الفصل الثامن: الواجبات تجاه الوالدين والإحسان للفقراء.

 

الفصل الثامن

الواجبات تجاه الوالدين والإحسان للفقراء (  3: 1 - 4: 10)

1 - المقدّمة

إنّ الأمانة لله لا تتلّخص فقط في ممارسة الصبر والثقة بالله، بل تفرض أيضًا تتميم عدد من الواجبات الخاصّة، ولا سيّما تلك التي نؤدّيها للوالدين، حسب الوصيّة الرابعة (خر 20: 12؛ تث 27: 16). هذا ما فهمته النسخة اللاتينيّة التي جعلت آ 1 بشكل مطلع يعود إلى النسخة العبريّة فيتحدّث عن حقِّ الأب والأخذ بنصائحه. نستطيع أن نقسم أفكار هذا المقطع (3:1 - 16) على الشكل التالي: من أكرم والديه نال البركات المرتبطة بالمحافظة على هذه الوصيّة (آ 1 - 9). ونحن نكرم والدينا الذين صاروا عُجَّزًا (آ 10 - 13) وهكذا نستحقّ مغفرة خطايانا (آ 14 - 15). ومن فعل غير ذلك، جدّف على الله. وجاء من ميَّز في هذا الإرشاد العامّ اثني عشر برهانًا، لدفع الأولاد إلى إكرام الوالدين.

أمّا القسم الثاني من ف 3 (آ 17 - 31) فينصح بالاعتدال ويحذِّر من الإتّكال المفرط على الذات والاعتداد بالنفس. الموضوع الأوّل هو الاعتدال في عواطف النفس الداخليّة، وفي النشاط الخارجيّ، ولا سيّما في البحث العقليّ. هذا الاستعداد العامّ يتنوّع في تطبيقات متعدّدة: اللطف، البساطة، التواضع، العفَّة. هذا المقطع (آ 17 - 31) الذي يرتبط بعض الشيء بسابقه حول الخضوع للوالدين (آ 1 - 16)، يبدو مبنيٌّا بناء محكمًا: بعد أن صوَّر الحكيم فائدة التواضع وبيَّن كم هي مرغوبة (آ 17 - 20)، حدّد بما تقوم (آ 21 - 23). ثمّ حذّر التلميذ من الاعتداد بالنفس (آ 26 - 28) قبل خاتمة عن الأجر المعطى للنفس المتواضعة، الخِفرة (آ 29 - 31).

جاءت القصيدة الأولى (1:1 - 16) في ثلاثة أبيات (آ 1 - 6؛ آ 7 - 11؛ آ 12 - 16). فتوقّفت عند واجبات الأولاد تجاه والديهم. لمخافة الله المكانة الأولى في لاهوت ابن سيراخ. ولكن هذا لا يكفي. فعلى المؤمنين (الذين خافوا الربّ وأحبّوه) أن يحبّوا والديهم ويكرموهم ويعتنوا بهم. من أجل هذا كانت في اللاتينيّة آية قبل آ 1: »أولاد الحكمة هم جماعة البارّ. الطاعة والحبّ هما ما وَلدوا«.

من حقّ الأب أن يطلب الطاعة من أولاده. وتضيف السريانيّة في آ 1ب: »بحيث تحيون حياة إلى أبد الأبدين«. هكذا توجّه النصّ توجيهًا مسيحيٌّا للمجازاة بعد هذه الحياة. في الدكالوغ (الوصايا العشر)، الوصيّة الرابعة هي الأولى التي يرتبط بها وعد. على ضوء هذه الوصيّة نقرأ آ 2. فإكرام الوالدين وطاعتهم هما حجر الزاوية في الخلقيّة البيبليّة. رج خر 21: 17؛ لا 20: 9؛ تث 5: 16؛ طو 4: 3 - 4؛ 14: 12 - 13؛ مد 1: 8؛ 6: 20؛ مت 15: 3 - 16؛ مر 7: 9 - 13؛ أف 6: 2 - 3. في آ 3 - 4 نجد تعليمًا حول التكفير والوساطة، ويظهر التوازي أيضًا بين حبّ الله وخوفه في آ 7، إذ يحلّ محلّ الحبّ الخدمة. لا خدمة العبيد، كما قال بعض المعلِّمين فأخطأوا، بل الحبّ والإكرام والعناية.

وفكرة البركة بسبب الأمانة للشريعة، تتفرَّع من تث 28: 2. فبركة الوالد لأولاده ثمينة جدٌّا. فلا يفرح الولد بمذلّة أبيه: فحين يرتفع الأب يرتفع الأولاد معه. وتبـدأ آ 12 مع »يا ابني«. هو واجب الأولاد تجاه والديهم في زمن الشيخوخة. فمن نسيَ التقوى تجاه الوالدين، نسيَ التقوى تجاه الله.

في القصيدة الثانية (3: 17 - 24) شدّد ابن سيراخ على حاجة الحكيم لأن يمارس الوداعة والتواضع (1: 27؛ نج 2: 23 - 25؛ 8 - 9). في أم 15: 33، جاء التواضع مرتبطًا بمخافة الله: »مخافة الربّ دليل حكمة، وقبل الكرامة التواضع«. وفي أم 22: 4: »بالتواضع ومخافة الربّ كلّ غنى وكرامة وحياة«. وأجمل ما نجد عن التواضع كفضيلة دينيّة وأخلاقيّة نقرأه في صف 2: 3: »التمسوا الربّ يا جميع ودعاء (متواضعي) الأرض الذين حفظوا شريعته. أطلبوا البرّ، اطلبوا الوداعة« (التواضع). ما نلاحظ في آ 21 - 24 هو تحذير ابن سيراخ ممّا يقدّمه عالمُ اليونان، والتذكير بما في التوراة من غنًى. شريعة الربّ وتقاليد شعبه تكفي من أجل حياة صالحة وسعيدة.

في آ 25 - 31، نقرأ كلامًا عن الخضوع لله وعن العناد. كما الأعمى لا يرى النور، كذلك الجاهل لا يقدر أن يقتني المعرفة. من هنا أهمية الطواعيّة.

والقصيدة الأخيرة (4: 1 - 10) جاءت تعليمًا حول السلوك تجاه الفقراء. فالرحمة التي تحدّثنا عنها في السابق، تجدُ توسيعًا خاصٌّا مع تطبيق على الفقراء والمضايقين واليتامى والأرامل. لهذا، نمتلك قلبًا رؤوفًا بالتعساء، ونساعدهم مساعدة ناجعة. هكذا نجتذب حبّ الله والبشر.

2 - نظرة إلى النصّ

أ - 3: 1 - 16

آ 1 - أقوال أبيكم. هكذا في اللاتينيّة. في اليونانيّة، اسمعوا أباكم. أو: اسمعوا لي، فتخلصوا. في السريانيّة: فتحيوا. هذا النداء للاستماع إلى الوالد أو معلّم الحكمة معروف في أم 4: 1، 10؛ 5: 1، 7؛ 7: 24. والخلاص (أو الحياة) يقوم في امتلاك خيرات الأرض.

آ 3 - كفّر عن خطاياه. صارت ممارسة الشريعة مساوية لذبيحة تكفيريّة. هنا نتذكّر سفر طوبيّا.

آ 6 - طالت حياته. هذا أهمّ ما في مجازاة الأبرار على الأرض (1: 12). أضاف اليونانيّ واللاتينيّ: »المتّقي الربّ يُكرم والده«.

آ 8 - هنا تبدأ أطول مجموعة عبريّة نحتفظ بها (تصل إلى 16: 24). وُجدت في خزانة القاهرة. في السريانيّ نجد »ب ن ي« (يا ابني) فوق السطر. ولكن غاب في اليونانيّ. نقرأ آ 8 كما في السريانيّة: »يا ابني، وقِّر أباك في الأعمال وفي الكلام، لكي تأتي عليك كلُّ بركاته«. وهذا ما يوافق العبريّ.

آ 9 - نقرأ في العبريّة: »بركة الأب تُسند الجذور، لعنة الأمّ تقتلع الغرس«. نقل اليونانيّ الصورة من عالم الريف إلى عالم المدينة: تثبّت بيوت البنين. في السريانيّة: »بركة الأب تُقيم الديار، ولعنة الأمّ تقلعها قلعًا«. نشير هنا إلى أنّ بركة الوالدين فاعلة. رج تك 27: 33 - 37.

آ 11 - نقرأ في العبريّة: »مجدُ الإنسان مجدُ أبيه. وتكبرُه خطيئةُ لاعنِ أمّه«. ويتبعه السريانيّ: »كرامة الرجل كرامة أبيه، وخطايا كثيرة لمن يحتقر أمّه«.

آ 14 - إختلفت ترجمات هذه الآية. مثلاً: »بدل خطاياك يُضاف لك بناء«. أو: »تجاه خطاياك، يُنمي لك بيتك«. »بدل خطاياك يكون (العطف) لك بيتًا جديدًا«. يبدو أنّ المعنى هو أنّه بسبب المحبّة للوالد، ينمو البناء الروحيّ للابن. في العبريّ: »صدقة الأب لا تمحى، وبدل الخطيئة هي تُغرَس«. هي هي في السريانيّة.

آ 15 - »يُذكر«. أي الله يذكره«.

أ 16 - نقرأ في العبريّ: »من احتقر أباه تواقح، ومن لعن أمّه أغضب خالقه«.

ب - 3: 17 - 31

آ 17 - العبريّ: »يا ابني، في اليسر سرْ بتواضع، فتُحَّب أكثر من معطي العطايا«. في السريانيّة: »يحبّونك أكثر من واهب المواهب«.

آ 19 - غابت من اليونانيّ. ولكن نقرأ ما في 248 وفي السريانيّ: »كثيرون هم المتكبِّرون المتشامخون، ولكنّ أسرار الربّ تنكشف للمتواضعين«.

آ 20 - في العبريّ: »مراحم الله عظيمة، وللمتواضعين يكشف سرّه«.

آ 21 - حذّر الحكيمُ تلاميذه من الفلسفة اليونانيّة. فقد تُعرّض الإيمانَ للخطر. ما قيل في آ 21 سوف يردّده التلمود مرارًا. نجد هنا فعل »درش«، بحث. منه يتفرّع الاسم: مدراش.

آ 24 - في العبريّ: »عديدة آراء بني البشر«. يشير النصّ إلى تعاليم اليونان، أو إلى انحرافات تعليميّة في قلب العالم اليهوديّ. العبريّ، آ 25: »من دون عينين يغيب النور، ومن دون معرفة تغيب الحكمة«. وفي بعض المخطوطات اليونانيّة: »من دون عينين لا ترى النور، ومن دون عقل، لا تحاول الإقناع«.

آ 26 - العنيد. هو الإنسان الذي يتشبَّث في فكره وفي سلوكه الخطر. إن حبّ الخطر هو اعتداد المتكبّر الذي يدفعه تهوّرُه لمواجهة كلِّ خطر. في العبريّ: »من أحبّ الطيّبات انجرَّ بها«. وقالت اللاتينيّة: »القلب الذي يسلك طريقين لا ينجح، والقلب الشرّير يعثر ويسقط«.

آ 28 - لا تسرع إلى شفاء الشرّير، فلا شفاء له، فغرسُه من غرس شرّير. فالكبرياء هي الشرّ الأساسيّ، وتنكشف في عناد القلب (خر 7: 14؛ 8: 28). ولن يكون لها شفاء حين تتجذّر كما النبتةُ في الأرض.

آ 29 - العبريّ: »قلب الحكيم يفهم أمثال الحكماء، والأذن المصغية للحكمة تفرح«. في اللاتينيّ: »القلب الحكيم العاقل يمتنع عن الخطيئة، وينجح في أعمال البرّ«.

آ 30 - قال طو 12:9: »الصدقة تنجّي من الموت وتنقّي من كلّ خطيئة«.

آ 31 - من يُحسن، يردّ بالخير على خير تقبّله. العبريّ: »من عمل خيرًا التقاه في طرقه«.

ج - 4: 1 - 10

آ 1 - يا ابني. كما في 2: 1. يوصي الكتاب مرارًا بالصدقة تجاه الفقراء.

أ 3 - يقول العبريّ: »لا تحرّك حشا الفقير، ولا تُحزن قلب البائس«.

آ 6 - بمرارة نفس. هو الحزن العميق واليأس والقرف من الحياة. رج أي 3: 20؛ 21: 25؛ قض 18: 25. خالقه. في العبريّة: ص و ر و. أي الذي صوّره، خلقه. لا صخرته كما تترجم الكلمةُ العبريّة مرارًا.

آ 7 - نقرأ في اللاتينيّة: »كن عطوفًا لجماعة الفقراء، واتّضع أمام شيخ، وانحنِ أمام كبير«.

آ 9 - رج أم 31: 9؛ مز 82: 2 - 4. نتذكّر قساوة الأنبياء تجاه القضاة الذين يرتشون فيحكمون للغنيّ على الفقير وللقويّ على الضعيف. رج أش 1: 23؛ 5: 23؛ إر 5: 28؛ عا 2: 6 - 8؛ مي 3: 9 - 11.

آ 10 - وللأرامل. حرفيٌّا: لزوجهم. فالأرامل واليتامى هم حصّة الله. رج مز 68: 6؛ 146: 9؛ خر 22: 21؛ تث 10: 18. كابن الإله. في العبريّة: يدعوك الله ابنًا.

3 - شرح الآيات

أ - الواجبات تجاه الوالدين (3: 1 - 16)

هناك حقّ الأب بأن يطيعه أولاده (آ 1). وممارسةُ هذه الطاعة تفتح أمامهم طريق الخلاص. لا الخلاص الأبديّ كما فهمت السريانيّة، بل سعادة في هذا العالم ترافق الوصيّة. نشير هنا إلى أنّ فعل »سوزو« (خلّص) يقابل »ح ي هـ« في العبريّة والسريانيّة والقبطيّة والأرمنيّة.

وحقّ الوالدين هذا قد أسّسه الله (آ 2) الذي ضمّ الأمّ إلى سلطة الأب (خر 20:12: أكرم أباك وأمّك). إذا كان الأب يكرَّم، فالأمّ يجب أن تكرَّم أيضًا. هذا ما قاله طوبيت لابنه: »أكرم أمَّك كلَّ أيّام حياتك. وتذكّر ما تحمّلَتْهُ من (عذاب)، وما تعرّضتْ له من خطر بسببك (حين حملتك) في حشاها« (طو 4:4). وقال أم 1: 8: »اسمع يا ابني مشورة أبيك، ولا تُهمل نصيحة أمّك«. وفي أم 6: 20: »احفظ يا ابني وصيّة أبيك، ولا تُهمل نصيحة أمّك«. فالأولاد نالوا من الله الوجود وكلَّ خير بواسطة الوالدين. هما عناية الله على الأرض. الابن يكرم أباه كما يكرم الله الوالد (والوالدة) حين يشركه في عمل الخلق.

فمن قام بواجباته (آ 3) تجاه والديه نال البركات الثمينة. ولا سيّما التكفير عن خطاياه، وهو وعدٌ لم يُذكر من قبل. كانت ممارسة الشريعة في العالم اليهوديّ بعد المنفى الأساس الأوّل في الممارسة الدينيّة. كانت تغفر الخطايا. وجاءت الأمانة للوصيّة الرابعة في الخطّ عينه. ومن مظاهر هذا الإكرام، صلاة الابن عن نفس أبيه، في المجمع، في تذكار موته (هي عادة ما زالت في كنائسنا). هذه النظرة إلى تكفير عن الخطايا، تقف بين تكفير بواسطة الذبيحة وتكفير يسوع المسيح الذي هو وحده الوسيط بين الله والبشر.

مثل هذا الإنسان يجمع الكنوز ( آ 4 1 تم 6:19)، ينال الحياة الحقّة (آ 5). هذا ما يختبره الرجل في فرح حين يرى أولاده. والله يستعدّ لكي يستجيب دعاء من يُكرم والديه، ولا سيّما في وقت الضيق والشقاء. فكأننا أمام شريعة المثل: مثلما يعامل الابن أباه، يعامله أولاده حين يكبرون. وأخيرًا (آ 6) يمنح الله من يكرم أباه، الحياة المديدة، وهو خيرٌ وُعِد به الحكيم (1:20) وخائف الله (1:12). مثل هذا الولد هو عزاء لوالديه. راحة. غياب القلق. فإذا كانت مخافة الله (آ 7) أساس الواجبات تجاه الوالدين، نفهم أن يكون الولد الذي يخدم الربّ يخدم أيضًا والديه. يسمع لهم. يطيعهم.

في آ 8 - 9 نفهم كيف نكرم والدينا: بالعمل وبالقول. هذا ما يؤمّن لنا البركة. جاءت في العبريّة صورةُ الغرس التي تعني النجاح. بما أنّ البركة لا تُردّ وكذلك اللعنة، بل هما تفعلان، فهذا يعني أنّ الله يبارك بواسطة الوالدين وربّما »يلعن«. أو هو يوافق بقدرته وعدالته. هنا نتذكّر لعنة نوح لحام، وابنه كنعان (تك 9: 25).

وقد يهمل الإنسان والديه (آ 10 - 11) حين يكونان فقيرين، مريضين... ففي ذلك الوقت يحتاجان إلى إكرام مضاعف. والشرّ كلُّ الشرّ هو أن يبتهج الابن بما يصيب والديه من عار أو ذلّ. فهل ننسى أنّ كرامة الابن من كرامة الأب؟ إذن، نحيط والدينا بعناية أكبر حين يصلون إلى الشيخوخة (آ 12 - 13). فلا نعارضهم ولا نُتعبهم. جسمهم ينحلّ وجسم أولادهم يعجّ بالحياة.

فالعطف (أو: الرحمة، الائيموسيني) يقابل »ص د ق هـ« العبريّ: البرّ (آ 14). رج 7:  10؛ 12 :3؛ 16: 4؛ 17: 22. هذا العطف يتجسّد في الصدقة، التي تحلّ محلّ الممارسة الطقسيّة. وهذا العطف تجاه الأب (آ 14) يُسجَّل في كتاب ولا يُمَّحى. فالله يجازي بالخير هذا العمل الصالح. وهو يُغرس في الأرض. أو بيت يُبنى: أي يُعطى له نسلٌ. فمحلّ الديون والخطايا هناك الغنى. صارت الصدقة شجرة تمنح ثمرة تبقى مع الأولاد إلى الأبد.

فالله نفسه يتذكّر ذاك الذي مارس وصيّة إكرام الوالدين (آ 15)، ويوم تمرّ المحنة فيحتاج إلى العون، تُذكر له أعماله الصالحة بقوّتها التكفيريّة. وتبدو عربون رحمة الله تلك كلامًا عن تطويبة الرحمة: »طوبى للرحماء فإنّهُم يُرحَمون« (مت 5:7). نجد أنّ الأجر يتجاوز نوعيّة الإحسان. هو أجر روحيّ. تذوب الخطايا مثل الثلج حين تطلع شمسُ الربيع. وهذا التطهير يعوّض ما يصيب الإنسان من ألم وحزن. وبما أنّ الله يمنح كلّ هذا، نفهم الثمن الذي يربطه بهذه الممارسة.

وينتهي هذا الإرشاد (آ 16) بتهديد قاسٍ: من لم يُحِطْ والديه بالعناية اللازمة، من احتقرهما أو أذلّهما، كان كأنّه يجدِّف على الله. فمن لا تقوى عنده تجاه الوالدين، لا تقوى عنده تجاه الله. بل تكون هذه المعاملة السيِّئة الموجّهة للوالدين، سببًا للموت (خر 21: 17؛ لا 20: 9؛ تث 27: 16). لهذا كان التعليم: من لا يرحم والديه ويراعيهما، كان وكأنّه يشتمهما. قال النصّ السريانيّ: »من لعن أمّه أغضب خالقه«.

ب - نصائح عامّة حول الاعتدال والاعتداد بالنفس (3: 17 - 31)

في آ 17 نقرأ: »براوتيس« التي هي اللطف والوداعة والنعومة (4: 8؛ 10: 28؛ 14: 4) قال اليونان: تهدئ الغضب. وفي الكتاب المقدّس، التواضع والوداعة القريبان الواحد من الآخر (مت 11: 29؛ أف 4: 2؛ كو 3: 2). فالنفس المتواضعة صالحة، سموحة مع الآخرين. لا تقاوم ولا تصيح. »ع ن و« هو المحتاج، المتواضع، الذي لا ملجأ له سوى الله. هو موقف نفسي واعٍ لحدوده ووضعه كصغير. يتأسّس على الصبر والطواعيّة، وفي هذا الإطار يعمل ويقول. هكذا ينال مثلُ هذا الإنسان الاحترام من الناس. من الذي يُرضي ا؟. قالت العبريّة: »الوديع يُحَبّ أكثر من حامل الهدايا، أكثر من الأغنياء الذين يوزّعون المال«.

في آ 18 - 19 نفهم أنّ الوديع هو »الصغير« تجاه من يعتبر نفسه »كبيرًا«. فمن أخِذ من الأرض، عليه أن لا ينسى وضعه وحقارته. هنا نتذكّر إبراهيم حين تشفّع من أجل سدوم: »تجرّأت فكلّمتُ الربّ وأنا تراب ورماد« (تك 18: 27). والعذراء مريم مجّدت الله الذي نظر إلى أمته الوضيعة، الصغيرة (لو 1: 48). كان يسوع قد وعد الودعاء بامتلاك الأرض (مت 5: 4). وهو يطلب منّا أن نصير صغارًا، مثل الأطفال. أن نخدم (مت 20: 26 - 28).

»عند الربّ« (آ 19). هو العظيم ونحن الصغار. هو القدّوس ونحن الخطأة. أمام الربّ نحن نخضع (آ 20)، ونقبل بالحدود التي جعلتها لنا العناية الإلهيّة. هذا الاستعداد النفسيّ يرتبط بمخافة الله، بوعي عظمة الله وجلالته. لهذا فتواضعُ الإنسان يمجّد عظمة الله. وهذا التواضع (آ 21) الواعي لحدوده، يتيح لنا أن نحتفظ من الكبرياء. يُوقف الإنسانُ الثقة المفرطة بالنفس، ويمنع نفسه من الرغبة في ما يتجاوزه. فالمسافة بعيدة بين قواه وبين ما يطلب. لا حاجة إلى دراسات تشكّل خطرًا على الإيمان. ففرائض الشريعة هي الموضوع المميّز في علم يبحث عنه البارّ، فيتعلّم ويفهم (آ 22). هي معرفة هامّة وخلاصيّة، ولكنّ الباقي ليس بضروريّ من أجل خلاص الإنسان. فلو كان ضروريٌّا لأوحى به الله إلى الإنسان. هنا نقرأ تث 29:28: »الخفايا للربّ إلهنا. والمكشوفة لنا ولأولادنا إلى الأبد، لكي نعمل بكلّ كلمات هذه الشريعة«.

وحدَّدت آ 23 أنّه يجب أنّ لا نهتمّ اهتمامًا مفرطًا بما يتجاوز قوى الإنسان، أو بالأحرى بما لا يعني، بشكل مباشر، الحياة الخلقيّة الشخصيّة. فامتلاك الفضيلة خيرٌ من مجهود العالم النظريّ. وهذا الاعتدال في رغبة المعرفة ضروريّ أيضًا، إذا فكّرنا أنّ الإنسان لا يقدر أن يفهم ما أوحي له وما هو مفيد. أما يفقد عقله إن هو بحث عن أمور تتجاوز فهمه، وكانت فائدتها ثانويّة له؟ وهذا الفضول العلميّ هو باطل (آ 24)، بل خطر. هو تلميح إلى النظريّات الفلسفيّة لدى اليونان. أمّا المؤمن الذي استنار بنور الله فدخل في الأسرار الإلهيّة، فهو لا يحتاج إليها. وإن حاول، سقط في الضلال.

»كارديا سكليرا«. ل ب. ك ب و د: قلب ثقيل (آ 25). أثقله الشرّ. تمرّد. اعتدّ بنفسه فرفض التنبيهات السابقة، وعاند باحثًا في أسرار الفلسفة، بكلّ وعيه ومعرفته. هو يسير في الخطر، يتعرّض للشرّ. منذئذٍ يحلّ به التعب (آ 26) فلا يصل إلى نتيجة، إن لم تتضاعف خطاياه. قال أي 15: 20: »الشرّير يتوجَّع كلّ أيّامه«. وعناد المتكبّر الذي يقود إلى العمى لا يمكن أنّ يُشفى (آ 28). وخيبات الأمل التي شعر بها لا تنيره ولا تهديه. فالشرّ فيه عميق جدٌّا. هو لا يقدر أن يُشفى لأنّه لا يعتبر نفسه مريضًا. ثمّ إنّ الله يرفض نعمته للمتكبّرين. هو يقاومهم (أم 15: 25).

وتجاه سلوك الخاطئ المتكبّر، يبرز التواضعُ (آ 29) لدى من يريد أن يقتني الحكمة الحقيقيّة. فاستعدادُ القلب يختلف كلّ الاختلاف (لـ ب. ح ك م؛ أي 9:4؛ أم 10:8؛ 16:21؛ جا 8:5). أذنه مصغية. يتقبل التعليم. يجعله موضوع تأمّله. يفرح به. في الواقع، يتعطّش الحكيم إلى العلم، شأنه شأن المتكبّر، ولكنّه لا يطلب ما هو جديد، ولا يدخل في أبحاث باطلة، غامضة. بل يهتمّ بمعرفة التعليم التقليديّ في شعبه، ويتدرّج في علم الآباء ويستفيد من خبرتهم. المهمّ في كلّ هذا، طريق الله.

القلب الحكيم (آ 30) يدلّ أيضًا بشكل رفيع على اللطف والتواضع الخاصّين به. في التعرّف إلى ضعفه وإلى حاجته إلى مساعدة، يستقي عاطفةَ التقوى والرحمة للفقراء والضعفاء. فالصدقة (آ 14) تنقّي من الخطايا كما تفعل المياه في الإنسان. رج 3: 15؛ تث 24:13. وقد قال طو 12: 9: »الصدقة تنجّي من الموت، وتمحو الخطايا، وتطيل حياة فاعليها« (رج طو 4:8 - 12). هذا يفترض أنّ محبّة القريب التي تتجلّى في الصدقة، تجد أساسَها في محبّة الله. بل إنّ الرحمة تجاه القريب تجتذب رحمة الله وتغفر الخطايا.

فرضت شريعة موسى فرضًا مساعدة الفقراء (لا 25: 24، 35 - 43؛ تث 15: 7 - 11). باسم هذا المبدأ صار الشعب جماعة من الإخوة. وغداة المنفى حين صارت العلاقات بين أعضاء هذه الجماعة الأخويّة وثيقة، لا نعجبُ إن شدّد الكتاب على الإحسان والصدقة. فواجب المحبّة يساوي جميع الوصايا، يساوي الذبائح بل يتجاوزها. هكذا قرأوا: أريد رحمة لا ذبيحة. بل هذه المحبّة تتجاوز درس الشريعة وتحلّ محلّه. فالإنسان خُلق لكي يمارس المحبّة. عندئذٍ يكون ابنًا حقيقيٌّا لإبراهيم. هكذا ينال الإنسان أجرًا لدى الله.

نحن نمارس الإحسان لكي نقتدي بالله. فلا نستطيع أن نتبعه إن لم نلبس لباس الرحمة، وحين نتصدّق نعطي الله ما هو له. من جهة الخلقيّة البشريّة، الصدقة تمنعنا من التكبّر، تخلق الصداقة بين الناس والتضامن.

وأخيرًا (آ 31)، القلب الحكيم يدلّ على فطنته بالتطلّع إلى المستقبل. سواء أعطى بقدر استطاعته، سواء شكر من أعطاه في حاجته، فهو يدلّ على رأفته تجاه الآخرين ويُنشد سخاء إخوته. الإنسان يذكر أواخر أيّامه. وهكذا ينتظر الأجر له في هذه الدنيا وفي الآخرة. والله يذكره. والبشر يذكرونه. في وقت الضيق يجد الله بجانبه، ويفهم أنّ أحدًا لا يمكن أن يكون أكثر سخاء من الله. فإن كان من أعطى أقرض الله، فالله يدفع دينه للمعطي ولا سيّما حين يراه محتاجًا. هو العطاء المادّيّ والعطاء الروحيّ.

ج - السلوك تجاه البؤساء (4: 1 - 10)

أن لا نسيء إلى القريب (آ 1) حسب مر 10:9، فريضةٌ من الشريعة الموسويّة (خر 20: 17؛ تث 24: 17)، وعمل عادل (1 كور 6: 8؛ يع 5). وهنا، الذين نالوا من الله خيرات العالم، عليهم أن يساعدوا الفقراء. فمن رفض، كان وكأنّه يحرم الفقير ممّا يحقّ له. هو يحرم الفقير الحياة، يحرمه من القليل (29: 21؛ أم 27:27) الذي يحميه من الموت. قال الآباء: ما يفيض عن الغنيّ هو الضروريّ للفقير، ثمّ إنّ هذه المساعدة يجب أنّ لا تتأخّر (آ 31). فمن تأخّر بدا وكأنّه لا يريد.

مثل هذا الرفض أو التأخّر (آ 2 - 4) قساوةُ قلب تقود إلى الاحتقار وتزيد التعاسة تعاسة. تتحرّك رغبة الجائع، يخيب أمله، وتتحوّل عواطفه إلى الغضب. قال الفيلسوف سينيكا في الإحسان (2: 5): »لا شيء أمَرُّ من لايقينٍ يطول. يحتمل بعضُ الأشخاص بخنوع الضربة التي تقطع آمالهم. لا التردّد والمناوشة. حين تتمرمر النفس تُبغض الخير الذي تنتظر. وإن أعطيَ لها لا تعترف بالجميل. فالسخاء يسرع، وما يميّز العمل الحرّ هو السرعة في إتمامه. فمن تصرّف على مهل وتأخّر ليقدّم خدمة، يكون كمن لم يفعل من كلّ قلبه«.

حين يُرفَضُ الفقير (آ 5 - 6)، يلعن الغنيَّ الذي أصمَّ أذنيه. فيسمع لعنته الله الخالق والمحامي، فيتدخّل. وهكذا تصبح الصلاة شخصًا حيٌّا ترتفع إلى الإله الحيّ. فإذا أردت أن تكون محبوبًا (آ 7)، أحسنْ إلى المساكين. في المجامع، تُحفَر أسماء المحسنين، وتُذكر علانية في بعض الظروف. وتحدّد آ 8 - 9 طريقة التصرّف مع البائسين. نسمع شكواهم. نصغي بانتباه. نتقبّلهم دون أن نُشعرهم بالمسافة التي تفصلنا عنهم. وهناك مساعدة خاصّة يمكن أن نقوم بها هي الدفاع عن حقوقهم في وجه الأقوياء. هذا يتطلّب الشجاعة والتجرّد.

هناك اليتيم (آ 10) نموذج الضعيف الذي لا يقدر أن يدافع عن نفسه. الله يحميه. يكون له أبًا (مز 68:6؛ أش 1: 7؛ أي  31 : 18). ومع اليتيم الأرملة التي لا سند لها. اللهيكون أبًا لهذا الذي يقدِّم المساعدة. هي تطويبة الرحمة تجاه الويل الذي يصيب أصحاب القلوب القاسية. كلّ هذا يجعل تعليم ابن سيراخ فوق تعليم العالم اليونانيّ الذي اعتاد أن يحتقر الفقير. وقد قال أفلاطون في الشرائع (ف 2): على كلّ دولة أن تسنّ قانونًا بموجبه يُطرد الفقراء من المدينة. بالإضافة إلى ذلك، لم يحكم ابن سيراخ على الأغنياء، بل دعاهم إلى السخاء والإحسان إلى الجماعة فيباركهم الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM