الفصل السابع: مخافة الله في المحنة.

 

الفصل السابع

مخافة الله في المحنة (2: 1 - 18)

1 - المقدّمة

نقرأ ف 2 على ضوء ما قيل في القديم: الله يمتحن أصدقاءه وعباده، منذ أوّل المختارين إلى آخرهم. وقد بيّنت يهوديت ضرورة المحنة بالنسبة إلى الأبرار (8: 22 - 23). وانطلق بولس من خبرته فقال: »جميع الذين يريدون أن يحيوا بالتقوى، في المسيح يسوع، يُضطَهدون« (2 تم 3: 12).

في آ 1 - 6، نبّه ابن سيراخ تلاميذه حول الشدّة التي يسمح بها ا؟ ليعرف إذا كانت مخافة الربّ فينا صادقة: يبدأ مع »يا ابني«. هكذا يحدّث المعلّم تلاميذه. في آ 7 - 9، تبدأ كلّ آية مع: يا من تخاف الربّ. أمّا آ 10 - 11 فتبدآن بفعلين في صيغة الأمر: تأمّلوا (القدماء) وانظروا. وتبدأ آ 12، 13، 14 مع »ويل«، وتعود آ 15، 16، 17 إلى تكرار: الذين يخافون الربّ. وتنتهي القصيدة بنداء إلى رحمة الله.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 1 - في مخطوط 248 نقرأ عنوانًا: في الصبر. المحنة مهمّة لاقتناء الحكمة وعيش الفضيلة. رج أم 3: 11 - 12؛ أي 5: 17 - 18؛ مز 94: 12؛ يع 1: 2 - 3، 12. الفعل اليوناني: بايرسموس. في العبريّة: ن س هـ. رج 4: 17؛ 6: 7. قد نكون أمام نداء فرديّ. وبالأولى أمام صعوبات يحملها العالم الهلّنيّ في مواجهة عبادة ا؟ الواحد والعيش بحسب الشريعة. لاننسَ أنّنا قبل اضطهاد انطيوخس الرابع إبيفانيوس بزمن قليل (2 مك 1: 2 - 4، 12 - 15).

آ 5 - تضيف مخطوطات: »فاتّكلْ على الله في المرض والحاجة«. خيرة الناس، أي الذين يرضىالله عنهم. رج أم 3: 12؛ مد 11: 9: ب ن ي. ر ص و ن ك.

آ 6 - نقرأ: آمنْ بالربّ فيساعدك. أو مع السريانيّ: »ترجَّ الربّ فيقوّم طرقك«.

آ 7 - هنا يبدأ الكلام عن الثقة بالله. لا تملْ عنه. فالطريق ضيّق وصعب (مت 7: 14)، وأوّل خطوة غير ثابتة تُلقينا في الهوّة.

آ 8 - وأجرك. يستحقّه البارّ بأعماله، على هذه الأرض (أم 11: 31).

آ 9 - ويصوَّر الأجر. فالخير هو ينبوع كلِّ سعادة على الأرض. والسرور الأبديّ يدلّ على فرح لا يتزعزع ولا ينتهي. لا نظرة بعدُ إلى سعادة السماء. تضيف بعض المخطوطات اليونانيّة: جزاؤه ينبوع فرح أبديّ.

آ 11 - رؤوف، رحيم، صفتان لله نجدهما مرارًا في الكتاب. رج خر 34 :6؛ 2 أخ 20: 9؛ نح 9: 31؛ مز 111: 4. يغفر الخطايا. رج نح 9: 17؛ أش 55: 7.

آ 12 - في طريقين، أي لا ثبات عنده ولا أمانة في طريق الله. أصحاب الأيدي المتراخية. تخاذلوا، فما قاوموا انجذابات العالم الهلّنيّ. ما تركوا الربّ، ولكنّهم لم يتركوا »العالم«.

آ 14 - الصبر، يرافقه الرجاء والثبات. يحاسبكم. يوم الحساب، رج أي 7: 18. رج »ف ق د« في العبريّة. هو تدخّله  اللالمنظور في يجازي خيرًا أو شرٌّا. خر 20: 5؛ رج إش 13: 11. وهو يزور أيضًا ليخلّص. رج خر 4: 31؛ صف 3: 7.

آ 15 - نكتشف التوازي: الذين يخافون، الذين يحبّون. من أحبّ الله خافه والعكس بالعكس. وفي النهاية، نُطيعه ونحفظ وصاياه. أمّا الحبّ فمتجرّد، على ما نقرأ في أقوال الآباء (1: 3): »كونوا عبيدًا يخدمون سيّدهم دون أن يفكّروا بالأجر«.

آ 18 - ولنقع. عبارة قالها داود (2 صم 24: 14). هنا نقرأ في السريانيّة: »مراحمه مثل عظمته، ومثل اسمه أعماله«.

3 - شرح الآيات

أ - الثبات في المحنة (2: 1 - 6)

في الأدب الحكميّ، (آ 1) يحثّ المعلّم تلميذَه الذي يدعوه »ابني« (ب ن ي. في اليونانيّة: تاكنون، أو: هويي. رج 7: 3؛ أم 1: 8؛ 2 :1؛ 3: 1). فعلاقة المعلّم بالتلميذ هي علاقة الأب بابنه. نحن لا ننسى أنّ الشيوخ مستودع الحكمة. وهم يقدّمونها للشبّان. وقد يكون المعلّم هو الأب (أو الأمّ) الذي ينقل لابنه فنّ مهنته، خبرته في الحياة، الإيمان التقليديّ الذي عرفه شعبه.

خدمة الربّ التي نفهمها حفظًا للوصايا، تتضمّن بالضرورة الصعوبات والمعارضات. فمن سعى في طريق الربّ، استعدّ لها. نشير إلى أنّ يع 1: 2 - 4 هو شرح لهذا المقطع. فالإنسان لا يحتاج إلى القوّة لكي يسود قلبَه وميوله الشرّيرة، والمعارضات الخارجيّة التي تبعده عن الله في ساعات الخطر. ويجب عليه أنّ يستعدّ لتحمّلها قبل أن ينتصر عليها. »بايرسموس«، المحاولة، الخبرة، الفحص أو الاستكشاف. وفي المعنى الخلقيّ: محنة الفضيلة بواسطة المضايقات. المعنى الأساسيّ في اليونانيّة، كان استعمال الوسائل لإنجاح ما نرغب فيه. صار في المسيحيّة »مناسبة الخطيئة« (6:13). »بايرسموس« هي محنة بها نحكم على شخص من الأشخاص. في الكتاب المقدّس، تأتي المحن من الخارج فتدلّ على »الأزمة«، على الضيّق (تليبسيس).

من هنا جاءت النصائح في آ 2 حول استقامة النوايا العميقة التي تدلّ على البارّ (يش   24: 19 - 24). وهناك الصبر والثبات (12: 15). »سبودو«: أسرع، رغب في شيء وطلبه باندفاع. ألحَّ ولجّ. نستطيع أن نقول هنا: لا تُسرع في التراجع أمام المصائب. وقد قال أحد المعلّمين: »لا تسرع في الخروج من الضيق الذي هو زمن تغطّيه الغيوم. فالمؤمن لا يُسرع كما يقول النبيّ (إش 27:16). فهو يُقيم حيث وضعه الله. وهذا يكفيه. ولا يضجر من الانتظار، لأنّه ينتظر الله، ومن ينتظر الله لا يمكن أنّ يكون انتظارُه باطلاً«. لا حاجة إلى البلبلة. إبقَ هادئًا (1 صم 28: 21؛ أي 21: 6: ب هـ ل). في هذا الكلام، يحثّ المعلّم تلميذه على الصبر والثقة بالله مهما حصل له. هذا العزم (هذه العزيمة وقوّة النفس) يعارض الوجل والخوف، وهو ضروريّ في وقت التجربة الكبرى (إباغوغي: رج 3: 28؛ 5: 8؛ 10: 13) في وقت المصيبة والضربة (ن ج ع، 23: 11؛ 25: 14). ذاك هو وضع المؤمنين أمام امتداد الهلّنيّة التي دفعت عددًا من اليهود إلى التخلّي عن إيمان الآباء. وكان الخطر أكبر في الشتات، حيث لا إطار يحمي المؤمنين المشتّتين وسط عالم وثنيّ.

تجاه هذا الانجذاب (آ 3) الذي تمارسه الحياةُ اليونانيّة وثقافتها على اليهود الأمناء للشريعة، عاد ابن سيراخ إلى الإيمان النقيّ، إلى المونوتاويّة أو ديانة الإله الواحد (ت د ب ق، في السريانيّ) التي يعيشها التلميذ: »تخاف الربّ إلهك، تعبده، تتعلّق به. تلتصق به في وحدة حيّة، حميمة (مت 19: 5). هو الوحيد، هو الإله الحقيقيّ. وهذا الالتصاق لا تقطعه أيّة تجربة جحود. أمّا الأجرُ فنموّ في الحكمة كما قال النصّ السريانيّ (ت ت ح ك م، في طرقك). وقال أحد المعلّمين: »لا شيء يُنمي الفضيلة مثل الألم. فالمرض زرع عابر. وحصاد النعمة الذي نحصده في الساعة الأخيرة، يدوم إلى الأبد«.

ثمّ إنّ هذه المضايقات (تاباينوسيس، ع ن ف) عرفتها العناية الإلهيّة وسمحت بها (آ 4 - 5). فالمؤمن لا يضطرب (يع 1:1). بل يتقبّلها بصبر ويتعلّق بمقاصد اللهالتي تعبِّر عنها هذه المقابلة التقليديّة: المعدن الثمين يُمتحَن في النار ويتنقّى (أش 48: 10؛ مز 12: 7؛ 66: 10؛ أم 17: 3؛ 27: 21؛ أي 12: 13). وهكذا يجب أنّ يمرّ جميعُ البشر في بوتقة المحن الأدبيّة ويتنقَّوا فيها لكي يُرضوا الله. فالنار للمعادن كالمضايق للبشر. فإنّ كان المعدن سيّئًا، ذاب في النار وما تنقّى. والخاطئ يهلك في التجربة ولا ينمو. النار لا تُفسد المعدن، بل تدلّ عليه في حقيقته. وهكذا تكشف المضايقُ إذا كانت الفضيلة ثابتة وحقيقيّة، أو هي ظاهرة وسطحيّة. ثمّ إنّ المحنة تتضمّن انتظار النتيجة أي التثبّت من أنّ الواقع عميق ويوافق المظاهر. قال أيّوب: »وإذا امتحنني خرجتُ كالذهب« (أي 23: 10). هو يعرف كيف أسلك. هو يفحص الكلى والقلوب، والتجربة لا تُعلمه شيئًا عن الإنسان. ولكنّه يسمح بها، في مقصد رحمته، لكي يمتحننا، لا لكي يرذلنا ويُرسلنا إلى الهلاك.

ويبرز تعليمُ الآيات السابقة في آ 6: فاليهود الذين أُذِلّوا وقاوموا الاضطهاد، يجب أن يثقوا حين يفكّرون أنّ الله يعتني بالذين يرتبطون بخدمته، وأنّه يجعل الآلام لخير الذين يحبّونه. فالاستسلام لله لا يخيب إن رافقته الاستقامةُ الخلقيّة. هذا التعليم الذي عبّر عنه إرميا (17: 7 - 8) والمزامير (37: 3، 5) والأمثال (3: 5 - 6)، واستعاده بولس الرسول (روم 5: 3 - 5)، سيكون موضوع المقطع التالي.

ب - ثقة بالله (2: 7 - 18)

هذا المقطع يتألّف من أربعة أبيات: يا من تخاف (آ 7 - 9). تأمّلوا القدماء (آ 10 - 11). ويل (آ 12 - 14). الذين يخافون الربّ (آ 15 - 17). أمّا آ 18 فهي خاتمة المقطع كلّه. كانت صيغة المخاطب المفرد (يا من تخاف، أنت) فصارت المخاطب الجمع (أنتم).

نجد في آ 7 - 9 إرشادًا مثلّثًا يتوجّه إلى الذين يخافون الله، ويتوخّى تشجيع الشعب ليظلّوا أمناء حين يتيقّنون من الأجر الذي يُمنح لهم. الصورة في آ 7 ب (وحين تسقط) هي صورةُ تقدُّم في طريق يصعب السير فيه، ولكنّه يوصل إلى الهدف. فمن أخذ طريقًا آخر كان نصيبه الهلاك. »بتايو« (آ 8؛ 37 :12: ك ش ل) يعني: عثر، اصطدم. في كلام عن الشخص. وقد يدلّ في اللغة الكلاسيكيّة على شخص خابت آماله (كما هو الأمر هنا). »خيرًا« (أغاتا. خير ننتظره. في العبريّة، ط و ب هـ، الطيب، السعادة).

وإذ أراد ابن سيراخ أن يحذِّر قرّاءه من تجربة السقوط (آ 10)، بيّن لهم الخير الذي يمكن أن ينتظروه من الله. ثمّ دعاهم إلى مشاهدة تحمل ثمرًا: لينظروا إلى الربّ الذي جازى دومًا المؤمنين في التاريخ (أش 41: 4). ويشهد على ذلك خبرةُ الآباء والأنبياء والملوك والأبرار: ما خابوا حين وثقوا بالله (مز 22: 5 - 6؛ روم 5:5). أجل، لا يتخلّى الربّ عن أخصّائه: »كنتُ صبيٌّا والآن شختُ، وما رأيتُ الصدّيق يُهمَل، ولا ذريّة له تلتمس خبزًا« (مز 37:25). ولا يخذلهم »هيباروراوو« نظر إليهم من فوق، احتقرهم، أهملهم، اختفى لئلاّ يُسعفهم (مز 55: 1).

أُستُعملت ثلاثة أفعالٍ عمدًا: خاب. خذل، أهمل. هي تقابل الإرشاد المثلّث الذي يحثّ على الثقة في آ 7 - 9. هذه النظر إلى السعادة التي تُعطى للبارّ، وإلى الشقاء الذي يصيب الشّرير، موضوعٌ تقليديّ في الخلفيّة البابليّة والأشوريّة، وقد أخذه العهد القديم. قال أليفاز الحكيم لأيّوب: »أين تقواك وهي اعتمادك، وحسن سيرتك وهي رجاؤك؟ أتذكر واحدًا بريئًا هلك، أو رجلاً مستقيمًا أُبيد« (أي 4: 6 - 7)؟ ويتوسّع مز 37 في طرح يقول: شقاوات هذا العالم هي قصاص الخطيئة، وامتلاك الخيرات على هذه الأرض، هو أجر البرّ. فإن بدا الأشرار سعداء، فهذا سراب عابر ووهمٌ كاذب (أي 10: 4 - 5). والله يغضب على الخاطئ ويتركه، ولكنّه يعاقبه قبل الموت. غير أنّه يكافئ البارَّ الأمين لشريعته، فيمنحه السعادة. غير أنّ سفرا أيّوب والجامعة رفضا هذه المعادلة بين سلوك الإنسان وجزائه علىهذه الأرض.

ما دخل ابن سيراخ في هذه المجادلات، بل أكَّد تأكيدًا صريحًا أنّ الأبرار الذين لجأوا إلى الربّ واستندوا، لن يخيب رجاؤهم، على ما نقرأ في هو 10: 12: »ازرعوا لكم في البرّ، تحصدوا في الرحمة«. هذا يعني أنّ المجازاة تكون روحيّة، داخليّة.

وبما أنّ الله يحبّ البشر، فهو رؤوف، رحيم (آ 11). ورحمته تُبعد عن أخصّائه الشرورَ التي تصيبهم. فالله كشف عن نفسه في خر 34: 6 - 7: »الربّ الربّ، إله رحيم حنون، بطيء عن الغضب، وكثير الرحمة والوفاء. يحفظ الرحمة لألوف الأجيال، ويغفر الاثم والمعصية والخطيئة«. رج مز 86: 15؛ 103: 8؛ 111: 4. وهكذا نفهم، بخلاف ما يفهم عددٌ من الناس، أنّ الكتاب أنشد رحمة ا؟ بصور مختلفةٍ. فكلّ عطاياه ترتبط برحمته. ينظر إلى الضيق الذي يتخبّط فيه شعبه، فيأتي إلى مساعدتهم ويغفر لهم خطاياهم. مثلُ هذا الكلام يشجّع المؤمنين، لأنّ ا؟ لا يمكن أن يتنكَّر لنفسه. ما عمله للآباء يعمله أيضًا للبنين.

غير أنّ هناك ثلاثة ويلات للذين يتراخون ولا يعرفون أن يقاوموا الشرّ بحيث لا يجتذبهم في شَرَكه (آ 12 - 14). يُصوَّر موقفهم بصور معروفة: قلب يخاف. يدٌ متراخية. ورجلهم لا تثبت في مكان. فالقلوب الخائفة الوجلة (دايلوس) يُرعبُها الخطر (آ 2: تث 20: 8؛ 2 أخ 13: 7). والأيدي الضعيفة، العاجزة، لا قوّة فيها من أجل الحرب (أش 35:3 ؛ أي 4: 3؛ عب 12:12). هو رمز عن غياب العزم في المحنة والحرب (ي د ي م. ر ف و ت، 2 صم 2: 7؛ 4: 1؛ إر 47: 3؛ جا 10: 18). فالخاطئ يؤمن ولكنّه يتردّد. هو مقسّم ولا يثبتُ على حال. تارة يثق بالله، وطورًا يُعدَم الثقة. أو هو يتعلّق بالله دون أن يتخلّى عن العالم. سلوكه لا يتوافق ومعتقده. ما توحّدت حياتُه العميقة في خدمة سيّد واحد، بل سار في طريقين. تمزّق، شلّع. كلّ هذا يعارض استقامة القلب والثبات المطلوب من المؤمن المتعبّد للربّ.

مثل هذا القلب لا يكون في أمان (آ 13). هذا ما يقابل: لا ثقة عنده. فالله لا يحمي الذين لا يثقون به. أو بالاحرى هم يرفضون يده الممدودة إليهم (إر 17: 5 - 6). هذا الحرمان من الحماية الإلهيّة هو شرُّ ما يناله الخاطئ من عقاب. يعتبر الأب أنّ الابن يشتمه حين لا يتّكل عليه. فما تكون عاطفة الله، حين نطلبُ خارجًا عنه، الحمايةَ والقوّة؟ في الواقع، يُترك الخاطئ فيختبر ضعفه. يفقد صبره فيبدأ توجّهه إلى الهلاك (لو 8: 15؛ 21: 19).

»هيبوموني« (ت ق و هـ، في العبريّة): الصبر والرجاء (41: 2). هو انتظار مثابر وواثق في المحنة. هو موقف نفس تفعل ولا تقبل أن تكون منفعلة بحيث لا تتحرّك. »ت ق و هـ« ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقوّة والثبات الخلقيّ. وهي مقاومة تستفيد من الضيقات، فمن لم يعرف أن يستفيد من الضيقات دلّ على خمول داخليّ. نجد لعبًا على الألفاظ، في اليونانيّة، بين الحماية والأمان في آ 13، والحساب والافتقاد (ف ق د) في آ 14. ففعل »ف ق د« يعني لاحظ، سهر، اهتمّ، اعتنى. ثمّ زار لكي يخدم. أعان. فالطبيب يتفقّد المريض. أمّا هنا، فنعرف أنّ الله يتفقّد الأرض، يزورها، ليستكشف ما فيها (أي  7: 18؛ مز مل 9: 8؛ 10: 5). هذا التفحّص يقود إلى دينونة عادلة، بعد أن يسبقها بحثٌ سابق (في برج بابل، نزل الربّ، نظر قبل أن يحكم: تك 11:5). في هذه الزيارة، يجازي الله أحبّاءه خير مجازاة. يحمل إليهم عونه. وقد يتّخذ إجراءات فيعاقب. وحين يأتي الله ليحاسب، فيفصل الأخيار عن الأشرار، ما يكون خط$ المتراخين الذين رفضوا حماية اللهوتعاقدوا مع العالم الوثنيّ المحيط بهم؟ هؤلاء لن ينعموا بالعون الإلهيّ. تكون حياتهم باطلة. بل هم ينالون أقسى عقاب (صف 1: 14 - 18؛ رؤ 21: 8).

تجاه هذا السلوك، يظهر سلوكُ خائفي الله (آ 15 - 18): هم أمناء لالتزامات إيمانهم. لا يتمرّدون على وصايا الله، على أقواله. يعيشون بحسب فرائض شريعته (مز 18: 22؛ 25: 4). وهنا نفهم أنّ خائفي الله هم أحبّاؤه.

فحفظُ الوصايا (آ 16) يمنح المؤمنين رضى الله. يمتلئون من الشريعة، لأنّ لهم المعرفة الكاملة والحبّ لفرائضه. فيستقون منها مبادئ الحياة. ولكنّهم يعرفون أيضًا أنّ هذه الأمانة الدقيقة لا تعفيهم من الإهانات والعذابات. لهذا، يستعدّون للمحنة، ويتقبلّون مسبَّقًا كلّ ما يُرسل الله إليهم في تواضع وصبر (1:20 - 22) يؤمّنان لهم عون الله، وفي صدق تامّ يعبّرون عنه في ما يتّخذون من مقاصد (داود، 2 صم 24: 14؛ 1 أخ 21: 13؛ سوسن، دا 13: 23).

»يد الله« في آ 18 تدلّ على الضربة أو المحنة. أمّا هنا، فهي ردّة فعل المؤمن الذي يخاف أن ينجسّه الوثنيّون أكثر من أن يضربه الله. هو خيار حاسم يختارُه الحكيم: أن نخدم الله في الألم خير من سعادة في الخطيئة. محنة الجسد ولا شقاء النفس، كما يقول مز 84: 11: »يوم واحد في ديارك خير من ألف في أيّ مكان آخر. فاخترتُ الوقوف في عتبة بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار«. وقال مز 37:26: »القليل الذي يملكه الصدّيقون، خير من ثروة جميع الأشرار«. رج أم 3:14؛ 8:11. وهكذا فالحضّ على الأمانة التي نحافظ عليها بالسهر والصبر والعزم ومخافة الله والثقة به، يجد أساسه الأخير في النظر إلى الله الذي هو سيّد البشر المطلق ومعطي جميع العطايا (ما نحسبه خيرًا وما نحسبه شرٌّا). هو قدير وهو رحيم (حك 11: 28؛ 12: 16).

إذا وجب علينا أن نخاف الله ونتعبّد لجلالته، وجب أيضًا أن ننتظر منه المحن التي يسمح بها لخير عابديه. وبقدر ما نخضع لسلطانه، يحقّ لنا أنّ نحسب حساب عونه. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إنّ أعماله تنفّذ مقاصدَ حبِّه للبشر. إذن خائفو الله يخلصون (آ 11 ؛ 2 مك 6: 12 - 16). وخدمةُ الله خير من خدمة البشر. بدأ هذا المقطع بالكلام عن رحمة الله (آ 7) وانتهى بالإشارة إلى هذه الرحمة (آ 18) التي ذُكرت في آ 11. إذا كان يهوه وحده الربّ (كيريوس) نرى أنّ الحكيم يتجنَّد لخدمة إله مليء بالرحمة. وهذا ما يشجّع المؤمن في مضايقه ويدعوه إلى علاقات الثقة المباشرة مع إله الرحمة والحنان.

خلاصة

أوجز ف 2 نفسيّة المؤمن الذي يجب عليه أن يقاوم كلّ أنواع المحن والاضطهادات لكي يحافظ على كنز الوحي بحيث لا يخسر منه شيئًا. والأمانة في خدمة الإله الواحد الحقيقيّ، التي يُسندها رجاءُ الأجر والعون الإلهيّ، تمتدّ في حياة خلقيّة تتوافق كلَّ الموافقة مع شريعة الربّ، وتقود إلى حالة نفسيّة من الانتظار واحتمال الصعوبات والصبر والثبات. فالمحن هي نصيبُ جميع القلوب المستقيمة التي لا ازدواجيّة فيها. من هنا كان كلام عن الثبات والقبول والرجاء. وتبرزُ القيمةُ الحقيقيّة لهذا الموقف الروحيّ بمركّباته، في قصد يربطنا بالله ربطًا وثيقًا، هذا إذا أردنا أن نتكرّس لله، وخدمته. قال يع 1:12: »هنيئًا لمن يصبر على المحنة، لأنّه إذا امتُحن ينال إكليل الحياة الذي وعد الربُّ به من يحبّونه«.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM