الفصل الرابع عشر: الحكمة في حياة الأغنياء.

 

الفصل الرابع عشر

الحكمة في حياة الأغنياء (11: 10 - 12: 18)

1- المقدّمة

نستطيع أن نجمع في هذا الفصل (11: 10 - 12: 18) الأفكار التالية:أصل الغنى (11: 10 - 19)، تحذير من الاتّكال على المال (11: 20 - 28)، علاقات الغنيّ بالآخرين (11: 29 - 34)، المتنعِّمون بماله وإحسانه (12: 1 - 7)، أصدقاء الغنيّ وأعداؤه (12: 8 - 19).

تبدأ القصيدة مع »يا ابني«، فتدلّ على موضوع جديد. ويكون كلام عن الذين يكدّون ويتعبون ولا يجدون ثمرًا. هكذا اعتدنا أن نقرأ في جا 4: 8؛ 9: 11. في آ 14 - 18، نجد النقائض حيثُ كلّ شيء يأتي من الربّ: الخير والشرّ. الحياة والموت. الفقر والغنى. أمّا الواجب الأساسيّ للمؤمن فهو تتميم ما يطلبه العهد. ومن هنا تنبع سائر المسؤوليّات.

بعد ذلك تأتي نصائح حول اختيار الأصدقاء والمشاركين في العمل: فمن أضاف (أو صادق) أوّل عابر سبيل، وجب عليه أن يتحمّل النتائج. بعد ذلك نسمع صوتَ المعلّمين حول العطاء. ثمّ عددًا من الأقوال حول الأصدقاء، والأغنياء. في الرخاء، لا نستطيع أن نعرف الأصدقاء. وفي الضيق، يكون العدوّ هنا. ونجد في النهاية تفسيرًا حكيمًا حول تصرّف من يعتبر نفسه صديقًا. ولكنّه في الواقع صديق كاذب ينبغي أن نتجنّبه.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 10. لا نستطيع أن نتّكل على البرّ. وحده العون الإلهيّ فاعل. في العبريّ: »يا ابني إن لم تركض لن تدرك، وإن لم تطلب لن تجد«. رج 38: 24 حيث يطلب سي أن نرتاح ونأخذ بعض الحرّيّة، إذا أردنا أن نكون حكماء.

آ 11. لا يثق سي بنجاح النشاط البشريّ. يتعب الإنسان ولكنّه لا يزداد غنًى.

آ 12. من حالته الوضيعة. في العبريّ: من تراب الفساد. السريانيّ: من التراب والرماد.

آ 14. أضافت بعض المخطوطات اليونانيّة والسريانيّة آ 15 - 16: »من الربّ الحكمة والفهم ومعرفة الشريعة، وكذلك المحبّة وطرق الأعمال الصالحة. والضلالُ والظلمة خُلقا للخاطئين، والذين يُسرّون بالشرّ يشيخون في الشرّ«.

آ 17. سعادة الشرّير عابرة، وازدهار البارّ (أو التقيّ) يدوم إلى الأبد.

آ 19. عبريّ: لا يعرف ما يكون مصيره.

آ 20. هو عهدك مع الله الذي يمنحك رضاه (آ 17)، ويطلب منك، في المقابل، حياة توافق شريعته. فعلامة العهد الشريعة. حسب العبريّ، نجد تحذيرًا من التشتت ودعوة إلى المثابرة. وإن نجح الشرّير، فلا تعجب من نجاحه. مع آ 20، يفهم الإنسان أهمّيّة الموت.

آ 23 - 24. نجد هنا الإنسان المغمور بالخيرات والذي لا همَّ له بالنسبة إلى المستقبل. وفي لحظة، في ساعة الموت، تُدمَّر كلُّ سعادته. قد يكتفي الإنسان بما لديه فيدلّ على تكبّر واكتفاء ذاتيّ يجعله لا يتطلّع إلى الله. أو قد لا يكون راضيًا بما حصل عليه، فيطلب ويطلب.

آ 28. شكّ الكاتب في دينونة تُصيب البشر في يوم موتهم، ولكنّه لم يحدّد طبيعة المجازاة. هنا يلتقي سي مع العالم اليونانيّ. نذكر فقط »أوديب ملك« (1515 - 1530): »هذا الرجل القدير (أوديب)، أيّ مواطن لم يكن ينظر بغيرة إلى نجاحه؟ والآن أُحدِرَ في موج قاسٍ من الشقاء. لهذا ننتظر اليوم الأخير قبل أن نقول عن مائتٍ إنّه سعيد قبل أن يعبر نهاية حياته دون أن يتحمَّل أيّ شرّ«. في أبنائه. في العبريّة: في النهاية (ب ح ر ت هـ، في السريانيّة).

آ 29. نحذر الشرّير. نحذر فخاخه والجراح التي يمكن أن تصيبنا (عبريّ، سريانيّ).

آ 30. هي صورة عصفور يُوضَع في قفص فيدعو سائر العصافير. وقلبُ المتكبّر يجتذب القريب إلى فخاخ الخطيئة. هنا يرد نصّ عبريّ لا نجده في اليونانيّ، بل نجد بعضه في السريانيّ: »مثل قفصٍ مليء بالعصافير، هكذا امتلأت بيوتهم سرقة. مثل عصفور أُخِذ في قفص، ذاك هو قلب المتكبّر. مثل ذئب مستعدّ ليمزّق فريسته، ما أكثر أخطاء النمّام. هو مثل كلب بين الذين يأكلون في البيت، ويكون عنيفًا. هكذا يأتي النمّام ويجعل الخصومة في كلّ سعادتهم. والمفتري ينتظر كدبّ قرب بيت الهازئين، ومثل جاسوس يتفحّص نقاط الضعف«. في اللاتينيّة: »كما نتقيّأ أمعاء الناس البغيضين، وكما يُجتذَب الجملُ في القفص، والعنزة في الشبكة، هكذا قلب المتكبّر، وكذلك الجاسوس الذي يرى دمار قريبه«. في السريانيّ: »ما أكثر ذنوب الأشرار الذين يدخلون إلى كلّ بيت ويخطفون. هكذا الشرّير يدخل إلى كلّ بيت ويضع البلبلة«.

آ 33. بين آ 33 وآ 34 أضاف العبربيّ: »لا ترتبط مع الشرّير فقد يُحيِّد طريقك ويميل بك عن عهدك«. (في السريانيّ أيضًا). نجد هنا تلميحًا إلى حضارة هلّنيّة تُبعد المؤمن عن الشريعة.

12: 1. هناك حسنات وحسنات، ونحن نميّزها. وحين نعطي، نعرف أنّ المساومة مع العالم الهلّينيّ تحمل الخطر الكبير. في العبريّ: إن عملتَ الشرّ للرجل الصالح، فلمن تعمل الخير؟«

آ 3. لا فائدة من عمل الخير للشرّير، فأنت لا تعمل عملاً صالحًا. في اللاتينيّ: »فالعليّ ذاتهُ يبغض الخطأة ويرحم التائبين«.

آ 4. هي آية لا نقرأها في العبريّ ولا في السريانيّ. فهي تتكرّر في آ 7. فيها بعض الروح الفرّيسيّة، حيث التقيّ يميَّز عن الخاطئ في مجال من يمكن أن نعطي. أضاف اللاتينيّ: »يسومهم عقابًا للأشرار والخطأة، ويحفظهم ليوم العقاب. أعطِ الصالح ولا تتقبَّل الخاطئ. وبدل »لا تساعد الخاطئ«، نقرأ: »لا تقبل شيئًا من الخاطئ«.

آ 5. العبريّ: »لا تعطه سلاح حرب لئلاّ يستعمله عليك«. في السريانيّ:» لئلاّ يتحارب به معك«. ويضيف العبريّ بعد »المعروف«: »في زمن الجوع«. نلاحظ هذا العطاء المشروط، الفطن بفطنة الشرّ تجاه محبّة لا تضع شروطًا. رج مت 5: 43 - 48.

آ 6. تضيف اليونانيّة: »يحفظها ليوم الحساب«.

آ 7. نلاحظ هنا الفطنة البشريّة والتحفّظ تجاه الآخرين. هي تتوقّف عند محبّة الذات. قد يدلّ هذا على وضع من الضيق يفرض على كلّ إنسان أن يتدبّر أموره. أضاف العبريّ: »برّدِ المتواضع ولا تعطِ شيئًا للمتشامخ«. في اللاتينيّ: »لا تكلّم أحدًا قبل أن تسأل. وبعد أن تسأل وبِّخ بعدالة«.

آ 8. كيف يكون الأصدقاء الحقيقيّون والأصدقاء الكاذبون؟

آ 10. كما أنّ الصدأ يؤثِّر في المعدن في النهاية، الشرّ ينكشف في يوم من الأيّام. وإمكانيّة أخرى: كما يختفي الصدأ في المعدن كذلك يتخفّى الشرّ. رج آ 11.

آ 11. في العبريّ: »كن معه مثل من يكشف سرٌّا فلا يقدر أن يُسيءَ إليك. إعرف آخرة الحسد«. كذا في السريانيّ مع فعل »ي د ع«، عرف.

آ 14. أو: من يساير امرأة وقحة. وفي النهاية يضيف العبريّ والسريانيّ: »لا يعبر إلى أن تتّقد فيه النار. ما دام يسير معك لا ينكشف لك، وإن سقطتَ لا يسقط ليساعدك«.

آ 18. يفرك يديه. هو ربحَ المعركة، ويدلّ على هزِئه منك. وهكذا يبيّن أنّ تعاطفه كان كذبًا ورياء. رج آ 16.

3 - شرح الآيات (11: 1 - 12: 18)

أ - أصل الغنى (11: 10 - 19)

إن كان هناك من اعتدال وفطنة في الحكم على الآخرين وفي الكلام (11: 2 - 9)، فهناك أيضًا اعتدال في النشاط ينبثق من إيمان بالعناية الإلهيّة التي منها تنبع كلّ الخيرات. هو تكالب على العمل من أجل الربح، وننسى أنّ الربّ هو من يبني البيت.

لا ننطلق في مشاريع (بركسايس، اهتمامات، أعمال) عديدة ومتنوّعة (آ 10) حين يؤخذ الإنسان بعدد من الأعمال الزمنيّة، يدل أنّه يعارض الحكمة. في أقوال الآباء (4: 14): »تكون لنا مشاغل قليلة ونهتمّ بالتوراة«. في هذه الحمّى من العمل، يصعب علينا أن نحافظ على وعي في النظرة الروحيّة. وأن نبقى أمناء لما يطلبه وجداننا. ثمّ حين نقوم بعدد من الأعمال، لا ننجح في شيء، نبدأ بأمور كثيرة ولا ننهي واحدًا منها. إنّ التسرّع في النشاط ينطبق على تكديس الأموال حسب العبريّ الذي استلهم أم 28: 20 (من استعجل الغنى لا عذر له. إذن، يخطأ)، وشجب الجشع الذي هو ينبوع الخطايا. يستعمل مختلف الوسائل ليصل إلى أهدافه، ولكنّه لا يدرك ما يصبو إليه (جا 5: 9 - 16).

هي حقيقة صادرة عن الخبرة (آ 11 - 14) يقدّمها الكاتب بشكل مفارقة مع بعض السخريّة، نجد أناسًا مهيّئين للنجاح ومندفعين، ومع ذلك لا ينجحون مثل الآخرين. مجهود ومواهب، ومع ذلك ضعف، كما قالت الأسفار الحكميّة: البشر يرتبطون بالظروف الخارجيّة وبما حصل لهم من أمور لا يتوقّعونها. فمصيرهم هو في يدي ا؟. مقابل هؤلاء، نجد أناسًا ينجحون مع أنّ لا طموح لهم وينقصهم الكثير. ما أمِلوا بالنجاح ومع ذلك نجحوا. لهذا دهش الجميع دهشة (16: 11؛ إر 4: 9؛ حب 1: 5، ت م هـ، في العبريّ) قريبة من الخوف (مز 48: 6؛ أي 26: 11؛ جا 5: 7) والذعر. والسبب: جعلوا ثقتهم في الربّ الذي نظر إليهم بعين الرضى، وترأّف عليهم (11: 1) فرفعهم من التراب. إذن، عونُ الله هو عامل حاسم في النجاح، بمعزل عن استحقاق الشخص (مز 31: 16؛ 127 :1). فالله، سيّد العالم السامي، يمسك بيديه سعادة البشر وشقاءهم (أش 45: 7؛ أي 1: 21؛ 2: 10). قال تيوغنيس (165 - 166): »ما من أحد في البشر غنيّ أو فقير، صالح أو طالح، بدون إرادة الآلهة«.

فا؟ يبارك خائفيه (آ 17 - 19) كما يقول العبريّ والسريانيّ (د ح ل ا)، ولا يندم حين يعطي (روم 11: 29). وهذا الازدهار الثابت، هو أجر الإنسان التقيّ (أوسابيس). لفظ نادر في السبعينيّة، ولكن استعمله سي 14 مرّة. يقابل »ص د ي ق«: يحافظ على الاحترام في شعائر العبادة. هو الإنسان التقيّ، الورع، المتعبّد، الذي يمارس شريعة موسى (أع 10: 2، 7، كورنيليوس). إزدهار يختلف عن ازدهارٍ عابر يعرفه الأشرار الذين اقتنوه بالحرص (بروسوخي) والتقتير (سفيغياس). غير أنّ الخيرات التي تعبَ البخيلُ في اقتنائها، تؤخذ منه، في موت مبكّر، ساعة استعدّ للتنعّم بمجهوده. رج مز 49: 17ي؛ أي 27: 16، 21؛ أم 13: 22؛ جا 6: 2. هذا ما تتوسّع فيه آ 20 - 28. قال أحدهم: كلّ العطايا التي يمنحها الله للأتقياء، تتبعها السعادة والنجاح، وقد تصبح سبيلَ هلاك للأشرار.

ب - الغنى طمأنينة كاذبة (11: 20 - 28)

تجاه الغنيّ الشرّير. يجعل الحكيم ثقته في الله، لا في غناه، وهو واعٍ أنّ ما للبشر غير ثابت.

ينتج من الإشارات السابقة (آ 20)، أنّ الحكيم لا ينطلق في مشاريع عديدة ليحصل على الرفاه والغنى (آ 10). يكفيه رضى الله والأمانة للعهد (دياتيقي، ح ق، رج خر 5:14)، للمهمّة التي حدّدت له في ممارسة وصايا الله. فرضى الله وعطاياه (آ 17) هما جزء من »العهد« حيث يتجاوب الإنسان فيحيا حياته في مخافة الله ويثابر عليها في الأمانة لدعوته. »في عملك«. أي تثابر ولا تترك وظيفتك. أمّا التنقّل من عمل إلى عمل دون الثبات، فلا يعطي ثمرة.

والحكيم (آ 21 - 22) الذي يكدّ ليقوم بأوده، لا يتزعزع رجاؤه حين يرى النجاح الزمنيّ لدى »فاعلي الإثم« (ع ب د ا. د ع و لا. في السريانيّ. وفي العبريّ). فالله يقدر، كما في معجزة، أن يُغني الفقراء الذين هم خاصّته، ولا يقعون في رذائل الغنى مثل الأشرار. في العهد القديم، كان الغنى علامة على رضى ا؟. في العهد الجديد، خيرات هذا العالم ملتبسة، لذلك يحذر منها المؤمن.

في آ 23 - 27 نقرأ »خرايا«، يعني الفائدة، المنفعة. ترد عشرين مرّة في سي. في آ 23، يدور الكلام حول الفقير الذي يخاف ا؟ وييأس من شقاء عنده يترافق مع الفضيلة. لماذا؟ رج أي 2: 9 - 10؛ طو 2: 22. أمّا في آ 24، فالكلام عن الغنيّ الذي لا يخاف شيئًا ولا أحدًا. فهو راضٍ عن أعماله، عن ازدهاره، بل يتوقّف عن العمل مستندًا إلى الحظّ الذي يؤاتيه. ولكنّ هذه النظرة (المتفائلة أو المتشائمة) باطلة، لأنّ الخبرة تعلّمنا أنّنا ننسى بسرعة، الماضي السعيد، في الشقاء، والشقاء في السعادة الحاضرة. وتأتي النتيجة العمليّة: نعيش كلّ يوم بيومه دون طمأنينة كاذبة ودون قنوط ( 18: 24ي). ونجعل رجاءنا في الله الذي به يرتبط كلُّ شيء، والذي لا يكافئ في الحال مؤمنيه، بل يترك الأشرار يزدهرون.

غير أنّ النهاية الأخيرة ستكون بحسب العدالة الدقيقة. وحين ينتهي كلُّ شيء (سينتالايا) فيكشف ما كانت عليه حياة البشر، صالحة أو طالحة، كلُّ واحد يُجازى بحسب أعماله (جا 22: 14). نرى هنا تأثيرًا فرّيسيٌّا في الكلام عن الأعمال في ارتباطها بالموت. فالأعمال تُوضَع في ميزان. شرّها وخيرها. إن تغلّب الخيرُ، كانت السعادة وإلاّ الشقاء (دا 5: 27؛ تلمود بابل، قدوشين 40 ب). وبرز هذا المعتقد في توازٍ مع العقلانيّة المسيطرة في مصر، التي تتجاهل الحياة في الآخرة.

وينتج عن ذلك (آ 28) أنّ المصير الأخير (الوحيد الذي يجب أن نهتمّ له) يتحدّد في الموت. لهذا لا نستطيع قبل ذلك أن نعتبر إنسانًا سعيدًا. قال سوفوكليس في »الطرواديّات« (510): »بين الذين رضي عنهم القدر، لا تعتبر أحدًا سعيدًا، قبل موته«. وفي أندروماك (100 - 101): »يجب أن لا نحسب إنسانًا مائتًا سعيدًا إلاّ إن رأيناه يعبر الساعة الأخيرة وينزل إلى العالم الآخر«. وقال أوفيديوس في التحوّلات (3: 135): »لا يحقّ لنا أن ندعو إنسانًا سعيدًا قبل أن يترك هذه الحياة وينال الكرامات العليا«.

ج - علاقات الغنيّ (11: 29 - 34)

أمام الغنيّ أكثر من مناسبة وأكثر من وسيلة لكي يقوم بواجبات الضيافة. ولكن عليه أن يكون حكيمًا في ممارسته بحيث لا يستقبل أيٌّا كان دون أنّ يميّز.

فبين الذين يطلبون (آ 29)، هناك من لا يستحقّون، لأن مقاصدهم سيّئة ويستعدّون أن يسيئوا إلى من دلّ على صلاحه تجاههم. فالجراح كثيرة ممّن يفتري أو يتآمر. وهذا الخبث (آ 30 - 32) يشبه خبث حجل يدعو سائر الطيور لتدخل معه إلى فخّ لا تستطيع أن تخرج منه. أو خبث جاسوس جاء ليكشف مواطن الضعف لدى مضيفه. هو لا يكتفي بأن يفشي أسرارًا سمعها. بل يحوّل الخير إلى شرّ من أجل مصلحته. مثل هذا الافتراء يشبه حجرًا يُشعل حريقًا، أو صيّادًا يطلب حياة طريدته (أم 1: 11).

وإذا كنّا أمام ضيافة طويلة (آ 33 - 34)، لا بدّ من الفطنة تجاه هؤلاء الأشرار الذين يطبعون نجاسة لا تُمحى بكذبهم، فيجعلون الخلاف داخل البيت، بل يترك المؤمن المبادئ الخلقيّة التي ورثها من أجداده. يترك العهد. نحن أمام الغريب الذي يفرض معتقداته وعاداته الوثنيّة لدى مضيفه.

د - خير للذين يستحقون (12: 1 - 7)

لا يصنع الغنيّ الخير مع أيّ كان، بل فقط مع الذين يستحقّون. فالضيافة وجهة خاصّة من واجب الإحسان والصدقة الذي يُفرَض على الغنيّ. هذا ما قاله العهد القديم، وذكّرنا به ابن سيراخ. ولكنّ خبرته في الحياة علّمته أن يكون حذرًا في تتميم هذا الواجب، على مثال المعلّمين اليهود، فأضاع التجرّد المطلق ونسيَ الرحمة التي تصل إلى الجميع، بدون أيّ تمييز، كما طلب يسوع المسيح.

فالغنيّ (آ 1 - 7) يختار بفطنته الذين يعطيهم، فيتأكّد بأنّه يحصد عرفان الجميل: ط ي ب و. ل ط ي ب و ت ك: نعمة لنعمتك. أن يكون »أملٌ« (ت ق و هـ، في العبريّة) بأنّ ننال خيرًا (ط و ب ت ك). وهذا التمييز يرتبط بتقوى المحتاج. من يخاف الله يستحقّ المساعدة. وإن لم يقدر أن يشكر، فالله يبارك المعطي. ولكن ليس بعمل صالح أن تساعد الشرّير. بل نضع حاجزًا أمام خبزهم. كما لا تعطيهم سلاحًا (ك ل ي. ل ح م) لكي يحاربوك. قال تيوغنيس (955 - 956): »من خير تصنعه للشرّير ينتج شرّان اثنان. غربة عن نفسك ولا تنال عرفان الجميل«.

هذه الاعتبارات القاسية تبرّرها خاصّيّةٌ وطنيّة عرفها العالم اليهوديّ في القرن الثاني ق.م. حين انطلق خوفًا على نفسه: حين نساعد الغرباء ونؤمّن ازدهارهم، نساعد الوثنيّين على السيطرة علينا (11: 34). لهذا فالله نفسه يمجّ الوثنيّين ويرفض لهم رحمته (آ 6). وتبرز هذه البغضاء للأعداء في الأدب اليهوديّ البعدبيبليّ. ونكتشف هنا وفيما بعد، أنّ الانتماء إلى الشعب المختار لا يكفي وحده لكي يبرّرنا أمام الله (عا 9:8 - 15؛ حك 2 - 5). فقد يصبح بعضُ بني إسرائيل مع الأمم الوثنيّة، بسبب كفرهم وفلتانهم الأخلاقيّ (أم 8: 13).

و - أصدقاء الغنيّ وأعداؤه (12: 8 - 18)

يحيط عددٌ من الأصدقاء بالذين يمتلكون الخيرات الكثيرة. لهذا يعود سي إلى الفطنة في أمور الضيافة والصدقة بشكل عامّ: فلا نفعل بطيبة قلبنا، ولا نثق سريعًا بالناس إذا أردنا أن لا نندم.

من الصعب (آ 8 - 9) أنّ نميّز الصديق المحبّ (أ و هـ ب، في العبريّة) من الكاذب والشرّير (ر ع هـ). بل يستحيل ذلك ما دمنا في سعة. ولكن إن أصابنا مكروه، يتركنا الأصدقاء الذين أحبّونا عن مصلحة، وينكشف الأعداء (6: 10؛ أم 19: 4). لهذا (آ 10 - 11)، نحذر كلّ إنسان نقيم معه علاقة صداقة. فقد يكون عدوٌّا. فشرّه يشبه الصدأ الذي يؤثّر في الحديد أو الرصاص. في النهاية يظهر شرّه. أو: هو يختبئ كما الصدأ يختبئ. قد لا يفعل الآن، ولكنّه سيفعل فيما بعد. فعواطفه الشرّيرة لا تتبدّل. إذن، لن يُخدَع الحكيم بمواقف الممالقة والتصنّع التي يقفها هذا الصديق السريّ. تنبُّهُ الحكيم يُشبه عمل من ينظّف مرآة معدنيّة يمكن أن يلحقها الصدأ، فيرى في العمق الطبيعة الحقيقيّة للمعدن. وهكذا المعتبَرون أصدقاء. لا يستطيعون أن يُخفوا على الدوام وجههم الحقيقيّ. مع بعض الفطنة، ننزع القناع. نزيل الصدأ. رج يع 1: 23.

إذا كان الحكيم لا يأخذ بعين الاعتبار هذه التنبيهات (آ 12 - 14)، ويثق ثقة عمياء بصديق كاذب فيكرمه ويجعله عن يمينه، فهو مسؤول عن الشرور التي سوف تصيبه. وليس له أن يشتكي إن هو تعرّض للخطر. كالحاويّ الذي يشتكي من حيّة لدغته (مز 58: 5، 6؛ إر 8: 17؛ جا 10: 11)، أو مروّض الوحوش الذي يمكن أن يخسر أحد أعضائه (3: 21: »من يعشق الخطر يهلك فيه«). هناك نصّ جنائزيّ قديم يقول: »يا للمصير المشؤوم. وحشٌ قتلني أنا مروِّض الحيوانات المشهور في الماضي. لا في صراع في الحلبة، ولا في تمارين«. ذاك هو وضع من نقصته الفطنة، فحسبَ نفسه فوق كلّ فساد حين يعاشر الخطأة.

ويرد التحذير الأخير (آ 15 - 18) من خبث أصدقاء الغنيّ، في صورة ملموسة، حيّة (إر 9: 3ي). أوّلاً، هم متقلّبون. ما إن يظهر منّا بعض البرودة حتّى يمضوا. في الرخاء أصدقاء الكذب هم هنا، في الانحدار، لا يصبرون (العبريّ). ثانيًا، لا تتوافق أقوالهم وحركاتهم مع عواطفهم. وإن امتلكوا نفوسهم، فنواياهم منذ الآن سيّئة. وإن أصابك شقاء، يبدون وكأنّهم يتعاطفون معك. ولكنّهم يفعلون المستحيل لكي يلتهموك، وحين تسقط يهزّون الرؤوس ساخرين. يضربون كفٌّا بكفّ وينشرون الافتراءات. ينزعون القناع ويبيِّنون وجههم الحقيقيّ فيدلّون على سواد نفوسهم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM