الفصل السادس: أصل الحكمة وكرامتها وثمنها.

 

الفصل السادس

أصل الحكمة وكرامتها وثمنها(1:1 - 30)

1 - المقدّمة

نلاحظ منذ بدء القراءة أنّ التقسيم إلى فصول وإلى مواضيع، يبدو مصطنعًا في هذا الكتاب، حيث تعود المعاني نفسها دون ارتباط منطقيّ في ما بينها. وإن نحن قدّمنا الأقسام والفصول، فمن أجل توضيح التفسير. لهذا قد يكون اختلاف بين تفسير وتفسير. المهمّ أن يساعدنا هذا التفسيرُ أو ذاك على اكتشاف معنى النصّ الكتابيّ لنجعل منه مناسبة تأمّل في كلام الله.

أمّا 1:1 - 30، الذي هو امتداح عامّ للحكمة، فهو يشكّل مقدّمة للكتاب كلّه. هذا ما نكتشفه في آ 25.

في خزائن الحكمة أقوال مأثورة،

لكنّ التقوى رجس عند الخاطئ.

وفي 2: 1، نسمع كلام المعلّم إلى تلميذه، فيدعوه »يا ابني«.

يا ابني، إن أردتَ خدمة الربّ،

فأعدّ نفسك للتجربة.

والترجمة السريانيّة قرأت النصّ بشكل مختلف في آ 22 - 27: »طوبى للرجل الذي يقترب منها... يفرح بها وتفرح به... ملائكة الله يفرحون بها... ها الكتاب كلّه مملوء بالحياة. طوبى للإنسان الذي يسمع ويعمل به. إسمعوا لي، يا خائفي الله، أَصغوا إلى أقوالي وتبيّنوها. من أراد أن يرث الحياة ميراثًا أبديٌّا وفرحًا عظيمًا، يسمع كلماتي ويعمل بها فيَكتب (اسمه) في سفر الحياة. أحِبَّ مخافة الله... إقتربْ تجدْ الحياة لروحك«.

وخاتمة الكتاب (51: 13 - 30) التي تتجاوب مع هذه المقدّمة: »في أيّام شبابي، قبل أن أباشر أسفاري، طلبتُ الحكمة عاليًا في صلواتي... وما إن أملتُ أذنيّ قليلاً حتّى كوفئِتُ بكثير من المعرفة« (آ 13 - 16). وإن نحن قابلنا 1:1 - 30 مع بداية سفر الأمثال 1:1 - 9، نرى الأقوال عينها.

هذه أمثال سليمان بن داود ملك إسرائيل،

وغايتها أن تعرّفك الحكمة وحسن الرأي،

وتبيّن لك الكلام المبين،

وأن تعلّمك مشورة العقلاء

والحقّ والعدل والاستقامة (آ 1 - 3).

وأخيرًا، تبدو هذه المقدّمة، على المستوى الأدبيّ، توسّعًا في ما قاله أيّوب في 28: 20 - 27 الذي طرح السؤال الأساسيّ عن أصول الحكمة: من أين أتت؟ والإنسان لا يقدر أن يصل إليها بقواه الخاصّة. فالله وحده يمتلكها. وهو وحده يعطيها لمن يطلبها.

فمن أين تجيء الحكمة؟

وأين مقرّ الفهم؟

هي محجوبة عن عيون الأحياء،

ومخفيّة عن طيور السماء...

الله وحده يتبيّن طريقَها،

ووحده يعرف أين توجَدُ،

لأنّه ينظر إلى أقاصي الأرض،

ويرى كلّ ما تحت السماء (أي 28: 20 - 24).

2 - نظرة إلى النصّ

آ 1 - »الربّ«. هي ترجمة »يهوه« العبريّة. ويستعمل النصّ »العليّ« (ع ل ي و ن). وقليلاً ما يستعمل لفظ »ا؟« (إلوهيم). في آ 1 نفهم منذ البداية الطابع الدينيّ للحكمة. رج أم 2: 9؛ 7: 15، 17.

آ 2 - نقرأ ما يشبهها في 1 أخ 47: 5.

آ 3 - »وعمق البحار«. كذا في اللاتينيّة والقبطيّة والحبشيّة. في عدد كبير من المخطوطات السريانيّة، »عمق الحكمة«. رج 24: 5.

آ 4 - قبل كلّ شيء. وجودُ الحكمة قبل الخليقة أمرٌ معروف في الأدب الحكميّ (أي 28: 22 - 31؛ با 3: 20 - 32؛ أم 8: 22).

آ 5 - أُضيفت في بعض المخطوطات اليونانيّة: »ينبوعُ الحكمة كلمة العليّ، والطريق إليها الوصايا الأزليّة«. نشير هنا إلى أنّ ترقيم الآيات في سي تبع النصّ اللاتينيّ الذي هو أطول من اليونانيّ. ونحن نجد الإضافات في عدد من المخطوطات اللاتينيّة التي تقابل يونانيّ 248.

آ 6 - 7. طابعُ الحكمة طابع سرّيّ. رج أي 28:28 - 29؛ 31: 15ي. إنّ آ 7 هي مضافة عن اليونانيّ والسريانيّ العواميديّ واللاتينيّ: »لمن تجلّت معرفة الحكمة؟ ومن أحاط بكثرة أساليبها؟«.

آ 8. شدّد سي على وحدانيّة الله وتعاليه. أمّا الحكمة التي هي صفة من صفات الله، وصفة العالم المخلوق بيده، وعطيّة الله للبشر، فجاءت كأنّها شخص حيّ في الأسفار الحكميّة (أم 8: 22). إلاّ أنّها تبقى خليقة، بحيث لا نماهيها مع الله. فليس هنا سوى حكمة واحدة لا مخلوقة، حكمة الله أو الله في حكمته. في اللاتينيّة نقرأ بعد أوجدها: »في الروح القدس«. هي لمسة مسيحيّة.

آ 9 - نقرأ في آ 10: »وبكثرة«. في السريانيّة: أفاضها. الفعل اليونانيّ المستعمل هو الذي نقرأه في الكلام على فيض الروح القدس في العنصرة (أع 2: 17، 33؛ يوء 3: 1 - 2). نقرأ في آ 10 ج د: »محبّة الربّ فخر وحكمة، تتجلّى فيمنحها ليروا وجهه« (اليونانيّ). »الذين يحبّونه«. رج قض 5: 31؛ مز 145: 20. في بعض اليونانيّ وفي السريانيّ: »الذين يخافونه«. هكذا نفهم إضافة 10 ج د.

آ 11 - هنا كلام عن مخافة الله(التقوى، الديانة) البعيدة عن ارتعاد العبد أمام سيّده. هو موقف المؤمن أمام ربّه، موقف محبّة وطاعة. مكانة المخافة واسعة في سي ونحن نقرأها هنا في آ 14 (رأس الحكمة مخافة الربّ، نشأتْ مع المؤمنين في الرحم). يرافقها الفرح والبهجة (4: 12؛ 6: 28).

آ 12 - تطيل العمر. حرفيٌّا: حياة طويلة، ذاك هو أجر المؤمنين على الأرض. رج أم 3: 2، 16؛ 4: 10؛ 9: 11؛ مز 91: 16؛ خر 20: 12. قالت السريانيّة: الحياة الأبديّة. هذا المفهوم يتعدّى العالم اليهوديّ في ذلك الوقت. في آ 12 ج د يضيف اليونانيّ: »مخافة الربّ عطيّة من الربّ، تجعل (أو: الله يجعل) الإنسانَ في طريق المحبّة«.

آ 13 - هو القول الأساسيّ في تعليم الحكماء حيث سلوك البارّ ينال أجرَه على هذه الأرض: »في يوم موته«. نجد فكرة الموت مرارًا في سي: 2: 3؛ 7: 26؛ 8: 7؛ 10: 11. في الأصل، هي حياة سعيدة على الأرض. وقد تعني السعادة في الآخرة، في الترجمة اليونانيّة. في نهاية آ 13 نقرأ في اللاتينيّة: »(14) محبّة الله حكمة تليق بالكرامة، (15) والذين تجلّى لهم يحبّونه ويشاهدون عظائمه ويعلنونها«.

آ 14 - الحكمة موهبة مجّانيّة ينالُها الإنسان منذ مولده. رج أم 1: 7؛ 9: 10؛ 15: 33. علاقة الحكمة بمخافة الله موضوعٌ قديم. رج مز   111: 10؛ أي 28:28.

آ 16 - 18 - وفرة الخيرات التي تمنحها الحكمة، موضوعٌ هامٌ في الأدب الحكميّ. رج أم 3: 13 - 18؛ 8: 21. وهناك صورة التاج في آ 18. رج أم 4: 9؛ 12: 4.

آ 18 - بين آ 18 - 28، نجد مقطعًا خاصٌّا بالسريانيّة، سبق وأوردناه. يضيف هنا اليونانيّ: »هما عطيّة الله للسعادة، والذين يحبّون الله يفتخرون بها«.

آ 19 - يبدو الشطر الأوّل إضافة، من المترجم. في السريانيّة نقرأ: »الحكمة سندٌ قويّ وركنٌ مجيد«.

آ 20 - نقرأ في اليونانيّ وفي العواميديّة ما يلي: »مخافةُ الربّ تُبعد الخطايا، ومن يحفظها يبتعد عن الغضب«. أي: غضب الله. رج أم 15:4؛ 24:18. وفي اللاتينيّ (آ 26): »مخافة الربّ هي التقوى في المعرفة (27) والحكمة يكرهها الخطأة. مخافة الربّ تطرد الخطيئة«.

آ 23 - عاد سفر الأمثال مرارًا إلى أضرار الغضب وإلى أهمّيّة الصبر في حياة الإنسان.

آ 26 - يرى ابن سيراخ أنّ الحكمة تقوم في تتميم الشريعة (19: 20؛ رج جا 12: 13). وهي هنا أجر هذه الأمانة والطاعة للوصايا. وهكذا بدت الحكمة بشكل سلوك حياة نتوافق معه.

آ 27 - الوداعة، هي استعداد النفس لتقبّل وصايا الله بطواعيّة تامّة. رج يع 1: 8.

آ 28 - وبكلّ قلبك. حرفيٌّا: بقلب وقلب، بقلب مزدوج. رج 5: 9، 14: لسان مزدوج. هذا ينبوع الرياء والكذب (مز 12: 3) وميزة الشرّير.

آ 29 - مع الناس. في نظر الناس: كما في اللاتينيّة والسريانيّة. في اليونانيّة: في فم الناس.

آ 30 - أمام الجميع. أو الجماعة، المجمع اليهوديّ، رج أم 5: 14. هناك كان يُمارسُ القضاء، بعد أن كان لليهود في الشتات استقلاليّة المحاكم.

3 - شرح الآيات

أ - أصل الحكمة (1:1 - 10)

الحكمة بأصلها الإلهيّ لا نستطيع أن نلجها. (آ 1) وهي تنتشر في الكون كلّه. ذاك هو الموضوع العامّ هنا. كانت الحكمة ولا تزال مُلك الله الخاصّ، وهو يمنحها لمن يشاء. كلّ حكمة هي من الله، لأنّه أصل الحياة وكلِّ معرفة، وكلّ ما خُلق، قد وُجد بحسب فكرة في معرفة الله الأزليّة. فالفكرة تسبق الوجود، تسبق في الزمن (آ 4)، ومع أنّ الله يمنح الحكمة لخليقته، فهي دومًا متّحدة به.

نقرأ في آ 2 - 3 ستَّ صور تقليديّة تبيّن عمق الحكمة، بحيث لا يستطيع الإنسانُ أن يلجها. رج أش 41: 12؛ با 3: 20 - 22؛ أي 11 :8 - 9. الصورة الأولى: رمل البحار. رج تك 32: 13؛ مز 78: 27. الثانية: قطرات الماء (المطر). رج أي 36: 27 (سب) ثمّ: أيّام الدهر (ي م ي. ع ل م). تدلّ على الماضي كما على المستقبل (18: 9؛ 24: 6). إرتفاع السماء. هي تبدو كمسافة محدّدة (مز 19: 7؛ 103: 11). ولكنّ الإنسان لا يقدر أن يقيسها. في الأدب الرابّينيّ اللاحق »أعلى السماوات« هو موضع يقيم فيه الله على مسافة لا محدودة بالنسبة إلى الأرض. إنّ عرش المجد هذا خُلق، شأنه شأن الحكمة، قبل الكون ويدوم إلى الأبد (مز 45: 7؛ عب 8: 1). ثمّ: الأرض. أُعتُبرت مساحة مسطّحة لها طول لا يُقاس وتحتها البحار (ت هـ و م: الغمر) والمياه السفلى. فكما أنّ كلّ هذا يتجاوز الإنسان، كذلك الحكمةُ التي تسمو على الخليقة المنظورة واللامنظورة. هي ليست بمتناولنا. رج روم 11: 33.

وأسبقيّة الحكمة على الخليقة (آ 4 - 6) طبّقها المعلّمون على الشريعة التي أحلّتها سي 1: 26؛ 15: 1؛ 21: 12؛ 24: 23 محلّ الحكمة. وتُذكَر »الفطنة والفهم« في توازٍ مع الحكمة. استعارت آ 6 ما قيل في آ 2 - 3 فشدّدت على الطابع السرّيّ للحكمة، لأصلها ولقراراتها ومقاصدها. رج 42: 18 (م ر و م ي هـ م. مرامها): هذا ما ينطبق على أفكار القلب الخفيّة. رج أم 14: 18.

الله وحده يمتلك الحكمة (آ 8 - 9). هو المتسامي، المتعالي. يحرّك فينا المخافة. رج 43: 29. ويُذكر عرشه في 24: 3 - 4. تتحدّث الحكمة فتقول:

من فم العليّ خرجتُ،

وكالضباب غطّتُ الأرض.

في السماء جعلتُ مسكني،

وعرشي في عمود السحاب.

أحسّت التقوى اليهوديّة بالمسافة التي تفصل الخليقة عن الله. ا؟ هو الربّ. والإنسان عبده المليء بالمخافة والسجود أمام الله القدير المهيب. من هنا تواترت الصفةُ »فوباروس« (ن و ر ا، مخيف)، التي انطبقت على ا؟. هو وحده يرى الحكمة في جذورها، عكس البشر الذين لا يستطيعون مشاهدتها (6:22؛ 1 كور 2:7). »وقدّرها«. عدّها (آ 2. حك 11:20). في أي 28:27، نقرأ فعل »س ف ر« بمعنى: عدّ، قدّر، ثمّن. هو تعداد الأدوار التي أعطيَت للحكمة لتُتمّ العمل الإلهيّ كلَّه. ذاك هو موضوع المشاهدة والتفكير لدى الله وأخيرًا، أفاض الله الحكمة، كما سيُفيض الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة. في الأدب الرابّينيّ، تماهت الحكمة مع روح الله. رج حك 1: 4 - 7؛ براشيت ربّه (85) حيث يُقال إنّ حكمة سليمان (1 مل 3: 28) كانت الروحَ القدس الذي يقوده. إن آ 8:10 تشكّل انتقالةً بين الحكمة »في الله« والحكمة التي تُنقل إلى الإنسان، فتتفرَّع من الأولى كالنهر من النبع.

وبما أنّ الحكمة (آ 10) ليست بذاتها في متناول الإنسان، فهو لا يقدر أن يمتلكها إن لم يُعطها الله له. وإذا كانت الحكمة تُعطى لكلّ إنسانٍ بقدر محدَّد، فهي تُعطى للجميع ولا يُحرَم منها أحد. وهذا ما يدلّ على صلاح الله وسخائه للذين يحبّونه. تطلّعَ الكاتب هنا إلى الشعب اليهوديّ، في نظرته الضيّقة، فما استطاع أن يفكّر بالأمم الوثنيّة الذين لا يعرفون الربّ (يهوه). وهذه النظرة ستَبرز في الأدب اللاحق، ولا سيّما بالنسبة إلى الشريعة التي تجعل إسرائيل الذي يمتلكها ويمارسها »الشعبَ المقدّس«. إذن، تماهت الحكمة هنا مع وحي الله (24: 7 - 12). هي معرفة (أو علم) لا تكون ثمرة التنظيرات البشريّة.

ب - مخافة ا؟ هي الحكمة الحقّة (1: 11 - 20)

هذه القصيدة المؤلّفة من 22 بيتًا (آ 11 - 30، بعدد حروف الأبجديّة) تلتقي مع 51: 13 - 30. بعد كلام عن مخافة الله،، نجد نصائح أخلاقيّة وإرشادات لممارسة بعض الفضائل.

ما قيل في آ 1 - 10 كان عرضًا لنشاط الحكمة في العالم. سيعود بعضُ هذا المـوضــوع في آ 14. أمّا آ 11 - 13 فهي معترضة تذكر الثمار الثمينة التي يُثمرها الإنسانُ العائش في مخافة الله. وهذه الفكرة توجّه التوسّعات اللاحقة حول الحكمة، لأنّ الحكمة ترتبط بمخافة الربّ ارتباطًا وثيقًا. نكتشف هنا أربعة أبيات، وكلّ بيت يبدأ مع: رأس (آ 14). تملأ (آ 16). تاج (آ 18). جذر (أو أصل، آ 20).

في العهد القديم، (آ 11 - 12) مخافة الربّ (ي ر ا هـ. ي هـ و هـ) هي احترامٌ كبير لشخص  ومخافة،الله قبل النظر إلى سلطانه وأعماله. هي التعبير عن عاطفة دينيّة في عمق أعماقها. فأمام هذه الجلالة المتسامية وهذه القداسة الكاملة، يقيس الإنسانُ المسافة التي تُبعده عن الله، وهو الخليقة، وهو الخاطئ. من هنا عاطفة الخشية والسجود الداخليّ العميق (مز 101: 26 - 28؛ 103 - 1ي؛ 104 :1ي)، التي فيها لا يتجاسر الإنسان أن يقترب من العليّ، فينحني راكعًا أمام هذه العظمة الرفيعة. ذاك كان موقف يعقوب في بيت إيل (تك 28: 16 - 17)، وموسى على جبل حوريب (تث 8: 18 - 19؛ عب 12: 8) وإيليّا (1 مل 19: 12) على جبل الكرمل.

وعظمة الله السامية، الإله الخالق، الربّ وسيّد الكون، تفرض على خلائقه أن يقدّموا له الإكرام والمجد الواجبَين. فعلى الإنسان أنّ يُقرّ بخضوعه التامّ لذلك الذي نال منه الوجود والحياة؛ والطعام والنور (مز 138: 1ي؛ أي 10: 8 - 12). وهكذا إكرام الله يعني خشيته. وإذا كانت مخافة الله مقدّسة (مز 19:10)، وتدفع الإنسان لكي يتجاوب معها، يكون عابدُ الله هو الصدِّيق (ص د ي ق. ديكايوس في اليونانيّة). هو العائش في خشية الربّ. وبما أنّ السجود الباطنيّ يحاول أنّ يعبِّر عن نفسه بأعمال في الخارج، فالصدّيق يكون عابدَ (ع ب.د. دولوس في اليونانيّة) الربّ. والديانة تكون عبادة لمن هو وحده الربّ الإله (مز 2: 11؛ 100: 2؛ 102: 23). هكذا كان إبراهيم (مز 105 :42)، يعقوب وموسى (يش 14: 7). وترجمت سب »ع ب د. بـ »دولان«، عمل عمل العبد. »لاتراوايّين«، قام بالعبادة الليتورجيّة.

إنّ »خشية الربّ« التي تتضمّن السجود والصدق والحبّ، توافقُ العاطفةَ الدينيّة والتقوى البنويّة. نحن لا نجدها عند الأشرار الذين لا يعبأون بالله. هذه الخشية هي كمال البارّ والحكيم (أي 28:28)، كمال الملك المسيح (أش 11: 2 - 3). وتشمل بغض الشرّ (أم 8: 13؛ با 3: 7). وتتوخّى الشريعةُ إدخال هذه المخافة في قلب المؤمنين (تث 4: 10)، ودفعهم إلى ممارسة الشريعة والتعرّف إلى حكمة الله. هذا برهان أنّ المخافة تملأ قلب الإنسان (مز 111: 10).

إذن، هذه المخافة المهيبة تُوجز علاقة المؤمن بالربّ، وتكون مبدأ الممارسة الدقيقة لإرادة الله و  شريعته. قيل عن أيّوب: »كان كاملاً، مستقيمًا، يخاف الله ويتجنّب الشرّ« (أي 1:1). وما أعظم ثمار هذه المخافة! فالفخر والكرامة والبهجة هي شعار القلوب المستقيمة (مز 5:  12؛ 32: 11). اللفظ الأوّل »كاوخيما« (فخر) عزيز على قلب ابن سيراخ مع الفعل الذي يقابل في العبريّة »هـ ل ل«: فرح. هتف هتاف الفرح. والاسم يدلّ على ما يملأ القلوب فخرًا وفرحًا. غير أنّ هذا الفخر قد لا يكون في محلّه حين يستند الإنسان إلى ذاته ويرفض ارتباطه بالله ذاك هو منطق الخاطئ (ب ط ح. رج أش 42: 17؛ مز 49: 7). ولكن الله هو وحده القدير، ووحده القاهر، ينبوع كلِّ مجد وغايته. نقرأ مثلاً في قض 7: 2: »قال الربّ لجدعون: »الرجال الذين معك أكثر من أن أسلم بني مديان إلى أيديهم لئلاَّ يفتخر عليّ بنو إسرائيل ويقولوا: أيدينا خلّصتنا«. وفي 1 صم 2: 10: »لا تُكثروا من التبجّح والافتخار، ولا يخرجْ من أفواهكم تكبّر« (1 صم 2: 3). وهكذا يتعارض الفخرُ الواثق بنفسه مع المجد الشرعيّ الوحيد الذي فيه نتعلّق بالله ونتّضع أمامه (تث 10 :21؛ 26: 19؛ إر 9: 22؛ 13: 11؛ صف 3: 19).

إعتاد المؤمنون الأتقياء أن يفتخروا بخلاص الله ويفرحوا (إر 17: 14؛ مز 89: 17). وورث سي هذا التعليم. فافتخر بمخافة الله (9: 16؛ 24: 21، 2؛ 25: 6؛ 39 :8؛ 50: 20). وتجاه الشرف يكون الخجل. غير أنّ المحنة نفسها يمكن أن تكون علّة مجدٍ (31: 10؛ رج روم 5: 3؛ 2 كور 11: 30؛ 12: 9).

»فرح« (إوفروسيني). آ 11، 12، 23؛ 2: 9. هي حالة من الراحة العقليّة والخلقيّة. حالة من السعادة. إعتبر الرواقيّون الفرح نتيجة الفضيلة. وهو غير العزّة. في العبريّة: ث م ح. رج 15:6؛ 30:22. يُنسب هذا الفرح تارة إلى الله، وطورًا هو عاطفة شخصيّة يحرّكها خلاصُ الله. ويدلّ الفرح على حماس في الاحتفالات الدينيّة. وهناك فرح في امتلاك الخيرات والصحّة والعمر الطويل. وفرح في تقبّل الوصايا، وفرح في صلاة السبت في مناخ من السعادة الأرضيّة يمنحها الله للمؤمنين.

ومع »الفرح« تترافق »البهجة« (أغالياما). رج 15: 6. نعبِّر عنها في شعائر العبادة وفي إنشاد خلاص الله في المحنة (مز 51: 14). نعبِّر عنها في الخارج أمام الله فتصبح مديحًا: »تعظّم نفسي الربّ، وتبتهج روحي بالله مخلّصي« (لو 1: 47. نشيد مريم). وآخر ثمرة من ثمار مخافة الله: الأيّام الطويلة. عُرفت في حكمة المصريّين: »من حفظ نفسه في طريق الله، ثبتت حياتُه على الأرض«. ونقرأ »آخرته« في آ 13: »رجاء نهاية حياة سعيدة على الأرض«، حين نتذكّر أنّنا عشنا في خشية الربّ (11: 24 - 26؛ 1 أخ 29: 18). وبركة الله في اليوم الأخير، في الموت، تفترض حياة من السعادة في الآخرة، أو أقلّه قُربًا من الله الديّان والمجازي.

وهكذا شدّدت آ 11 - 13 على وجهتين جوهريّتين. الأولى، ارتباط وثيق بين الدين والأخلاق. فالفضيلة هي ثمرة مخافة الله. الثانية، الفائدة من الحياة الخلقيّة: تحملُ أجرَها في نفسها. فالإنسان الذي يتقبّل الحكمة ينال كلّ خير: الإنسان الفطن يعمل لخيره، والخاطئ لا يعرف ما هو صالحه (حك 11: 16).

جاء كلام ابن سيراخ في وقته، في وقت دخلت الأفكار اليونانيّة مع نظرة إلى الحكمة، هي مهارة وحيلة، لاكتساب الثروة ونوال الوظائف الرفيعة في خضوع للسلطة. أمّا الحكمة الحقّة فهي ينبوع حياة. تمنح المجد. تمنح الفخر. تُلبس المتعلّقين بها بهاء، وتجعل على رأسهم تاج البهجة. ربّما رأى سي المواكب والأعياد في مدن فلسطين، التي تجتذب الشباب، ولكنّها لا تدوم. أمّا حكمة الله فدائمة، وهي تُقيم في صهيون (ف 24).

أُعتُبرت الحكمة أوّلاً (آ 14) بداية (نقطة انطلاق) الحكمة. رج 15: 14؛ مز 111: 9. »روش«. رأس. أوّل. أفضل. أهمّ. المؤمنون الحقيقيّون، الذين يمارسون الشريعة، يمتلكون الحكمة، التي خُلقت معهم، ورافقتهم خلال حياتهم وحتّى مماتهم. أعطيت لهم منذ كانوا »في الرحم«.

هذه الحكمة (آ 15) أقامت (جعلت عشّها كعصفور) بين البشر، وانتقلت من جيل إلى جيل (24: 10 - 11). رج »ا م ن«، ثبت في مكانه. ومخافة الله (آ 16 - 17) هي أيضًا الحكمة الكاملة، لأنّها تقود البشر إلى غايتهم، إلى الله نفسه الذي يقدر وحده أنّ يلبّي رغباتهم. لهذا يُقال عن الحكمة: تُشبع، تُسكر (تث 32:42) من يتعلّقون بها ويثبتون. »كربوس« (ثمرة): ثمرة الفضيلة. ثمر البرّ. وبيت الحكمة هو قلب الذين يخافون الله فيمتلئون من ثمار الحكمة وكنوزها (أم 8: 18؛ 9: 1 - 6). صورة الغلّة الوفيرة التي تُجَمع في الأهراء، عرفتها مصرُ أرضُ الخيرات (تك 41: 47ي).

ومخافة الله هي تاج الحكمة (آ 18 - 19). هي تاج مجد لها. هي رمز النصر، لا زينة بسيطة. هي السلام (ش ل و م. إيريني) والشفاء كما وعد الربّ. رج لا 26: 2 - 13؛ تث 28: 1 - 14. وكلّ هذا ينزل كالمطر. رج 10: 13؛ خر 16: 4. وأخيرًا، مخافة ا؟ (آ 20) أصل (جذر) الحكمة التي تبدو بشكل جذع شجرة. أغصانها (الأعمال الصالحة) تمنح الحياة الطويلة (آ 12؛ أم 4: 10). إذا كانت الشجرة الصالحة تُثمر ثمارًا صالحة (24: 13)، فهذا يعني أنّ الحكيم هو في مأمن من الضلال الخلقيّ ونتائجه.

ج - نوال الحكمة (1: 22 - 30)

كانت هناك مقدّمة تربط هذا المقطع بما سبقه، ويبدو أنّها سقطت. تكلّم السريانيّ عمّن يقترب من الحكمة، فبدا منطقيٌّا، وقد يكون ما كتب في آ 22 ي نسخة عمّا يمكن أنّ يُوجَد في النصّ العبريّ. أمّا هنا، ففي آ 22 - 24، يُذكرُ الصبرُ والسيادة على النفس وعلى الأهواء. وفي آ 25 - 30، تترافق الحكمة مع الاستقامة: لا مكان للقلب المزدوج، والخبث والرياء.

على تلميذ الحكمة قبل كلّ شيء (آ 22 - 25) أنّ يتجنّب كلَّ ما يقوده إلى الغضب الذي يحمل له الذلّ والألم (أم 15: 18). فإن عرف أن يسيطر على نفسه، ويصبر، ويبقى هادئًا، يجد جزاءه بعد أن تزول المحنة: يقطف فرحًا شخصيٌّا. يمتدحه مواطنوه. إذن، تتضمّن الحكمةُ دروسًا في العلم والفطنة اللذين هما كنزان لا يستفيد منهما الخاطئ. هو يكره الحكمة التي بدونها لا فهمٌ خلقيّ ولا عملٌ مستقيم.

فإذا أردنا أن ننال الحكمة (آ 26 - 28)، وجب علينا، من جهة، أن نُبعد كلَّ العوائق عن هذه العطيّة الإلهيّة، ولا سيّما الغضب. ومن جهة ثانية، أن نحفظ الوصايا (6: 27)، ونتجاوب مع إرادة الله التي هي أساس الحياة الخلقيّة. وذُكر موقفان أساسيّان يُرضيان ا؟: الإيمان (ا م و ن هـ: أمانة، ثبات، ثقة، ولا سيّما في الصعوبات، بستيس في اليونانيّة) والوداعة (45: 4؛ غل 5: 22 - 23: براوتيس، ع ن و في العبريّة). من جهة تجاه القريب، فنبتعد عن الغضب. ومن جهة ثانية، استعداد داخليّ لتقبّل مشيئة الله، لتقبّل كلمته. تلك هي العلاقَة الصحيحة بين الخالق والخليقة. إنّ آ 27، مخافة الربّ حكمة وتأديب، تُعدّ الإرشادَ اللاحق: الله لا يريد التردّد في خدمته، والتنقّل بينه وبين العالم. كذا كان قلب سليمان »غير مخلص ؟« (1 مل 11: 4). وقال إيليّا للمؤمنين على جبل الكرمل: »إلى متى تعرجون بين هذا الفريق وذاك؟ إذا كان الربّ هو الإله فاتبعوه. وإن كان هو البعل فاتبعوه« (1 مل 18: 21).

الرياء (آ 29 - 30) أو التبجّح (كما قالت السريانيّة) والثرثرة (كلام الشفتين) يسيئان إلى العلاقة بين الناس. مثلُ هذا السلوك يعارض حكمة الله، وينال عقابَه. فمن ارتفع اتّضع (حز 17: 24؛ أي 22: 29؛ أم 29: 23؛ مت 23: 12). بعد الكبرياء والتبجّح يأتي الخجلُ والعار: في الأماكن العامّة، في المجمع، فيكون للخاطئ عكس ما طلب. والله الذي يكره الكذب يكشف خفايا القلب. نحن أمام نداء إلى صدق تامّ تجاه الله وتجاه القريب، صدق هو آخر ثمار الله. إنّ الكلام عن دور الإيمان والثقة والمخافة والتواضع والوداعة والفرح، يميّز عمق التقوى والحياة الخلقيّة في الحقبة السابقة للمسيح. هو البارّ تجاه الخاطئ بمعزل عن شعائر العبادة والممارسات الطقسيّة، التي لا يمكن أنّ تحلّ محلّ البرّ واستقامة القلب.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM