ 8ب. جلبوا الغضب على نفوسهم بكبريائهم (العبريّ).

آ 9. نقرأ في اليونانيّة: »كلّ هذا صنعَهُ لشعبٍ قاسي القلب، وما عزّاه عديدُ القدّيسين«.

آ 10. أضافت بعض المخطوطات اليونانيّة: »جلدهم، رحمهم، ضربهم، شفاهم. الربّ حفظهم في رحمته وتأديبه«.

آ 11. الانتقام. في العبريّ: يُظهر غضبه على الأشرار.

آ 12ب. هو التعليم المعروف حول المجازاة. رج أم 14: 12؛ أي 34: 11؛ إر 32: 19؛ مت 16: 27؛ روم 2: 6؛ 2 تم 4: 14؛ رؤ 2: 23. شدّد العهد القديم على المجازاة في هذه الحياة. والعهد الجديد في الآخرة.

آ 13ب: يخيب إلى الأبد (العبريّ، السريانيّ).

آ 14أ. العبريّ: صانع البرّ يُوجَد له أجر (السريانيّ). أضافت بعض المخطوطات اليونانيّة في خطّ العبريّ، آ 15: »الربّ قسّى قلب فرعون الذي ما عرفه، فتتجلّى أعماله تحت السماء«. آ 16: »رحمته تجلّت لكلّ خليقة، فوزّع نوره والظلمة لآدم« (العبريّ: مديحه لأبناء آدم).

آ 17. المجازاة أمر أكيد. فلا بدّ من الإيمان والرجاء.

آ 18. عند مجيئه. هي زيارة تفقّديّة من عند الربّ. أضافت بعض المخطوطات اليونانيّة: »بإرادته بدأ الكون فوُجد وما زال«. سماء السماء، أي أعلى السماء. رج تث 10: 14؛ 1 مل 8: 27؛ مز 148: 4. الغمر. أي محيط المياه في أعمق أعماقه. كلّ هذا يتزعزع. رج مز 18: 8؛ 97: 4 - 5؛ 104: 32؛ حب 3: 6، 8، 15.

آ 20 - 21. في العبريّ: حتّى عليّ لا يجعل قلبه (لا ينتبه)، فمن يتبيّن طرقي؟ إن خطئتُ لا تراني عين. أو إن كذبتُ في كلّ مستور، من يعرف« (السريانيّ).

آ 22. فعهده. رج 14: 12. الله هو الوليّ وينتقم للدم. تضيف بعض المخطوطات اليونانيّة: »وفحصُ كلّ شيء يكون في الأخير«.

3 - شرح الآيات (14: 20 - 16: 23)

أ - طلب الحكمة (14: 20 - 25: 10)

حثّ ابن سيراخ تلميذه على طلب الحكمة. لأنّ السعادة الحقّة والثابتة التي نطلبها من البشر (8: 1 - 13: 23) ومن الغنى (13: 23 - 14: 19) حاضرة في التعامل مع الحكمة. فإن طلبناها بغيرة وعناد (14: 20 - 27) غمرَتْنا بكلّ خيراتها، بالكرامة والفرح (15: 2 - 6) شرط أن نخاف ا؟ ونحفظ شريعته. فالحكمة لا تهب نفسها للخطأة (15: 1، 7 - 10).

»هنيئًا« (آ 20 - 22). »ماكاريوس«. ا ش ر ي. طوبى. سعادة الإنسان موهبة تصل إلى كلّ إنسان من دون تمييز. هي ذات بُعد شامل كما قالت المزامير والأسفار الحكميّة. ولكن لا بدّ من الاستعداد الداخليّ لامتلاك الحكمة، وبالتالي السعادة التي تمنحها. لهذا نتأمّلها بانتباه ونُعمل عقلنا وفكرنا وقلبنا فيها. نجعلها موضوع مشاهدتنا (6: 37؛ مز 119: 15، 23، 117، 168). نفعل كالصيّاد الذي يتبع طريدته خطوة خطوة (6: 27) ويتهيّأ، يتربَّص. رج »هـ ق ر« راقب، بحث، جسّ (العبريّ). في السريانيّ: تعقّب.

وتُعتبر الحكمة المشخّصة (آ 23 - 27) ساكنة في بيت (أم 9: 1). يراقبها التلميذ. ينظر من النافذة (ش ق ف. مالَ لينظر. د ي ق، في السريانيّة). نظر عن قُرب وتنبّه. الله يميل لينظر من علوّ سمائه (تث 26:5). هذا ما فعله عريس نشيد الأناشيد (2:9). يقف التلميذ عند باب الحكمة، يُصغي، يُنصت (أم 8: 34). بل يجعل خيمته هنا ومسكنه بجانب مسكن الحكمة. يثبّت وتد (ي ت د) خيمته. ونحن لا ننسى أنّ الله يحرس خيام الصدّيقين (مز 118: 15؛ أي 29: 4). هذه الغيرة تجد أجرها. وحين يُقيم التلميذُ بجانب الحكمة تغطّيه بظلّها. بعد صورة الحياة في البرّيّة، ها هي صورة الواحة بما فيها من برودة. كعصفور يجعل »قنّه، عشّه« (ق ن و. قرأ اليونانيّ: ب ن ي و: أبناءه) في أغصان شجرة عبيّة (مز 104: 2). يستظلّ بحمايتها من الشمس (أش 4: 6؛ 25: 4). يقيم في مغناها (م ع ن ي ن و ت ي هـ): مسكنها الذي يُغنّي بمياه ينابيعه فيدلّ على الازدهار والفرح. شعاعُ المجد ونوره يكمّلان الصورة كما في سحابة الله في البرّيّة. هذا المجد ليس الله. بل تجلّي الله. ويشارك فيه محبّ الله فيصبح بدوره مجيدًا، مؤلّهًا.

فسّر التأويل الاستعاريّ »شبابيك الحكمة«: أسفار الكتاب المقدّس حيث تنكشف الحكمة وراء حجاب الحرف أو عبر أعمال الله، مع صلاحه وقدرته. والحائطان هما العهدان، القديم والجديد، والباب هو الكنيسة حيث تتكلّم الحكمة بفم الوعَّاظ الذين يمنحونها صوتهم.

وإذا كان التلميذ يهتمّ بغيرة كبيرة (15: 1) للبحث عن الحكمة، فالحكمة تمتنع عن الخاطئ ولا تستسلم إلاّ لمن يخاف الله (آ 1 - 10)، لمن يحافظ على الشريعة محافظة دقيقة. يمسكها بيده (ت و ف ش، أنكراتيس) كما يمسك كتابًا مدرسيٌّا عرفه غيبًا واستعمله مرارًا. هو يدركها (درك، عبريّ)، يسير في طريقها، فيها (هـ ل ك، سريانيّ). هذا يعني أنّ مخافة الله (أو التقوى) هي تتميم الشريعة (1: 26).

وتأتي الشريعة إلى حبيبها (آ 2 - 6) بحنان الأمّ وعطفها. فتقبله بحبّ عروس بكر أو زوجة صباه (يوء 1: 8؛ حك 8: 2؛ أم 7: 2 - 4). ويعود ابن سيراخ إلى مواهب تمنحها الحكمة المشخّصة (أم 9:2،5)، ويمنحها ا؟ ذاته (أش 55: 1 - 2): طعام النفس الجوهريّ. مياه الفطنة أو التبيّن (ت ب و ن هـ. سوفيا) . فالمياه (كما يقول البابليّون) ترمز إلى حكمة الله وخلاصه. ويذكر الأدب اليهوديّ مرارًا مياه التوراة، خبز التوراة. وحين يتقوّى التلميذ بهذا الطعام الروحيّ الذي لا غنى عنه، ينجو من السقوط. إذ يستند (ش ع ف) إلى الحكمة لا يعثر (آ 4؛ رج مز 18:18 حيث الربّ هو السند). يثق التلميذ بالحكمة فلا يُخزى، من أجل هذا، يحترمه الجميع. يسمعون له بإجلال حين يقدّم علمه (حك 7:15ي). فالحكمة هي التي تتكلّم بفمه (يو 16: 13؛ مت 10: 19). وأخيرًا، ينعم بسعادة حميمة وباسم أبديّ (4: 16). في أش 56: 5 الله هو الذي يعطي »اسمًا أبديٌّا لا ينقطع ذكره«.

وتنقسم البشريّة قسمين (آ 7 - 10): الحكماء والبلداء (أسيناتو: بدون فهم) أو رجال الكذب (مز 26: 4)، المكر، الباطل. هم الخطأة (آ 7، المتكبّرون كما في العبريّ) والمستهزئون (ل ص، في العبريّ، آ 8أ؛ رج أم 14: 6). هم الأشرار الذين لا أخلاق لهم فيتصرفّون كالكلاب، هم الوثنيّون الذين ليسوا أهلاً للحكمة (حك 1: 4). فهم لا يأتون على ذكرها (زكر، في العبريّ). فإذا لم يكن للخاطئ المتكبّر الحكمة الحقّة، وإذا كان لا يقدر أن يتقبّلها، فإن امتدحها كان مديحُه كذبًا ورياء. وحده الحكيم يحقّ له أنّ يتلفّظ بالحكمة ويشكر ا؟ من أجلها (مز 33: 1). ذاك الذي هو سيّد الحكمة يعلّمها. ولا يعطيها إلاّ للأبرار.

ب - حرّيّة الإنسان ومسؤوليّته (15: 11 - 20)

إذا كان الخطأة لا ينالون الحكمة التي لا تتوافق مع الذين يتجاوزون الشريعة (آ 1، 7، 8)، فهم مسؤولون من نفوسهم، لأنّ كلّ إنسان يستطيع أن يصنع الخير ويتجنّب الشرّ.

قد يكون سي 11 - 13 أشار إلى نظرة الوثنيّين الجهّال. الذين نسبوا ضلال الإنسان إلى حسد الآلهة (إيمارماني، القدر). فالفلاسفة أنفسهم حاربوا هذا التجديف على قداسة ا؟ (أفلاطون، الجمهوريّة 2: 379؛ 10: 617؛ فيلون، الوصايا 176). وسارت التوراة في هذا الخطّ (خر 21: 13؛ 2 صم 24 :1ي؛ إر 6: 21). فالله يكره الخطيئة، وهو لا يفعل ما يكره. ولا يُنتج ما لا يحتاج إليه. بل هو يبعده عن الذين يخافونه (العبريّ). قال اليهود: لا يمكن أن يكون الله خلق الخطيئة. فهي تأتي من إبليس. وتأتي من الإنسان. الموقف الثالث هو موقف ابن سيراخ.

وأعلن الكاتب في آ 14 أنّ الله (إلوهيم) ذاته »خلق« (ب ر ا، العبريّ، السريانيّ) الإنسانَ من البدء (م ب ر ا ش ي ت، في العبريّ. ب ر ش ي ت، في السريانيّ). إذن، لا يمكن أن يكون الله هو الذي وضع الشرّ في الخليقة حين كوّنها. هو الميل. هي الحرّيّة التي تختار. هذا يعني أنّ الخطيئة تأتي من الإنسان، لا من الخالق. وليس من الضرورة أن تكون الخطيئة في العالم.

وحرّيّة الاختيار (آ 15 - 20)، هذه التي أعطيَتْ للإنسان لكي يتعلّق بالله ويخدمه بدون إكراه (آ 15)، هي إمكانيّة تفضيل بين شيئين متناقضين: الماء والنار. الحياة والموت. هي سلطة فاعلة في الإرادة التي تحفظ (ح ف ص) نفسها فتحقِّق وتنال ما قررّته في الداخل (أودوكايو، ارتأى، قبل، وافق)، في الحقيقة، الحرّيّة البشريّة موهبة من حكمة الله اللامحدودة (آ 18). لا عائق في وجه الله. وهو يجازي من يعمل الخير ومن يعمل الشرّ. وما من خيار يُفلت من معرفته الشاملة. والحرّيّة التي منحها للإنسان ليست إمكانيّة فعل الشرّ (آ 20). فمن أحبّ الله أطاع شريعته.

ج - الله يعاقب الخطيئة (16: 1 - 23)

ويرتبط بمدلول الحرّيّة مدلولُ المسؤوليّة وبالتالي الأحساس بالخطيئة. الله يعاقب الخطأة. هذا الموضوع الجديد دخل بواسطة مقطع صغير حول شقاء الوالِدين بأن يكون لهم أولاد أشرار. فهم إلى الهلاك ماضون (آ 1 - 4). تعلّمنا الخبرة اليوميّة والتاريخ أنّ الله يعاقب الذين يغيظونه (آ 5 - 10). فالله عادل ورحيم (آ 11 - 14). هو يرى كلّ شيء وما من أحد يُفلت من انتقامه (آ 17 - 23).

لا نجعل ثقتنا في المظاهر الخارجيّة (آ 1 - 2). فالنسل الكبير الذي يُعتبر في الحالات العاديّة بركة إلهيّة، ليس علامة أكيدة على رضى الله ومجازاته بالخير. يجب أن نحكم على الأمور من وجهة عميقة، فائقة الطبيعة: لا نرغب عددًا من أولاد السوء (ع و ل هـ). لا فائدة منهم لوالديهم. وقال العبريّ: وإن ازدهروا لا تفتخر كبرًا في شأنهم. فأولاد لا تقوى عندهم عار لوالديهم ولو كانوا معروفين في العالم. وفي أيّ حال، لا نستطيع أن نتّكل على مثل هذا النجاح العابر والمتألّق على الأرض. كان لآخاب سبعون ابنًا وما خلفه واحدٌ منهم. قتل ياهو الأب مع الابناء. وكذا نقول عن جدعون. لهذا يُفضَّل ولد واحد بارّ، يعمل مشيئة الله (عبريّ، سريانيّ). بل من الأفضل أن لا نترك نسلاً وراءنا من أن نترك عددًا كبيرًا من الخطأة، من الذين يتجاوزون شريعة الربّ. إنسان واحد فاضل، وإن حُرم من الأولاد، يؤمّن ازدهار المدينة، ويخلّد في أعماله، وقبيلة من الأشرار لا تنجح إلاّ في التدمير، كما قال النصّ العبريّ (لا 26: 30ي؛ تث 28: 15).

وتشكّل آ 5 - 6 انتقالة بين المقطعين. فخبرةُ سي الشخصيّة تجد ما يسندها في الأجيال السابقة: نجاح الأسرة الفاضلة. دمار الأشرار الذين أثاروا غضب الله. نلاحظ أنّ الكاتب لم يذكر الطوفان مع أنّه ذكر الجبابرة (آ 7 - 10) والسدوميّين، مواطني لوط (العبريّ)، والكنعانيّين الذين لحقهم الحرم (ح ر م) وما زالوا يفتخرون بخطاياهم، وبني إسرائيل الذين ما توقّفوا عن التذمّر (سريانيّ).

فالتاريخ يعلّمنا (آ 11 - 14)، وتطبيق هذه الأحداث على الواقع أمر سهل. إنّ قدرة الله وعدالته اللتين لم تعفيا في الماضي عن الخطأة الكثيرين، تصيبان كلّ فرد يقسّي رقبته (م ق ش هـ. ع ر ف). فالإله ذاته الذي يغفر للخاطئ التائب، يعاقب الخاطئ الذي يرفض التوبة. هذا يعني أنّه يدين بالعدل. كلّ إنسان يقف أمامه مع أعماله.

ويقدّم الخاطئ اعتراضين على هذا الإيمان بالمجازاة الأخيرة (آ 17 - 23). الأوّل: صغارةُ الإنسان في وُسع الخليقة، تجعله يُفلت من انتباه الله ومن دينونته. قد لا يراه. ولكنّ مثل هذا الكلام جنون. فالله يعرف كلّ خلائقه ويمتلكها امتلاكًا تامٌّا. وحين يزورها في مثل هذه الحالة فلكي يعاقبها. والاعتراض الثاني: الطبيعة كلّها ترتجف أمام الله، والإنسان أعمى لا يفهم، ولا يعرف، ولا يميّز سلوك الله ومقدّمات عقابه، بل يشجّع نفسه ويقول إنّ الله ما زال بعيدًا وساعة الحساب تأخّرت فلا نحسب لها حسابًا. مثل هذا القول يدلّ على »ناقص القلب« على جاهل، ضالّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM