الفصل التاسع
الحكمة في الحياة العمليّة ( 4: 11 - 5: 11)
1 - المقدّمة
إنتهت المتتالية الأولى مع 4: 10 وكان عنوانها الحكمة ومخافة الله. وجاءت المتتالية الثانية (4: 11 - 6: 17) تتحدّث عن الحكمة في الحياة كما نعيشها يومًا بعد يوم. ونحن نقرأ هنا فصلين اثنين. الأوّل: الحكمة في الحياة العمليّة (4: 11 - 5: 11). والثاني: حسن استعمال اللسان ( 5: 12 - 6: 17).
يبدأ الفصل الذي ندرس (4: 11 - 5: 11) بحضّ على طلب الحكمة (4: 11 - 19). كان ف 1 مقدِّمة إلى الكتاب كلّه. وقد توخّى أن يبيّن ما هي الحكمة، وما هي علاقتها بمخافة الله. ويمكن أن تشكّل آ 11 - 19 مقدّمة إلى هذه المتتالية الثانية (4: 11 - 6: 17)، فتتوخّى أن تحرّك طلب الحكمة بحرارة، فتُبرز ثمارَها الثمينة: الحياة، البهجة، المحبّة، البركة، حبّ الله (آ 11 - 14). وتلاميذ الحكمة هم مثل كهنة في الهيكل (آ 14)، مثل أمراء في المحكمة (آ 15)، مثل معلّمين ينقلون الحكمة إلى نسلهم (آ 16). فمن لا ينصدم بالمحن الأولى التي تفرضها، ينعمون برفقتها ويلجون أسرارها العميقة (آ 17 - 18).
بعد ذلك، يأتي الكلام على الخجل (4: 20 - 30). فمحنُ طالب الحكمة ليست فقط محنًا داخليّة (آ 17 - 19). ففي هذه الأوقات المتأزّمة، تهدّد الحكيمَ مخاطرُ عديدة. لهذا توالت النصائح حول واجب مهمّ: لا نُلغي شيئًا من معتقداتنا بسبب الخجل. فهذه المساومة تجعل الإنسان يُنكر إيمانه. فخلال الحقبة المكّابيّة، استحى اليهود من عادات آبائهم، فأخذوا بالعادات اليونانيّة. فالحياء البشريّ هو ينبوع خطايا عديدة (آ 20 - 21). إذن، لا نبعْ حرّيّتنا وعقيدتنا (آ 22 - 24). ولا نُخفِ جهلنا بالكذب (آ 25) أو بالخوف من الأقوياء وآ 27). بل نحارب من أجل الحقّ (آ 28) ونجعل سلوكنا يتوافق مع أفكارنا وأقوالنا (آ 29 - 30).
وفي قصيدة ثالثة (4: 31 - 5: 11)، نتعرّف إلى الغنيّ الرديء الذي لا يعرف أنّ يمدّ يد المساعدة للمحتاجين. فالغنى في النهاية له أخطاره. وقد حذّرت منه الأسفارُ الحكميّة. رج أم 18: 23؛ 19: 1؛ 28: 6. هناك البخل والاكتفاء بالذات والكسل. ثمّ الطمع والكبرياء والاعتداد بالنفس والجور والكذب.
2 - نظرة إلى النصّ
آ 11. الحكمة. في العبريّة »ح ك م هـ«، كما في أم 1: 20؛ 9: 1. صارت الحكمة شخصًا حيٌّا، ولكنّها لا تتكلّم. تعظِّم. في العبريّة: تربّي. ولهذا جُعل عنوان هذا المقطع: الحكمة المربّية.
آ 12. باكرًا. هذا ما يدلّ على الجدّ في البحث عنها (6: 36؛ 32: 14؛ 39: 5؛ رج أم 8: 35؛ 9:9).
آ 15 - 19. في النصّ العبريّ، الحكمة تتكلّم. لهذا جاءت الضمائر في صيغة المتكلّم المفرد: السامع لي. بالحقّ. كذا في العبريّة. في اليونانيّة: يدين الأمم.
آ 17. رج 6: 20 - 31. نتعرّف هنا إلى تربية الحكمة التي لا تثق بالتلميذ إلاّ بعد أن تمتحنه امتحانًا. نقرأ في العبريّة: »أمشي معه متنكّرة (أو: مثل غريبة). وامتحنه بالتجارب إلى أن يمتلئ قلبُه مني«. نحن أمام تقريظ الحكمة كما في أم 1:22ي؛ 8:1ي. في اللاتينيّة: »تمشي معه في التجربة. وتبدأ فتختاره«.
آ 18ب: »تجمع فيه العلم وفهم البرّ«، كما في اللاتينيّة.
آ 19. في العبريّة: »إن ابتعد أرفضه وأقيّده بالقيود، وإن ابتعد من ورائي أرذله، وأسلّمه للصوص«. في السريانيّة: »أرميه جانبًا وأسلّمه بيد الخاطفين«.
آ 20. »وإلى هلاكه«. هي تجربة تهدّد المؤمنين الذين يُخفون إيمانهم في العالم اليونانيّ، بسبب الحياء البشريّ.
آ 22. فشلك. أو: سقوطك في الخطيئة. في العبريّة: »لا تعثر في فخاخك«. في اللاتينيّة: »لا تكذبْ على نفسك«. تتوجّه آ 22 - 25 ضدّ الحياء البشريّ والخوف في الدفاع عن يقين حياتنا. ذاك هو واقع المؤمنين في الإسكندريّة.
آ 24. اللاتينيّة: »الفطنة والمعرفة والتعليم في كلام الإنسان العاقل، والثبات في أعمال البرّ«.
آ 26. عُرف الاعتراف بالخطايا، لا داخل الجماعة وحسب، بل في الصلاة الفرديّة، كما في مز 51: 5 - 7؛ لا 5:5؛ عد 5:7. من رفض، دلّ على عناد البلداء، وظنّ أنّه يقدر أن يقف في وجه التيّار.
آ 27. في العبريّة: »لا تقاوم المقتدرين، ولا تجلسْ مع قاضٍ ظالم، لأنّك تحكم معه بحسب رضاه«.
آ 28. في العبريّة: »لا تتصرّف كالمرائيّ، ولا تفترِ بلسانك«.
آ 30. هي شجاعة يعيشها الإنسان مع امرأته وخدمه، وفي الخارج يكون جبانًا. أضاف اللاتينيّ: »تُعنِّف خدمك، وتظلم من هم أدنى منك«.
5:1. لا تعتمد على أموالك. هي ينبوع الكبرياء والاكتفاء بالذات. تجعلُنا نرضي شهواتنا ولو ظلمنا الآخرين، وننسى أنّنا بشر عابرون. رج يع 5: 1 - 3. وإذ يقول »أكتفي« يعني: يكفيني ما عندي، ولا أطلب أموالاً أضافيّة. أطلب ما يكفيني، ولا شيء آخر.
آ 2. ميولك. حرفيٌّا: نفسك. هي مركز ما يحرّك شهوات الإنسان ورغباته. في آ 2ب نقرأ في العبريّة. »لا تتبع قلبك وعينيك (عد 15: 30) فتجرّك الرغباتُ الشرّيرة«.
آ 3. موقف التعجرف والتشامخ هو موقف الشرّير الذي يستقوي بالنجاح (مز 10:6؛ 73:3، 4، 12)، يمتدح رغبات نفسه (مز 10:3)، يُبعد فكرة الله (مز 10: 4؛ 53: 2) وأحكامه (مز 10: 11، 13؛ 36: 2؛ صف 1: 12). فالله يحاسب. كما يقول النصّ العبريّ.
آ 4. غضبُ الربّ يُصيب الخاطئ. فهو آتٍ لا محالة، وإن تأخَّر. في العبريّة: »لا تقل الربّ رحيم وهو يغفر لي خطاياي« (آ 6). وكذا حرفيٌّا في السريانيّة.
آ 6. لا تقل. هي خطيئة كبيرة أن نستند إلى رحمة اللهفنخطأ بسهولة لأنّ الله صالح. هي حسابات خاطئة. فالله أيضًا هو العادل الذي يُصيب بغضبه الخطأة.
آ 8. مكاسب الظلم. أو كما في العبريّة: »مثل هذا الفتى كاذب، ولا نستطيع أن نتّكل عليه، فيخيب أملُنا في وقت الضيق«. يوم الهلاك. يوم العقاب (آ 7) بعد دينونة الله.
آ 9. كيف نتكلّم في المجتمع؟ باعتدال، وخفر، وثبات، وسيادة على النفس. هو موضوع عرفَتْه كلُّ حكمة في الشرق. رج ف 20 - 28. وأوّل نصيحة: لا تتقلّب مع كلّ ريح. أثبتْ في رأيك. أمّا الصورة فهي تذرية القمح على البيدر. في آ 9ج نقرأ: »هكذا يفعل الخاطئ ذو اللسانين«. هي نصيحة ثانية تطلب الصراحة لدى الإنسان. رج مز 12: 3؛ أم 3: 8.
آ 10 والنصيحة الثالثة: يبقى الإنسان في اعتقاده، في ما يعرف معرفة أكيدة. إذن، هو لا يتقلّب مع كلّ ريح، ولا يخضع للظرف الحاضر (يع 1: 6 - 8). قالت اللاتينيّة: »أثبتْ في طريق الربّ، في رأيك الصحيح وفي علمك، فتتبعك كلمةُ السلام والبرّ«. في السريانيّة: »تكون كلمتْك واحدة«.
3 - شرح الآيات (4: 11 - 5: 11)
أ - طلب الحكمة (4: 11 - 19)
شُخِّصت الحكمة (آ 11)، فبدت مثل امرأة تدعو أبناءها، تربّيهم، تعظّمهم (لو 7:37). تجعل البلداء عالمين، والبلهاء حكماء، والأرضيّين سماويّين. هي تعلّمهم. تتلمذهم (ل م د في العبريّة). حسب اليونانيّ، تستقبل أبناءها ولا تتوارى عنهم حين يبحثون (آ 18؛ 6: 18 - 19، 27 - 28). حسب اللاتينيّة: تسبقهم في طرق الفهم. أمّا طلب الحكمة فيقوم في التنبّه لها ودراسة أقوالها.
فمن أحبّ الحكمة أحبّ سعادته الخاصّة (آ 12 - 13)، لأنّ الحكمة تُسعد المؤمنَ (أم 3: 18؛ 8: 17 - 35)، وتغمره بأعظم خيرات الحياة: الفرح، الكرامة، البركة الإلهيّة (آ 19:20). يجدّ المؤمن في طلب الحكمة، يغار. »أورتريزاين« يقوم سحرًا (32:14؛ أي 7:21؛ 8:5). هو يُقيم في بركة الله. بل تلبسه هذه البركة لأنّه ابن الحكمة (تك 39: 5).
فخدمة الحكمة (آ 14) وظيفة ليتورجيّة، عمل مقدّس (ق د ش). فمن تكرّس لها، مثل الكهنة، دخل إلى عمق السرّ الإلهيّ. فلفظ »م ش ر ت« يُستعمل عن خدمة اللاويين (تث 10: 8؛ 17: 12؛ 21: 5). والقداسة هي الصفة السامية لدى الله (أش 61: 3). لهذا يُدعى الله »القدّوس« (23: 9؛ 43: 10)، ولا سيّما في الأدب الرابّينيّ الذي يضيف: »مبارك هو. تبارك اسمه«. وما نلاحظ في هذا الشطر هو ضمّ الحكمة إلى الله نفسه: من خدم الحكمة خدم الله ومن أحبّ الحكمة أحبّه الله. هنا نتذكر كلام بولس في روم 15:16: »لأكون خادمًا للمسيح يسوع لدى الأمم، وأقوم بخدمة إنجيل الله المقدّسة«.
فالحكمة (آ 15) تمنح العقلَ حكمًا يميّز بين الحقّ والكذب، بين الخير والشرّ (زك 7: 9؛ أم 29: 4). ذاك هو معنى النصّ العبريّ الذي يجعل الحكمة تتكلّم: »من يسمع لي«. قرأ اليونانيّ »ا م و ت« الأمم، فاعتبر أنّ الحكيم يدين الأمم والملوك (حك 3: 8) حسب الرجاء المسيحانيّ. ولكن نقرأ أيضًا: ا م ت: الحقّ. »يدين بالحقّ«. وإذ يفعل الحكيم هذا ينعم بقلب هادئ، واثق. يُقيم في أمان، يأمن الأخطار بسبب حكمه الصائب (تث 33: 13؛ سي 14: 24 - 27).
ومن امتلك الحكمة امتلاكًا عميقًا (آ 16 - 17) نقلها إلى نسله (1: 15). ولكن إذا أردنا أن نحصل عليها، نبرهن على ثقة كاملة بسموّها، وعلى ثبات لا تصدمه صعوباتُ البحث عنها والعوائق (2:1). هذا ما تصوِّره آ 17 بطريقة حيّة. تبدأ الحكمة فتمتحن تلميذها، وتدفعه في طرق تحيّره، طرق تسير »عكس السير«، طرق خطرة، بحيث إنّ التلميذ يخاف من العوائق التي يجب عليه أن يتجاوزها، ومن الفرائض التي عليه أنّ يمارسها. ويرى الصعوبة التي ترافق تربية الحكمة (6: 23 - 31؛ مت 7: 14). فالتربية والتعليم (بايدايا) يعنيان أيضًا التأديب والإصلاح (2 تم 3: 16). هذه التربية القاسية التي تقدّمها الحكمة هي تربية الله ذاته (عب 12:6 - 11). فإن خضع لها التلميذ بثبات، واستسلم إلى الحكمة، تلك المعلّمة المتطلّبة، خلال زمن الاختبار؛ إن بدا خاضعًا واثقًا متعلّقًا بها، نال أطيب جزاء. فأوّل ممارسة لوصايا الله، تدلّ على صدقٍ وأمانة لدى من يطلب الحكمة. وهذه الممارسة توازي مخافة الله (1: 14 - 20).
والحكمة التي جعلت التلميذ يحسّ أنّها ابتعدت عنه (آ 18)، تأتي في الواقع إلى لقائه، وتسهِّل أمامه كلَّ الصعوبات، وتقوده في الطريق القويم (ا ش ر ن و). إنّ اللفظ العبريّ يدلّ أيضًا على السعادة. لهذا أضافت اليونانيّة »تُبهجه« (هذا ما لا نجده في السريانيّة ولا في اللاتينيّة). عندئذٍ يفهم التلميذ الخفايا كما تكشفها له الحكمة (39: 3 - 7؛ أي 11: 6؛ دا 2: 21 - 22): هي المربّية الكاملة، وتفرض طواعيّة التلاميذ قبل أنّ تعلّمهم الفهم. هنا نتذكّر كلام الربّ: »من يصنع الحقّ يأتي إلى النور«.
ولكن (آ 19) إن ترك التلميذ الصعوبات تتغلّب عليه، وما ثبت في الحكمة، تركته الحكمة وشأنه. والنهاية تكون الهلاك. رج لو 11: 24 - 26 مع عودة الروح النجس: »فتصير حال ذلك الإنسان في آخرها أسوأ من حاله في أوّلها«. في السريانيّة: في يد من يختطفه. رج أي 8:4. هذا التعليم حول طلب الحكمة لدى الذين يعرفون ثمنها، والتضحيات اللازمة للوصول إليها، نقابله بأمثال يسوع في مت 13: 44 - 46: »ومن فرحه، مضى فباع كلّ ما يمتلك واشترى ذلك الحقل... فلمّا وجد لؤلؤة ثمينة، مضى وباع كلّ ما يملك واشتراها«. وأرفق بعض الشرّاح هذا القول بكلام الربّ: »ليس من يقول لي: يا ربّ، يا ربّ، يدخل ملكوت السماء، بل من يعمل مشيئة أبي«.
إن آ 11 - 19 مهمّة من أجل تشخيص الحكمة. وهذا ما ظهر في اليونانيّ أكثر مماّ في العبريّ: فالحكمة تعلّم، تحضّ، تكلّم تلاميذها. وهذا الشخص (= الحكمة) ينعم بكرامة إلهيّة وبسلطة. من جهة، إكرامُها هو إكرام الله. ومن جهة ثانية، مصير البشر يرتبط بموقفهم تجاهها. بعضُهم يجازى خيرًا. والآخرون يسيرون إلى الهلاك. فالتربية التي تقوم بها الحكمة هي تربية الله. وهي لا تكشف نفسها إلاّ شيئًا فشيئًا، ولا تمنح النور إلاّ بقدر ما يستعدّ الناس لقبوله. والمحن التي تفرضُها، تتوخّى أن تدلّ على رغبة صادقة لدى المتبدئين: هل يتوقون، رغم كلّ شيء، إلى فهم أفضل للحكمة؟ حينئذٍ تغمرهم بعطاياها. أمّا إذا ترك البشر طلب الحكمة، ابتعدت بدورها عنهم، وتركتهم ومصيرهم التعيس. ذاك هو التدبير العاديّ للنعمة التي لا تُعطى في ملئها، إلاّ للذين أحسنوا استعمال ما أعطاهم الربّ من عطايا (مت 4: 24). وذاك هو أيضًا السلوك العامّ لدى الأنبياء والرسل في رسالة الكلمة (2 مك 6: 12 - 13؛ 1 كو 31: 1ي؛ يو 16: 12).
ب - الحياء البشريّ ( 4: 20 - 30)
هناك حياء حقيقيّ وحياء كاذب. ومحنُ طالبِ الحكمة ليست فقط داخليّة (آ 17 - 19). ففي زمن القلاقل هذا، تأتي أخطارٌ فتهدّد الحكيم. لهذا كانت إرشادات في وقتها، في هذه المتتالية. في آ 20 - 21، نفهم أنّنا نعيش في زمن خاصّ يحمل الصعوبات (كايروس، رج 22: 14). زمن لا يوافق البحث عن الحكمة والسير في خطّها. إذن، لا نترك عدوى العالم المعاصر تصيبنا. قبل كلّ شيء، يفتخر الحكيم بمعتقده افتخار الشجعان. وإن كان من حياء رديء يميل به عن شريعة ا؟ ويقوده إلى الخطيئة، فهناك حياء طيِّب يجعلنا نستحي من الخطيئة ويحمينا (46: 16 - 17). الحياء (أيدوس) حياءان. واحد لا شرّ فيه. والآخر هو وباء. وكانت ألفاظ أخرى استعملها الكاتب الملهم تدلّ على الحياء بعد لوم من القريب. أمّا هنا، فهو الخوف من دينونة يديننا بها القريب، من غير حقّ. أو حياء الإنسان الفطن الذي يبتعد عن كلّ ما يشوّه كرامة أخلاقه (آ 22).
والحياء الخاطئ (آ 23) هو ذاك الذي يخاف حُكمَ القريب فلا يتجرّأ أن يكون أمينًا للخير، بحيث يجرّه الشرّ. من هنا عبارة: أخذ الوجوه. فالوجه هو ما يُرى في الحال، مباشرة. فإذا أردنا أن نعرف إنسانًا، ننظر وجهه. هذا يعني أنّ الوجه هو الشخص. هنا نقول: محاباة الوجوه. أي ننظر إلى الإنسان من الخارج ونميّزه عن الآخرين، ولا ننظر إلى فضيلة لديه. هذا ما يعني التحيُّز. نأخذ جزءًا ونترك الآخر. نحترم شخصًا على حساب الآخر (32: 13). فعلى الحكيم أن يتجنّب تفضيل حكم الآخرين على ما يمليه عليه ضميره. ولا انتقادات القريب ولا احتقاراته تجعله يحمرُّ خجلاً في سلوكه الصالح. هذا ما يُسمّى عثار النفس ودمارها (كذا كان بطرس في محاكمة يسوع).
وهناك حالة من الحياء البشريّ (آ 23 - 24) تجعل الإنسان يصمت حين يَفرض عليه خيرُ القريب أن يتكلّم ويعطي رأيه. فإعطاء الرأي في الوقت المناسب صفة الإنسان الفطن (3: 7؛ أم 15: 23). التأديب: م و س ر. ولكن في العبريّ: ت ب و ن هـ: تبيّن. يتبيّن الحكيمُ الأمر قبل أن يقوم بعمل التوبيخ.
وإن كان من خطإ في الصمت، فهناك خطأ أيضًا في الكلام (آ 25 - 26). فمن قدّم أقوالاً خاطئة عن تسرّع أو جهل، دلّ على حياء كاذب. ومن أقرّ علنًا بخطإه، دلّ على فضيلة الحياء الصادق. دلّ على حقيقته. فلماذا يحمرُّ وجهنا خجلاً إن اعترفنا طوعًا بخطإنا. ومن رفض ذلك أظهر بلادته وجهله (حسب السريانيّ. س ك ل و ت ا). ودلّ على أنّه يريد أن يُوقف مسيرة النهر. فمن الأفضل أن نعفي نفوسنا من إذلال آخر حين تنكشف الحقيقة. قال رابّي لاوي (القرن 3): »من وقف في وجه التيّار غمره التيّار«. ونقرأ في خبر أحيقار (3: 38): »لا تخاصم إنسانًا في يومه، ولا تقاوم نهرًا جاريًا«. وقال فوقيليد (121): »يجب أن نخضع للظروف ولا نقف في وجه الرياح«. قال العبريّ: »لا تحمرّ خجلاً إن أنت تركت الذنب« (م ع و ن). أمّا اللاتينيّة فتحدّثت عن الامتناع عن الإقرار بالخطايا.
وأخطر نتيجة للحياء البشريّ هي بأن ينظّم طالبُ الحكمة سلوكه بحسب سلوك الأحمق، أي الخاطئ (آ 27 - 28)، ولو كان رجلاً »عظيمًا« لا يلتفت إلى شريعة الله. الكلمة اليونانيّة (هيبوسترونيمي): مدّ البساط، وهو عمل يقوم به العبد (أش 58:5). لا تمرّغ رأسك أمام البليد، فهو لا يشعر بما عملتَ له، وخضوعُه يزداد وقاحة تجاهك. أمام هؤلاء الناس، نرفع نفوسنا ولا نحنيها. فبدلاً من أن نترك الناس يفرضون نفوسهم علينا، بحيث نتخلّى عن كرامتنا لنرضيهم، نقاوم بلا ملل، بلا مساومة، بلا خوف من أجل الحقّ (ق و ش ت ا) أو البرّ (ص د ق هـ في العبريّة). والله نفسه يعيننا في عملنا الشجاع (خر 14:14؛ 2 مك 13: 14). هنا نذكر ما فعلته القابلتان حين رفضتا الطاعة للفرعون. ماذا قال الكتاب؟ »وأحسن ا؟لله إلى القابلتين، لأنّهما كانتا تخافانه« (خر 1: 20 - 21).
والغيرةُ من أجل الحقّ (آ 29 - 30) ألاّ تنحصر في الكلام فتصبح تشامخًا وتبجُّحًا. بل يكفيها صدق في السلوك وثبات في التصرّف (1 كور 4: 20). وهذه الغيرة تتحلّى بالفطنة. وإلاّ كان الحكيم مثل أسد زائر (في السريانيّة: مثل كلب) يستعدّ أن يأكل كلّ شيء وهو في بيته. هو قويّ في بيته، ضعيف في الخارج. مثل هذه الغيرة ليست في محلّها، كما تضرّ صاحبها.
ج - الغنيّ الرديء (4: 31 - 5: 11)
ويبدأ كلام عن خطر الغنى (آ 31). والرذيلة التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالمال، هي الخجل في وجهتيه، من طمع في التكديس ومن تقاعس عن العطاء. أمّا سلوك الحكيم فمختلف: يُعطي بفرح، ويتقبّل بدون انزعاج. قال رابّي مئير: »حين يأتي الإنسان إلى العالم، تنقبض يده وكأنّه يقول: العالم كلّه لي. وحين يموت، تنفتح يداه وكأنّه يقول: لم امتلك شيئًا من هذا العالم«.
إنّ فعل »إباخو« (استند) يقابل »ش ع ن« هنا (آ 5: 1). ويمكن أن يقابل »ب ط ح« (وثق) في ابن سيراخ (في السريانيّة: ت ت ك ل: توكّل). هو لازم أو متعدٍ. إمتلك، جعل على. ثمّ، احتفظ، انتظر، لفت نظره أو انتباهه (34: 2؛ 2 مك 9: 25؛ لو 14: 7؛ أع 3: 5). نستطيع أن نقول: لا تتعلّق بالمال. وبحسب العبريّ: لا تستند، لا تتّكل (آ 8؛ 16:3؛ 34:15). فالغنى يقود مالكه بسهولة إلى الثقة بالنفس والتكبّر، إلى اكتفاء يقود إلى الكسل واحتقار العمل. تلك هي الخطيئة التي ندّد بها المسيح (لو 12: 15ي؛ رج 1 تم 6: 17). في العبريّة: ح ي ل: الغنى والقوّة. السريانيّ شدّد على المال (ن ك س ا). لا تستند إلى قوّتك (آ 2؛ مز 62:11؛ إش 8:4؛ 10:14). ولا تقل: أقدر (مع حرف الجرّ »على«). نتذكّر قولاً مأثورًا لبتاح حوتب: »لا تثق بكنوزك التي مُنحت لك كعطيّة من الله«. هذا الاكتفاء في المعنى المادّيّ والخلقيّ، ترفضه آ 2 - 6 حيث الكاتب يجعل الغنيّ يعبّر عن عواطفه: لا تقل، لا تقل.
إنّ الغنيّ يظنّ أنّه يُسمح له بكلّ شيء (آ 2 - 3). يحقّ له أن يرضي نزواته ورغباته. هو »إله« على الأرض، وقد تحرّر من كلّ شريعة خلقيّة، فما عاد يحسب حسابًا لأحد (عز 10: 1ي؛ 13: 5). ولكن إن لم يعاقبه البشر، فليخف غضبَ الله. نفسيّته نفسيّة خاطئ متكبّر، مثل نبوخذ نصّر (دا 4: 27) أو سنحاريب (أش 36: 20).
وإن كان لهذا الغنيّ أيضًا بعض إيمان (آ 4)، فهو يفتخر بأنّ عقاب الله لم يقترب منه. فيتشجَّع ويستمرّ في الشرّ (8: 11 - 12). كان اليهود المعاصرون يرون في كلّ خطيئة عقاب: مرض، آفة، فشل (أش 53: 4). إلاّ إذا جاءت ذبيحة تكفيريّة أو عملٌ صالح. فالشرّ الذي يصيبنا على الأرض، يدلّ دلالة منظورة على غضب الله. إذن، توجّه ابنُ سيراخ إلى يهود تأثّروا بالحضارة اليونانيّة، فتحرّروا من كلّ »قيد«. يفكّرون كما يريدون. يتصرّفون ولا يقبلون أن تردعهم وصيّة إلهيّة. لا شكّ في أنّهم يؤمنون بوجود الله. ولكنّهم يعتبرون أنّ هذا الإله لا يتدخّل في الكون. فجعل سي أمامهم عقيدته حول صبر اللهالذي يتأخّر في عقاب لا بدّ أن يأتي في النهاية، بعد أن تحلّ العدالة محلّ الرحمة (خر 34: 7؛ حك 11: 23؛ روم 2: 4). فعلى الخاطئ أن يخاف (مز 53: 1ي).
وإن استند الأغنياء بوقاحة إلى رحمة الله (آ 5 - 7)، فلكي ينالوا من الهل، في المستقبل، غفران خطاياهم التي لا يريدون الآن أن يندموا عليها. فهم يتعرّضون لقساوة غضب الله نقرأ هنا »س ل ح« العبريّ (ش و ب ق ن ا، في السريانيّة): سامح، غفر. ثمرة حنان الربّ ورحمته. ولكنّ هذا يفترض استعدادًا لدى المؤمن، كما قال المعلّمون. على الإنسان أن يُقرّ بخطيئته، ويتوب، ويقصد بأن لا يعود. فإن كان االله يحتمل، صابرًا، الخاطئ، فهو أيضًا عادلٌ ولا يحتمل التعدّي على صلاحه، إذن، لا بدّ من العقوبة سريعًا إذا كنّا لا نريد أن نتعرّض لعقاب يأتي فجأة (أش 34: 8؛ 61: 63؛ 4: يوم الغضب).
في هذا النداء إلى المخافة (آ 3، 4، 6 - 7)، استند سي إلى التعليم حول المجازاة الإلهيّة التي تحرّك التقوى لدى اليهود. فكلُّ عمل تتبعه مجازاة بالخير أو قصاص. فعدالة ا؟ تحاسب البشر على أعمالهم. ولكن إن تطلّع الكاتب إلى غضب الله؟ على المستوى المادّيّ، إلاّ أنّ هذا الغضب لا يأتي بالضرورة في الوقت الحاضر. فالشرّير ينعم بالسعادة الآن. ولا هذا الغضب يكون في هذا الزمن. بل هناك نظرة إلى ما بعد هذه الحياة (8: 11 - 13).
وتستعيد آ 8 ما قيل في آ 1ي حول الخطايا التي يجب على الغنيّ أن يتجنّبها. أوّلها، الظلمُ في اقتناء الخيرات (أم 10: 2؛ لو 16: 11). ولكن نستطيع القول، بالاستناد إلى العبريّ: لا تستند إلى الغنى الباطل، الكاذب (ش ق ر). رج مت 13: 22. فالاتّكال على خيرات زائلة هو الجهلُ كلّ الجهل. والسعادة والرخاء اللذان ينعم بهما الخطأة في هذا العالم، لا يحميانهم من العقاب المحفوظ لهم »في يوم الغضب« (العبريّ)، يوم الهلاك.
نستطيع أن نربط آ 9 - 11 بما يلي من كلام حول خطايا اللسان. ولكنّنا نستطيع أن نحسبها انتقالة تشدّد على كذب الأغنياء. فالظلم في الكلام يوازي »المال الظالم« (آ 8).
»لا تنقلب مع كلّ ريح« (آ 9 - 10). هما مثلان بشكل امتداد لما في آ 2، يشيران إلى ما لا يُلام عليه الإنسان. ويعنيان في فكر الظالم: المال لا رائحة له. فتجاه هؤلاء التجّار الجشعين الذين يجمعون المال بكلّ الوسائل ولو كان بالكذب والاحتيال، يُنظّم الحكيمُ حياته على ضوء ضميره الذي يميّز الحقيقة من الكذب (أف 4: 14)، ما هو ممنوع ممّا هو مسموح، القشّ من الحنطة. هناك أمور لا يمكن القبول بها. ففي الأعمال التجاريّة ننبذ التلاعب على الكلام واللسانين (مز 12:3؛ 1 تم 3: 8: (ديغلوسوس): نفكّر في شيء ونقول شيئًا آخر. ثمّ نتراجع بعد أن نكون التزمنا.
وما في آ 11 يجد ما يقابله في عالم مصر كما في اليونان والأدب الرابّينيّ: الاستماع خير من الكلام. قال أحيقار (3: 5): »يا ابني، وجِّه طريقك وكلامك، اسمع ولا تُسرع في الجواب«. فمن عمل بهذا دلّ على فطنته. وقال رابّي عقيبة: »الصمت سياج من أجل الحكمة«. هو يحفظها حفظًا. هناك اختلافة عبريّة تقول: »اثبتْ في الصلاح واسمع، وتأنَّ لكي تجيب باستقامة« (السريانيّة العواميديّة). نلاحظ في العبريّة: طويل الروح، طويل الأناة. هذا ما يدلّ على الصبر. ويقابل العبارة: صاحب النفَس القصير (عد 21: 4؛ قض 10: 16: ن ف ش). في أم 14: 17 كلام عن »الأنف القصير«. هو لا يرى أبعد من أنفه.