الفصل الرابع: الجماعة المسيحية في رومة

الفصل الرابع
الجماعة المسيحية في رومة

نطرح في هذا الفصل سؤالين يرتبط الواحد بالآخر، ولكنهما يتميزان. الأول يتطرّق إلى وضع الجماعة المسيحية في رومة، ساعة كتب لها بولس. الثاني يعالج الهدف الذي توخّاه بولس حين كتب روم. كان الأول موضوع جدال. وها قد ظهر توافق يكاد يكون عاماً. أما الثاني، فما زال موضوع مناقشة حتى الساعة.

1- وضع الجماعة
في القرن الأول المسيحي كانت رومة مدينة على مستوى المسكونة. ضمّت مليون شخص كان معظمهم من الطبقة الشعبية: مهاجرون، عبيد، موالي معتقون، عامة الشعب. كان الشرقيون عديدين، وكانوا يجتمعون في أحياء خاصة بهم. وكانت الجماعة اليهودية هناك متماسكة وقوية. هذا ما يحدّثنا به المؤرخون أمثال سواتونيوس ويوسيفوس. كما تشهد له المدافن العديدة. فالمدوّنات تتيح لنا أن نستنتج أنه كان في رومة 13 مجمعاً، وقد وزّعت على مختلف أحياء المدينة. وقد يكون اليهود في رومة في ذلك الوقت: بين أربعين ألفاً وستين ألفاً.
لا نعرف بالضبط كيف وُلدت الجماعة المسيحية في رومة. فأغلب الظن هو أنه في هذه المدينة كما في سائر الشتات، دخلت المسيحية لدى اليهود والوثنيين المتعاطفين مع العالم اليهودي. وهذا يعني أنّ الجماعة المسيحية في رومة كانت في البداية بأكثريتها من اليهود المرتدّين إلى المسيحية. فإن كان الأمر هكذا، نظنّ بحق أن بداية هذه الجماعة تأثّرت ببطرس بعد التوافق الذي تمّ حسب غل 2: 7 والذي بموجبه توكّل بولس على الرسالة بين الوثنيين، وبطرس على الرسالة بين اليهود.
هناك تقليد يتحدّث عن رئاسة بطرس على رومة مدة 25 سنة. غير أن هذا التقليد ليس مؤسّساً بما فيه الكفاية على المستوى التاريخي. ومع ذلك، فمن المعقول جداً أن يكون بطرس أقام في رومة قبل أن يجيء بولس إليها. وهكذا يكون بطرس أقام مرّة أولى في رومة قبل أن يجيء إليها في زمن نيرون حوالي سنة 64. ويبقى أمر أكيد. هو أنه حين كتب بولس إلى رومة، كان بطرس غائباً، وإلاّ فكيف نفهم صمت بولس التام حول بطرس.
إنتشر رأي في المسيحية القديمة، ودافع عنه الامبروسياستر، فقال: كان لمسيحيي رومة أفكار خاطئة منذ زمن ارتدادهم. وهذا الرأي قد أسندته عدة مطالع لاتينية إنتقلت مع مخطوطات الترجمة الشعبية، واستعادها بعض الكتّاب في القرون الحديثة. أخذ المسيحيون المتهوّدون في رومة بالضلال اليهودي، فحاولوا أن يفرضوا نظراتهم على الوثنيين المرتدّين. وهكذا يكون بولس قد أراد أن يحارب في رومة الضلال الذي لقيه في غلاطية.
لن نعالج طويلاً هذا الموقف الذي تخلّى عنه الشرّاح اليوم. فلو كانت مشكلة بولس مع المتهوّدين، أما كانت ردّة الفعل عنده أكثر عنفاً؟ ثم إن هذا الرأي ارتبط بمسألة تأليف كنيسة رومة ساعة كتب بولس لها. فإذا كانت الجماعة في رومة مسيحية متهوّدة بأكثريتها في البداية، فمن الواضح أن الوضع تبدّل فيما بعد، ولا سيّما بعد أن طُرد اليهود من رومة سنة 49. وهذا أمر يشهد له سواتونيوس وأع 18: 2 حيث نقرأ: "لأن كلوديوس كان قد أمر جميع اليهود بالخروج من رومة". نحن لا نعرف إلاّ أي حدّ وُضع هذا القرار موضع العمل، كما لا نعرف الزمن الذي ظلّ يُعمل به (رج أع 28: 17 حيث نجد وجهاء اليهود؛ روم 16: 3 حيث نجد برسكة وأكيلا).
وإن كان من المعقول أن عدداً من اليهود والمسيحيين المتهوّدين قد أفلتوا من هذا القرار. أو أن يكونوا عادوا إلى رومة بعد أن طُردوا منها في زمن نيرون، هناك أمر لا شكّ فيه إطلاقاً: وهو أنه حين كتب بولس روم لم تكن الجماعة المسيحية في عاصمة الإمبراطورية مهدّدة من قِبَل المتهوّدين. بل هي مؤلّفة بأكثريتها من مسيحيين جاؤوا من العالم الوثني. فإليهم يتوجّه الرسول في بداية رسالته منطلقاً من المهمة الموكلة إليه لدى الوثنيين: إنه يرغب أن يكون له عندهم ثمر كما عند سائر الأمم الوثنية. نقرأ في 1: 13- 15 ما يلي: "ولا أريد أن تجهلوا، أيها الاخوة، أني عزمت مراراً أن أقدم إليكم، ومُنعت حتى الآن، لكي يكون لي فيكم ثمر كما في غيركم من الأمم. إن عليّ ديناً لليونانيين والبرابرة، للحكماء والجهلاء. لذلك فإني لمستعدّ أن أبشرّكم أنتم أيضاً يا أهل رومة". يتطلّع بولس هنا إلى البشرية جمعاء، سواء تألّفت من وثنيين متمدّنين كاليونانيين الذين منهم الرومان، أو تألّفت من برابرة أي شعوب اعتبروا بعيدين عن المدنيّة.
وهذا الذي قاله بولس في البداية، سيعود إليه في نهاية الرسالة: إنه يريد أن يقدّم لله الوثنيين المرتدّين كذبيحة حقيقية. نقرأ في 15: 15- 16: "لكنني أكثرت جرأتي فكتبت إليكم في بعض الشؤون، كأني مذكّر لكم من أجل النعمة التي وهبني الله، أن أكون خادماً للمسيح يسوع في سبيل الأمم، كاهناً خادماً إنجيل الله، حتى يكون قربان الأمم مقبولاً، مقدّساً في الروح القدس". إن بولس يبرّر كتابة هذه الرسالة إلى كنيسة لم يؤسّسها ويعتذر عن جرأته. أما النعمة التي خصّه الله بها فهي أن يربح الأمم للمسيح، ويقرّبهم لله قرباناً مقدّساً مرضياً.

2- هدف بولس من كتابة روم
كل هذه المعطيات حول روم، وحول الجماعة التي توجّهت إليها رومة، وهي مؤلّفة بأكثريتها من الوثنيين، تطرح السؤال حول الباعث على كتابة روم. هناك أسئلة ثلاثة تجعل تدوين روم سّرياً بل أشبه باللغز:

أ- أسئلة ثلاثة
* توجّهت سائر الرسائل البولسية إلى كنائس أسّسها بولس (هو أو تلاميذه كما فعل ابفراس في كولسي) أو أقلّه زارها. فكيف حصل له أن يكتب لجماعة رومة التي لم يكن له أي إتصال بها؟
* كيف تجرّأ رسول الأمم أن يكتب إلى جماعة رومة التي ترتبط في أصلها ببطرس؟ أما افتخر بأنه لا يريد أن يبني على أساس غيره (15: 20)؟ لقد قال في 2 كور 10: 15- 16: "لا نتعدّى تلك الحدود فنفتخر بأعمال غيرنا، ولكن نرجو أن يزداد إيمانكم فيتّبع مجال العمل بينكم في الحدود التي لنا، حتى نحمل البشارة إلى أبعد من بلادكم، فلا نفتخر بما أنجزه غيرنا في حدود عمله" (رج 1 كور 3: 10- 15).
* إنّ تأليف سائر الرسائل البولسية قد خضع لصعوبات تمرّ فيها الجماعة، أو لأسئلة طُرحت على الرسول. فكيف نفهم أن تكون رسالة اعتنى بولس بكتابتها وحمّلها كل هذا التعليم، قد توجّهت إلى كنيسة لم تطرح عليه سؤالاً لأنها كانت كريبة عنه فلم تعرفه؟

ب- كيف نفسّر هذا الوضع
تنوّعت التفاسير حول الهدف الذي رمى إليه رسول الأمم حيث دوّن روم. وها نحن نقدّم خمسة منها نوجزها قبل أن نقدّم محاولة جواب على سؤال متشعّب بل معقّد.
* التفسير الأول
أراد بولس أن يحارب نواقص صغيرة في جماعة رومة المسيحية. نحن نكتشف في روم تعارضاً هاماً: من جهة، يتوجّه بولس إلى الرومان كأعضاء في الجماعة المسيحية في كل معنى الكلمة. ومن جهة ثانية، يعبرّ لهم عن نيّته بأن يحمل إليهم الإنجيل. كيف نفهم هذا اللامنطق عند بولس؟ تعلّق مسيحيّو رومة بالإنجيل، ولكنهم لم يشكّلوا بعد كنيسة بحصر الكلمة، لأن خاتم بولس الرسولي ما زال ينقصهم. لهذا غابت لفظة "كنيسة" في الرسالة كلها، ما عدا استعمال ظرفي في ف 16 (آ 1، 4، 16).
وهناك وجهة أخرى قريبة من هذه الوجهة التي عرضنا: إن الجماعة المسيحية التي كتب إليها بولس، يهدّدها انشقاق خطير. وهذا ما يدلّ عليه 1: 18- 3: 8 وف 14- 15.
ولكن مهما يكن من أمر، فنحن لا نستطيع أن نقبل بالقول إن مسيحية رومة عرفت ضعفاً على المستوى التعليمي. يكفي أن نذكر ما قاله بولس في 15: 14: "أما أنا، أيها الاخوة، فإني متيقّن من قبلكم أنكم مفعمون صلاحاً، ممتلئون كل معرفة، قادرون أن ينصح بعضكم بعضاً".
* التفسير الثاني
كتب بولس رسالته إلى رومة ليعدّ سفره إلى أورشليم. إذا كانت الرسالة، على المستوى الأدبي، قد توجّهت إلى جماعة رومة، فقد أملاها في الواقع اهتمامات تحاصر بولس ساعة استعدّ للذهاب إلى أورشليم لكي يحمل إليها ثمار اللمَّة من أجل فقراء المدينة. لهذا، فالأسئلة التي يجيب عنها هي أسئلته الخاصة لا أسئلة الجماعة. وهكذا لا يكون عرض إنجيله العنصر الأهم في نظر الرسول حين كتب روم. ما أراد أن يشرحه أولاً هو السبب الذي لأجله يريد أن يذهب إلى أورشليم قبل أن يذهب إلى رومة وإسبانيا. والسبب الذي يدفعه في كرازته إلى التوجّه أولاً إلى اليهود. من أجل هذا كانت أهمية ف 9- 11.
هناك بعض الحقّ في هذه الملاحظات. ولكننا لا نستطيع القول إن بولس يكتب لمنفعته الخاصة لا لمنفعة المؤمنين الذي يتوجّه إليهم. لهذا ظنّ بعض الشرّاح أن الرسول يردّ على الإعتراضات التي يعتبرها موجودة عند جماعة رومة، وينتقد أفكاراً خاطئة تتداول فيها.
* التفسير الثالث
إن روم هي رسالة دوّارة. بمعنى أنها لا تتوجّه إلى كنيسة محدّدة، بل إلى مجمل كنائس موزّعة في حوض البحر المتوسّط. هنا نفهم لماذا غابت "برومة" في 1: 7، 15 من بعض المخطوطات. كما نفهم نظرية بعض الشرّاح القائلين بأن هناك رسالتين إلى رومة. وقد قال أحدهم: إن روم هي ملخّص عن مواقف أخذ بها بولس في نهاية جدال طويل بدأ مع 1 كور وفل. أرسل الرسول نسخة عن هذه المواقف إلى أفسس لكي تعرفها كنائس آسية، كما أعلم شفهياً مسيحيّي كورنتوس وسوريا وفلسطين بها. وفي الوقت عينه أرسل إلى كنيسة رومة استجماعاً لكل هذه المواقف. فرضية مثيرة. ولكن لا شيء يسندها. ثم، لماذا أرسلت هذه الرسالة الدوّارة إلى رومة ولم تُرسل إلى مكان آخر.
* التفسير الرابع
كتب بولس روم لكي يرّف بنفسه ويطلب مساعدة كنيسة رومة. هذا التفسير البسيط يقبل به عدد من الشرّاح. تفسير معقول ولكنه غير كافٍ. فهو وحده لا يبرّر كتابة رسالة بأهمية روم. ثم إنه يصطدم باعتراضات. بعد نشاط رسولي طويل، هل كان بولس مجهولاً في عاصمة الإمبراطورية؟ وبعد أن كتب ما كتب في غل، هل يرجو أن ينال موافقة كنيسة رومة على إنجيله ومشاريعه الرسولية؟
* التفسير الخامس
رغب بولس في أن يضع حداً للخلاف القائم بين "الضعفاء" و"الأقوياء" في جماعة رومة المسيحية. هذا ما يعبرّ عنه الرسول بشكل واضح في ف 14- 15. ولكننا نغالي إن فسّرنا كل الرسالة بهذا الهدف، مع أن مسألة "الضعفاء" و"الأقوياء" لا تظهر مرّة واحدة قبل ف 14- 15. ثم، إن المسألة المطروحة بوجود هاتين الفئتين في رومة، لا يبدو أنها ارتدت طابعاً مأساوياً. ثم، حين نتعرّف إلى هؤلاء الضعفاء والأقوياء بما فيه الكفاية، نستطيع ربّما أن نتوقّف عند هذا التفسير.

ج- محاولة تقديم حلّ
كل التفاسير التي قدّمناها تتضمّن جزءاً من الحقيقة. أما خطأها فهي أنها ناقصة وتنظر إلى زاوية واحدة من الأمور. نحن لا نعتبر اننا نعطي جواباً يُرضي الجميع على سؤال متشعّب إلى هذا الحدّ. ولكننا نظنّ أن الحلّ الأفضل ينتج من مقابلتين بين معطيات مختلفة وقليلة التماسك ظاهرياً نجدها في روم 15: 13- 32، وفيها يدلّ الرسول على نواياه. كما ينتج من مقابلة بين إعلانات بولس في غل وإعلانات روم المختلفة حول المسألة اليهودية.
أولاً: خدمة بولس ومشاريعه (15: 13- 32)
بعد الجزء الكبير (14: 15- 13) الذي فيه حاول بولس أن يعيد الوحدة إلى مسيحية رومانية مقسومة بين "ضعفاء" و"أقوياء"، نندهش وبحقّ حين نقرأ في 15: 14 مديحاً لهذه المسيحية عينها التي امتلأ أعضاؤها بأفضل العواطف وامتلكوا عطيّة المعرفة وصاروا جديرين بأن ينصحوا بعضهم بعضاً. فإذا كانت الجماعة في مثل هذا الوضع الجيّد، فلماذا يوجّه إليها بولس هذه التعليمات الطويلة؟ وبعد هذا حالاً، يعتذر الرسول حالاً عن جرأته حين يكتب إليها. ومع ذلك، فما أراد إلاّ أن يذكّر أهل رومة بما سبق لهم وعرفوه، من أجل النعمة التي وُهبت له (آ 15). وبعد هذا يزيد أنه أخذ على نفسه أن لا يحمل الإنجيل حيث عُرف المسيح من قبل (آ 25- 22). وهذا ينطبق ولا شكّ على جماعة رومة التي لم يؤسّسها بولس، والتي كانت في خطّ بطرس. وهنا يطرح السؤال من جديد: كيف تجاسر رسول الأمم أن يكتب إلى أهل رومة رسالة طويلة جداً بحيث تبدو مقالاً تعليمياً؟ هناك من يقول إن بطرس كان على اتفاق مع بولس حول جوهر التعليم المعروض في روم. وهذا ما يتيح لبولس بأن يقول للرومان بلهجة متواضعة بأنه أراد أن يذكّرهم بما سبق لهم وعرفوه. ولكن يُطرح السؤال أيضاً: لماذا اهتمّ بأن يرسل إليهم عرضاً تعليمياً طويلاً جداً؟ سؤال ينتظر جواباً.
يبدو أن قراءة 15: 22- 30 حول مشاريع بولس، تعرّفنا إلى وجهة أخرى من الوضع. فمع أن بولس ما زال غريباً عن الجماعة المسيحية في عاصمة الإمبراطورية، فهو يعرف أنه متّحد معها بالروح والقلب اتحاداً عميقاً. ولهذا فهو معجّل في أن يتذوّق الفرح النابع من حضور هؤلاء المسيحيين (آ 24). إنه يريد أن يستريح معهم (آ 32). وهو متيقّن أنه يحمل إليهم بركة المسيح (آ 29). وفي الوقت عينه، يسّر إليهم بهمومه العميقة ليلة سفره الطويل إلى أورشليم حيث سيحمل ثمر ما جمعه من مساعدات للفقراء هناك. وهو يتوسّل إليهم لكي يجاهدوا معه في الصلاة فينجو في اليهودية من الكافرين، وتكون خدمته (العون الذي يحمله) مقبولة لدى القديسين (أي المؤمنين) في أورشليم (آ 30- 31). كل هذا يفهم فهماً أفضل إذا كان التعليم المفصّل للرومانيين الذين عرفوا عنه بعض الشيء، هو ذاك الذي أراد بولس أن يعلنه في أورشليم. إذن، حين يحمل الرسولي إلى الرومانيين الخير الروحي، وحين يكمّل تعليمهم، فهو في الوقت عينه يدافع عن قضيّته الخاصة.
ثانياً: بين غل وروم
وهناك عنصر هام آخر قد يساعدنا على تقديم الحلّ الذي نقترحه: بسبب قساوة وأمية الصراع الذي بدأ في كل، لم يكن لبولس أن يقدّم أية تنازلات للمتهوّدين. بل وجب عليه أن يترك جانباً امتيازات الأمّة المختارة. ونظنّ في بعض الأوقات أنه ينكرها. ففي غل 3 يعتبر أن الشريعة الموسوية هي نظام مؤقت يؤول إلى الإكثار من المعاصي (3: 19: أضيف بسبب المعاصي). ولا يتردّد في أن يقابلها بسجّان. وسيخفّف من حدّة هذه الصورة حين يتحدّث عن "المربيّ" الذي يقود إلى المسيح (3: 23- 24: الناموس كان مؤدبنا يرشدنا إلى المسيح). وفي بداية ف 4 سيذهب أبعد من ذلك فيجعل العبادة اليهودية والعبادة الوثنيّة في "خندق" مشترك ويجعلهما بين "أركان العالم" (غل 4: 3، 9) السقيمة البائسة.
وفي روم، تابع بولس معالجة مسألة ثانوية في حدّ ذاتها: العلاقات بين "الضعفاء" و"الأقوياء" داخل جماعة رومة. حينئذ وجد في هذا الموضوع مناسبة رائعة لا لكي يصحّح ما قاله في غل، بل ليكمّل معطيات غل حول المسألة اليهودية. كان قد قال في غل 3: 19: "فلم الناموس إذن؟ إنما أضيف بسبب المعاصي حتى مجيء النسل الذي جُعل له الموعد". كان نظام الشريعة مرحلة مؤقتة في تاريخ الخلاص. وقد جعل مجيء المسيح له حداً. زيدت الشريعة. إنها على هامش مخطّط الخلاص، لأنها لا تحرّر بشكل مباشر، بل تتدخّل بسبب المعاصي. هل تراجع بولس عن قوله في روم؟ كلا. فإذا فسّرنا عبارة غل على ضوء روم 4: 15 (الناموس ينشىء الغضب. فإنه حيث لا يكون ناموس لا يكون تعدٍ. الناموس يجعل الإنسان يقرّ بخطيئة)؛ 5: 20 (دخل الناموس حتى تكقر الزلّة. ولكن حيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة)؛ 7: 7- 13 (أو يكون الناموس خطيئة؟ كلا وحاشا! بيد أني ما عرفت الخطيئة إلاّ بالناموس...)، نرى أنها تعني أن الشريعة تزيد مسؤولية الخاطىء وتثير التعدّيات. فهي بشكل مباشر تكشف للإنسان عبوديته، وبشكل غير مباشر تحرّك فيه انتظار المخلّص.
حين كتب بولس ما كتب حارب في الوقت عينه حذَر المسيحيين المتهوّدين منه، وهكذا أصاب بكلامه هدفين معاً: فالقضية التي يحارب من أجلها في رومة توافق تلك التي سيدافع عنها في أورشليم.
إذا وضعنا جانباً ف 9- 11 التي سندرسها فيما بعد، نجد إشارات تدلّ على رغبة بولس بأن يبيّن أنه لا ينسى مكانة اسرائيل المميّزة في مخطّط الله الخلاصي. نقرأ في 1: 3 عن المسيح "الذي وُلد من نسل داود، على حسب الجسد". في 1: 16 و2: 9- 10، نجد عبارة "اليهودي أولاً ثم اليوناني". كما نقرأ اعتباراً في 3: 1- 2: "إذن، فما فضل اليهودي؟ أم أي نفع للختانة؟ إنه جزيل على كل حال. وهناك اعتبار موازٍ في 3: 9: "إذن، ماذا؟ هل نحن (اليهود) أفضل منهم؟ كلا. فإنّا قد بيّنا من قبل، أن الجميع، يهوداً ويونانيين، هم تحت الخطيئة". وفي 3: 31: "إذن، أفنبطل الشريعة بالإيمان؟ معاذ الله! بل نثبت الشريعة". نلاحظ أن في هذا النصّ كما في 3: 19، كل ما تقوله الشريعة يستعيد إيرادات المزامير والأنبياء. ولفظة شريعة هنا لا تدلّ فقط على الشريعة الموسوية بل كما في مز 119 على الكتاب المقدّس كله، على العهد القديم الذي يكمّله التدبير المسيحي ويفتحه على شموليّة الخلاص. وسوف نبيّن فيما بعد أن 7: 7- 25 ليس هجوماً على الشريعة الموسوية. الموضوع هو كل شريعة إلهية بما فيها الشريعة الإنجيلية.

خاتمة
وهكذا تعرّفنا إلى جماعة رومة ساعة كتب بولس إليها. كما حاولنا أن نكتشف الهدف الذي توخّاه حين كتب روم. هل وصلنا إلى الجواب الشافي؟ كلا. ولكننا قدّمنا مختلف المواقف والتفاسير، وفتحنا طرقاً قد تساعد كل واحد على اكتشاف بعض الغنى الذي تزخر به هذه الرسالة الطويلة. فإن كان "الضعفاء" هم اليهود، وقد صاروا كذلك بعد أن طردهم كلوديوس من رومة. وإن كان "الأقوياء" هم الوثنيون الذين فرضوا نفسهم على كنيسة تأسّست في الأصل على عناصر يهودية، نفهم أننا في الواقع أمام العلاقات بين العالم اليهودي والعالم الوثني. أمام التفاهم بين مجموعتين قد تقسمان الكنيسة. فالمسيح هدم الحاجز الذي يفصل بينهما، فلماذا تبني كل واحدة حواجز جديدة لتستبعد الأخرى وكأن الخلاص محصور بفئة واحدة؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM