الفصل العشرون: آية تكثير الخبز

 

الفصل العشرون
آية تكثير الخبز
يوحنا 6: 1- 15

1 بعد ما مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل وهو بحر طبرية
2 وتبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى
أ 3 فصعد يسوع إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه
4 وكان الفصح عيد اليهود قريبًا

5 فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعاً كثيرًا مقبل إليه.
6 فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء
ب 7 وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه علم ما هو مزمع أن يفعل
أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمائتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئًا يسيرًا

8 قال له واحد من تلاميذه وهو اندراوس أخو سمعان بطرس
9 هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان
ج ولكن ما هذا لمثل هؤلاء
10 فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون

د وكان في المكان عشب كثير
فاتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف

ج ج 11 وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزَّع على التلاميذ
والتلاميذ أعطوا المتكئين
وكذلك من السمكتين بقدر ما شاؤوا

ب ب 12 فلما شبعوا قال لتلاميذه
اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء
13 فجمعوا وملأوا اثنتي عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت
عن الآكلين

أ أ 14 فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع
قالوا
إن هذا هو بالحقيقة النبيّ الآتي إلى العالم
15 وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكًا
انصرف إلى الجبل وحده.

1- تحديد النص
يظهر التضمين من خلال كلمات عدّة تتردّد في أطراف النص (آ 1- 4 وآ 14- 15). من هذه الكلمات نذكر: "أبصروا"، "آياته"، "يصنعها" (آ 1، 2، 14) "وجبل" (آ 3، 15). ونلاحظ أيضاً أن هناك تضاد بين عبارة "مع تلاميذه" (آ 3) وكلمة "وحده" (آ 15). تغيّرت الأماكن الجغرافية بانتقال يسوع من أورشليم (5؛ 1) إلى بحر الجليل (6: 1) ومن الجبل حيث انصرف يسوع لوحده (6: 15) إلى البحر مجدّدًا كي يعبره مع تلاميذه إلى الضفة الثانية (6: 16).
يشكّل إذًا يو 6: 1- 15 وحدة مستقلّة عن النصوص التي سبقته، بهيكليته (التضمين) وبموضوعه (الموقع الجغرافي الذي جرت فيه الأحداث).

2- الإطار البعيد
ينتمي يوحنا 6 إلى كتاب الآيات 2- 12 وهو يشكّل وحدة مستقلّة بموضوعه الذي يرتكز على تكثير الخبز والسمك من أجل إطعام الخمسة آلاف الذين سمعوا بآيات يسوع فتبعوه (6: 2).
والفصل 6 ما هو إلاّ مرحلة تُظهر فكرة لاهوتية تتصل بما تقدّمه من نصوص وبما أتى من بعده. جدّد يسوع العالم بإظهاره لمجده (2: 1- 11)، وبإعلانه للهيكل الجديد كصلة وصل محيية بين الله وشعبه (2: 14- 19)، وبإعطائه للإنسان فرصة الولادة الجديدة (3) وفرصة نيل الحياة (4) فزالت محدودية العبادة وحلّ الروح والحقّ مكانها.
بالإضافة إلى ذلك أعلن عن كلامه المحيي بواسطة شفائه لابن عامل الملك (4: 49)، وربط إرادة الإنسان بالحصول على الخلاص (5: 6)، فظنّه الناس "المنتظَر" بتكثيره للخبز وبشفائه للمرضى، وبسيره على المياه (6)؛ أرادوا إعلانه ملكًا فانسحب لأنهم عجزوا عن فهمه. سبَّب بذلك شكوكًا كثيرة حول هويته فأصبحت كلمته صعبة القبول فانقسم الناس من حوله (7: 40)، وكثرت الخلافات من أجله (8)، فتبعَه من فهمَه وآمن به، وتركه الباقون. أعلن نفسه بعد ذلك نور العالم الذي ينير السائرين في الظلام (9) ويكمِّل الشريعة ويقود الشعب ويرعاه لأنه الراعي الصالح المنتظر (10). وينتهي الكتاب بقيامة لعازر من القبر التي أظهرت يسوع القيامة والحياة لكل من آمن بأنه "المسيح ابن الله الآتي إلى العالم" (11: 27، 6: 14 ب).

3- الإطار القريب
بعد الكشف عن صلة الوصل التي تجمع بين يو 6: 1- 15 وكتاب الآيات 2- 12 يمكننا الآن النظر إلى ما يربطه بالنصوص التي تحيط به مباشرة.
تبرز وحدة الآب بالابن من خلال الأعمال التي يقوم بها الابن تجاه البشرية (5: 19- 23 و36)، إذ إنه يقيم ويحيي الذين سمعوا كلامه وآمنوا بمن أرسله (5: 24). وكل شيء وُجد في الكتب وخاصة عن لسان موسى فهو يشهد للمسيح نفسه (آ 39، 46). لا يبغي المسيح بقدوم البشر إليه المجد الأرضي (آ 41) لأنه يتجنّب تصرّفات الإنسان الذي يهتمّ بتلقّي المجد من أفراد جنسه (آ 44). تعلّق الشعب بالكتب وبموسى ونسي بأنها تشير إلى المسيح فانغلق على نفسه وأصبح عديم القدرة على رؤية كل ما يأتي من الله الذي أراد أن يكمّل شريعته. رفض الشعب الإيمان بيسوع كمُرسل من الآب وكواهب للحياة وتعلّق به محاولاً جعله حاكمًا بشريًا كما هي الحال في 6: 14- 15.
رفض يسوع نوايا الشعب وانصرف لأنهم لم يفهموه (6: 15 ب).
مشى يسوع على البحر وعبره (6: 19) فلم يعرفه التلاميذ (آ 20)، اخترق الظلام وتحدّى عوامل الطبيعة معلنًا نفسه سيّدًا عليها (آ 17- 18).
غيّر يسوع بذلك مفهوم التلاميذ وإيمانهم فأصبح بالنسبة إليهم ليس شخصًا عاديًا فيه قوّة موسى الآتية من الله. بل هو أعظم من ذلك لأنه بعمله هذا أعلن عن ألوهيته ونسب اسم الله "أنا هو" (20) إليه جاعلاً منهم أشخاصًا مشابهين لموسى بموقفهم منه (خر 3: 14). إنه خروج جديد قاده الله بنفسه وليس بواسطة نبي عادي. تكلّم يسوع مطولاً بعد ذلك وخاصة عن نوايا الشعب الذي يطلبه ليس من أجل الآيات بل من أجل الطعام المادي الفاني (آ 26). وحاول أن يشفي إيمان من تبعوه بمقارنته بين المن والخبز المختوم من الآب نفسه، بين ما أعطاه هو وما أعطاه موسى (آ 27- 33) وقال بأنه خبز الحياة (آ 35) كل من آمن به نال الحياة الأبدية وقام في اليوم الأخير (آ 40).
والخبز المختوم من الآب ما هو إلاّ الابن (آ 41، 48) الذي قدّم نفسه لكل من أقبل إليه (آ 51).
نستنتج من خلال ذلك بأن الابن نزل من السماء بألوهيته واتّحد مع العالم ببشريته، ووهب القادم إليه جسده ودمه فأعطاه الحياة الأبدية (آ 58). المسيح إذًا ليس بملك مُلكه معرّض للزوال، بل هو الإله الملك الذي أتى لكي يبني مملكته على كاهل كل من آمن به واتّحد معه بسماعه لكلمته وبتناوله لجسده ودمه كما هي الحال مع التلاميذ (آ 67- 71).

4- شرح النص
أ- تقسيم النص
يقسم النص إلى ستة أقسام متوازية فيما بينها: أولاً يظهر التوازي واضحًا بين آ 1- 4 و14- 15 بسبب ترداد كلمتان تنتميان إلى حاسة النظر "أبصروا" (آ 2) و"رأى" (آ 14)، وكلمة "آياته" (آ 2، 14)، و"الجبل" (آ 3 و15). والتضاد بين "مع تلاميذه" (آ 3) و"وحده" (آ 15).
ثانيًا: بين آ 5- 7 وآ 12- 13 بسبب العلاقة بين العبارتين "جمعًا كثيرًا" (آ 5)، "واجمعوا الكسر" (آ 12) لأن فعل "الجمع" يتردّد في كلتا الحالتين، كما وأنّا نلاحظ الرابط الذي يجمع فعل "أكل" (آ 5) وكلمة "الآكلين" (آ 13). ولا يُطرح في آ 5- 7 وآ 12- 13 يو "موضوع الخبز" (آ 5 و7) والكسر (آ 12، 13). هناك أيضًا تضاد بين "لا يكفيهم خبز" (آ 7) و"فضلت عن الآكلين" (آ 13).
ثالثًا: بين آ 8- 10أ وآ 11 وذلك بواسطة الخمسة أرغفة والسمكتين (آ 8- 10) الذين سيستعملهم يسوع لصنع آياته (آ 11).
رابعًا: تبقى آ 10 ب التي تصف المكان وتركّز على عدد الأشخاص الموجودين. وهنا يمكننا القول إن النص يتمحور حول هذه الآية التي تنفرد عن باقي الآيات.

ب- لاهوت النص
في شرحنا للنص (6: 1- 15) سننطلق من الأطراف محاولين التركيز على الدافع الأساسي الذي حرّك الحدث وأعطى للخبر معناه الحقيقي.
أولاً: الآتي إلى العالم (1- 4 و14- 15)
يؤكّد الإنجيلي في بداية النص على صفة يسوع القائد الذي يسير دائمًا في المقدّمة "وتبعه جمع كثير" (آ 2). ويعود فيذكر الدافع الذي من أجله سار وراءه هذا الجمع، ألا وهو رؤيته للآيات التي صنعها يسوع تجاه المرضى (آ 2). في الواقع، إن هدف هذه الآيات يظهر واضحًا: أولاً إبراز صورة يسوع المحيي، فهو صاحب السلطان الذي يشفي بواسطة كلمته غير المحدودة لا بالزمن ولا بالمسافات، من أجل غاية واحدة ألا وهي إحياء إيمان كل من يلتقي به ويطلب الحياة (4: 52- 54). وثانيًا خلق إرادة الشفاء والخلاص داخل وأفراد شعب غير قادر على التحرّك من دون تدخّل مباشر من يسوع المخلّص (5: 6).
وأحدثت هذه الآيات ردّة فعل معادية لدى الفعاليات اليهوديّة ضدّ يسوع (5: 16- 18) لأنه قال بأنه ابن الله وساوى نفسه به 5: 18.
نستنتج من ذلك أن على الشعب الذي شهد هذه الآيات أن يأخذ موقفًا واضحًا من صانعها إما أن يتوب ويؤمن فيسمع وصايا يسوع (5: 14) ويحيا (5: 24) وإمّا أن يرفض الإصغاء لصوته فيأبى الإيمان بكلمته ويبقى على مستوى حرفيّة الكتب دون إرادة الدخول في ديناميكية الحياة الأبدية (5: 38- 40).
أدخل الإنجيلي آية تكثير الخبز ضمن هذا الخط بحيث إن الذين أبصروا آيات يسوع تجاه المرضى (آ 2) رأوه يُطعمهم هم أيضًا من بَرَكته فأعلنوه النبيّ المنتظر الآتي إلى العالم (آ 14ب). إن النبيّ المنتظر هو الذي يقيمه الربّ الإله من وسط الشعب أي من المؤمنين به فيسمعونه ويتفادون بكلمته الموت المحدق بهم (تث 18: 16). وهذا النبيّ يكون على مثال موسى يحمل كلمة الله وينقلها إليهم حتى إنهم إذا لم يصغوا إليها ولم يعملوا بها يُحاسبون.
أما إذا أردنا التأكّد من صحّة كلمته، علينا النظر إلى مدى فعاليتها: "فإن تكلّم النبيّ باسم الربّ ولم يتمّ كلامه ولم يحدث، فذلك الكلام لم يتكلّم به الربّ" (تث 18: 22). وبما أن يسوع أظهر سلطان كلمته من خلال شفائه للمرضى وتكثيره للخبز، لم يعد هناك من مكان للشكّ في تنصيبه النبيّ المنتظر الذي بشّر به موسى.
أما بالنسبة لعبارة "الآتي إلى العالم" (آ 14)، فهي تخرجنا من التفكير اليهودي الذي يريد نبيًا أقامه الله من داخل الشعب وليس من خارجه. فكلمة "العالم" شاملة بحدّ ذاتها. لذلك فعبارة "الآتي إلى العالم" تجعل من يسوع شخصًا يتعدّى بكيانه وبمصدر مجيئه حدود الجماعة اليهودية والبشرية جمعاء. إن الـ "التعريف تحدّد الشخص المشار إليه وتجعله مميّزًا عن "كل إنسان آتيًا إلى العالم" (1: 9). فالآتي إلى العالم إذًا هو المسيح ابن الله الذي اعترفت به مرتا شقيقة لعازر (يو 11: 27) وشهدت له الشريعة المكتوبة على أنه قدوس الآب المرسل إلى العالم (10: 34- 36). أتى يسوع إلى العالم كي يحييه ويكشف له صورة الآب فيؤمن أن الآب فيه وأنه في الآب (يو 10: 39). عوالم كهذه تعلن عن يسوع الإله الموجود في حضن الآب قبل وجود العالم، لذلك فهو أعظم من موسى الذي بشّر به.
بعد أن علم يسوع بإزماعهم على خطفه وتنصيبه ملكًا عليهم، انصرف إلى الجبل (آ 15) كما هي الحال في آ 3 حيث انفرد بتلاميذه. إن التوازي بين آ 3 وآ 15 يوضح لنا مدى أهمية الموقف المطلوب من الذي يرى آيات الآتي إلى العالم. اختار يسوع الجبل، كي ينفرد مع تلاميذه (آ 3) فجعل من الجبل موقعاً مهمًّا يرمز إلى مدى أهمية التلمذة له كمعلّم والإصغاء إلى كلمته الآتية من مسكن الله نفسه [لأن الجبل على حدّ تعبير الكتب المقدسة هو المكان الذي يسكن فيه رب القوّات (تك 22: 14؛ خر 3: 12)]. وعندما انفرد يسوع بصعوده مجدّدًا إلى الجبل، لم يتبعه أحد (آ 15) وذلك للإشارة إلى شيئين مهمّين: أولاً: بصعوده إلى الجبل أعلن عن عرشه أي مسكنه كابن الله. ثانيًا: كشف يسوع بانفراده عن نوايا الخمسة آلاف الذين رفضوا أن يتبعوه كإله لينالوا الحياة الأبدية إذا آمنوا به وتتلمذوا على يده. نظروا إليه كملك بشري يخلّصهم من الجوع ويؤمّن لهم السلام الأرضي لأنه قادر على إنقاذهم من ضياعهم كملك بشري.
موقف الخمسة آلاف كان واضحًا، وهو عجزهم عن فهم الرسالة التي أراد بها يسوع لفت أنظارهم إليه كنبع للحياة الأبدية ومصدرها.
ثانيًا: الآتي إلى العالم وموقف التلاميذ (آ 5- 7 وآ 14- 15)
ماذا يجدر بالتلميذ إذًا أن يفعل بحضور معلّمه؟ ما هو الموقف المتوجّب عليه؟ وجّه يسوع المعلّم كلامه إلى اثنين من تلاميذه كي يحثّهما على اكتشاف ما هما عليه بالرغم من وجوده بقربهما. وجّه سؤاله إلى فيليبس قائلاً: "من أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء؟" (آ 6). ألم يكن يعلم أن الجواب على سؤال كهذا سيكون سلبيًا، ولكن رغم ذلك انتظر ردّة فعل التلميذ الحائر. أعطى فيليبس مكانًا للمال في مشكلة كهذه، ولكن بالرغم من فعاليته، يبقى المال عديم القدرة على توفير ما للخمسة آلاف من حاجة كي يقتاتوا (آ 7). إذًا نجح المعلّم بخلق قناعة عند تلميذه فيليبس بأن لا قوة للمادة في مشروع انوجد فيه الآتي إلى العالم.
بعد تحقيق الآية وتكثير الخبز، توزّعت الأرغفة على الخمسة آلاف. فطلب يسوع من التلاميذ جمع الكسر الفاضلة (آ 12). تحقّق التلاميذ بعملهم هذا من بركة الله التي لا تنضب لأنهم لمسوا بأيديهم الكسر التي فضلت عن الآكلين (آ 13). أظهر الآتي إلى العالم بعمله هذا، جانبًا جديدًا من هويته ألا وهي قدرته على الخلق.
إن التقارب بين العبارتين "جمعًا كثيرًا" (آ 5) و"اجمعوا الكسر" (آ 12) يدفعنا للتفكير بفعل التوازي الذي يجعل من الكسر رمزاً لما قد يصير إليه هذا الجمع الحاضر. فالكسر التي أمر يسوع بجمعها مع الحرص على ألاّ يضيع شيء منها (آ 12) جُمعت في اثنتي عشر قفة (آ 13). والعدد 12 يرمز إلى أسباط إسرائيل الإثني عثر أي شعب الله الكامل. لذلك فالكسر الفاضلة تشير إلى شعب جديد كامل سيخلق على يد الآتي إلى العالم من خلال التلاميذ.
إن الفعل "شبع" (آ 12) الذي يعني الاكتفاء يؤكّد ما قلناه، لأن الكسر ستُعدّ لشعوب جديدة تتعدّى الشعب اليهودي.
[أما الكسر الفاضلة التي أراد يسوع جمعها فهي تربطنا بالآية 26 التي تقول: "أنتم تطلبوني، لا لأنكم رأيتم الآيات بل لأنكم أكلتم الخبز وشبعتم". بجمع الكسر خاف يسوع بإعتقادي على الجمع الذي أكل الخبز واكتفى به. زاغ نظر الجمع عن المسكن (الجبل) الذي توجّه إليه يسوع وانحرف عن الهدف الذي صُنعت من أجله الآية ألا وهو الإيمان بالذي أرسله الله إليهم (6: 29)].
فالمطلوب شيئان: أولاً الابتعاد عن قناعة فيلبس وخوفه واعتماده على المادة، وثانيًا عدم العمل للطعام الفاني، والعمل للطعام الذي يبقى فيصير حياة الأبد (6: 27). (سأتطرّق لموضوع الكسر في المقطع التالي).
ثالثًا: الآتي إلى العالم وآية تكثير الخبز والسمكتين (آ 8- 10أ وآ 11)
بعد اعتماد خلق الحيرة والتساؤل عند التلاميذ (آ 5- 7) وكشف قناعاتهم التي ظهرت شبيهة بموقف الخمسة آلاف حين أرادوا خطف يسوع وجعله ملكًا (آ 14- 15)، انتقل الآتي إلى العالم للعمل (آ 8- 11). لم يكن ليسوع غاية سوى قلب المقاييس والانتقال من وضع النقص والحرمان (8- 10) إلى حالة الاكتفاء والفيض الناتجين عن تدخله المباشر في حياة الجمع (آ 11).
لم يكتف يسوع بشاهد واحد على ما يجري، بل زاد على شهادة فيليبس شهادة تلميذ آخر وهو اندراوس أخو سمعان بطرس (آ 5، 8). ارتكز الإنجيلي بذكره لأسماء الشاهدين على تث 19: 15 ب: "ولكن بقول شاهدين أو ثلاثة شهود تقدّم القضية". بذلك صار التلاميذ أصحاب قضية تحيا إن شهدوا لها وذاعوا أمرها بين الناس. إذًا أصبح التلميذ ملزمًا بما رأت عيناه (الخمسة آلاف رجل، والخمسة أرغفة والسمكتين والاثنتي عشرة قفة) وسمعت أذناه (اجعلوا الناس يتكئون، وشكر، وأمر بجمع الكسر الفاضلة)، ولمست يداه (فجمعوا، ملأوا) لأنه عاش الحدث في عمقه كما يؤكد يوحنا في رسالته الأولى عندما يقول: "ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بعيننا، ذاك الذي تأمّلناه ولمسته يدانا" (1 يو 1: 1). عاش الشهود مع معلّمهم ما عاشه الخادم مع النبيّ أليشاع عندما وزّع العشرين رغيفًا من الشعير على المائة رجل الحاضرين أمامه (2 مل 4: 42- 43).
إن مقارنة آية يسوع بآية النبيّ أليشاع توضح لنا معالم جديدة من السرّ الكامن في شخص يسوع:

آية يسوع (يو 6: 1- 15) آية النبيّ أليشاع (4: 42- 44)
هنا غلام وصول رجل من بعل شليشة (آ 42أ)
معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان (آ 9) وأحضر لرجل الله خبز بواكير عشرين رغيفًا من الشعير وسنبلاً (آ 42ب)
سؤال يسوع من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء (آ 5) تدخّل أليشاع آمراً بتوزيع المآكل على القوم (42ج)
معارضة فيليبس الذي رأى صعوبة الوضع من خلال الفقر المادي (آ 5). ومعارضة اندراوس الذي قال ما هذا لمثل هؤلاء (آ 9) معارضة الخادم: ما هذا لمئة شخص (آ 43أ)
تدخل يسوع من جديد (9 ج- 11)، أمر بجعل الناس يتكئون، أخذ الأرغفة والسمكين وشكر ووزّع على التلاميذ. تدخّل أليشاع من جديد (43ب) أعط القوم ليأكلوا لأنه هكذا قال الربّ إنهم يأكلون ويفضل عَنهم.
فلما شبعوا فضل عنهم اثنتا عشرة قفة (12- 15) فأكلوا وفضل عهم، كما قال الربّ (آ 44).

يمكننا ملاحظة التقارب بين الخبرين (يو 6: 1- 15) و(2 مل 4: 42- 44) ابتداء من وصول الرجل ومثوله أمام أليشاع (آ 42) وحضور الغلام بين الشعب (يو 6: 19) مرورًا بذكر كمية المآكل التي كانوا يحملونها؛ لقد كانت مشتركة من ناحية نوعيتها (أرغفة شعير). أما بالنسبة للتدخّل الأول من قبَل أبطال الآيتين فهو يختلف من الناحية التعليميّة إذ إن يسوع طرح السؤال قبل إعطاء الآمر "من أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء" (آ 5).، أما أليشاع فقد أعطى أمرًا كان متأكّدًا من حصوله دون الاهتمام بردّة فعل خادمه "أعط القوم ليأكلوا" (2 مل 4: 42). وأتت بعد ذلك معارضة التلاميذ كمي تُعطى الحدثَ أهمية تاريخية واضحة لأنهم قاموا بوضع الحواجز التي تعيق فعليًا تقدّم وتطوّر المراحل (يو 6: 5، 9ب) كما جرى بالضبط مع خادم أليشاع الذي ذكر العدد وحدّد العائق (2 مل 4: 42). عقل الإنسان ووسائله باتت محدودة لذلك فالبركة الخلاّقة تطلب تدخّل الله نفسه. نفّذ أليشاع كلمة الله مؤمنا بفعاليتها وبقدرتها على الخلق مُظهرًا نفسه نبيًا مطيعًا لإلهه (2 مل 4: 43). أما يسوع فقد أخذ الخبز بنفسه "وشكر" و"وزَّع" على التلاميذ. أخذ يسوع المبادرة فغيّر مجرى الأحداث وأعطى لبركته صفة خلاّقة مستمدة من علاقة مباشرة ومميّزة مع الآب "وشكر" (يو 6: 11). وعندما "وزّع على التلاميذ" أعطى للتلاميذ دورًا فاعلاً في مهمته تجاه البشرية لأنهم سيتيحون لعمله الخلاصي أن ينتشر في العالم.
ويبقى أن نلاحظ الفضلات التي ذُكرت في الخبرين. فالكسر التي فضلت في يو 6: 1- 15 هي ذات قيمة برزت من خلاله كلمة يسوع التي تقول "اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يبقى شيء" (آ 12). ومن خلال تقييم عددها "اثنتي عشرة قفة" (آ 13)، تشير الكسر إلى شعوب جديدة تحضّر بواسطة التلاميذ.
أما الفضلات في خبر أليشاع، فتظهر لنا كرم الله وفيض محبته كما هي الحال مع يسوع.
يتميز يسوع عن أليشاع بكونه أكثر من نبي يكن بركته أظهرته سيدًا للحدث وليس منفذاً. تكلّم أليشاع فتمّ عمل الخلق، أما يسوع فلم يتفوّه بكلمة لأنه الكلمة التي بوجودها يصبح الخلق فاعلاً.
مقارنة أخرى تبدو لنا ذات أهمية كبيرة نظرًا لموقع النص بين ما ورد على لسان موسى في عد 11: 21. تذمّر الشعب، فقال الربّ لموسى بأنه سيطعم شعبه لحمًا لمدة ستة أشهر (عد 11: 19- 20). ولكن موسى أخذ موقفاً معارضاً ومشكّكًا كما هي الحال مع خادم أليشاع وتلاميذ يسوع وقال: "أفيذبح له غنم وبقر فيكفيه؟ أو يجمع له سمكة البحر كله فيكفيه؟" (عد 11: 22)، ولكن الربّ تدخّل ليقول أيَدُ الربّ تقصرُ الآن عن ذلك؟ الآن ترى هل يتمّ لك كلامي أم لا" (آ 32)؛ فتمّت كلمة الربّ وأطعم الشعب ما وعدهم به (آ 31- 35). إذاً لم يعد موسى بمستوى يسوع في حالة كهذه، لأن يسوع ساوى الله بعمله، أما موسى فقد ساوى نفسه بالتلاميذ الذين كانوا بحاجة لآية كهذه كي يكتشفوا سرّ ألوهية معلّمهم.
ولكن السؤال المطروح هو التالي: لماذا أمر يسوع بجمع الكسر؟
كي يجنّب الخمسة آلاف الوقوع بالشهوة التي سيطرت على الست مئة ألف رجل أي الشعب الذي أقام الله موسى في وسطه (عد 11: 21 و33). أعطى الله مأكلاً لشعبه فنسي هذا الأخير أن يشكر إلهه، ظانًا أن الله وُجد فقط ليس لإحيائه كشعب يشهد بأنه مصدر لكل حياة على الأرض بل من أجل اطعامه وإشباعه. خاف يسوع من موقف كهذا فقال: "أنتم تطلبوني لا لأنكم رأيتم الآيات، بل لأنكم أكلتم الخبز وشبعتم" (يو 6: 26). إن ترداد بعض الكلمات قد يربطنا بالإفخارستيا أي بليتورجية الجماعات المسيحية الأولى ولكن هذا أمر لا نستطيع جزمه لأن تكثير الخبز في يو 6: 1- 15 ما هو إلاّ رمز أشار به يسوع إلى نفسه.
أعطى يسوع الخبز العادي فقدّم نفسه خبزًا حيًا عندما قال: "أنا خبز الحياة من يقبل إليّ فلن يجوع ومن يؤمن بي فلن يعطش أبداً" (6: 35). فهو الخبز الوحيد الذي نزل من السماء لأنه (6: 39) أراد العمل بمشيئة والده الذي أرسله كي لا يهلك أحد من الذين يقبلون إليه ويقيمهم في اليوم الأخير (آ 39). وهذه التقدمة لن تتحقّق إلاّ عندما يأتي عيد الفصح فيتحوّل يسوع إلى ذبيحة ويصبح خبزًا حيًا لكل من آمن به.
صنع يسوع آيته في وقت لم يكن عيد الفصح فيه قد تحقّق بعد (6: 4)، وهذا أسلوب رمزي اعتمده الإنجيلي في مقاطع عديدة من إنجيله (2: 13، 11: 13: 1) كي يشير إلى أن أعياد الفصح اليهودية الذي يعيّده اليهود، لن يكتمل إلاّ بفصح المسيح أي بموته وقيامته.

4- بعض الرموز
أ- السمك
بعد أن أشار السمك إلى العمل الذي استعصاه موسى على الله (عد 11)، قد يعود بنا أيضاً إلى سفر طوبيا الفصل السادس حيث يختار ملاك الربّ السمكة كدواء يزيل روح الشرّ أي يطرد الشيطان الذي يعذّب الإنسان ويفتح عينيه لأنه يشفيه من البقع البيضاء التي تمنع عنه النظر (آ 8- 9). بذلك يمكنّنا ربط نصّ يو 6: 1- 15 بنصّ يو 8: 12 حين قال يسوع: "أنا نور العالم من يتبعني لا يمشي في الظلام بل يكون له نور الحياة"، وبـ يو 8: 44 حين قال لهم أيضًا: "أنتم أولاد أبيكم ابليس تريدون إتمام شهوات أبيكم". فالسمك إذًا بالنسبة ليوحنا يرمز إلى دواء أعطاه للجموع كي يفتح أعينهم ويطرد عنهم روح ابليس فيجلبهم إليه معطيًا إياهم روح البنوّة للآب السماوي أي حياة الأبد.
ويربطنا السمك أيضًا بـ يو 21: 1- 14 حين تراءى يسوع لتلاميذه وذكّرهم بعملهم الرسولي وفتح أعينهم على حقيقة قيامته عندما ناولهم الخبز والسمك (آ 13) لأنه أراد بذلك القول "أنا نفسه" يسوع ما قبل الموت وما بعد القيامة. ويرمز السمك إلى الناس "واتبعاني أجعلكما صيادي بشر" (متّى 4: 9).

ب- الخبز
إن أرغفة الشعير تصنع عادة من أجل الفقراء، لأن الشعير أرخص ثمنًا من القمح (2 مل 7: 1- 16؛ رؤ 6: 6). ولكن لا يوجد أي عنصر يؤكّد لنا ذلك في يو 6: 1- 15. في الواقع إن خبر أليشاع (2 مل 4: 42- 44) يتحدّث عن "خبز بواكير" أي أنه صُنع في بداية الحصاد حتى يقدّم في الاحتفالات الليتورجيّة كذبيحة شكر على عمل الله في تحرير شعبه (خر 23: 19).
في عرس قانا مياه الجرار الستة كانت تهدف إلى التطهير قبل أن تتحوّل إلى نبيذ، وهذا أيضًا عملٌ ليتورجيّ. بذلك يصبح الخبز الذي وزّعه التلاميذ على الشعب وأشبعه، عاملاً يربط بين الخلق الجديد والليتورجيا اليهوديّة.

ج- الأعداد
حاول العديد من شرّاح الكتّاب أن يحمّلوا العدد 5 والعدد 2 رموزًا كثيرة ولكنهم على ما يبدو لا يلمّحان إلاّ إلى صغر نسبةً للخمسة آلاف رجل وإلى عظمة آية يسوع التي صنعها لهؤلاء.

الخاتمة
الخمسة آلاف (آ 10ب): السؤال المطروح بعد بحث طويل كهذا هو التالي: لماذا اعتمد الإنجيلي أن يمحور النص حول آية يصف فيها المكان المغطّى بالعشب ويذكر عدد الرجال المتكئين؟
إن التقارب بين يوحنا وأشعيا يتيح لنا مقارنة العشب المذكور في آ 10ب بالعشب في أش 40: 8. استعمل أشعيا الفن التصويري بتشكيله للتوازي الحاصل بين العشب وكلمة الله:
(آ 8) أ العشب
ب ييبس وزهره يذوي
أ 1 أما كلمة إلهنا
ب 1 فتبقى للأبد
نستنتج من ذلك أن حياة الخمسة آلاف رجل مرتبطة بكلمة الله التي لا تزول، وليس بالعالم الزائل الذي يتكئون عليه. لذلك فالمطلوب هو الإيمان بيسوع الكلمة المرسل من الآب لنيل الحياة الأبدية.
الأب ريمون الهاشم

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM