الفصل الثاني عشر: الحكمة في العلاقات البشريّة.

 

الفصل الثاني عشر

الحكمة في العلاقات البشريّة (8: 1 - 9: 18)

1- المقدّمة

في إطار المتتالية التالية والكلام عن دور الحكمة في المجتمع (6: 18 - 14: 19)، يأتي هذا الفصل بعنوان: الحكمة في العلاقات البشريّة. في الفصل السابق أشرنا إلى بعض هذه العلاقات: مع الكهنة، مع الفقراء، مع الوالدين، مع الزوجة، مع الذين يعملون معنا من خدم وعبيد، مع الحزانى والمرضى.

ونتوقّف هنا أوّلاً (8: 1 - 19) عند الفطنة في العلاقات الاجتماعيّة. فالحكيم يتبيّن الأمور وينظّم سلوكه حسب صفة محاوريه. فهو يخسر كلّ شيء، وربّما حياته، إن جادل القويَّ وتواقح معه، أو غضب على الغنيّ والثرثار والقاضي (آ 1 - 3، 10 - 11، 14، 16). هو يختار أصحابه ومن يبوح إليهم بسرّه (آ 15، 17 - 19). كما يربح إن هو رافق الحكماء (آ 8 - 9). هذه الوصايا برزت بشكل كافٍ: لا تتحدَّ، لا تخاصم، لا تجادل، لا تمازح. هذا ما نجده في العهد القديم. وما يبرّر هذه التعليمات هو المصلحة الشخصيّة. هنا نشير إلى أنّ ما يميِّز تعليم يسوع المسيح هو أنّه أحلّ الوصيّة الإيجابيّة (إعمل للغير) محلّ الوصيّة السلبيّة (لا تفعل).

وفي 9: 1 - 9، يقدّم الحكيم قواعد الفطنة في التعامل مع النساء. فالخبرة اليوميّة تعلّمنا خطر التعامل مع النساء (ف 25 - 26). ولكن هنا نفهم حذر اليهوديّ من المرأة. فهو يتحفّظ حتّى مع امرأته، وبالأحرى مع امرأة غير امرأته أو فتاة غريبة أو امرأة بغيّ. مثلُ هذه الفطنة تحافظ على الحياة الأخلاقيّة.

وفي 9: 10 - 18 يتعلّم التلميذ كيف يتعامل مع الرجال، ولا سيّما مع طبقة معيّنة مؤلّفة من الأقوياء والخطأة. فهم يحتلّون في المجتمع مكانًا هامٌّا يجب أن نأخذه بعين الاعتبار.

نفهم هنا كيف نتصرّف مع صاحب النفوذ، مع الغنيّ وطويل اللسان، مع الخاطئ وقليل الأدب، مع الشيخ والقاضي. مع الإنسان المتهوّر والغضوب. ونفهم كيف نختار أصدقاءنا والموقف الذي نقفه من المرأة. هناك الغيرة التي لا خير منها. وهناك أنواع من النساء نبتعد عنهنّ (البغيّ، الغانية). بل لا ننظر إلى »عذراء«، ولا إلى امرأة جميلة. كما لا نجالس امرأة متزوّجة. وبالنسبة إلى الرجال، يشير الحكيم إلى المؤامرات التي بين أعضاء الحاشية الملكيّة، حيث الملك له حقّ الحياة والموت.

2 - نظرة إلى النصّ

8: 1 كرّر العبريّ هذه الآية مع تبديل الفعل »ت ش و ب« إلى »ت ف و ل«: تسقط. في السريانيّة: ت ف ل.

آ 2. يتغلّب عليك. يكون وزنه أكبر من وزنك في الميزان لأنّه يمتلك الفضّة. حينئذٍ تهلك كما قال العبريّ. فاحترسْ أن يقودك إلى القضاء.

آ 4. يهين أجدادك. هناك شتائم تصيب الأهل يقولها اللسان القليل الأدب. قالت اللاتينيّة: نسلك. والعبريّة: لئلاّ يحتقر الوجهاء.

آ 5. كلّنا خطأة. إذن، لا نلوم خاطئًا، وإن أصابه عقابٌ أو حكم.

آ 6. يشيخون. أي تظهر عليهم علامات الشيخوخة من ضياع وفقدان ذاكرة أو بصر أو سمع.

آ 7. كلّنا نموت. إذن، لا نفرح إن مات شخصٌ تمنّينا له الموت.

آ 8. تعلّم التلميذ من أخبار الأقدمين. فإن هو استخفّ بها كان الخاسر الأكبر.

آ 9. الشيوخ هم حكماء. ينقلون خبرة الأجيال السالفة (أي 8:8 - 10)، ويذكّرون المؤمنين بتاريخهم (خر 10: 2؛ تث 4: 9؛ 11: 19).

آ 10. نُشعل الغضب لدى الخاطئ، فنحترق بهذا الغضب.

آ 11. لا تتكلّم. بل: ليس لك أن تزيح (ت ز و ح في العبريّة) من وجه سفيه. في السريانيّة: »لا تقف أمام الشرّير لئلاّ يكون فخٌّا (كمينًا) لك«. المهمّ أن تكون حذرًا سواء تراجعَت أو واجهَت.

آ 13. لا تكفل. لم يكن سي قاسيًا مثل الحكماء الذين سبقوه (أم 6: 1 - 5؛ 11: 15). فقد يكفل شخصٌ أخاه إن كان ذلك في إمكانه. كفلُ إنسان هو عمل محبّة نمارسُها بحسب إمكانيّاتنا (29: 14 - 20).

آ 14. الحكم يكون لصالحه. العبريّ: يحكم بحسب ما يسرّه. أو بحسب ما يرغب، يريد (ص ب ا، في السريانيّة).

آ 18. ما سيبدر منه. في العبريّ: ماذا يلد في النهاية.

آ 19. العبري: لا تكشف قلبك لكلّ بشر، ولا تُبعد عنك السعادة.

9:1. زوجتك التي ترتاح على صدرك.

آ 2. مثل شمشون ودليلة. رج أم 31: 3.

آ 4. غانية. هي تغنّي فتسحر الرجل. وقال العبريّ: »تحرقك بفمها«. السريانيّ: »لئلاّ تبيدك بأخبارها«.

آ 7. في العبريّ: »تكون مجنونًا في نظرها، وتتّفق على السعر (تساوم: ش و م) وراء بيتها«.

آ 8. قالت حكمة أحيقار (2: 72): »يا ابني. لا تنظر عيناك امرأة جميلة، ولا تتحسّر بجمال ليس لك، لأنّ كثيرين هلكوا بجمال امرأة فكان حبُّها نارًا محرقة«.

آ 9. في هذا المقطع (آ 1 - 9) حيث الكلام عن الزنى والبغاء، يعود الحكيم إلى اعتبارات مصلحيّة.

آ 12. هي المجازاة على الأرض. نحن في إطار الإيمان التقليديّ. إذا كان الخاطئ ينجح، فلماذا لا أسير في خطّه؟

آ 13. يسير بين الفخاخ. أو: على سور المدينة. فقد تصيبك السهام.

آ 16. بعد »مخافتك للربّ«، أضاف اللاتينيّ: »أمام عقلك استحضر فكر الله، وفي أقوالك وصايا العليّ«.

3 - شرح الآيات (8: 1 - 9: 18)

أ - الحكمة في المجتمع ( 18: 1 - 19)

إنّ الحكيم يتجنّب قبل كلّ شيء (آ 1) أن يتخاصم مع صاحب النفوذ. في العبريّة مع عظيم (ج د و ل). في السريانيّة: أقسى (ق ش ا)، أصلب منك. ينقلب عليك وتكون الخاسر. وهناك خطر في الجدال مع الغنيّ (آ 2). فما يدفعه للقاضي يجعل الميزان يميل نحوه. فالخبرة تدلّ على قوّة المال في قرار المحاكم (خر 32: 8؛ تث 16: 19). ولا تتواقح (آ 3 - 4) فتناقش الثرثار (رجل اللسان كما في العبريّ، 9: 18؛ 25: 19)، فيزيد كلامًا على كلام، كما تشتعل النار مع الحطب. في هذا الوضع، نقابله بالصمت »وإلاّ احتقرك أهل الوقار« (السريانيّ). والتسامح مع القريب الذي يتراجع عن خطيئته. فقد يأتي وقت تحتاج فيه إلى التسامح وأنت خاطئ مثله (آ 5). نقرأ في تلمود أورشليم (بابا مصيا 4: 10): »حين يندم إنسان، لا تقل: »تذكّر خطاياك الماضية«. وفي مناخ الرحمة هذه (آ 6 - 7) نراعي الإنسان الحزين بسبب ضعف الشيخوخة. ولا نفرح إن مات شيخ، فدورنا آتٍ. ويعود الإرشاد بالخضوع لتعليم الشيوخ (آ 8 - 9) بما فيه من خبرة غنيّة تحمل التقليد الشفهيّ (تث 4: 9؛ 11: 19؛ مز 44: 1؛ 68: 2 - 9). هي شريعة تنتقل بالفم. يبدو أنّ الشبّان تركوا السماع للشيوخ، وهم يطلبون ما هو جديد دون تمييز الخطر الآتي، والإفادة من هذا العلم تساعدهم على لعب دورٍ في الحياة العامّة (11: 1؛ 38: 2 - 3؛ 39: 4؛ أم 23: 20). فالحكمة تمنح التلميذ تربية صالحة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة (10: 1ي؛ أم 8: 14 - 21؛ حك 6: 1ي). بفضل هذه الحكمة، يكون المسيح الملك المثاليّ الذي يقيم الحقّ والعدل (أش 11:2 - 8).

ونتجنّب كلّ ما يُثير الأشرار (آ 10 - 11)، لأنّ انتقامهم رهيب. حين شرح إيروينموس أش 36، لاحظ كيف أنّ حزقيا ورجاله ما أجابوا على تجاديف ربشاقا لئلاّ يثيروه فيزداد غضبه. وهكذا دلّوا على حكمتهم. جمر. هو صورة الأهواء التي تهبّ كالنار فتلتهم كلَّ شيء (9: 8؛ أي 31: 12). تجاه إنسان وقح (1 تم 1: 13)، ساخر (مز 1:1) بأنبل الأشخاص وأرفع الأمور، نحفظ نفوسنا بحيث لا نجيب جوابًا في غير محلّه.

وهناك تحفّظٌ آخر فطن (آ 12 - 13) مع الذين يستقرضون المال (29: 1 - 13). إذا كان الإنسان أمام شخص قدير، فلا وسيلة له لاسترداد ماله. ومع الدين الكفالة. يدرس الحكيم إمكانيّاته. هنا قال العبريّ: »لا تكفل (ع ر ب - عربون) من هو أغنى منك«. وكذا في السريانيّ.

فأين الفطنة في اتّهام قاضٍ (آ 14 - 16)؟ فالقضاة يراعونه في أيّة حال. وبما أنّ القاضي هو الحُكم والحَكَم، فالقضيّة ستكون كما يريد. وأين الفطنة، أيضًا في رفقة رجل متهوِّر؟ لا يأخذ بعين الاعتبار قوّتك وينطلق في طرق غير أكيدة. وأين الفطنة في الجدال مع رجل عنيد، صاحب أنف، صاحب وجهٍ قاسٍ (العبريّ)، مع رجل غضوب؟ كيف ترافقه في طرق منعزلة؟ فقد يُفلت العنانَ لغضبه، وحياةُ الإنسان لا قيمة لها في عينيه. رج خبر قايين وهابيل (تك 4: 8).

وأخيرًا (آ 17 - 19) لا تسلّم نفسك لإنسان لا يميِّز (6:6)، لإنسان لا تعرفه. فماذا يفعل بسرٍّ استودعته إيّاه؟ والمثل معروف: اجعلْ ثقتك، ولكن اٌّنظر في من تجعل هذه الثقة.

ب - العلاقات مع النساء (9: 1 - 9)

قبل كلّ شيء (آ 1 - 2) يثق الرجل بأمانة زوجته. فكلّ شكّ يقود الزوجة إلى سلوك عاطل، وأقلّ شيء يتحوّل حبّها إلى بغض وتباعد، فيزول الوفاق بين الاثنين. ولكنّ الفضيلة تقف في الوسط. إذا كانت الغيرة مرفوضة، فحبُّ الرجل لا يكون أعمى بحيث لا تسيطر عليه المرأة لخزيه، لهلاكه. تلك كانت خطيئة آدم. وخطيئة شمشون. وقدّم بتاح حوتب نصائح مماثلة، ليعرف الرجل موقعه، والمرأة موقعها في مخطّط الله.

ويهرب الرجل من البغيّ (آ 3 - 4). رج 19: 2 - 3؛ 26: 8 - 12؛ 41: 20؛ أم 2: 16؛ 5: 8؛ 7: 5. هنّ بشكل عامّ غريبات (كما هو الأمر اليوم). يُسحَر الإنسان بغنجهنّ، بصوتهنّ. والفطنة مفروضة مع فتاة: نغضّ النظر. فبالنظر تتحرَّك الشهوة (آ 5). والعقاب ينتظرنا. ونهرب من الغواني (آ 6 - 8). يمتصصن دمك (أم 5: 9 - 23؛ 19:3). لهذا، يتهرّب الحكيم من ظروف الخطيئة. وحين يخرج إلى المدينة، لا يحدّق في النساء ويتجنّب الأماكن التي لا يؤمّها الكثيرون. وفي النهاية، يحذّر سي من علاقات متجرِّئة مع امرأة متزوّجة، جميلة (آ 9). لا يطيل الحديث معها فتكون فضيلته في خطر. فالعقاب ينتظر. هنا نتذكّر حديث يسوع مع السامريّة على بئر يعقوب (يو 4: 27). تعجّب التلاميذ. ولو رآه الفرّيسيّون لحكموا عليه باسم أقوال الآباء (1: 3).

ج - العلاقات مع الرجال

إذا كان ظرفٌ (آ 10) نقدر فيه أن نجد صديقًا جديدًا، مفيدًا (7: 18)، لا نضحيّ بالصديق القديم الذي اختبرنا ودَّه وأمانته في الأيّام الحلوة والرديئة. فنكون كمن يترك الطريدة ليلحق بالسراب: فما تكون صفات ذاك الصديق الجديد الذي لم نمتحن بعد (6:6 - 17)؟ قال تيوغنيس: »لا تترك صديقًا تمتلك لتبحث عن آخر«. وكان تشبيه مع الخمر العتيقة (لو 5: 39).

وقد ينظر الحكيم (آ 11 - 12) إلى خطر الشرّير الناجح (مز 37: 1؛ أم 3: 31؛ 24: 1). هذا النجاح يشكّك المؤمن ويحبط الفضيلة التي تنتظر أجرًا في هذا العالم (مز 73: 2ي؛ إر 12 :1ي). أما يكون الخير في أن نتبع الخطأة؟ في الواقع، نجاح الخاطئ عابر، سريع. فقد يدور دولاب الحظّ (مز سل 13:5 - 8)، وفي ساعة الموت لا يُنقَّى (ي ن ق ا، في العبريّة). هذه النظرة إلى الحياة الأخرى برزت بروزًا في اليونانيّ (16: 6 - 21). »هاديس« الذي يقابل »ش ا و ل«. يدلّ على الموت بعض المرّات. في سي هو موضع الأموات وهناك ينالون الجزاء الطيّب أو العقاب بسبب الأعمال السابقة (14: 12، 16؛ 17: 22؛ 21: 10؛ 28: 21؛ 41: 4؛ 47 :5؛ 51: 5 - 6).

وكانت نصيحةُ فطنةٍ أخرى (آ 13): تجنّبْ من له السلطة. ففي الاقتراب منه خطر. فقد يقتلك (كما يقول العبريّ). وإن أُجبرتَ على الاقتراب، فكن حذرًا. أقلّ إهمال يُثير إثمًا (ا ش م، في العبريّة). وبدلاً من البحث في مجد باطل عن رفقة العظماء مع ما في هذه الرفقة من خطر على الفضيلة، يختار الفطن رفقةَ الحكماء (آ 14 - 16) مع نصائحهم الحلوة. فمعهم يتحدّث عن الله (تيولوغيا، حديث عن الله، 6: 35). على مثال طوبيت (طو 2:2) لا يدعو إلاّ الصادقين (ص د ق) إلى مائدته (ب ع ل ي. ل ح م ك: أصحاب خبزك). في السريانيّة: الأبرار (ك ا ن ا)، بحيث لا يفتخر إلاّ بمعتقداته الدينيّة.

ويرد في آ 17 - 18 توازٍ بين العمل اليدويّ وفنّ الكلام، من أجل توازٍ بين الحكيم بكلامه والإنسان الذي يتكلّم دون أن يفكّر. الأوّل يزن كلماته مثل فنّان يبحث عن النظام والتناسق طلبًا للجمال. فكما الفنّان يسيطر على المادّة، كذلك الحكيم يسيطر على أذن السامعين ويسوس الناس. وتجاه سحر كلام الحكيم يقف الرعب لدى ثرثار لا شيء يوقفه. إنّ آ 17 - 18 تشكّلان انتقالة إلى الفصل التالي، لأنّ الحكماء يشكّلون فئة خاصّة ويُذكرون مع الأنبياء والكهنة. هم يقودون. هم يوجّهون (هيغيمون)، وفي العالم اليهوديّ، دلّ اللفظ على رؤساء الجماعات.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM