الفصل الخامس عشر: الحكمة في التعامل مع الأغنياء.

 

الفصل الخامس عشر

الحكمة في التعامل مع الأغنياء (13: 1 - 14: 19)

1- المقدّمة

في هذا المناخ، يُطرح سؤالٌ: إلى أيّ حدّ نستطيع أن نقيم علاقات مع أغنياء متكبّرين؟ بعد أن أفهم ابن سيراخ الغنيّ الصالح أن يحذر أصدقاء يبحثون عن مصلحتهم، توجّه إلى فئة أخرى فحذّرها من معاشرة الأغنياء (13: 1 - 8) والمقتدرين (آ 9 - 13) الذين يُفتَرضون أشرارًا بحسب سي 4: 20 - 31؛ 6: 5 - 17؛ 8: 1 - 9، وبحسب الحكمة المصريّة. إذن، لا ننتظر منهم شيئًا (آ 15 - 19). وإن فعلنا كنّا مجانين.

ثمّ يقدّم الحكيم نصائح حول استعمال الغنى (13: 24 - 14: 19). إذا كان الغنيّ، بشكل عام، خاطئًا (ف 13؛ مت 19: 24؛ يع 5: 1)، فالغنى ليس بشرٍّ. ولهذا حدّد سي الذي وجّه كلامه إلى غنيٍّ فاضل (3: 28 - 4: 10؛ ف 12) أنّ الغنى الذي نقتنيه بالعدل هو صالح (13: 24 - 14: 2). والسعادة التي يمنحها فتنطبع على الوجه، يدمّرها الطمع (آ 3 - 7) والبخل (آ 8 - 10). إذن، نعرف كيف نستعمله من أجل الله (آ 11 - 12)، من أجل الأصدقاء (آ 13) ومباهج الحياة (آ 14 - 16). وينتهي هذا الإرشاد كالعادة بنظرة إلى الموت (آ 17 - 19): »كلّ عمل يفسد ويزول، ومعه يزول صاحبه«.

نقرأ في 13: 1 - 14: 29 ملاحظات متنوّعة وأقوالاً حول الغنيّ والفقير واجتماع الواحد بالآخر. بعد ملاحظة عامّة حول عدد من الأوضاع، يعطينا ابنُ سيراخ أمثلة حول طريقة تصرّف الغنيّ مع الفقير من أجل مصلحته الخاصّة. ثمّ تأتي تحذيرات حول الاتّصال مع الوجهاء. في أقوال الآباء (2: 3) نقرأ: »كن حذرًا مع السلطات، لأنّهم لا يسمحون لأحد بالاقتراب منهم إلاّ من أجل أهدافهم الخاصّة. يبدون كأصدقاء حين تكون مصلحتهم هنا، ولا يقفون قرب إنسان في ساعة الحاجة«. فالشبيه يجتمع بالشبيه. لهذا لا يجتمع الغنيّ والفقير. فالمهمّ في إطار الفقر والغنى، هو الضمير الصالح. وفي النهاية، هو كلام عن الإنسان الحقير والحياة التي يعيشها وإن كان غنيٌّا. فالحياة عابرة. هي تشبه أوراق الشجر التي تتساقط. أو الثوب الذي يبلى.

2 - نظرة إلى النصّ

13:1. الغنيّ المتكبّر هو (أو: الهازئ في العبريّة) من ينصب الفخاخ. إذن، نبتعد عنه. لا نعاشر من هم أكبر منّا.

آ 2. قدر من طين ومرجل من حديد. تنكسر القدر. هو تشبيه نجده عند إيزوفوس (600 ق.م.). وأضاف العبريّ والسريانيّ: لماذا يترافق (يتشارك) الغنيّ مع الفقير؟

آ 3. يفتخر الغنيّ بغضب. إن أساء. والفقير يعتذر، يبكي.

آ 7. يفرض عليك أنّ تدعوه أكثر من مرّة. في العبريّ: »يتلاعب بك ما دام يستفيد، ويوقّرك مرّتين وثلاثًا«.

آ 9 - 13. بعـد الغنـيّ، نحـذر الإنسان المقتـدر. نحذر العظمـاء. في العبـريّ (آ 9): »إن اقترب أحدٌ ابقَ بعيدًا، فيجعلك تقترب«.

آ 12. يضيف العبريّ: »إنّ عُيِّن القدير حاكمًا، لا يرحم بل يتآمر على حياة الكثيرين«.

آ 13. في العبريّ: »لا تمشِ مع المقتدرين«. أضاف اليونانيّ: »إن سمعتَ هذا في منامك، فاستيقظ وأحبَّ الربَّ كلّ حياتك وادعُه لخلاصك«.

آ 15 - 24. توازٍ بين الأغنياء والفقراء. هم مختلفون جدٌّا فلا يتوافقون. هما صنفان لا يجتمعان.

آ 17. هي عداوة معروفة. من يجمع الذئب إلى الحمل؟ فقط في الأزمنة المسيحانيّة (أش 11: 6؛ مت 10: 16).

آ 21 - 27. النجاح للغنيّ. والتعاسة للفقير. أصدقاؤه يبعدونه، أو يُرسَل من صديق إلى آخر (العبريّ).

آ 22. في العبريّ: »يتكلّم الغنيّ والكلّ يسكتون، وبلاهته تُرفَع إلى الغيوم«. رج آ 23.

آ 24. ليس الغنيّ شرّيرًا في كلّ حال، ولا الفقير صالحًا في كلّ وقت. كلّ شيء يرتبط باستعداد القلب.

14:1. بعد خطر الغنى، أعلن سي نّ البارّ وحده سعيد.

آ 2. يريد أن يكون بارٌّا لدى الله وينعم بحمايته.

آ 3. هنا يبدأ كلام عن الحسد والطمع.

آ 7. غابت من العبريّ.

آ 8. غابت من السريانيّ ومن العبريّ: الشرّير يميل بنظره عن المحتاج.

آ 9. من أخذ حصّة قريبه خسر حصّته (العبريّ). في السريانيّ: »من أخذ ما لرفيقه خسر نفسه«.

آ 10. العبريّ: عين شرّيرة (رع). ويضيف: عين خيّرة تُكثر الخبز. ومن عين يابسة ينزل الماء على المائدة.

آ 11 - 19. هنا كلام عن استعمال الغنى. في هذه الآيات نكتشف نظرة سي إلى الحياة، وكيف التعامل معها في هذا المجال. هو في خطّ متطوّر. رج جا 2: 24؛ 3: 12، 22؛ 5: 17 - 19.

آ 12. فكرة الموت. رج 1: 13. وموعدك مع الجحيم (هاديس، شيول، مثوى الأموات). حدّد الربّ لكلّ واحد وقتًا يأتي فيه إلى الشيول.

آ 16. حسب النظرة التقليديّة، النفس التي نزلت إلى الشيول، لا تعرف الفرح ولا الألم.

آ 19. كلّ شيء ينتهي في الفساد، والإنسان يتبع أعماله. رج رؤ 14: 13. الأعمال تتبع صاحبها.

3 - شرح الآيات (13: 1 - 14: 19)

أ - كبرياء الأغنياء (13: 1 - 23)

أوّلاً: معاشرة الأغنياء والمقتدرين (آ 1 - 13)

قال المثل: »من لمس الزفت توسّخ« (آ 1)، وسّخ يديه. إلتصقت (د ب ق) يده. وهكذا من يرافق الإنسان المتكبّر، لا يستطيع أن يحفظ نفسه من كلّ لوم. الساخر هو من يحتقر ديانة الآباء. وحين يكون الشخص الذي نرافق أكبر منا، نتأثّر به.

ونتعرّض للعار (آ 2) لأنّنا نسير مع أناس أكبر منّا، ونحن لا نستطيع أن نماشيهم ونعيش حياتهم. فنكون كمن يحمل حملاً ثقيلاً فيقع تحته. هذه العلاقات التي لا نسبة فيها، لا مخرج منها للفقير. كما تحمل إليه الخطر. والغنيّ الواعي مكانته (آ 1)، يستفيد من حقوقه ومن الصداقة التي تنازل بها إلى الفقير. يسيء إلى صديقه، يشتمه، يظلمه، ثمّ يحسب نفسه الضحيّة (الذئب والحمل). أمّا الفقير فلا حقّ له سوى الصمت. وعليه أن يبادر إلى المصالحة والغفران إذا أراد أن يتجنّب شرورًا أكبر.

ثمّ إنّ الغنيّ أنانيّ وطالب مصلحة (آ 4 - 7). ما دام ينتظر إفادة من هذه الصداقة، يستعملها ويبقى متعلّقًا بصديقه الذي يعرِّيه شيئًا فشيئًا بدون أيّ انزعاج داخليّ. لا يُتعب رأسه. لا يكتئب (ك أ ب). يظنّ الأغنياء أنّ العالم جُعل لهم، وأنّ الصغار يساوون الفائدة التي يقدّمونها لهم. هذا ما يختبره مرارًا أولئك الذين يرتبطون بمصير الكبار، فيخسرون مالهم وحياتهم، ولا يحصدون سوى الألم، بعد أن تطلّعوا إلى آمال باطلة وركضوا وراء الأحلام.

أمّا الغنيّ الذي لا يهمّه سوى مصلحته، فهو يتظاهر بالسخاء ويُخفي عواطفه الحقيقيّة ويجعل المواعيد أمام صديقه فيؤكّد له أنّ مستقبله أكيد. ولكنّ الواقع هو غير ذلك. هذا الغنيّ يدعو الفقير ويفرض عليه أن يبادله الدعوات. أو هو يطلب منه الخدمة بعد الخدمة بحيث يستعبده. ولكنّ هذا فوق مقدور الفقير، فيحسّ بالذلّ. حينئذٍ يكشف الغنيّ عواطفه ويهزأ بضحيّته بعد أن يتركها على الحصيرة.

لهذا كان إرشاد من أجل الاحتراس (آ 8). قال العبريّ: »احذر التكبّر ولا تشبه ناقصي العلم«. فالتكبّر الذي يدفع الإنسان إلى أن يرتفع فوق طاقته بواسطة علاقات رفيعة، يقود إلى الدمار. كذا كان الأمر في الماضي، وكذا هو الآن.

وينتقل سي 9 - 12 من العلاقات مع الأغنياء إلى العلاقات مع المقتدرين، وقد نجد هنا تلميحًا إلى الحاكم الغريب. لا نسارع إلى الجواب، بل نفعل مثل داود مع شاول (أم 18:18) الذي جعله ينتظر بعض الشيء. حين نتسرّع في التجاوب مع الوجيه ونحاصره، يملّ منّا ولا يعود يحترمنا. ولكن الابتعاد عنه يعرّض للخطر فائدة تلك الصداقة. قال الإسكندر الكبير: »نقترب من الحاكم كما من النار. نقترب بعض الشيء لنحسّ بالدفء. ونبتعد بعض الشيء لئلاّ نحترق«. نحن قريبون من امينيتوبي: »لا تجعل إنسانًا يتذكّرك، ولا تسعَ لطلب يده. إن وجَّه إليك الكلام تقبَّل ما يقدّم لك. فما من فقير يرفض ذلك. لا تخفض عينيك ولا رأسك«. ولكن نحترز حين نعطي ثقتنا ونصبح قريبين دون تحفّظ، فقد نكون أمام ثعلب يظهر محبّته وبساطته، ولكنّه يبحث، يختبر، ويسأل ليعرف الأسرار وينشرها ويستخدمها. يكون بلا شفقة فيستعمل العنف ليحصل على المعلومات، أو ليعاقب بالسجن خطايا قلناها له في الخفية (9: 13). هو تعارض بين وجه رضيّ يتصنّعه الأمير، وأهدافه مع ما فيها من مصلحة (مز 120: 7). بالنسبة إليه الغاية تبرّر الوسائل.

وتأتي خاتمة (آ 13) شبيهة بما في آ 8: نتعلّم الفطنة في أقوالنا حين نكون في محيط اجتماعيّ أرفع منّا. نحن نمشي مع خرابنا. وقال العبريّ: »لا ترافق رجال العنف، لئلاّ يرافقك السقوط«.

ثانيًا: إحذر صداقة الأغنياء (آ 15 - 23)

المثال الذي نجده في الطبيعة يعلّمنا هذه الشريعة العامّة (آ 15 - 16): لا قرابة ولا تجمّع بين كائنين مختلفين. فالحيوانات تجتمع مع ما هو من جنسها لأنّها تشبهها. ونقول الشيء عينه عن الإنسان الذي يجتمع مع أناس يشبهونه على مستوى الطبيعة والطبع والوضع.

فالاختلاف الكبير على مستوى النظرة الدينيّة وعلى مستوى الثروة (آ 17 - 20) يمنع كلّ وحدة حميمة: صداقة بين البارّ والشرّير (أم 19: 57)، بين الوثنيّ واليهوديّ، بين الغنيّ والفقير، بين الذئب والحمل، بين الضبع والكلب. كانوا يجعلون الكلاب تحرس القطيع في وجه الضباع التي كانت كثيرة. لهذا كانت العداوة بين الضباع والكلاب، فصارت مضرب المثل (أش 56: 10؛ أي 30: 1). والفقير هو ضحيّة الغنيّ (يع 2: 16)، على مثال الحمار الذي هو طعام الأسد في البرّيّة (أي 24:5). فالغنيّ المتكبّر الذي يرمز إليه الأسد (مز 34: 11؛ 35: 17؛ زك 11: 3)، يكره المحتقَرين والوضعاء، ويسخر من الفقير. هي عواطف مشتركة تبرز في الآيات الثلاث التالية.

أن يتعارض وضع الغنيّ والفقير، هذا ما تبرهن عنه الخبرة اليوميّة (آ 21 - 23). فإن تزعزع الغنيّ (مز 13: 5) وتهدّدت ثروته، جاء الجميع يساعدونه. ولكن إن سقط الفقير تركوه، بل داسوه بالأرجل. بمن فيهم أصدقاؤه في أيّام الخير. ثمّ يقترف الغنيّ ذنبًا أو يقول أشياء معيبة. فالممالقون يقفون بجانبه، يعذرونه. أمّا الفقير فيُحكم عليه حالاً. وإن قال شيئًا فيه الفهم لا يبالون به (جا 9: 16)، بل يقولون له: لا يحقّ له سوى الصمت. وإن قال كلمة في غير محلّها، يكون هلاكه. للغنيّ المديح، وللفقير التوبيخ. واحد هو دومًا على حقّ، وآخر على خطأ.

ب - استعمال الغنى (13: 24 - 14: 19)

تُقدَّم هنا وصايا تتعلّق باستعمال الغنى. على المستوى الخلقيّ (آ 24)، الغنى والفقر ليسا صالحين ولا طالحين. كلّ شيء يتعلّق بالتعامل معهما. ولكن يبقى فرقٌ صغيرٌ وضعي$ بين الاثنين. فإن كان الغنى خيرًا يجب أن نكون امتلكناه بالصدق، ويجب أنّ نستعمله بالحقّ. أمّا الفقر فهو شرّ في نظر الأشرار بسبب التكبّر (زاون). إذن، في حكم البشر الذين لا يقدرّون القيمَ الأخلاقيّة حقّ قدرها.

في الحقيقة (آ 25 - 26) ليست الظروف الخارجيّة هي التي تؤمّن سعادة الإنسان أو شقاءه، بل استعداداته الحميمة وقلبه (كارديا). كلّ هذا يظهر في وجه حزين أو فرح (أم 15: 13؛ 8: 1). فالوجه والقلب يتعارضان، كما المنظور واللامنظور. والوجه يساعدنا على تفسير ما في القلب على المستوى المادّيّ (إر 30: 6؛ أش 13: 8)، كما على المستوى الأدبيّ. فالفرح يجعل القلب طيّبًا (ل ب. ط و ب) مشعٌّا، مستنيرًا (ن هـ ي ر ا، في السريانيّ). والحزن يغطّيه بالعتمة والسواد. بل الوجه هو مرآة النفس. قد تخطئ هذه الإشارات، لأنّ التعب قد يقسّي الوجه في شكل موقّت. وهناك من قال: عينان حزينتان تدلاّن على الملل والتعب.

إذن، من هو السعيد الحقيقيّ؟ 41: 1 - 2. من يكون وجهه هادئًا ومبتسمًا. أو ذاك الذي حمى نفسه من السقوط في الشرّ (أولستانو، زلق وسقط، 25: 8)، ولاسيّما في خطايا اللسان (النميمة، العجرفة). وذاك الذي لا يكون ممزَّقًا، موجعًا (كاتانيسو) في ضميره. إذن، السعادة الحقّة ليست في الخيرات الخارجيّة (أي 1:21)، بل في السلام الداخليّ، في الوجدان. ذاك هو شرط رجاء مؤسَّس على ا؟.

والبرهان أنّ المال لا يصنع السعادة (آ 3 - 7)، نجده بشكل كافٍ لدى البخيل (مكرولوغوس، حساب صغير. ل ب. ق ط و ن: قلب صغير في العبريّة. ل ب ا. ز ع و ر ا، في السريانيّ). لا يعرف أن يستعمل ماله ولا يستفيد منه. ثمّ لدى الرجل الحسود والجشع (آ 8 - 10) (باسكانوس، عين شرّيرة: ع ي ن. رع. في العبريّ. ع ي ن ا. ب ي ش ت ا، في السريانيّ). فالجشع يعتبر أنّ ما لديه لا يكفي، فيرغب في الزيادة (أم 28: 22). كلاهما تعيسان مع غناهما. ثمّ إن الثروة التي تعب الغنيّ في جمعها وحفظها بعد اقتصاد ذميم، تُصرف بسرعة لدى الورثة (جا 6: 21) الذين يعيشون في الرخاء (تريفاوو) وفي الفلتان، بفضلها.

البخيل قاسٍ على نفسه وقاسٍ على الآخرين. وهو لا يفهم الفرح الفرح الذي يمنحه الغنى حين يساعد القريب. هذا يعني أنّ الثروة تمنح سعادة لأنّها وسيلة راحة شخصيّة وبها تتمّ مساعدةُ الآخرين (جا 5: 9 - 19). ولكنّها ينبوع عذاب وخطيئة لمن لا يعرف أن يفيد منها. لهذا فالجشِع يُعاقب بجشَعه. وحين يرفض لنفسه ما يرفضه للآخرين، يصير عدوّ نفسه. لا يحبّ نفسه ولا يحبّ غيره. فيشبه الوحوش. وإن حصل وفعل خيرًا، فبغير انتباه، فيندم ويتمنّى أن يستعيد ما أعطاه. وهكذا، يكشف سوء عواطفه.

أمّا الغيور (آ 8 - 10) الذي لا شيء يُشبعه، فهو فاسد الخلق. يخنق في قلبه أنبل العواطف. هو بلا رحمة. يميل بوجهه عن الفقراء، يحتقرهم (4:4 - 5؛ طو 4: 7)، يتجاهل حاجاتهم، يرفض مساعدتهم. وهو لا يكتفي، فيجد أنّ ما له قليل (جا 4: 8)، فلا يتردّد في اقتراف الظلم ليُنمي أمواله. بما أنّه خسر روح الإنسانيّة واللطف، لا يستطيع أن يُفرح الآخرين، ولا أن يُسعد نفسه وسط غناه. لهذا يقال: يبست نفسه. صارت ناشفة. لا ماء فيها ولا حياة (عد 112: 6؛ مز 22: 16). وفي النهاية، هو فقير معوز رغم مجهوده لتكديس الأموال. فهو لا يستفيد منها. هي صنم يركع أمامه. لا يأكل فيشبع. لا يلبس فيتنعّم.

وبعد أن شجب سي 11 - 12 الاستعمال السيِّئ للغنى، قدّم القواعد لحسن استعماله بالنظر إلى طبيعته (خريماتا): هو في خدمة الإنسان. وهو يؤمّن له سعادة في الآخرة. أوّلاً، ننعم بالغنى، ثمّ نشكر الله صاحب المواهب. قال العبريّ: »إن استطعت كن سمينًا«. أمّا اليونانيّ فخفّف الكلمة: »عامل نفسك معاملة حسنة«. فالموت ينتظرنا، ونكون جهلة إن لم نستفد من الإمكانيّات الخاصّة لنا من أجل سعادة لا نجدها بعدُ. فهناك قرار حدّده الله من أجل دخولك إلى عالم الأموات (هاديس). وهو مستور عنّا. الشيول في نظر ابن سيراخ هو مثوى جميع الأموات (9: 12) سواء كانوا أشرارًا (21: 9 - 10) أم أبرارًا (41: 4). وإمكانيّة الخروج شبه مستحيلة، (48: 5). هو موضع راحة (22: 9؛ 30: 17؛ 38: 23؛ 46: 19) شبيه برقاد هادئ حيث الموتى يعيشون حياة منقوصة. لا نور (22: 9) ولا فرح (14: 16) ولا مديح ؟ (17: 27: ليس الأموات يسبّحون الربّ). ذاك هو التعليم التقليديّ في الكتاب المقدّس. ولكن حين نُقل الكتاب إلى اليونانيّة، تبدّلت النظرة اليهوديّة إلى الآخرة. صار الشيول موضعًا وسطًا يجازي الأخلاق خيرًا قبل الدينونة الأخيرة، ويتضمّن أربعة أمكنة: اثنان للأبرار واثنان للأشرار. فالخطأة الذين يشكّلون المجموعة الرابعة يتعذبّون منذ الآن ولا يقومون (1 أخن 22). فالشيول بالنسبة إليهم هو جهنّم. موقع إقامة الهالكين. وإذا كانت الحياة بعد الموت باهتة، نفهم أهمّيّة السعادة على هذه الأرض: هي عطيّة من الربّ وجزاء الفضيلة. من أجل هذا نستفيد، كما قال ابن سيراخ.

والحكيم يستعمل أيضًا غناه (آ 13 - 16) من أجل الصدقة والاحسان. يعطي أصدقاءه بسخاء بقدر إمكاناته (العبريّ: حسب يدك، أم 3:27 - 28). إذن، لا يُكثر ولا يُقلّ. ويُعطي في الوقت المناسب (11: 25؛ أس 9: 19. في العبريّ: لا تحرم نفسك من سعادة اليوم). يستفيد من ظروف الحياة (جا 7: 14؛ 9: 7 - 10). وإذا كنّا لا ننعم الآن بما نملك (156)، فنحن لن ننعم به أبدًا. فنحن مائتون، لا خالدون، وما جمعناه بالتعب، نتركه وراءنا فيبذّره الورّاث. إذن، لماذا نتركه؟ خيرات الأرض جُعلت لكي نصرفها في هذه الحياة، لا لنخزنها. ذاك ما يعارض عواطف البخيل. وتوجز آ 16 كلّ هذا: أعطِ أخاك. فرّح نفسك. قال إيخيلوس في »الفرس« (841 - 850): »في وسط الشرور، إمنحوا نفوسكم الفرح الذي يقدّمه كلُّ يوم. فلدى الموت لا نفع من الغنى«. وقال تيوغنيس (973 - 974): »الإنسان هو على الأرض ولا يعرف أن يتذوّق اللذّة. أمّا أنا فأملأ قلبي بالفرح«.

هذا المقطع الذي يدعونا إلى الفرح في حياة الإنسان، يعود بنا إلى سفر الجامعة (9:7ي)، لا إلى سي الذي ينسب الفرح إلى مخافة ا؟ (1:12؛ 24:25. ولكن رج 30:21ي؛ 31:27 - 28؛ 32:1 - 13). هناك من نسب كلّ هذا إلى العالم الإبيقوريّ، ولكن لا حاجة إلى ذلك. فهذا المفهوم حاضر في العالم السامي منذ ملحمة غلغامش. في الواقع، انطلق الكاتب من البخل والجشع، فأفهم المؤمنين والوثنيّين معًا ما في البخل من حماقة إذا لم نتطلّع إلى الشقاء الذي ينتظرنا في الحياة الأخرى.

كالإنسان يبلى (ي ب ل هـ، في العبريّة، وفي السريانيّة: م ب ل) (آ 17 - 19) مثل ثوب (أش 50:9؛ مز 102:27؛ أي 13:28) لا يعود ينفع لشيء. فلا مهرب من الموت، والجميع يختفون الواحد بعد الآخر (أش 40: 6 - 8؛ أي 14: 2؛ جا 1: 4). فالبشر مثل أشجار: تسقط أوراقُها اليابسة وتنبت أوراق جديدة (أش 34: 4؛ تلمود بابل عروبين 54أ؛ هوميروس، الإلياذة 6: 146ي؛ 21: 464ي). فالإنسان مركّب من لحم ودم. إذن، هو فاسد. هو مائت. وبما أنّ النتيجة لا يمكن أن تكون أفضل من العلّة، فأعمال الإنسان وغناه فاسدة أيضًا: »عمل يديه يسير وراءه« كما قال السريانيّ والعبريّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM