سرّ الإفخارستيّا واستعداداتنا

سرّ الإفخارستيّا واستعداداتنا

نشترك في ذبيحة المسيح. نكتشف حضوره بقوّة الروح القدس. أمام هذا السرّ العظيم، ما الذي تكون عليه استعدادات المؤمنين للمشاركة في الإفخارستيّا وتقبّلها.

نبدأ فنورد مقطعًا من أناشيد الإيمان (6: 4):

في الخبز تؤكلُ قوّة لا تُحرَق،

في الخمر نُشرَب عزمٌ لا ينفد.

أمّا في الأناشيد حول البتوليّة (37: 2) فنجد تشديدًا على اتّجاه شبه مادّيّ:

بوسيلة جديدة امتزج جسدُه بأجسادنا

ودمه النقيّ النقيّ سرى في عروقنا

صوتُه اجتاح آذاننا وبهاؤه عيوننا

برحمته امتزج كلّه به كلّنا.

أحبَّ كنيسته أحبّها، فما أعطاها من "طرّتها" (الزوجة الخائنة)

صار هو لها خبز الحياة فأكلته.

فالإفخارستيّا ضروريّة لكياننا الرووحيّ، بقدر ما الهواء للجسم. بدون الهواء نموت. وكذلك بدون الجسد والدم. هنا نقرأ أناشيد الميلاد (4: 151-152):

لا يحيا إنسان بدون نسمة الهواء،

وبدون قوّة الابن لا يقوم إنسان

بنسمة الحياة لدى محيي الكلّ

ترتبط النسمات العلويّة والأرضيّة.

كما نقرأ في أناشيد الفطير (1: 10):

كما آدم قتل الحياة في جسده،

بهذا السرّ، بالجسد الذي يكمل الكلّ،

يكمل الأبرار وينال الخطأة الغفران.

وتتكرّر عبارة "دواء الحياة" التي كانت عزيزة على قلب المسيحيّين الأوّلين.. فنقرأ مثلاً في أناشيد نصيبين (34: 10) هذا النشيد من الطبيب:

ما قدر الأطبّاء شفاء المرضى بأدويتهم،

فرأى الطبيب القادر على كلّ شيء وتحنّن

قطع من جسده وجعله على جراحنا،

وبجسده شفى ألمنا ودمه.

نلاحخظ هنا ما يُقال عن شفاء يمرُّ في الجسد فيصل إلى أسمى من الجسد، يدرك النفس. أي عمق الإنسان، فيعلّمه ويؤدِّبه. فهذا الخبز الذي امتلأ روجح المسيح، هو معنا لكي يروحننا، لكي يعطينا الروح. وهكذا نبتعد عن الصور المادّيّة، دون أن نتخلّى عنها تمامًا من أجل هذا، نقرأ أناشيد الميد 4: 87ي:

سنبلة الحقّ الواحدة أعطت خبزًا،

الخبز السماويّ الذي لا حدَّ له.

الخبز الذي كسرَه البطرُ في البرّيّة،

فني وعبر مع أنّه تكاثر.

فعاد وكسر خبزًا جديدًا

لا تفنيه الأجحيال والشعوب

فنيتْ سبعُ خبزات كرها،

وخمس خبزات كثّرها فنقدت.

خبزٌ واحد كسره غلب المسكونة

تقسمه وتقسمه فيكدّ إكثارًا.

ملأ الجزار خمرة فائضة

استقوا منها فنفدت وهي كثيرة.

قليلاً كان الشراب في الكأس التي وقب،

أمّا قوّته فعظيمة، عظيمة، لا حدّ لها.

كأسٌ تقبّلت جميع الخمور،

والسرُّ الذي فيها هو هو.

وأخذ هو الخبز الذي كسر، لا خاتمة له

ولا حدود لكأس واحدة مزج.

حنطةٌ زرعت ثلاثة أيّام،

صعدت فملأت أمراء الحياة.

الخبز روحانيّ مثل واهبه،

يحيي أهل الروح حياة روحيّة.

من أخذ منه آخذَا جسدًا،

باطلاً أخذ وما استقاد.

خبزَ الحنان تميّزه

العقلُ، أخذه دواء الحياة

ذبائح الموتى باسم الشياطين

تُذبَح في السرِّ وتؤكَل أيضًا،

فالقدس الذي فُرزكم ينبغي لنا

أن نخدم سرّه خدمة الطهر

من يأكل من الذبيحة باسم الشياطين،

هو بلا جدال، من الشينطان.

من يأكل من خبزه، خبز السماء،

هو بلا نزاع، من السماء.

في هذا المجال يقرأ القدّيس أفرام نصّ مت 24: 28: "حيت تكون الجثّة، هناك تجتمع النسور". ويقدّم تطبيقًا شخصيًّا في أناشيد الفطثير (17: 9ي).

الخبز الروحيّ يجعلنا نرتفع، نطير،

وطارت الشعوب إلى الفردوس وهناك أقامت...

حيث جسدُ آدم الثاني،

قربَه اجتمعت النسور الجائعة.

بالخبز الروحيّ يصير كلٌّ منّا

نسرًا يبلغ إلى الفردوس.

من يأكل الخبز الحيّ، خبزَ الابن،

يطير إلى لقائه كما على السحاب...

صورة خبزه نقلت إيليّا

فكم ينقل الخبزُ نفسه الشعوب إلى عدن.

وهكذا يكون على الخليقة الجديدة أن تأخذ "كبيعة "روحيّة، مثل الملائكة.في هذا المجال نقرأ أناشيد الإيمان (10: 9ي)

حين انحدر الربّ على الأرض، لدى المائتين،

جعلهم مثل الملائكة، خليقة جديدة.

مزج فيهم النار والروح،

ليصيروا نورًا وروح، بشكل غير منظور.

ما لمس السرافيم الجمرة بأصابعه،

بل من فم أشعيا قرّبها.

هو ما أخذها، هو ما أكلها،

والربّ أعطانا أن نأخذ ونأكل.

خدم إبراهيم ملائكة الروح،

فأكلوا طعام الأجساد،

وربّنا صنع معجزة كبيرة، جديدة:

أطعم المائتين النار والروح وسقاهم.

حين تدخّلنا النار، وحين يلجنا الروح نصبح نحن من نار وروح، أي مشاركة في طبيعة الله وفي حياته. وهكذا تكون الإفخارسيتّا، ذاك الطعام الروحيّ، أستباقًا للفردوس، حيث دعا يسوع اللص فقال له: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43) فالوصف الذي يقدّمه أفرام بألوانه وغناه، يتطلّع فقط غلى الأمور الروحيّة

هي خبز يمنحنا السلام. يجدّد حياتنا كما يقول المزمور: "يتجدّد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5). ونقرأ من أناشيد الفطير (2: 6):

ها هي ضحيّة السلام،

تضع السلام في العلى وفي الأسافل،

بالدم الذي يعطي الجميع السلام

فالإفخارستيّا التي تؤلّهنا، تمنحنا أولى عطايا الله التي منحها لتلاميذه ليلة آلامه: سلامي أعطيكم. وإذ هو يعطي السلام، يبيد العوّ الكبير، يبيد الموت. هذا ما نقرأ في أناشيد الإيمان (10: 18):

قتل خبزُك الوحش الذي جعلنا خبزَه،

وكأسك دمَّر الموت الذي ابتلعَنا.

أكلناك يا ربّ، وشربناك،

لا لنأخذك لنا، بل لنحيا منك.

إذا كانت الخطيئة تجعل الإنسان ناشفًا، يابسًا، وفي النهاية شيخًا تتآكله السنون، فهذا الخبز يعيد إلى المؤمن الشباب. هو سرّ التجديد.

تجاه الحياة التي بها الكلُّ يشيخ...

طوبى للخبز الذي يجعل كلَّ شيء جديدًا (الصلب 2: 5)

هل يعني هذا أنّ من يبدّل ثوبه ليتجدّد؟ حاشا. فالحيّة تبدّل جدلها كلّ سنة، ومع ذلك هي تشيخ وتشيخ وإن بدت "في جحلّة جديدة":

بدّلت الحيّةُ جلدها وتجدّدت،

وكلّ مرّة يقشر جلده في الخارج،

يشيخ في الداخل (الفطير 18: 8)

ويُقابَل هذا الجديد مع الخبز الفطير في أناشيد الصلب (2: 4):

أمر الحمل عن صورته أن نأكله مع الفطير،

خبز جديد، جسد جديد، ليصّور سرّ تجديده

فخمير حواء انتشر، صخرًا عتيقة بها الكلُّ شاخ.

الكلّ شاخ والكلّ باد، وبالفطير تجدّد الكلّ

زال الفطير الذي يجعل الكلّ عقيمًا

طوبى للخبز الذي يجعل الكلّ جديدًا.

فمن أراد أن يقتبل هذه العطايا السماويّة، وجب عليه الاقتراب منها بالقداسة، بالمخافة، بالرغبة الحارّة. هذا ما يقوله مديح أفراميّ حُقظ لنا في الأرمنيّة (48: 1، 11، 37)

بقداسة نأكل الجسد الذي ثبّته الشعب بالمسامير،

ونشرب دواء حياة الدم الجاري من جنبه...

بقلب تقدّس اقترب التلاميذ،

ومثلهم يقترب منه كلّ إنسان...

جعل نفسه صغيرًا بقياس من يقتبله،

لتجعل المخافة مسكنَه حيث يسكن ابنُ القدوس.

فإذا أردنا أن نستعيد استعدادات  المخافة والقداسة، نعود إلى العلّيّة، ونرافق المسيح في العشاء السرّيّ. يعني نعيش معه آلامه من جديد، نكون معه ذبيحة حيّة. ونقرأ في شرح الإنجيل الرباعيّ: "كان لأحبّائه، بفضل الحبّ والمخافة، وسيلةٌ أخرى للوصول إليه. حين يأكلون خبزه الأسراريّ، يخضعون أيضًا للآلام. فليعلّم آكليه أن يحكموا على جسدهم بالآلام مع آلامه، لكي يفرحوا في آلامهم كما فرح هو في آلامه".

إنّ ذروة حياة يسوع كانت تقدمته على الصليب. وذروة حبّنا له تكون في تقدمة ذاتنا له. "يا أبا الحقّ، ها هو ابنك ذبيحة ترضيك... ها هو دمه المراق على الجلجلة يتوسّل من أجلي". ذاك كان نشيد القد\ّيش شربل حين سقط على المذبح. في نهاية حياته، فكان حقًّا تلك الضحيّة التي يريدها المسيح من كلّ محبّيه. كلّ هذا صدى للنشيد الأفراميّ الذي وصل إلينا في اللغة الأرمنيّة (49: 1-5):

تعالوا، إخوتي، نقترب من هذا الجسد

الذي يعطي كاهننا

لتكن المخافة على شفاهنا،

حين نتقبّل دواء الحياة هذا.

مبارك من أعطى جسده،

من أجل غفران لجميه المؤمنين.

ساعة يُكسَر الجسد المقدّس

نتذكّر ذبحه،

لتكن أعضاؤنا كلذها في المخافة

حين يُذبَح ابن الله.

سرُّه توزّع على المذبح،

ونحن نشاهد موته

أخطر من كلّ ساعة،

ساعةُ ذبحه.

ننظر بعيون مغلقة،

معلّقًا على الخشبة نراه

فتشاهد عيوننا الدم

الذي جرى من جنبه.

في مخافة وحبّ نقترب من دواء الحياة

مثل أناس تميّزوا.

يضطرب قلبنا بموته،

وترغبُ نفسنا في سرّه.

في المخافة والحبّ، لا يفصل أفرام هذين الاستعدادين. هما دومًا معًا، حاولت القرون الوسطى أن تحتفظ من أفرام صورة الناسك المغتمّ، الذي يرى صواعق الدينونة الآتية؟ ولكنّهم نسوا عواطف الحنان الحبّ للمسيح، للعذرراء، للقدّيسين. ففي أناشيد الفردوس مثلاً، نكتشف لدى المسيح وجهين: وجه الحبّ ووجه العدل. ولكنّه ينشد أكثر ما ينشد لطف الله ورحمته. والدليل إلى ذلك ما نقرأ في النشيد 16 من أناشيد الميلاد، حيث تشكر مريم ابنها وتناغيه:

لا أغار يا ابني أن تكون معي، وتكون مع الجميع،

كن الإله لمن يعترف بك.

كن السيذد لمن يعمل لك

كن الأخ لمن يحبّك

فتعطي الحياة للجميع.

حين حللتَ فيّ،

حلّت عظمتك فيّ وفي الآخرين

وإذ ولدتك ولادة جليّة،

ما فارقتني قوّتك الخفيّة

أنت منّي في الداخل، أنت في الخارج،

يا لدهشة أمّك!

حين أرى من الخارج صوتك أمام عينيّ،

في ضميري تصوَّرُ صورتُك الخفيّة

في صورتك الجليّة رأيتُ آدم

وفيك أيّها الخفيّ،

رأيت أباك الممزوج بك.

لقد أرادت مريم أن تضمّ جميع البشر إلى الكرامة التي نالتها. فهذا الذي تراه نائمًا في المذود، هو الإله الخفيّ. ما أتيحح للجميع أن يورح في  بيت لحم، مثل الرعاة والمجوس. ولكنّهم يستطيعون أن يروه في خبز الإفخارسيتيّا، ويتقاسمونه طامًا لهم ودواء لحياتهم. ويتواصل نشيد مريم:

لي أنا وحدي بيّنتَ جمالك في وجهين،

الخبز يصوّرك والضمير

أمّ في الخبز وفي آكليه،

تراك نسيتك في الخفاء والجلاء

كما والدتك تراك

لهذا تكون مريم لنا مريم الثمال في طريقة إكرامنا للإفخارستيذا. فالبشر انقسموا خلال حياة يسوع، بين الحبّ والبغض، بين مريم والتلاميذ من جهة، وبين الكتبة والفرّيسيّين من جهة ثانية. والقسمة ما زالت حاضرة أمام جسد الربّ وجمه. ويتواصل نشيد الميلاد، حيث تقول مريم:

من أبغض خبزك شابه من أبغض جسدك

فالبعيد الذي يحبّ خبزك،

قريبٌ فمن أحبّ صورتك

الأوّلون رأوك والآخرون

في الخبز والجسد.

وقور خبزك، يا ابني، أكثر من جسدك،

جسدك رآه الكفّار أيضًا

وما رأوا خبزك احيّ

فرح البعيدون

فغلبوا القريبين، يا لحظّهم

وننهي كلامنا بالمقطع السابق الذي يوجز بشكل عجيب معنى المناولة، ويصوّر الاستعدادَ الباطنيّ في الحبّ والإيمان، في قلب الآتين غلى المناولة:

صُوِّرت صورتك يوم العنب

فوق الخبز (في الكسر والنضح)

وصُوّرت على القلوب بإصبخ الحبّ

بألوان الإيمان وصباغه

مبارك من أحلّ صورة الحقّ

محلّ الصور المنحوتة.

تلك هي المحطّة الأخيرة بعد محطّتين جاءتا قبلها. فبعد الوجحهة الذبائحيّة في الإفخارستيّا، المرتبطة بالصليب، كان كلام عن حضور المسيح بعفل الروح. كما في حشا مريم، كذلك في الإلخارستيّا. والآن، توقّفنا عند الاستعدادات المطلوبة، من الذي يقترب من الإفخارستيّا، وما هي الثمار التي ينالها. وأي ثمار! نشاركه المسيح في موته فنشاركه في قيامته. نشاركه في آلامه فنشاركه في مجده. وهكذا نكون مع الربّ كلَّ حين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM