الفصل الرابع عشر: تاريخ الخلاص

 

الفصل الرابع عشر
تاريخ الخلاص

سبق لنا وقابلنا بنية روم 8- 10 مع بنية غل 3: 1- 6: 10. ووجدنا نفوسنا تجاه ثلاث محطات متعاقبة في تاريخ الخلاص كما يتصوّرها الكتاب المقدّس. مع العلم أن روم تحاول أن تبيّن لنا هدف الرسول بأن يقدّم لنا نظرة واسعة جداً إلى تاريخ البشرية الديني.
نتوقف عند نظرة شاملة إلى الخلاص، نظرة شخصية إلى الخلاص، نظرة إلى الجماعة الكنسيّة العائشة في الإيمان والرجاء والمحبة.

1- نظرة شاملة
تبرز هذه النظرة الشاملة إلى دراما الخلاص منذ الفصول الأولى من روم: إذا عدنا إلى غل وجدنا أن المسيرة الماضية لهذه الدراما لا تتجاوز إبراهيم. أما القسم الأول في روم (وهو قسم تعليمي) فينطلق من بدايات البشرية نفسها، "منذ خلق العالم" (1: 20). وإذ أراد بولس أن يجعلنا ندرك كل عظمة الخلاص الذي تمّ في المسيح من أجل جميع البشر بدون استثناء، أبرز أولاً في روم عمق الخطيئة وشموليتها كما تبرز في العالم.
حسب التقليد اليهودي الذي، يستعيده العهد الجديد في هذا المجال، الأمميون (أي: الأمم الوثنية، الوثنيون) هم أناس لا يعرفون الإله الحقيقي، لا معرفة نظريّة ولا معرفة عمليّة. نقرأ في 1 كور 1: 21: "إذ إن العالم، بحكمته، لم يعرف الله في حكمة الله، حسن لدى الله أن يخلّص المؤمنين بجهالة الكرازة". إن حكمة الله قد ظهرت في الخلق. هذا ما يجعلنا قريبين من روم 1: 19- 20: "ما يُعرف عن الله واضح لهم...: صفاته غير المنظورة تُدرك منذ خلق العالم". ونقرأ في غل 4: 8: "إذ كنتم قديماً لا تعرفون الله، تعبّدتم لآلهة ليست في الحقيقة آلهة. إن الله لا يمتزج مع أي قوة من قوى العالم المخلوق، حتى الخفيّة منها. وهكذا يحرّر الوحيُ الإنسان من قوى يحاول أن يؤلّهها فتحجب عنه الإله الحقيقي.
نحن هنا كما في روم 1: 21 حيث يكتب الرسول أن الناس عامة "عرفوا الله ولكنهم لم يمجّدوه كإله". بدل من أن يبيّن بولس، شأنه شأن الفلاسفة، كيف أن البشر يبادرون بالإرتفاع من العالم المخلوق إلى الله، فهو يبيّن أن الله نفسه يتّخذ المبادرة ليدلّ على صفاته غير المنظورة وقدرته الأزلية. قال: "الله كشف ما يُعرف عنه" (1: 19). ومع ذلك، نحن أمام معرفة نمتلكها بواسطة أنوار العقل البشري الذي يتأمّل في أعمال الخلق. ولسنا أمام وحي بالمعنى الحصري للكلمة: وحي محصور باليهود وحدهم، وحي أولاني به أراد الله أن ينمي المعارف الدينية في البشرية. وبمختصر الكلام يتكلّم بولس منطلقاً من الوحي، عن معرفة طبيعية محضة. من أين جاءه هذا الكلام؟
عاد بولس، كما قلنا، إلى بداية البشرية، كما نقرأ في آ 20 (منذ خلق العالم). فحين خلق الله العالم، أوكله بأن يحمل تعليماً إلى البشر، وأعطاهم العقل لكي يفهموا هذا التعليم. فإن قال الرسول إننا اليوم أيضاً نقرأ هذا التعليم، فهذا يعني أن لا شيء تبدّل على المستوى الموضوعي. هنا نتذكّر الوعد لنوح (تك 8: 21- 22)، وفيه قيل أن نواميس الطبيعة لن تتبلبل كما حدث في زمن الطوفان. والآن أيضاً، فعمل الخلق ما زال يقدّم تعليمه، فيشكّل ظهوراً مستمراً لصفات الله على أعين البشر.
ولكن يبقى أن تحوّلاً كبيراً حصل في تصرّف العديد من البشر. فالكون ما زال يكلّمهم عن الله. أما هم فسفهوا في أفكارهم (تاهوا في بطل أفكارهم)، وأظلمت قلوبهم الغبيّة (صار قلبهم ضحيّة الظلمة). زعموا أنهم حكماء، فصاروا حمقى (جهلاء). واستبدلوا مجد الله الذي لا يدركه الفساد، بشبه صورة إنسان فاسد، وطيور وذوات أربع وزحافات (1: 21- 23). فالمعرفة والحسّ الديني لم يقودا البشر إلى تمجيد الله الحيّ. نلاحظ هنا موقف بولس السلبي من الديانات الوثنية.
تصوّر بولس البشرية غارقة في الآلهة المتعددة وما في هذه العبادة من سفاهة. وتذكّر خطايا بني اسرائيل خلال عبور البرّية وعبادة العجل الذهبي. لا شك في أن آ 23 تعود إلى مز 106: 19- 20: "صنعوا عجلاً في حوريب، وسجدوا أمام صورة مسبوكة، بدّلوا مجدهم بشكل ثور يأكل العشب". هذا لا يعني أن بولس يشير إلى اليهود وحدهم. ولكنه ينتقل إلى زمن يسبق انقسام البشرية قسمتين كبيرتين: الأمم واليهود. وهذا ما يتيح له أن يذكر خطيئة قسم ويسمّي خطيئة القسم الآخر. أو بالأحرى، ما أراد أن يصوّره هو انحطاط البشرية منذ البداية، إنتقالها من عبادة الله الواحد إلى عبادة الآلهة المتعدّدة، إلى عبادة الأوثان. ولم يكن العبرانيون أفضل من الوثنيين بعد أن جدّدوا الشرك في البرية.
فالفوضى التي نجدها اليوم، لم تكن موجودة في الماضي. "لم يكن منذ البدء هكذا". في البداية، عرف الناس الله، ولكن براهينهم الكبريائية جعلتهم يخسرون كل حسّ، يصيرون عمياناً وأضعف من أن يفهموا لغة الخليقة. فما نجد في روم 1: 18- 25 ليس اعتبارات مجرّدة حول إمكانيّة معرفة الله إنطلاقاً من الخلائق، بل التأكيد على واقع هو: سقوط البشريّة في الوثنية مع كل النتائج التي تتبع هذا السقوط. وسبب هذا السقوط كان الكبرياء التي تجعل العقل يُظلم. أما البسطاء والوضعاء فيعرفون أن يقرأوا مجد الله في مرآة الخليقة.
مع أن الكبرياء سبقت إنفلات الشهوات كما في الفردوس الأرضي، فهذه الخطيئة الجماعية الأولى لا تتماهى مع خطيئة آدم وحواء التي يتحدّث عنها بولس في 5: 12- 21. ثم إن الرسول لا يجعل من الوثنية تشويهاً لوحي أولي. بل يري فيها فساداً في معرفة الله بالعقل. والأجيال التي توالت قد أُصيبت بانحطاط البدايات. فمع أن الله ما زال يتجلّى بواسطة أعمال الخلق، فهذه الأجيال أغلقت عيونها على النور. هذا ما يفسّر صيغة الحاضر في 1: 18: "الناس الذين يحبسون الحقّ في الظلم". هم أولاً معاصرو الرسول، وهم في الوقت عينه المجموعة البشرية الخاطئة التي تؤلّف وحدة مع آبائها الأبعدين. إذا كان البشر بشكل عام يحبسون (يعيقون) الحقيقة الدينية التي يجهلها عددٌ كبير منهم، فهذا يعني أن الرسول الذي اهتمّ بتفسير ظهور الوثنية، لم يميّز بين الوثنيين في أيامه والذين أدخلوا مثل هذه الترهات في البدايات. لا شك في أنه ما كان ليجسر أن يكتب أن "البشر عرفوا الله" (بضميرهم كما في 2: 13، بل بأعمال الخلق الخارجية) لو لم يفكّر في بدايات البشرية الأولى. فالتأكيد في 1: 20 يعاكس الخبرة المعروفة كما يعاكس التقليد البيبلي الثابت.
في هذا المنظار يجب أن نقرأ ما سيُقال فيما بعد عن شمولية الخطيئة. فالتأكيدات (في ف 1) حول انتشار الوثنية في البشرية، لا يمكن أن تُفهم بشكل عام ومطلق. نستطيع أن نقابل هذا الوضع مع يو 1: 10- 11: "العالم لم يعرف الكلمة... أهله لم يقبلوه". وفي روم 2: 14 سيدور الموضوع حول خلاص الوثنيين الذين، وإن لم يكن لهم الشريعة الموسوية، قد أتموا ما تطلبه هذه الشريعة.
إن الصورة المظلمة التي رسمها بولس عن الوثنية، ليست إلاّ لوحة إجمالية تستلهم الحضارة اليونانية والرومانية في عصره. ولكنها ليست شجباً لممثّلي هذه الحضارة، أو حكماً على العالم الوثني في كل اتساعه. فالفكرة الرئيسية عند الرسول هي: إن الضلال الديني هو الينبوع الأول للفوضى الأخلاقية. لأن من جهلَ الإله الحقيقي جهل كرامة الإنسان الحقة. ويؤكّد ف 1 ثلاث مرات العقاب الإلهي على هذا الجهل الذي سقط فيه البشر. "أسلمهم الله" (آ 24، 26، 28). كيف نفهم هذا الكلام؟ لأنهم لم يؤدّوا للإله الحقيقي الواحد العبادة الواجبة له، أسلمهم الله إلى الفوضى الأخلاقية. هذا لا يعني أنه دفعهم إليها دفعاً، بل تركهم وضعفهم الخاص.

2- نظرة شخصية
إن الكلام في بداية روم، مع ما فيه من مفارقة، هو، في نظر الرسول، إستعداد لتدخّل الله الخلاصي بما فيه من شمولية مطلقة. وهذا ما نجده في 3: 21- 5: 11. فكما أن القول في 1: 18 (غضب الله يُعلن من السماء) يهيّىء القول في 3: 21 (أما الآن، فبغير شريعة ظهر برّ الله)، كذلك جاءت الإعلانات القاسية في 1: 24، 26، 28 (أسلمهم الله) توازي التأكيدات التي تحمل أطيب العزاء في 3: 21- 5: 11 وتهيّىء لها الطريق. نقرأ في 3: 25: "إن الله جعل المسيح ضحية تكفيرية بدمه". وفي 4: 25: "إن يسوع المسيح ربنا قد أسلم من أجل خطايانا وأُقيم من أجلى تبريرنا" (فعل "أسلم" كما في 1: 24، 26، 28). وفي 5: 8: "والبرهان على أن الله يحبّنا، هو أنه حين كنّا بعد خطأة مات المسيح عنا".
وفي 5: 12- 21، لنا عودة إلى بدايات البشرية، موازية لما في 1: 18 ي. هكذا تتأكد مرة أخرى في روم إرادة بولس بأن يستعيد التعليم الذي عرضه في غل، مع توسيع كبير في المنظار. في غل 4 كان الرسول قد اكتفى بأن يبيّن أنه قبل مجيء المسيح، كانت البشرية في وضع ديني حقير، كانت في عبودية سيحرّرها منها التجسّد الفدائي. أما في روم 5: 12- 21، فيقول لنا إن كل تاريخ البشرية قد استُعيد منذ البدايات في رَجُلين: آدم والمسيح.
ويُطرح هنا سؤال: بما أن المشاركة في خطيئة آدم (في 5: 12- 21) تشكّل مدخلاً إلى الإتحاد العمادي مع المسيح الذي مات وقام (ف 6). وبما أن تصوير الخطيئة الشاملة (في 1: 18- 3: 20) يشكّل مدخلاً إلى صورة الخلاص المقدّم إلى جميع المؤمنين (في 3: 21- 5: 11)، فكيف يحدث في هذه الظروف أن لا يتدخّل (في 5: 12- 21) آدمُ وعملُه السيّىء إلا كمقدّمة في مقابلة تكون نهايتها البرّ الذي يحمله يسوع (5: 18- 19: كما أنه بزلّة واحدة... كذلك ببرّ واحد)؟ صعوبة حقيقية وقد نستطيع تجاوزها.
درس الشرّاح الأصل التاريخي للخطيئة الأصلية، فاستنتجوا أن بولس أعطى عنها وحياً واضحاً. وإليك برهانهم: حين وُضع آدم تجاه المسيح الذي هو ينبوع النعمة، فُهم على أنه ينبوع الخطيئة. فإن لم تنكشف الخطيئة الأصلية إلاّ في مقابلة مع التبرير الذي تمّ في المسيح، فهذا لا يعني أنها لا تُفهم إلاّ فيه. كان آدم "رمزاً" للمسيح (آ 14). ونحن لا ندرك بعد "رموز" العهد القديم إلاّ حين تتحقّق في العهد الجديد. وبعبارة أخرى، إذا كان الله قد أراد احتواء البشر في آدم الخاطىء، فلأنه نظر إلى احتوائهم في المسيح الفادي. لا شكّ في أن الرسول (كما قلنا) لم يصوّر الفساد في البشرية الحاضرة (1: 18- 3: 20) إلا ليظهر عظمة الخلاص الذي يقدّمه الإنجيل في كل سطوعه. ولكن خطايا البشر الحالية هي أمور يجب أن نفسّرها بضعف الطبيعة البشرية. وبعد ذلك نبيّن كيف استفاد من هذا الوضع (أخرج الخير من الشّر). أما تضامننا مع آدم الخاطىء فنفهمه على ضوء الطبيعة المشتركة بسمنا وبينه. ومع ذلك، يبقى هذا أمراً فريداً، ولا نستطيع أن نتصوّره حقاً إلا بترتيب خاص من قِبَل الله، وعلى أساس تضامننا مع المسيح الواحد (وجهتان لتضامن واحد). فآدم هذا الذي هو سبب الخطيئة والموت هو نمط آدم المقبل. فحين سمح الله بالإنحطاط الشامل للبشرية بفعل زلّة واحدة، فقد نظر إلى عمل التقديس الشامل الذي يتمّ في المسيح.
حين درسنا نقيضة الحرف والروح، شكّل 8: 7- 25 مع دخول "أنا" على المسرح، نظرة شخصية إلى دراما الخلاص، بل نظرة الشمولية لشكل خاص هذا الخلاص. فعلى كل إنسان تنطبق الصورة المؤلمة، صورة الإنسان المنقسم داخلياً، الذي "لا يفعل ما يريد، بل يفعل ما يكره" (آ 15) "الذي لا يعمل الخير الذي يريد ويقترف الشّر الذي لا يريد" (آ 19). يتطلّع الشرّاح هنا الإنسان الذي لم يولد من جديد. ولكن يمكن أن نطبّق النصّ أيضاً المسيحيين. فليست الشريعة الموسوية وحدها، بل كل شريعة إلهيّة تهدّد بالموت الإنسان الذي لم يعتقه الروح بعد. ثم إن هذا التحرير الذي يقوم به الروح، لا يتمّ في المسيحيين إلا بشكل تدريجي. إذن، الصراع يستمرّ عندهم بين البدن والروح، بين اللحم والدم من جهة والعقل من جهة أخرى. وينتج عن ذلك اللوحة أن التي يرسمها بولس في 7: 7- 25 هي أيضاً شاملة جداً. وهذا ما تبيّنه مقابلة روم 7: 14 ي مع الكلمات الموجّهة إلى أهل غلاطية في غل 5: 17: "فإن الجسد (البدن، اللحم والدم مع ما فيهما من ضعف) يشتهي ضدّ الروح، والروح ضدّ الجسد. فكلاهما يقاوم الآخر حتى إنكم لا تصنعون ما. تريدون).

3- بناء الكنيسة
من النظرة الشخصية إلى دراما الخلاص في 7- 8، ينتج ما يلي: إعتاد بولس أن يقدّم خبرة الروح على أنها خبرة كنسيّة. هذا ما تدلّ عليه نصوص مثل 1 كور 12: 13: "لقد اعتمدنا بروح واحد لجسد واحدة، والتوسّع في غل 4: 21- 6: 10 حيث ترتبط النظرة إلى البنوّة الإلهية والحرية المسيحية بالنظرة إلى أورشليم السماوية التي هي الكنيسة، جسد المسيح. أما في روم 8، فيشدّد بولس بالأحرى على التحوّل العميق الذي يتمّ في كل مسيحي بالروح القدس. فالرسول اعتمد أن يتكلّم مطولاً عن حياة الجماعة المسيحية في ف 12- 15.
تتميّز النظرة الكنسية جوهرياً في 12- 15 بحضور موضوعين أشار إليهما بولس بعد أن توسّع فيهما في 1 كور بشكل بارز: موضوع الكنيسة، جسد المسيح (12: 3- 8). موضوع البناء (14: 19؛ 15: 2، 20).
عديدة كانت الشروح التي أعطيت عن هذه النظرة الرائعة إلى الكنيسة جسد المسيح. فإذا عدنا إلى 1 كور 10: 16- 17، يبدو أن جسد المسيح الذي يصبحه المسيحيون، ينال ينبوعه الرئيسي في جد المسيح الافخارستي. ثم هناك تقابل مع المسيح، آدم الجديد. فنصّ تك 2: 24 (حواء، لحم من لحم آدم) الذي استغلّته 1 كور 6: 16- 20 وأف 5: 22- 23، قد ساعد الرسول على تكوين فكرة حول اتحاد بين المسيح، آدم الجديد، وكنيسته التي هي جسده والمتميّزة عنه.
إن موضوع بناء الكنيسة لا يفسّر على مستوى التقوى الفردية. إنه قبل كل شيء جماعيّ وكنسيّ. وننظر إلى موضوع البناء هذا في اتجاهين، بل في وجهتين متكاملتين لا متعارضتين. من جهة، هناك بناء أفقيّ يرتبط بالتحريض والإرشاد، ويهدف إلى بناء الجماعة المسيحية من الداخل. عن هذا البناء تتحدّث روم 14- 15: "فلنتبع إذن ما هو للسلام، وما هو لبنيان بعضنا بعضاً" (14: 19). وفي 14: 20: "لا تهدم عمل الله من أجل الطعام". وفي 15: 2: "فليرضِ كل واحد منّا القريب للخير، من أجل البنيان". ومن جهة ثانية، هناك البعد العمودي، البعد الاسكاتولوجي، المحفوظ للرسل والوعّاظ بالإنجيل. يتوخّى هذا البعد أن يبرز شعب الله في زمن النعمة كما أعلنه العهد القديم. وقد عبرّت عنه 1 كور 3: 6- 17 بصورتَيْ الغرس والبناء (رج إر 1: 10؛ 24: 6؛ 31: 28؛ حز 36: 36). ونستطيع أن نقرّب من هذا النصّ الأساسي (1 كور 3) روم 15: 20 حيث يقول بولس: "أبشر بالإنجيل... فلا أبني على أساس غيري".

4- الإيمان والرجاء والمحبة
وترتبط بالعلاقة بين وجهتَي الحياة المسيحية (الشخصية والجماعية) إشارة إلى المثلث التقليدي: الإيمان، الرجاء، المحبّة. هذا المثلث الذي تشهد له أعظم شهادة 1 كور 13: 13، يعود إلى بدايات المسيحية. فنحن نجده في بداية أول رسالة بولسية، في 1 تس 1: 3 (عمل إيمانكم، تعب محبّتكم، ثبات رجائكم). ونلاحظ وجود هذه الفضائل الثلاث في روم 5: 1- 5: "فإذ قد برّرنا بالإيمان... نفتخر في رجاء مجد الله... والرجاء لا يخزي، لأن محبّة الله قد أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه". لا يستطيع المؤمن أن يفتخر بأعماله. بل هو يفتخر بالرجاء، لأن الرجاء، كالإيمان، لا يستند إلاّ إلى رحمة الله وأمانته لمواعيده. وكذا نقول عن محبة الله التي لنا، التي أعطيناها بفيض الروح القدس.
ونقرأ عن هذا المثلث الإلهي (الإيمان، الرجاء، المحبة) في روم 12: 6- 12: "وإذ لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا، فمن أوتي النبوءة فليتكلّم بحسب قاعدة الإيمان... ولتكن المحبة بلا رياء... وليكن فيكم فرح الرجاء". يتحدّث النصّ عن الإيمان، أي عن توافق إيماننا مع الكنيسة واتحادنا مع المؤمنين. أما المحبة التي تكون بلا رياء، فهي تدعونا إلى أن نحبّ بعضنا بعضاً حباً أخوياً، وأن نحسب الآخرين خيراً منا. أما الرجاء فيرافقه الفرح، والصبر في الضيق، والمواظبة على الصلاة.
يلد الإيمان من الكرازة ويدلّ على ما صنعه الله في الماضي لكي يخلّص البشر. والرجاء الذي به ترتبط النبوءة يميل بالمسيحيين إلى مستقبل من السعادة ينتظرونه. أما المحبّة التي هي موضوع الإرشاد فتنظّم وجودهم في الزمن الحاضر.
بما أن في الإيمان تتجذّر العلاقات الشخصيّة بين الله والإنسان، فعنه يتحّدث ف 1- 8، وخصوصاً ف 1- 4 التي تعالج مسألة التبرير بالإيمان. فالإيمان هو قبل كل شيء تعلّق بما يتضمنّه "إنجيل الله في شأن ابنه"، تعلّق بشخص يسوع المسيح. ولكن الإيمان هو أيضاً عطاء حياة الإنسان لله وللمسيح. يتحدّث بولس مراراً عن "طاعة الإيمان": فالعقل البشري يطيع خاضعاً لشهادة الله. والإنسان كله يطيع خاضعاً لإرادة الله التي عرفها بالوحي. أما خطيئة اليهود الكبرى، فلأنهم رفضوا طاعة الإيمان. نقرأ في 1: 5: "نجعل جميع الأمم تطيع الإيمان" وتلتزم به. وفي 2: 8: "الغضب والسخط على الذين لا ينقادون للحق، بل ينقادون (يذعنون) للشرّ". وفي 6: 17: "لقد أطعتم من كل قلبكم رسم التعليم الذي سُلّم إليكم". أطعتم قاعدة التعليم، التعليم المشترك. نحن هنا أمام الكرازة المسيحية الأولى. وفي 10: 3، 16: "لم يخضع اليهود لبرّ الله... لم يذعنوا كلّهم للإنجيل". وفي 11: 30- 31: "أنتم عصيتم الله من قبلُ... هم أيضاً قد عصوا". فاليهود قد عصوا، شأنهم شأن الوثنيين، وهم يحتاجون إلى الرحمة مثل غير اليهود. ونقرأ في 15: 18: "لا أجسر أن أتكلّم بشيء مما لم يُجرِ المسيح على يدي، لطاعة الأمم، بالقول الفعل". نحن هنا أيضاً أمام طاعة الإيمان، أمام مجيء الأمم إلى الإيمان، وما فعل بولس من أجل هذا المشروع.
والرجاء لا ينفصل عن الإيمان. ويسمّى الثبات. تُذكر هذه الفضيلة مراراً في القسم الأول من روم. "آمن إبراهيم راجياً على غير رجاء" (4: 18). "نفتخر في رجاء مجد عظيم... الفضيلة المختبرة تنشىء الرجاء، والرجاء لا يخزي" (5: 2، 4، 5). "أخضعت الخليقة... ولكن على رجاء" (8: 20). إنها تنتظر في الرجاء. "أخضعت للباطل". هذا ما حدث بعد خطيئة الإنسان الذي يستعمل الخلائق من أجل أنانيته وفرض سلطانه. وفي 8: 24 نقرأ: "لأنّا بالرجاء خلّصنا. ولكن رجاء ما يشاهد ليس برجاء. لأن ما يشاهده المرء كيف يرجوه أيضاً"؟ الخلاص، شأنه شأن التبنّي، قد صار لنا منذ الآن. ولكننا ننتظر تحقّقه الكامل. لهذا نحتاج إلى الرجاء. وفي 8: 25: "ولكن إن كنا نرجو ما لا نشاهد، فبالصبر ننتظره". نثبت، نستمرّ في انتظارنا. هنا يترافق الرجاء مع الصبر والثبات. "بالصبر على الأعمال الصالحة يطلبون المجد والكرامة" (2: 7)؛ رج 5: 3- 4 (الشدّة تنشىء الصبر، والصبر ينشىء الفضيلة المختبرة)؛ 8: 25.
وهكذا نرى أن ف 5- 8 تتضمّن استشهادات تجمع الرجاء إلى الإيمان كشرط للخلاص. فالذي تبرّر بالإيمان هو في سلام، وهو متأكّد أنه يعيش حياة فائقة الطبيعة لا وصول للموت الطبيعي إليها، حياة ستتفتّح في مجد لا تقاس به "آلام هذا الدهر الحاضر" (8: 18). في هذا الإطار من وعد بالخلود والسعادة، تجد فضيلةُ الرجاء مكانتها.
ويتدخّل الرجاء أيضاً دون أن يُذكر بصريح العبارة في الحديث عن خلاص الشعب الأول في النهاية. فالنبوءة ترتبط بالرجاء، كما ترتبط الكرازة بالإيمان، والإرشاد بالمحبة.
نقرأ في 8: 24: "ما خلّصنا إلا بالرجاء" أو: "خلّصنا بالرجاء". وهذا يتضمّن مشاركة المؤمن الناشطة في النعمة التي تخلّص، بواسطة فضيلة الرجاء. أي تفسير نأخذ؟ إن الإطار المباشر الذي بحسبه لم يدرك خلاصُنا بعد ملء تحقيقه، لأننا لا نستطيع أن نرجو ما نشاهد، إن هذا الإطار يدفعنا للأخذ بالتفسير الأول. أما وجود الـ التعريف أمام لفظة "رجاء"، فيجعلنا نميل إلى التفسير الثاني. وهكذا تلتقي روم 8: 24 مع عدد من نصوص العهد القديم، ولا سيّما المزامير، حيث يتأمّن الخلاص للذين يرجون الله (مز 25: 3؛ 33: 22؛ 71: 5- 6؛ مرت 3: 25 ي).
إن تشديد روم 1- 8 على الإيمان والرجاء يجعلنا ننتظر ذكر العنصر الثالث في المثلث التقليدي: المحبّة. إن المحبّة تشكّل الموضوع الرئيسي في ف 12- 15، دون أن تُنسى الفضيلتان الأخريان. ذُكرت المحبة مع الإيمان والرجاء في 5: 1- 5 و12: 6- 12. وتشديد ف 12- 15 على المحبة سببه أن ملء الشريعة (13: 8- 10) يُشرف على حياة المسيحيين بحيث يشكّلون جماعة شعب الله الجديد. وهذه المحبّة ليست عاطفة بشريّة وحسب. إنها عيش بحسب الوصايا. وهذه المحبة قد وُضعت فينا لأن الله هو الذي أحبّنا أولاً (5: 5- 8).

خاتمة
هكذا بدا لنا تاريخ الخلاص في شموليته. وارتكز على شخص يسوع المسيح الذي يقابل آدم الأول وما حمل إلى العالم من خطيئة. تاريخ الخلاص يتجسّد في المرحلة الأولى في الكنيسة، في الجماعة التي يبنيها المسيح. وهذا التاريخ يعبرّ عنه المسيحي (والجماعة المسيحية) حين يعيش الفضائل الثلاث، أي الإيمان والرجاء والمحبّة. وهكذا نستعد لقراءة القسم الإرشادي في روم مع قمة في عيش فضيلة المحبة. لأن المحبة هي تمام الشريعة (13: 10).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM