قراءة متواصلة
يرد نصّ يشوع بن سيراخ في تقديم قصير جعله المترجم في بداية نقله لحكمة جدّه. فقدّم الاعتذارات اللازمة، ودعا القرّاء إلى الولوج في هذه الحكمة التي يمنحها الله.
بعد ذلك، قسمنا الكتاب كلّه خمسة أقسام، تسهيلاً لقراءته. فكان القسم الأوّل: طبيعة الحكمة وحسناتها. والقسم الثاني: الله والخليقة. القسم الثالث: الحكمة في الأسرة والمجتمع. القسم الرابع: تدبير الحياة في الفضيلة. والقسم الخامس: حكمة الله في العالم وفي التاريخ.
الفصل الخامس
تقديم الترجمة اليونانيّة
1 - المقدّمة
هذه المقدّمة التي دوَّنها المترجم، تنقسم ثلاثة أقسام. الأولى (آ 1 - 14) تطرح السياق التعليميّ لتدوين سي (ابن سيراخ): كتاب تربية دينيّة. ويطلب المترجم في القسم الثاني (آ 15 - 25) المعذرة إن هو أخطأ في النقل، أو بانَ الضعفُ في نقله. والقسم الثالث (آ 26 - 36) الذي وجب أن يكون قبل القسم الثاني، أشار إلى الظروف التي دفعته لكي ينقل هذا الكتاب إلى اليونانيّة، فينضمّ إلى الترجمة السبعينيّة. إذا كان اليهود الهلّينيّون، أيّ المتحضّرون بالحضارة اليونانيّة، امتلكوا نسخة يونانيّة لمختلف الأسفار المقدّسة، فنقلُ سي كان لهم ضروريٌّا لكي تتوافق حياتهم كلَّ الموافقة مع شريعة ا؟ كما يعيشها إخوتهم في فلسطين.
2 - شرح الآيات
1 - كتاب تربية (آ 1 - 14)
قدّم الحفيدُ كتاب جدّه على أنّه كتاب تربية دينيّة.
أ - تعليم وحكمة
في آ 1 - 7، نجد أوّل شهادة عن تقسيم العهد القديم قسمةً مثلَّثة: الشريعة (ت و ر ه). الأنبياء (ن ب ي ي م). الكتب (ك ت و ب ي م). هو تعليم يحمل التربية (بايدايا) والحكمة (سوفيّا). لا تذكر المقدّمة لفظ »الكتب«، بل »والذين جاؤوا بعدهم«. في الواقع، لم تتحدّد لائحة الأسفار إلاّ في مجمع يمنية (يبنة، قرب يافا) سنة 85 - 90 ب.م. فحسب التلمود، »سأل الصادوقيّون ربان غملائيل (الثاني، سنة 90 - 110): كيف نبرهن أنّ القدّوس، تبارك اسمه، سوف يقيم الموتى؟ فقال لهم: »انطلاقًا من الشريعة. انطلاقًا من الأنبياء. انطلاقًا من الكتب« (سنهدرين 90 ب.م.). تفرّد لو 24:44 فقال »الشريعة والأنبياء والمزامير«. ونجد عادة: الشريعة والأنبياء في مت 5:17؛ لو 16:16؛ يو 1:45؛ روم 3:21. أو: موسى والأنبياء (لو 16:29، 31؛ 24:27).
لا يمكن أن تكون معرفة الكتب المقدّسة وقفًا على نخبة مثقّفة أو فئة دينيّة. بل يجب أن تصل بجميع الوسائل إلى الذين »في الخارج«. إلى »الآخرين«. إلى الوثنيّين. وإلى اليهود العائشين خارج فلسطين. وبشكل أوسع، إلى الذين لا يستطيعون أنّ يؤمّوا مدرسة الكتبة ليتكرّسوا لدراسة الكتاب، لأنّ لا وقت لهم أو لا ثقافة. لهذا أراد ابن سيراخ أن يضمَّ في كتبه كلَّ المعرفة الدينيّة والخلقيّة والعمليّة، في نظرة شاملة تكون في متناول الجميع، بشكل كتاب تعليميّ.
في آ 1، »الكنز العظيم« هو المعطيات التي تُتيح للإنسان أن يبلغ إلى معرفة ا؟، التي تصل إليه بالحكمة. أمّا صيغة المتكلّم الجمع (شعبنا، نحن) فتدلّ على سكان فلسطين، الذين يتفوّقون على العالم الهلّنيّ. »بالشريعة«، أي بواسطة الكتب المقدّسة التي تتضمّن كنزًا كبيرًا يمكن أن نبيع كلَّ شيء لكي نشتريه (مت 13:44 - 46).
الكتب المقدّسة قنوات يستعملها الله ليُوصل أنوارَه إلى شعبه. لا يُذكر القسمُ الثالث (الكتب) باسمه، ممّا يعني أنّه غير مهمّ مثل القسمين الأوّل والثاني. لهذا لا يُشارُ إليه مرارًا (2 مك 15:9؛ مت 22:40). ويشدّد المدوّن على أنّ أمَّته تفتخر بنشاطها الأدبيّ كما يفتخر اليونان بنشاطهم. هو تلميح يجتذب اليونان إلى قراءة هذا الكتاب. كما يُحيلنا إلى تث 4:6 - 8: »فاحفظوها (= هذه الأحكام) واعملوا بها، لأنّها تُظهر حكمتكم وفهمكم في عيون الأمم... فأيّة أمّة كبيرة لها سنن وأحكام صادقة مثل هذه الشريعة«؟
»بايدايا« (م و س ر، في العبريّة). »سوفيا (ح ك م هـ). لفظان يترافقان في الأدب الحكميّ، يعود الأوّل إلى »ي س ر«: عاقب، نبّه، أعطى قواعد سلوكيّة. نقرأ في مز 2:10: اقبلوا التعليم. رج حز 23:48. والاسم يعني »الدرس« (الأمثولة)، العقاب، التنبيه. هذا المعنى المثلّث نجده مثلاً في بتاح حوتب (الحكمة المصريّة). ودُوِّن سفر الأمثال ليجعلنا نعرف الحكمة وحسن الرأي (أم 1:1 - 2). فالمبدأ الأوّل (وأساس الحياة الحقّة) هو التربية ومخافة الربّ. فإن استحقّ الشعبُ المديح، فلأنّه جعل من الشريعة التي أعطاها ا؟ مجّانًا، وسيلةً لنوال الحكمة وتأديب النفس.
ب - جدّي يشوع
في آ 8 - 14، يُذكر الكاتبُ الذي هو جدّ المترجم. وسوف يتحدّث سي 50:27 عنه فيقول: »أنا، يشوع بن سيراخ بن ألعازر (كما في العبريّة) الأورشليميّ، كتبتُ في هذا الكتاب أقوالاً في آداب السلوك، أفاضتها الحكمةُ من قلبي«. قال النصّ العبريّ في نهاية الكتاب: »إلى هنا كلمات سمعان بن يشوع الذي يُدعى ابن سيراخ. حكمة سمعان بن يشوع بن ألعازر بن سيراخ. ليكن اسمُ الربّ مباركًا من الآن وإلى الأبد« (51:30 عب). في المخطوطات اليونانيّة، يبدأ ف 51 مع »صلاة يشوع بن سيراخ«. وفي السريانيّة، يُختَم الكتاب بالعبارة التالية: »انتهت كتابة ابن سيراخ«
هذا الجدّ الطيّبُ كتب في نهاية حياته، في أورشليم، في العبريّة، فأعطانا ثمرة دراسة الكتب المقدّسة على ضوء خبرته الشخصيّة. هو مؤمن يريد أن ينقل إلى الأجيال اللاحقة، ينبوعَ سعادته في الأمانة لديانة الآباء. فالحضارة الهلّنستيّة والأسفار إلى الخارج (كسفير رئيس الكهنة، ربّما)، ومعاشرة عظماء هذا العالم، كلّ هذا ما حاد به عن إيمانه. فجذورُه تغرز في تقاليد شعبه.
أمّا الهدف الذي توخّاه الجدّ والحفيد، فهو إنماء القرّاء في »حياة حسب الشريعة« »في توافق الممارسة مع حياة بحسب الشريعة«. هذا الحكيم، صاحب العقل الثاقب، هو متوازن. وهو معتدلٌ يتحلّى بالفطنة. لهذا جاء حكمُه صائبًا فما جاراه أحد من علماء الأخلاق في الشعب.
يُذكر محبّو المعرفة، تلاميذُ الكتبة الذين يؤمّون المدارس ويشكلّون طبقة خاصّة تتجاوز الشعب العاديّ (مر 1:22؛ يو 7:15). هو »تلميذ حكيم« (ح ك م) يتعلّق بمعلّم يرافقه، يسمع تعليمه الشفهيّ، يخدمه. هذا التعليم يُعطى بشكل خاصّ في المجمع. وهم يعلّمون الآخرين »بما يقولون، وبما يكتبون«. لا شكّ في أنّ التعليم الشفهيّ كان مهمٌّا جدٌّا في الشرق، وما زال. »لا تستخفّ بأقوال الحكماء... لأنّك منهم تتعلّم الأدب...لا تُهمل كلام الشيوخ، فهم تعلَّموا من آبائهم، وأنت منهم تتعلّم الفهم« (8:8 - 9). ولكنْ نعلم هنا بوجود كتابات ستجد امتدادها في ما يتركه الرابّينيّون (أو: المعلّمون) من كتابات، مثل سفر طوبيّا وغيره في خطّ حكمة أحيقار.
2 - أرجو المعذرة
في آ 15 - 27، بدا الحفيد صورة عن جدّه في التصرّف اللائق: اعتذرَ إلى القرّاء، وهو يدعوهم إلى القراءة. فالنقل من لغة إلى لغة أمرٌ صعب. وبما أنّنا نمتلك اليوم ثلثَي النصّ العبريّ، نستطيع أن نحكم على ترجمة الحفيد. نشير هنا إلى أنّ ترجمة الكتب المقدّسة بدأت في الإسكندريّة في القرن الثالث ق.م.، في الترجمة المسمّاة »سبعينيّة«. وفي الخطّ عينه جاءت النسخة اليونانيّة لحكمة ابن سيراخ.
هناك تقدّمٌ على مستوى التعليم. فيُضاف إلى كتب الحكمة قواعد حكمة جديدة (أم 9:9). أمّا طريقة العيش بحسب الشريعة، فهي توجز المثال العمليّ الذي يتوق إليه معلّمو الشريعة. في هذا المجال، نقرأ ما قاله يوسيفوس (أبيون 2/16:17): »حين يوافق اليهود النظريّ مع العمليّ، يتميّزون عن اللاقيديمونين والكريتيّين، الذين يربّون المواطنين بالممارسة، لا بالوصايا. وعن الأثينيّين وسائر اليونان الذين يفرضون عبر الشرائع ما يجب عمله أو تجنّبه، دون أنّ يهتمّوا بأن يعوّدوا الناس من خلال العمل... أمّا مشترعُنا فاهتمَّ كلّ الاهتمام بأن يجمع هذين التعليمين. ما ترك الممارسة الخلقيّة بلا شرح. ولا قبل أن يكون نصّ الشريعة بدون نتيجة« (رج ما قاله فيلون كما ورد عند أوسابيوس، التهيئة الإنجيليّة 8/6 - 7).
واعتذر المترجم، فاختلف عن رسالة أرستيس وعن فيلون اللذين امتدحا الترجمة السبعينيّة. وقرأنا هنا للمرّة الأولى لفظ »عبريّ« للدلالة على اللغة العبريّة. غير أنّ أهل الشتات لا يفهمونها. ولهذا كانت الترجمة. وإن كان من اختلاف في نصّ ابن سيراخ اليونانيّ. فالترجمة السبعينيّة لم تكن أفضل. وهكذا وجد الحفيدُ له عذرًا.
3 - معلومات حول الكتاب
في آ 28 - 35، يقدّم لنا المقطع الأخير معلومات جوهريّة بها نعرف متى دُوّن الكتاب، ومتى كانت المقدّمة. لا يوضح المترجم عمره، لكنْ تاريخ وصوله إلى مصر، وبالتالي بداية العمل في هذه الترجمة. »حكم الملك أورجاتيس« (الذي هو المحسن). هناك اثنان أخذا هذا اللقب: بطليموس الثالث (260 - 222). بطليموس السابع (فسكون، 145 - 117). فإذا كان الجدّ عاش حوالي سنة 180 ق.م. لا يمكن أن يكون المترجم بدأ عمله إلاّ في زمن بطليموس السابع. قد يكون بدأ العمل سنة 132. وأنهاه سنة 117، بعد موت الملك. أمّا الجدّ فقد كتب سنة 180، أي قبل خمسين سنة.
ونتوقّف عند عنصرين في ما يتعلّق بتحديد التاريخ. الأوّل، ما عرف ابن سيراخ ثورة المكّابيّين (167 - 164). فما من نصّ يلمّح إليها. أمّا صلاة سي 36:1 - 22، من أجل نجاة إسرائيل وبنائه، فقد يُحدَّد موقعها في زمن سلوقس الرابع (871- 175) حين أراد هليودورس أن يَسبي كنوز الهيكل (2 مك 10:1ي). والثاني أنهى ابن سيراخ مديح الآباء متطلّعًا إلى عظيم الكهنة سمعان بن أونيّا. ونفهم من النصّ أنّ ابن سيراخ عرف عظيم الكهنة هذا، معرفة شخصيّة. غير أنّ سمعان هذا كان قد مات حين دوّن الكاتبُ مديحه. وسمعان هذا الذي لُقِّب البارّ، كان عظيم كهنة من سنة 200 إلى سنة 187، فرمّم الهيكل وأسوار أورشليم. وقال النصّ العبريّ في سي 50:24: »ليُحفظْ له عهد فنحاس، الذي لن يُنقض له ولا لنسله، مثل أيّام السماء«. هذا النصّ سبق سنة 172، سنة عُزل ياسون، ومعه انتهت أسرة صادوق الكهنوتيّة.
أيّ كتاب وجد حفيد ابن سيراخ؟ نسخة من هذا التعليم المهمّ. إنّ تذكّر - يوشيّا الملك (49:1 - 3)، واكتشاف كتاب الشريعة في الهيكل (2 مل 22:8 - 13؛ 23:1 - 2)، قدّما له النموذج.
وإذ فعل المترجم ما فعل، دشّن فنٌّا أدبيٌّا جديدًا في الأدب البيبليّ. فالمقدّمة التي نجدها مرارًا في المؤلّفات الهلّنستيّة، لم يكن لها النجاح الكبير في سائر الأسفار المقدّسة.
جاء المترجم إلى مصر (آ 27 - 28)، إلى الإسكندريّة، على ما يبدو، أهمّ مركز للشتات اليهوديّ: شكّل اليهود ثلثَ السكان. ونعِموا بحقوق وامتيازات شبيهة بما ينعم به سائر المواطنين، كما قال يوسيفوس (العاديّات 4/10:2؛ 19/5:2). هذا يعني أنّ لغة سي هي لغة السبعينيّة، لغة الإسكندريّة كما عُرفت في القرن 3 - 2 ق.م.
نقرأ في آ 29 »أفومويون« الذي يعني في ما يعني الشبه أو عدم الشبه. قرأت السريانيّة العواميديّة (الهكسبلة في ستّة عواميد. عمل أوريجانس الذي نُقل إلى السريانيّة): »ما وجدتُ شبهًا بسيطًا في التعليم«. شبهًا بين تعليم الجدّ وتعليم اليهود الذين يقيم الحفيدُ بينهم. ولكن يبدو أنّ هناك معنًى أفضل يتوافق مع السياق: تسهّلت له الأمور في مصر، فتعلَّم في حكمة الكتبة (51:16) واستطاع أنّ يُتمّ العمل. فمجامعُ الشتات كانت مراكز مشهورة بثقافتها الدينيّة العالية (فيلون، حياة موسى 2:168). لكنّنا لا نستطيع أن نحتفظ بهذا النصّ الذي يعارض أفضل المخطوطات. فلا يبقى سوى العودة إلى اللاتينيّة، »وجدتُ نسخة تتضمّن تعليمًا لا بأس به«.
»أغريبنيان« (آ 32) بدون نوم. هذا يعني أنّ الكاتب كرّس لياليه ليقوم بترجمته. هذا في معنى أوّل. وفي معنًى ثانٍ، هو السهر والعناية من أجل ترجمة أمينة. »بارويكيا« (آ 34): من يقيم بقرب شخص آخر. هو الجار ويمكن أن يكون الغريب. في السبعينيّة، يدلّ اللفظ على من يقيم في أرض غريبة (16:8؛ نح 8:35). هكذا أقام العبرانيّون إقامة عابرة في مصر (حك 19:10؛ أع 13:17). وكذا نقول عن المسيحيّين الذين يعيشون مؤقّتًا على الأرض بعيدًا عن الموطن السماويّ (1 بط 1:17). وهذا النصّ يتطلّع إلى يهود الشتات تجاه يهود فلسطين. قالت النسخة العربيّة: المهتدي.
وبفضل دروس الحكمة (آ 35 - 36) التي نجدها في الكتاب، نستطيع أن ننظّم حياتنا لكي نعيش بحسب الشريعة التي هي »ت و ر ت. ح ي ي م«: شريعة حياة.
نلاحظ تكرار ما يتعلّق بالشريعة. في البداية: »يتمثّل بالشريعة«. في منتصف النصّ، »في حياة حسب الشريعة«. وفي النهاية، »طريقة حياة حسب الشريعة«.
وُجدت هذه المقدّمة في جميع المخطوطات الإسفينيّة، ومعظم المخطوطات الجرّارة. كما وُجدت في اللاتينيّة، وفي الترجمات التي انطلقت من اليونانيّة. وغابت في السريانيّة التي هي ترجمة عن العبريّة، لا عن اليونانيّة.