الفصل العاشر: حسن استعمال اللسان.

 

الفصل العاشر

حسن استعمال اللسان (5: 12 - 6: 17)

1- المقدّمة

ما زلنا هنا في المتتالية الثانية مع كلام عن الحكمة في الحياة العمليّة، مع توسّعين مختلفين. وقد يرتبطان بواسطة اللسان الذي يخلق الصداقة أو يدمّرها. التوسّع الأوّل يقف عند اللسان الذي يحرّك الإنسان (5: 12 - 6: 4). هو موضوع سيعود أكثر من مرّة (14: 1؛ 19: 6 - 8؛ 20: 17 - 19؛ 22: 25؛ 23: 7 - 15؛ 25: 8؛ 28: 13 - 26). أمّا أوّل تنبيه في سي فيأتي كما يلي: لا تتكلّم إلاّ في الوقت المناسب (آ 12 - 13). تجنّب الكلام السيِّئ فتحافظ على كرامتك وعلى صداقاتك، بل على منفعتك الخاصّة (6: 2 - 4).

إن كنت تستطيع أن تجيب فأجب، وإلاّ ضعْ يدك على فمك واصمُت. فلا يتكلّم لسانك في وقته وفي غير وقته. فالنميمة شرّ، والخداع تتبعُه المذمّة. بمثل هذه الطريقة، لا تترك حولك سوى الأعداء، لا الأصدقاء. مثلُ هذا الكلام يؤثّر ولا شكّ على تلاميذ هذا الحكيم الذي يُقدّم لهم خبرته في الحياة.

في التوسّع الثاني (6: 5 - 17) يتوقّف الكاتب عند الصداقة الحقّة والصداقة الكاذبة. في آ 5 - 6، نجد المبدأ العامّ، ثمّ يأتي التطبيق مع تنبيهات وملاحظات حول الصداقة. ونحن لا نجد في الكتاب المقدّس كلامًا واسعًا عن الصداقة كما في سي. في آ 7 - 9، نقرأ نصائح عمليّة حول اختيار الأصدقاء. وفي آ 8 - 10، تمييزًا حول الصديق الصدوق ومن يسمّي نفسه صديقًا (لصالحه. ويتركك في ضيقك). والنصيحة الأخيرة، تجنّب أعداءك واحذر أصدقاءك. وتعود آ 11 - 17 إلى مخافة الله لكي تعلّمنا كيف نجد الصديق الحقيقيّ، وكيف ننال البركة في صداقاتنا.

الصداقة هي كاللسان، وهي تطلب التمييز. إذا كانت الأقوال الطيّبة تحرّك التعاطف، فنحن لا نستطيع أن نسلّم سرَّنا إلى أوّل شخص نلتقي به. لهذا، نختار أصدقاءنا بعد أن نمتحنهم. نريدهم متجرِّدين عن كلّ مصلحة. نريدهم حاضرين في السرّاء والضرّاء. فالصديق الصالح خيرٌ لا يوازيه خير (آ 14 - 15). هو عطيّة من الله (آ 16 - 17).

إتّفق سي مع أم ليحضّ الطالب على التحفّظ مع الأصدقاء، انطلاقًا من خبرات مخيّبة ولا سيّما في عالم الشتات اليهوديّ المنغلق على نفسه والمنشغل بكلّ أنواع الكلام، من افتراء ونميمة وطول لسان. هم يتكلّمون عن القريب وعن عدد من الأمور، فلا يفلت شيء من شرّ لسانهم. فيسيطر الشرّ والخلاف. يقولون شيئًا لفلان، وآخر لفلان. وهم يتناسون أنّ كلَّ سرٍّ جاوز الاثنين شاع.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 12. في العبريّة: إن استطعتَ أجب القريبَ، وإلاّ ضعْ يدك على فمك (أم 30: 32؛ أي 21 :5؛ 29: 9؛ 40: 4). أضاف اللاتينيّ: »لئلاّ نؤخذ بكلام لا نريده فنخزى«. آ 13. في الكلام. في العبريّ: في يد الثرثار. في السريانيّ: من يتكلّم. فاللسانُ علّة الخطيئة (19: 16) ويقودنا إلى الهلاك (5: 13). ولكنّه ليس بعدوٍّ لا يُضَبط. امتدح الكتاب لسان الأبرار والحكماء (أم 10: 20؛ 12: 18؛ 15: 2)، وندَّد بكذب اللسان (مز 5: 10؛ 10: 7؛ 52: 4 - 6؛ أم 10: 31؛ 26: 28). أمّا سي 28: 13 - 16، فتوسّع في الكلام عن أخطار اللسان، وعن الالتباس الذي يرافقه (37: 18؛ يع 3: 2 - 10).

آ 14. هو كلام عن لسان ولسان. في العبريّ: »العار للسارق والخزي لصاحب اللسانين«. 6:4. شدّد العبريّ على الشهوة (في السريانيّة: نفسك). واليونانيّ على الكبرياء، الثور. في اليونانيّة والسريانيّة. في العبريّة: كعود يابس في آ 3، كما في الحكمة المصريّة. رج أش 56: 3؛ حز 17:  24؛ 21: 3.

أ 5. الكلام الحلو. أو الحلق. في السريانيّة: الفم العذب.

آ 6. يسالمونك. لا »يحيّونك« فقط، يسلّمون عليك وحسْب، بل يطلبون لك السلام. لكن لا بدَّ من الحذر.

آ 7 - 17. هذا الكلام عن الصديق الصالح، نجده في كلّ كتب الأخلاق، في العالم القديم. مثلاً، قال شيشرون: »الصديق الأكيد تعرفه في حالة غير أكيدة«. وقال أوفيديوس: »ما دمتَ سعيدًا فأصدقاؤك عديدون. وحين ينقلب الزمن تكون وحدك«.

آ 13. واحذر. فقد ينقلبون عليك ويصيرون أعداء. هي نصيحة متشائمة.

آ 14 - 16. مديح مثلَّث للصديق الحقيقيّ، على المستوى الروحيّ: هو علامة رضى ا؟ والوسيلة.

آ 15. في اللاتينيّة: »وزن الذهب والفضّة لا يقابل مع قدر أمانته«.

آ 17. في العبريّ: (الإنسان) كما هو كذلك صديقه، وكاسمه هكذا أعماله. في السريانيّة: مثله يكون أحبّاؤه.

3 - شرح الآيات (5: 12 - 6: 17)

أ - اللسان (5: 12 - 6: 4)

نقرأ في آ 12 - 13 »سيناسيس« (الفهم). أي بعض المعرفة حول موضوع المحادثة (أي 33: 32). إذا كان لنا بعضُ الفهم، وإن أردنا أن نساعد القريب، لا نرفض التدخّل. وإلاّ نصمت. قال يع 3:1: »لا تعجِّلوا في أن تكونوا معلّمين«. لهذا فالسكوت مهمّ جدٌّا. نضع يدنا على فمنا. نشير إلى أنّ هيبوكراتيس إله الصمت، يُصوَّر ويده على فمه. وهذا التحفّظ في الكلام له ما يبرّره! من تكلّم في الوقت المناسب نال الإكرام، وإلاّ نال اللوم وكان له الخراب. قال السريانيّ: »اللسان يرمي الإنسان أرضًا؛ ففي كثرة الكلام ضرر«. رج أم 18: 21؛ مت 12: 37.

فالثرثارون (آ 14) لا يتجنّبون مرارًا الإساءة إلى القريب. هم أصحاب لسانين (ب ع ل. ش ت ي م: صاحب اثنين). هم نمّامون. كذا في العبريّة. في اليونانيّة، هناك تشديد على أقوال نقولها في حقّ القريب. نُخفي معنى كلامنا فيكون كالفخّ (أم 12: 13؛ مز 14: 1ي). »بستيروس«. تكلّم بصوت خافت. كان مفتريًا، نمّامٌّا بشكل خفيّ. والطريقة التي بها يتصرّف مثلُ هذا الرجل، تجعله قريبًا من السارق (أحيقار 3:87) الذي يعمل في الخفية. كما أنّ السارق يلحقه العار، كذلك يسيء صاحبُ اللسانين إلى نفسه وإلى ضحيّته. قال بولس الرسول إنّ من يزرع النميمة يُبغضه الله (روم 1: 29 - 30).

إذن، لا بدّ من المحافظة على ألسنتنا (آ 15)، بحيث لا نسمح لنفوسنا أيّ افتراء مهما كان صغيرًا (أغنويايو: خطئ جهلاً أو إهمالاً. في العبريّة: ش ح ط). هو عمل لا ينمّ عن صداقة تجاه الأشخاص بل هو خيانة: »لا تكون مبغضًا بدل أن تكون محبٌّا« (عبريّ، سريانيّ). تلك هي ثمرة الافتراء والنميمة.

قال النصّ العبريّ (6: 1 - 2): »لا تسقط في يد نفسك« (في السريانيّة: لا تستسلم إلى يد نفسك) أي في سلطة أهوائك (رج 2 صم 24: 14). »بسيخي« تدلّ على الشخص (14: 4، 8)، الحياة (21: 2)، النفس (14: 5)، والعواطف التي نشعر بها (7:36) والوجدان (14: 2) والقلب (9:6 - 5) والرغبة الشرّيرة التي تتوازى مع »ابيتيميا« (آ 2؛ 18: 31). فالأهواء تبدو كشخص حيّ: تنفصل عن الإنسان كقوّة شرّيرة تحاول أن تسيطر. ومنبع خطايا اللسان هو في الميول الشرّيرة التي يجب أن نقاومها لكي لا نكون ضحاياها.

فالإنسان الذي يتبع هواه ولا يكبح لسانه، يسير إلى الهلاك (آ 3 - 4). يخسر احترامه، كرامته، وصداقة البشر. يخسر كلّ هذه الخيرات الجوهريّة التي تشكّل الحياة في المجتمع، والتي بدونها لا يستطيع الإنسان أن يعيش. وحين يتركه الجميع، يُصبح شجرة ميتة تنتظر من يقطعها ويرميها في النار (يع 3: 5 - 6). رج 14: 18؛ عا 2: 19؛ مز 1:1ي؛ 37: 35. ونقرأ في أمينينوفي 4: »الغضوب في الهيكل مثل شجرة نمت، في لحظة تخسر أوراقَها وتكون نهايتُها. فالصامت الحقيقيّ هو مثل شجرة تنبت في بستان«. وهكذا فالهوى الذي لا شيء يقيّده يأكل صاحبه (يع 1: 14 - 5)، فيفرح الأعداء بما حلَّ به من شقاء.

ب - الصداقة الحقيقيّة والصداقة الكاذبة (6: 5 - 17)

بدت آ 5 بشكل انتقالة مع ما سبق. أمّا الأقوال المرّة أو العقيمة، فتجعل الناس يتركون المفتري، ويبتعدون عنه كما من ثور جامح (آ 2).

أمّا الحكيم (آ 6 - 7) فيتصادق مع الجميع ويحيط به الأصحاب. لكنّه يتحفّظ في الإفشاء بأسرار قلبه. يتكلّم إلى سيّد سرّه، الذي يختاره بعد ألف، ويكون اختبره. وضرورة هذا الاختبار القاسي عرفتها الحكمةُ القديمة (أحيقار 3: 17). في برديّة أسنغار (12: 18): »لا نعرف قلب الصديق إلاّ بعد أن نلجأ إليه في الضيق«.

والمحنة الحاسمة هي محنة الشقاء (آ 8). فالناس يصادقون حين يجدون منفعة، أو حين لا تطلب هذه الصداقة الكثير من التضحيات. ولكن حين يسقط صديقهم يتوارون. هذه صداقات سطحيّة، ظرفيّة.

فالصديق الكاذب متقلّب هو (آ 9)، وقد ينقلب إلى عدوّ وخائن، بحيث يكشف للغرباء أسرارًا أسرّ بها صديقُه فيخزى (42: 1؛ أم 25: 9 - 10). يعيَّر الشخص بسبب أقوال هذا الصديق الذي لم يعرف الأمانة، فيتحدّث عن سبب الخلاف.

ونقرأ في آ 10 ما قرأناه في آ 8 حول أنانيّة الصديق السطحيّ الذي يودّ أن يكون على مائدتنا، ولكن إن صارت المائدة فقيرة انغلق قلبه. قال تيوغنيس: »لا ينقصنا رفاقٌ للأكل وللشرب« (115). أو: »كثيرون يصيرون أصدقاء حول المائدة، ولكنّهم يَقلّون أمام الأمور الخطيرة« (613 - 614). وقال مارسيال (9: 14): »هذا الرجل الذي جعلتْه مائدتُك وعشاواتُك صديقَك، أتظنّ أنّ الصداقة الحقّة تقيم في قلبه؟ هو يحبّ الخنزير البريّ والصدف، لا أنت. سيكون صديقًا ما دامت مائدتي طافحة بالخير«.

وما يدلّ على الصديق الكاذب (آ 11 - 13) هو التشامخ الذي يزعج ولا ينزعج، فيأخذ حرّيّته على حساب ضيفه بحيث يصبح سيّد المنزل. ولكنّه يختفي إن وقع بيت الصديق في ضيق، فيدلّ على خبثه ومراءاته.

ويُعرف الصديق الحقيقيّ (آ 14 - 15) بأمانته في المحنة. إن خسرنا المال والقوّة والمركز الاجتماعيّ، لا نخسر صداقة صادقة تتجاوز قيمتُها كلَّ هذه الخيرات. مثل هذه الصداقة حماية. هي كنزٌ لا يثمَّن. من هنا الصورة: لا يمكن أن توزن. فالمال (أو الفضّة) كان يُوزَن في الماضي (تك 23: 16؛ دا 5: 27). قال أوريبيديس في أوراست 1155 - 1156: »لا شيء يساوي صديقًا صدوقًا، لا الغنى ولا السلطة«.

مثل هذا الصديق هو »دواء الحياة« (آ 16 - 17). في العبريّة: صرّة (ص ا رور) الحياة. كما تجعل الفضّة في الصرّة، كذلك يحتفظ الله بحياة المؤمنين كما في صرّة، إذن، نكون مطمئنّين لأنّنا في يد الربّ. رج »سفر الحياة« (مز 69: 29). يتذكّر الكتاب صداقة داود ويوناتان. ونقرأ في تلمود أورشليم (تعنيت 1: 23): »الصداقة أو الموت«. فبالثقة التي يلهم، وبالنصائح والعمل الصالح الذي يُعطي الصديق الحقيقيّ، هو دليل يُعيننا في طريق وصايا الله. إذن الصداقة الحقّة أساسُها مخافة الله. هي عطيّة من الله وميزة الأبرار في قلب الحياة الدينيّة (مز 55: 14 - 15). لهذا، نعرف أن نستفيد من هذه النعمة. وبما أنّ حياة الواحد تؤثّر على الآخر، فالحكيم يهتمّ بأن يكون ذاك الصديق الذي يحمل أطيب الثمار، ويوجّه صداقته نحو الله. جاءت كلمات ابن سيراخ لكي تنقّي الصداقة في قلب جماعة الله وترفعها فوق الصداقة التي عظّمها الوثنيون كان أرسطو يقول: لا يقدر إنسان أن يعيش بدون صديق. الصداقة هي أفضل خير يناله الإنسان. وقال القدّيس أمبروسيوس: اللاأمين تجاه الله، لا يقدر أن يكون صديق إنسان. فالصداقة حارسة التقوى. ولا يمكن أن تكون صداقة بين جوّين مختلفين. لذلك يجب أن تكون النعمة عند هذا وذاك. فما أثمن الصداقة التي هي مشتركة لدى الملائكة والبشر!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM