الإفخارستيّا وجنّة عدن

الإفخارستيّا وجنّة عدن

حين نقرأ الكتاب المقدّس، نحسّ بالمرارة أمام الفردوس وجنّة عدن بعدما حصل لأبوينا الأوّلين ما حصل. ولكنّ الأمر يختلف عند أفرام السريانيّ. لا شكّ في البشريّة هُزمت وعرفت التعب والألم ولكنّ صليب يسوع أصلح هذه الخطيئة بعد أن كفّر عنها. والجسمانيّة أعادت الفردوس إلى آدم الذي تمرّد: فيه أطاع يسوع أباه السماويّ. كما قال أفرام في النشيد الثامن من أناشيد الصلب:

طوباك أيّها المكان، صرتَ أهلاً لغرق الابن الذي سقط عليك،

بالأرض مُزج عرقه، ليزيل عرق آدم العامل على الأرض.

طوباها أرضًا تعطّرت بعرقه، وشُفيت، وهي المريضة، لأنّ عليها عرق.

من رأى يومًا مريضًا يُشفى بعرق ليس عرقه.

فقبر يسوع والبستان الذي دُفن فيه رمزٌ إلى عدن الجديد، كما في الصلب 8: 13:

قبره وجنّته هما رمز عدن، التي فيها مات آدم موتًا خفيًّا.

هرب واختبأ بين الأشجار، وكما في الخبر دخل وتوارى

الحيّ المقبور الذي انبعث في الجنّة، أقام هذا الذي سقط في الجنّة.

من قبر الجنّة إلى وليمة الجنّة، أدخله في المجد.

عادت حوّاء إلى الجنّة، وآدم إلى الفردوس، وأزهار الفصح هي أزهار عدن كما قال أفرام في أناشيد القيامة (2: 1):

مركبة صار لي ناموسك، وهو يكشف عن الفردوس،

ومفتاحًا صار لي صليبك، وقد فتح الفردوس.

من جنّة عدن حملتُ، وقطفتُ، وأتيتُ من الفردوس

بوردٍ وزهورٍ ناطقة نُثرت في عيدك

مع أناشيد على الناس، مبارك من كلّل وتكلّل.

وهكذا صار عدن يدلّ على السعادة التي يصل إليها المتناولون (فطير 17: 17):

إن كان سرُّ خبزه جعله هكذا يطير،

فكم جعل الشعوب تطير إلى عدن.

وعدن الجديد هذا يعارض كلّ التعارض الشيول، مثوى الأموات، الذي هو ثمرة الخطيئة. نقرأ في أناشيد الفردوس (6/19: 3):

لأحبّائه عدن،

والشيول لأعدائه.

في هذا الإطار، تبرز أمامنا محطّتان. الأولى تربطنا بآدم الذي أكل، وبالمسيح الذي أطعمنا. هذا بارك الآب وأكل، أمّا آدم فتجاوز الشريعة وما بارك الله. نقرأ في الإنجيل الرباعيّ، أو الدياتسّارون: "بما أنّ آدم ما بارك الثمرة حين تمرّد وقطفها، بارك الربّ الخبز وكسره. والمحطّة الثانية، تجعل حوّاء ومريم تجاه الإفخارستيّا. هذه أعطتنا خبز القوّة وتلك خبز التعب.

1- آدم والمسيح

نبدأ هنا ونقرأ النشيد الثالث حول المائدة.

يكفي أبانا آدم أن يشابه الحيوانات،

أكل الثمرة وما سبَّح، فسبِّح أنت على كلّ شيء.

غير أنّ الإفخارستيّا كفّرت خطيئة آدم. قال أفرام في الدياتسّارون (19: 4):

منذ كسر جسده لتلاميذه وأعطاه رسله، نحسب ثلاثة أيّام، حُسِب فيها بين الموتى مثل آدم. فمع أنّ آدم أكل من ثمرة الشجرة، إلاّ أنّه عاش بعد ذلك زمنًا طويلاً، وكان في عداد الأموات لأنّه تجاوز الوصيّة... وبما أنّ آدم ما بارك ثمرة وقطفها في تمرّده، بارك ربّنا الخبز وكسره، ودخل الخبز فيهم (= التلاميذ) فعوّض الشهوة التي بها رفض آدم الله.

وقابل أفرام هنا بين عشاء يسوع الأخير وعدن. والمقابلة واضحة بين المكانين (العلّيّة والفردوس الأرضيّ)، بين الأشخاص (آدم من جهة، ويسوع والرسل من جهة ثانية) وبين العملين (المسيح بارك، آدم أهمل). أعادت العلّيّة النظام كما كان بعد أن تجاوزه الإنسان. وعادت الصداقة في الشكر والمديح.

نحن نعرف أنّ أكل الثمرة كان السبب المباشر لإغلاق باب الفردوس. ولكنّه فُتح من جديد حين فُتح جنبُ يسوع بالحربة. السبب ليس الثمرة التي هي شرّيرة في ذاتها، وليس السبب الخطيئة. فالخطيئة هي نتيجة عصيان الإنسان، والثمرة وسيلة استعملها إبليس ليدفع آدم إلى الخطيئة، كما في الفردوس (15/12: 6):

هكذا في الفردوس

المحتال قتل بالثمرة الطيّبة

هذا الولد البسيط.

من أجل هذا، تبقى الثمرة وسيلة الخلاص. هذه الثمرة هي جسد المسيح المعلّق على الصليب كما نقرأ في أناشيد القيامة (1: 6):

من العلاء جرى كالنهر، ومن مريم كجذع يسّى.

من الخشبة نزل كالثمرة، وكالبكر صعد إلى السماء.

إذًا، هناك صلاح الثمرة الموجودة على كلّ شجرة، كرمز لجسد المسيح. نقرأ في أناشيد الإيمان (18: 14):

ها سرّك في قطيعه الذي يحفظ بعصاك،

وفي كرمه عنقود امتلأ من سرّ دمك.

وفي شجرته تعلّقت ثمرة،

سرّ خشبتك وثمرة جسدك.

وهكذا تكون الإفخارستيّا، النمط المقابل لثمرة آدم. فالجسد الإفخارستيّ شأنه شأن الجسد في العشاء، لا يُلمَس كما لمست حوّاء الثمرة. قال أفرام في الدياتسّارون (21: 26) شارحًا أمر يسوع للمجدليّة: لا تلمسيني

لأنّ جسده كان ثمرة الأسافل البكر... ولكن لأصدقائه يفضّل الحبّ والمخافة، سبيلاً آخر للوصول إليه. هناك يأكلون جسده الأسراريّ يخضعون هذا الجسد للآلام أيضًا، ليعلّم هذا الجسد آكليه أن يحكموا على جسدهم مع جسده بالآلام، بحيث يفرحون في آلامه (حاشه) كما فرح هو. وقال بعضهم: ما أراد ربُّنا أن يُلمس لأنّ مريم (المجدليّة) لم تكن بعد تقبّلت سرّ جسده ودمه. وهكذا بيّن أنّ معاديه لا يستطيعون بعدُ الاقتراب من سرّه، مثل الإسخريوطيّ، بل أيضًا بعض أصحابه، مثل مريم، الذين لم يُطبعوا بعد بختم (العماد). هذا الجسد الذي مدّت إليه حوّاء يدها، فأخضعها للموت ولسائر أنواع العذاب.

حين قام المسيح، قتل الموت حين أخذه وما تهرّب منه. وإذا أراد أن يشركنا في هذه القيامة أعطانا ما يعارض الثمرة سبب الموت. أعطانا جسده. وفي نظرة واحدة ضمّ أفرام عدن والكنيسة والحياة الجديدة التي تعطى للمؤمنين فقال في الدياتسّارون (21: 25):

ونقول أيضًا: إذا كان آدم مات بسبب الخطيئة، فيجب على من أزال الخطيئة أن يأخذ أيضًا الموت. وكما قيل لآدم، يوم تأكل من الشجرة موتًا تموت (تك 2: 13)، وبما أنّه ما مات يومَ أكل، ولبثت فكرة الموت تراوده طوال حياته. هكذا نأكل نحن أيضًا الحياة في المسيح، نأكل جسده بدل ثمر الشجرة ويحلّ مذبحُه لنا محلّ جنّة عدن، وغُسلت اللعنة بالدم الزكيّ، ومع رجاء القيامة، ننتظر الحياة الأبديّة.

في هذا الإطار كان نشيد الفردوس السادس، في القطعة الثامنة:

جماعة القدّيسين (= الكنيسة) صورةُ الفردوس،

نقطف فيها كلّ يوم ثمرة تحيي الجميع

عنقود العنب، يا إخوتي،

دواءُ الحياة، هنا نعصره

عرجت الحيّة، قيّدت لأنّها لُعنت،

وأغلق فمُ حوّاء في صمت مفيد.

ولكن بالنسبة إلى خالقها،

صار هذا الفم أيضًا لله قيثارة.

وتابع التوازي المعارض، النشيد (3: 4) من أناشيد البتوليّة:

ربيَت سنبلةُ الحسن بين الزيزان البغيض

وهبت خبزُ الحياة، بدون تعب، للجائعين.

هي حلَّت اللعنة التي فيها أُسر آدم

الذي أكل في عرق (الجبين) خبز الآلام والشوك.

طوباه من أكل من ثمرة المبارك،

وأجاز عنه اللعنة.

وكيف ألغيت هذه اللعنة؟ "حكم الله على آدم بالموت بسبب تجاوز الوصيّة، وأتى بها ابن الله، وبوعد القيامة الذي وعد، ألغى الحكم الذي لاحق الإنسان منذ الفردوس" (تفسير التكوين 49: 3-4).

ويواصل أفرام كلامه فيعلن أنّ ما خسرناه بفعل حوّاء، بسبب عمل الحيّة، نستعيده في الإفخارستيّا التي تربطنا بالله وبمجده، وتمنحنا اللباس الإلهيّ. هنا نعود إلى أناشيد الميلاد (17: 6) حيت تقول مريم:

كانت حوّاء وكرًا وقبرًا للحيّة الملعونة،

فدخلت فيها النصيحة الشرّيرة وأقامت.

كانت لها طعامًا لأنّها صارت ترابًا.

فأنت هو خبزنا، وأنت جناننا ولباسُ مجدنا.

كانت الثمرة سببًا في موت البشريّة. وأتت الإفخارستيّا فأعادت الحياة. هذا ما يقوله نشيد ليتورجيّ يُتلى عند المناولة، وقد نُسب إلى مار أفرام:

أنتم، يا من قتلتكم ثمرةٌ في عدن،

وجدتم الحياة مجّانًا، بفضل ثمرة واحدة.

مدّ آدم يده وأخذ ثمرة يختفي فيها الموت،

مدّوا أنتم أيديكم وتقبّلوا خبزًا يحمل الحياة.

2- حوّاء ومريم

جاء الكلام عن حوّاء. وها نحن نرافقها كما نرافق مريم التي أعطتنا جسد المسيح، وبالتالي أتاحت لنا أن نشترك في الجسد والدم. فهي في الميلاد، قابلت بين المسيح وبين آدم، حيث للمسيح صورتان: واحدة من آدم وأخرى من الله. هذا ما قالته في نشيد 16: 3 من أناشيد الميلاد:

أرى صورتك الظاهرة أمام عينيّ،

وفي وجداني صورتك الخفيّة

وفي صورتك الجليّة رأيت آدم،

وفي الخفيّة، رأيتُ أباك الذي مُزج بك.

وسبق فأبنّا العلاقة بين حوّاء ومريم في 17: 6. وقد رأى أفرام في خبر عدن سقوط حوّاء. ولكن على الصليب، انتصرت مريم بقدرة الله. هذا ما نقرأ في الدياتسّارون (10: 13)، في شرح كلام الربّ: "رأيت الشيطان ساقطًا من السماء مثل البرق":

هذا لا يعني أنّه كان في السماء... وهو ما سقط من السماء، كما أنّ البرق لا يسقط لأنّ الغيوم تنتجه... وكما أنّ البرق يخرج ولا يعود إلى الموضع الذي منه جاء، كذلك سقط الشيطان وما عاد يجلس على عرشه... أنزلت العدالة حوّاء تحت العقب، والرحمة رفعت العقب بفعل الصليب، ليكون (هذا العقب) أقوى من الحيّة... أزال ربّنا الضلالة التي ملكت بسبب الحيّة، لكي تملك حقيقة ذاك الذي أعطى القدرة على الحيّات والعقارب (لو 10: 18) لكي تدوسها الأرجل فتكون مليكة عليها. ضربت الحيّة حوّاء في عقبها، فسحقته رجل مريم.

ونقرأ هذا التقابل على مستوى الخبز أيضًا، في إطار ليتورجيّ، كما في أناشيد الفطير (6: 7):

وهبت لنا مريم الخبز اللذيذ،

بدل خبز التعب الذي وهبته حوّاء.

كلّ الرمز يستند إلى فعل وهب (ي ه ب) أعطى. حوّاء أعطت آدم والكنيسة تعطينا ما أعطتنا مريم يوم الميلاد (الفطير 6: 6):

وهبت لنا البيعة الخبز الحيّ،

بدل هذا الفطير الذي أعطته مصر.

هنا نقرأ أناشيد البتوليّة (11: 11-14):

العنقود يعذّب أيضًا رِجل دائسيه،

بدمه يُغسل الوصمة،

وبمرارته يحلّيها.

وإن هو صار له عتيقًا،

جعل عذبًا بخمره.

 

حين تُؤكَل الثمرة، لها طعم الألم،

تسكب داخل الفم سرَّ تلك الثمرة

حين يُؤكل جسدُه يُحيي آكليه.

 

وكما يتعذّب الدبس حامل الحلاوة للجميع،

حين "فُلح" ربّك قوّة لآكليه

أعطى عذوبة للأصحّاء والمرضى طعامًا.

الخاتمة

اعتاد أفرام أن يرجع إلى العهد القديم ليكتشف فيه صورًا تقرّب حقائق العهد الجديد والكنيسة، من آذان السامعين ووجدانهم. وهذا ما فعله حين قارب بين الإفخارستيّا من جهة، والفردوس وجنّة عدن من جهة ثانية. انتقل من ثمرة تحمل الموت إلى ثمرة تحمل الحياة. ومن آدم الذي جاء باللعنة، إلى المسيح الذي أزال لعنة الموت والخطيئة حين سمّرها في جسده على الصليب. وفي النهاية، كانت مريم تجاه حوّاء، وهي التي أعطتنا الثمرة التي تحدّثت عنها إليصابات حين جاءت تزورها مريم العذراء: "مبارك ثمرة بطنك". على ما نقرأ في أناشيد الميلاد (6: 16):

هتفت العاقر كما اعتادت: من وهب لي

أيّتها الطوباويّة، أن أشاهد طفلك،

الذي امتلأت منه السماوات والأرض

مباركة ثمرتك، أفرخت عنقودًا في كرمة عاقر.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM