البيان الختامي

البيان الختامي

في هذه الأيام المباركة التي تربط عيد الميلاد بالسنة الجديد، اجتمع قرابة مئة شخص من أجل الصلاة والدراسة والتأمّل حول موضوع الآيات والمعجزات في الكتاب المقدّس.
أما المبدأ الذي انطلقنا منه فهو في خطّين. من جهة تنير حياتَنا قراءةُ الكتاب المقدس فلا يعود حرفًا جافًا ولا كلمة ميتة. ومن جهة ثانية، يُلقي كلام الله بضوئه على حياتنا فيخلقنا من جديد، يومًا بعد يوم يبدّل نظرتنا إلى الأمور وعقليتنا، بانتظار أن يبدلّ أقوالنا وأعمالنا، بل كل حياتنا.
لهذا، وفي عالم يتحدّث فيه الناس عن ظهورات كثيرة بعضها صحيح وبعضها كاذب أو ربّما مرتبط بمرض من الأمراض، عن أشفية تعلَن ويجتمع الناس حولها، عن ظواهر ليس أقلّها حضور الآب ترديف أكثر من مرّة إلى لبنان، في مثل هذا العالم، أردنا أن نستمع مرّة أخرى وفي هذا الإطار إلى كلمة الله.
فبعد النظرة اللاهوتية التي وضعت الاساس، كانت انطلاقة من يسوع صانع المعجزات حيث ولادته هي آية الآيات كما نعرف منذ أشعيا النبّي، كان تشديد على ارتباط الكلمة بالمعجزة. فكما أن الله يخلق بكلمته، فهو في المعجزة ما زال يتابع عمل الخلق. قرأنا معجزات سفر الخروج التي لم تدوّن حالاً وكأنها "تقرير" من أجل الصحافة. بل دوّنت بعد سنوات وأجيال فحاول المؤمنون أن يقرأوا نداء الله الحاضر في كل حياتهم، سواء لينجّيهم من مضطهديهم البشر أو من أعداء الصحراء التي هي الجوع والعطش والظلمة والحيات السامة والأعداء. وألقينا نظرة إلى دورة إيليا وأليشاع، ساعة عبادة البعل تهدّد عبادة الإله الواحد في أرض إسرائيل. وامتزجت الديانة بالروح الوطنيّة. فانقسم الناس حزبان يتصارعان. وصار الدفاع عن ديانة يهوه حربًا على عنصر كنعانيّ. ولهذا كان قتل بسيط في أيام إيليا ثم مذابح مع الملك ياهو الذي بارك أليشاع عمله. وفي زمن تدوين الخروج النهائي، أحسّ الشعب العبرانيّ بضعفه فأعتقد أن الله معه: فعل، قتل... وظلوا يردّدون هذه الأمور... وفي أي حال لم يفهموا تدخّل الله الذي أخرجهم من أرض مصر إلاً على ضوء حاجة ثانية وهي إخراجهم من المنفى الذي يعيشونه في الذلّ في بابل. وهكذا أضاءت حياتهم على التعبير على كلام الله. ولكن كل تعبير يجب أن يتنقّى بما تدخل فيه من عوامل إنسانيّة. المخلَّص الحقيقي ليس هذا الشعب أو ذاك، ليس هذا الشخص أو ذاك، بل الذي يخاف الله. فالسحرة منذ البداية عرفوا أن إصبع الله تفعل ما تفعل، وصمتوا. على مثال ما فعل أيوب حين رأى مذهلات الله. أما فرعون الذي لا يُذكر اسمه لأنه موجود في كل معاند لا يتراجع بسهولة عن خطيئته، عن استغلال أخيه، عن سيطرة شبه إلهيّة، فقد أراد المساومة. ماذا يبقى له إن ذهب العبرانيون من أرضه؛ ولما رأى أن "الله" بفم موسى يطلب كل شيء، كان هذا الطلب سببًا لقساوة قلبه. سوف يسكت لموت بكره ولكنّه سيعود.
اعتاد الإنسان في الشرق القديم سواء العبرانيّ أو غيره، أن يبحث عن سبب لما يصيبه من ألم وموت. فعزا ذلك إلى الإله أو الآلهة التي تعاقب. رأى في ذلك علامة. هو اكتشف يد الله وانتظر من هذه اليد أن تبتعد عنه على مثال ما فعل أيوب حين طلب من الربّ أن يمهله ليبلع ريقه.... ذاك هو الوضع الواقعيّ الذي فيه يعيش عدد كبير من الناس. ضاع عندهم الدين الحقيقيّ الذي هو طاعة لله وارتباط به، فأخذوا بتديّن مبنيّ على خوف من المستقبل، على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعيّ. يذهبون للصلاة إلى معبد من المعابد، ويعرّجون في طريقهم عند ساحرة أو عرّافة. هذا ما يسمّيه إيليا النبّي: يعرج بين الجانبين. تارة يستند إلى الإله الحقيقيّ وطورًا إلى آلهة نصنعها على صورتنا ونريد منها أن تطيعنا. أما المعجزة الكبرى في حياة إيليا فهي ساعة أرسله الرب من جديد إلى رسالته بعد ذاك اللقاء العجيب في حوريب.
وقرأنا الأناجيل الأربعة فاكتشفنا في المعجزات تعليمًا يتوجّه إلينا. يسوع هو المعلّم الحاضر في جماعته. هو الذي يدعونا إلى الإيمان. هو الذي يحمل إلينا خلاص. هو حضور مجد الله في العالم وهو يدعونا إلى ولادة ثانية. وما فعله يسوع سيفعله الرسل فيتابعون عمله من شفاء المرضى وطرد الشياطين، وكل هذا من أجل تعليم يعلن أن ملكوت الله قد جاء في شخص يسوع. فالمخلّع نال نعمة الشفاء فكأن يسوع خلقه أن جديد. وقد نال نعمة الغفران. وهكذا تبدّلت حياته كلها نفسًا وجسدًا. والأعمى منذ مولده شفي من عماه. ولكن المهم هو شفاء من عمى آخر. وهو يطلب مسيرة طويلة قادته إلى الاعتراف بابن الإنسان أو بابن الله، ولكنّها قادت الآخرين من عيون تنظر إلى عمى يثبّتهم في الخطيئة، ورفض الإيمان بيسوع.
هنا نطرح السؤال: هل كان الكتاب المقدّس كله سردًا لعجائب الله؛ كلا. فقد بدأ بالعجيبة الأولى، عجيبة الخلق التي تتواصل وسوف تتواصل حتى الخلق الجديد. وعلى مستوى التاريخ كانت معجزة الخلاص من جماعة أوباش صارت شعبًا منظمًا يسير بقيادة موسى كما في تطواف دينيّ. فالربّ الحاضر يعمل في الخفاء، وهنيئًا لمن يعرف أن يكتشف عمله، و"معجزاته" هي حديث حميم بينه وبين الذي نال النعمة. ولهذا، طلب يسوع منهم أن يسكتوا. هناك شرح تأويليّ. ولكن لماذا لا يكون السكوت وقتًا نأخذه لنسمع كلمة الله، لنحسّ بلمسة الله. فالخروج من الذات وإذاعة الخبر ليسا أفضل الطرق لنفتح قلبنا للآية. بل قد يكون ربّما تعويضًا وبحثًا عن شهرة بعد أن كانت حياتنا مغمورة. فلإعلان المعجزة مخاطرها حتى على يسوع كما يقول إنجيل مرقس. كل هذه الضجّة جعلته يهرب إلى البرّية، إلى الصمت. ولها مخاطرها أيضًا بالنسبة إلينا خصوصًا حين يجهلنا الآخرون.
عمل الله، عمل المسيح، عمل خفيّ. ونحن نبحث عنه في مظاهر وظواهر. إن قيل لكم المسيح هو هنا أو هناك فلا تصدّقوا. مرور المسيح كالبرق، كالسارق. فطوبى لمن يعرف أن ينتظره، أن يكتشفه، يكتشف حضوره. قال: أبي يعمل دومًا وأنا أعمل. هو لا يتوقّف عن عمل "المعجزات" فينا حتى يوم السبت. هناك ما تراه عِوننا، ولكن الكثير الكثير لا نكتشفه إلاّ فيما بعد، كما قال يسوع لبطرس عند غسل الأرجل.
شفى يسوع مرضى. فهل شفى جميع المرضى؛ كلا. وكان الشفاء مناسبة لقاء. وهو ما زال يشفي كل يوم من يقبل نعمة الشفاء، أي يستفيد من كل ظروف حياتنا ليتابع الحوار معنا. ليدعونا إلى الانطلاق معه في الطريق. أقام يسوع الموتى. كل ما يُروى أربع معجزات، ولكن المعجزة الكبرى هي عند موت كل واحد منا. ساعة نقوم تكون المعجزة العظيمة. أقام يسوع لعازر ولكنّه مات أيضًا. أما القيامة الحقّة فلا تعرف الألم ولا الموت، لا الشرّ ولا الظلمة، بل هي نور وسعادة.
ماذا اكتشفنا على ضوء كلمة الله التي حاولنا أن نقرأها في هذه الأيام البيبليّة الأولى؛ الله حاضر في خلقه، حاضر في عمل الخلاص. ويسوع الذي أجرى المعجزات على طرق الجليل واليهودية، ما زال حاضراً معنا الآن وحتى نهاية العالم. ولكنه لم يكن الملك الذي يطعم الخبز للجموع الجائعة، ولم يكن المسيح الذي يساعدنا على أعدائنا، ولم يكن صاحب المدهشات الذي يجعل الناس تركع حين يرمي نفسه عن جناح الهيكل أو ينزل على الصليب وكأنه ما صُلب. كلها تجارب يسوع وتجارب لنا.
أما يسوع فيرى المعجزة في كلمة قالها قائد المئة. ورأى الانجيلي خلاصًا عجيبًا نالته تلك الخاطئة. فحين نرى الذين حولنا يسيرون في طريق القداسة والتضحية والعطاء، أما هي معجزات متواصلة يجريها العالم؛ وحين نعرف أن نقرأها، ننسى سائر المذهلات التي تجمع الناس في زياحات وتجمّعات يستفيد منها بعض المسؤولين ليستعبدوا شعبًا فشلوا في زرع الأمل في قلبه. حين نكتشف كلمة الله في طفل، واستسلام مريض لله في أعنف ساعات مرضه، وتحوّل حياة شاب تحوّلاً عميقًا، ننسى الأمور الحسيّة التي نراها أو نسمعها فتمنعنا من رؤية المسيح وسماع كلمته في قلوبنا.
في تهدئة العاصفة، سأل يسوع التلاميذ الذين طلبوا مساعدته: لماذا أنتم خائفون يا قليلي الإيمان؛ إذا عشنا في الخوف، بحثنا عن الخوارق المعجزات. أما إذا عشنا في الايمان، فنصبح مثل توما في الحقبة التالية من حياته: ما عاد يطلب أن يرى وجهًا ويلمس جراحًا. عرف أن يسوع هو الربّ الإله. فسجد راكعًا: ربي والهي. وحيث يكون الربّ والإله فهناك المعجزة.
الخوري بولس الفغالي

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM