الفصل السابع: المعجزات في العالم الهلنستي

الفصل السابع
المعجزات في العالم الهلنستي

ماذا نفهم بالمعجزة هنا؟ هي ظاهرة من عالم الطبيعة المحسوسة، تدهش الإنسان فينسبها إلى قوّة فائقة الطبيعة. وماذا نفهم بالعالم الهلنستي؟ حضارة وُلدت بعد مجيء الاسكندر إلى الشرق، فتلاقى فيها الفكر اليونانيّ مع عالم الشرق بدياناته السّرانية ونظرته الخاصّة إلى الكون. أما موضوعنا فهو امتداد لما قلنا عن المعجزات في العالم اليهوديّ. بعد أن قرأنا المدهشات في أدب الرابينيين أو المعلّمين، نتوقّف عند العجائب في العالم اليونانيّ وبالتالي الوثنيّ الذي تحدّث هو أيضًا عن معجزات قامت بها الآلهة بشكل مباشر في معابدها أو بواسطة الفلاسفة.

1- الخلاص الذي يحمله الآلهة
العالم القديم عالمٌ دينيّ في أساسه. يبتعد مثلاً عن شريحة كبيرة من شعب أوروبا، ولكنّه يلتقي في العمق مع العالم الشرقي، عالمنا اليوم، حيث يدخل الدين في كل شاردة وواردة. وحيث نُدخل الله في كلامنا وتصرّفاتنا، وحتى في شتائمنا. من أجل هذا، بدا الاله في وسط حياة البشر. وكانت المعابد أهمّ بناء في المدينة مهما صغرت. وفي الزمن الروماني، كان تمثال الامبراطور المؤلّه ورومة المعبودة في الساحة العامة. وكان الجميع يأتون، طوعًا أو قسرًا، ليقدّموا عبادتهم ويحرقوا البخور.
الاله هو الذي يعطي الحياة ونحن ننشد عطاياه. ولكن قد نخاف من هذا الاله أو ذاك. لذلك جُعلت كل مدينة في حماية إله من الآلهة. فاليونان الذين حاربوا أهل طروادة، ما كانوا انتصروا لولا معونة الالاهة أثينة. ولكن بما أن الآلهة عديدون، فيجب علينا أن نسترضيهم جميعًا لئلا يفلت واحد منهم ويسيء إلى الجماعة أو إلى الأفراد. في هذا الإطار نفهم ما عمله أهل أثينة الذين جاءهم بولس مبشّرًا: بنوا معبدًا كرّسوه للاله المجهول (أع 17: 23). كان لكل إله معبده. وهذا المعبد يكون لإله قد يوجد هنا أو هناك. أجل، حياة الإنسان سريعة العطب. وأمور عديدة تهدّدها. هناك بالدرجة الأولى الجفاف الذي يحمل معه الجوع. فلهذا كانت الصلوات للآلهة لكي ترسل المطر. وإذا كان بعل هو إله المطر في العالم الكنعاني، وهدد في العالم الآرامي، فلرومة إلهها ولليونان أيضًا. والوباء يهدّد الحياة. لهذا تُرفع الصلوات. هذا على مستوى الجماعة. وعلى مستوى الفرد هناك العقم الذي يعارض عطيّة الحياة. قالت حواء إن الله هو الذي أعطاها ولدًا (تك 4). وكذلك قالت النساء في العالم الوثني فذهبهن إلى معابد خاصة يطلبن ولدًا. والموت مخيف وعتبته هي المرض. لهذا، يذهب المريض إلى معبد الاله يلتمس منه الشفاء. وبما أن المرض يدلّ بشكل من الأشكال على الخطيئة التي تفصل الإنسان عن الله، وبالتالي على العقاب الذي يستحقّه المريض، كانت الصلوات والذبائح لإرضاء الآلهة.
الاله يعاقب. وهو يخلّص أيضًا. ولهذا كانت الأناشيد العديدة التي تمتدح الآلهة لما أرسلوه من عون لأحبائهم. ففي قصيدة هوميريّة تعود إلى القرن السادس ق. م، ينشد الشاعر الالهَين كستور وبوليكس اللذين سكّنا العاصفة. بعد أن أعلن أنهما مخلّصا البشر الذين على الأرض (قصيدة 23 سطر 6)، أنشد تدخّلهما في العاصفة فقال: "من على جانب السفن، ينادي البحّارون ابني زوش العظيم. ويذهبون إلى المقدّمة وينذرون لهما حملاناً بيضًا. فالريح العنيفة وأمواج البحر تملأ السفينة. ولكنّهما يظهران فجأة، وينطلقان عبر الأثير بحفيف أجنحتهما. وحالاً يُهدِّئا الرياح العاصفة العاتية ويُسقطا حدّة الموج على بحر عاد يضيء من جديد. تلك علامة طيّبة للبحّارة لا تؤلمهم. وحين يرونهما الناس، يبتهجون بعد أن انتهى شقاؤهم وتعبهم".
هنا نتذكّر مز 107 الذي فيه يروي المؤمنون نجاتهم من البحر. "أمر فثارت ريح عاصفة وهيّجت أمواج البحر، فكانت تعلو إلى السماء وتهبط بهم إلى الأعماق، فترجّحت حياتهم في الخطر... فصرخوا إلى الربّ في ضيقهم، فأنقذهم من سوء حالهم. هدّأ الزوبعة فسكنت، وسكتت أموال البحر. ففرحوا حين سكنت، وهداهم إلى ميناء أرادوها. فليحمدوا الربّ على رحمته وعلى عجائبه لبني البشر" (آ 25- 31). كما نتذكّر تسكين العاصفة في مت 8: 23- 27. العاطفة البشرّية هي هي. وصرخة الإنسان في ضيقه هي هي. والكاتب الملهم حين أراد أن يصوّر حالة الإنسان مع ما في حياته من خطر، استعمل الاسلوب عينه. ولكن هذا لا يعني أن النداء إلى الإله الواحد يشبه النداء إلى الآلهة. الله هو وحده الحيّ. أما سائر الآلهة فلها عيون ولا ترى، وآذان ولا تسمع، وأنوف ولا تشمّ (مز 115: 5).
وسيعود هذا الموضوع نفسه مع "البحر والسفينة والريح والأمواج والهدوء والسكينة والخلاص" لدى شعراء عديدين. مثلاً في القصيدة الثانية والعشرين التي دوّنها تيوكريتس في القرن الثالث ق. م. وفي خطبة ألقاها ايليوس ارستيدس حول اسكلابيوس وسرابيس. وفي صلاة شكر قصيرة رفعها إلى الإله جندي مصري اسمه ابيون فدوّنها في رسالة إلى أبيه: "أشكر الربّ سرابيس: ساعة كنت في خطر البحر، خلّصني في الحال".
نحن هنا أمام صلوات تنسب الخلاص إلى إله من الآلهة، إلى كائن لا منظور (يرونه في رؤية) يكتشفون تدخّله في حدث خلاصيّ. وقد يعلن المصلّي قوّة زوش أو ابولون أو اسكلابيوس أو سيرابيس... الذي جاء إليه وخلّصه في مرض من الأمراض أو ضيق من الضيقات.
معجزات في عالم البحر وفي عالم المرض، ومعجزات على مستوى ظواهر الطبيعة الأخرى. مثلاً يروي بوليبوس في أخباره (16: 12) ما يلي: "يُحكى لدى سكان برجيلية (مرفأ في آسية الصغرى، جنوبيّ أفسس) ويظنون أن تمثال أرطاميس المنتصب في الفضاء لا ينزل عليه ثلج ولا مطر. ويقال الشيء عينه عن تمثال أرطاميس استياس في ياسوس (مرفأ قريب من برجيلية). وقد وُجد مؤرّخون ليؤكّدوا هذه الظاهرة". ولكن بوليبوس يُعمل العقل ولا يصدّق مثل هذه "الخوارق"... ويتابع في النصر عينه: "حين نكون أمام أمور تحافظ على التقوى الشعبيّة تجاه الآلهة، يُعذر المؤرّخون الذين يوردون عجائب وأساطير من هذا النوع. ولكننا لا نقبل كلامهم حين يتجاوزون الحدود".
ويقول بلوترخس في حياة كوريولان (38): "ويروى أن هذا الصوت سُمع مرتين. فكأنهم يريدون أن يجعلونا نعتقد بأمور لم تحصل ويصعب القبول بها: ليس بمستحيل أن يكونوا رأوا تماثيل تذرف الدموع، تخرج منها قطرات دم. فالخشب والحجر قد يدبّ فيهما العفن الذي يولّد الرطوبة، فيأخذان لون الجوّ الذي يحيط بهما. ولا شيء يمنع من أن نظن أن يكون الاله قد استعمل هذه الظواهر ليدلّ على بعض الأحداث. ويمكن أن يُخرج تمثال صوتًا يشبه تنهّدًا، وقد يكون سببه تلك عناصره الداخليّة. ولكن صوتًا مميّزًا وكلمة واضحة... يستحيل وجودهما في كائن لا نفس فيه".
وهكذا حاول بوليبوس وبلوترخس أن ينظرا بعين ناقدة إلى أمور شعبية يرويها الناس، بل يدوّنها المؤرّخون. ومع ذلك، فهما لا ينفيان كل تدخّل من قبل الآلهة التي قد تريد أن "تقول" للمؤمن شيئًا.

2- المؤرّخون والمعجزات
روى المؤرّخون في العالم اليوناني وفي العالم الرومانيّ عددًا من الرؤى والأحلام والانباءات المسبقة والأقوال الآتية من عالم السماء. وهكذا يبدو "الملك" وكأنه يتصرّف باسم الآلهة. نكنفي هنا بذكر الرؤية التي حصل عليها قسطنطين في معركته ضدّ ماكسنس عند جسر ملفيوس سنة 312. ظهرت له علامة مع كتابة تقول "بهذه العلامة تنتصر". وفي الواقع انتصر بعد أن حفر تلك العلامة على تروس جنوده.
وقد تحدّث المؤرّخون بشكل خاص عن طقس "قضاء ليلة" في معبد الإله يتمّ على أثره الشفاء. يروي ديودورس الصقلي (القرن الأول ب. م) حالتين من هذا النوع، في "المكتبة التاريخيّة" (1: 25). يقول: "حسب المصريّين استنبطت إيزيس (إلاهة مصرّية، زوجة اوزيريس. عُبدت في كل حوض البحر المتوسط) عددًا كبيرًا من الأدوية المفيدة للصحّة، وامتلكت خبرة كبيرة في علم الطبّ. ولما صارت خالدة (لا مائتة)، كانت تُسرّ بشفاء الأمراض، وتظهر للناس في شكل خاص، وتحمل العون إلى الذين يتوسّلون إليها، في الحلم. وأخيرًا أظهرت نفسها كفاعلة خير للذين يدعونها. ويُسندون رأيهم فيوردون لا أساطير كما يفعل اليونان، بل أمورًا واقعيّة، ويؤكّدون أن العالم كله تقريبًا يشهد لهم بعبادة تقدّم لتلك الالاهة لفنّها في شفاء الأمراض. وهي تظهر بشكل خاص للمتألمين خلال الرقاد، فتخفّف عنهم، وتشفي الذين يطيعونها بشكل فائق الطبيعة. وكم من مريض يئس الاطباء من شفائه، قد خلّصتهم هي. فهناك عدد كبير من العميان والعرج شفوا حين لجأوا إلى هذه الالاهة".
نتذكر هنا نازفة الدم التي حدّثنا عنها مر 5: 26 فقال: "عالجها أطبّاء كثيرون، وأنفقت كل ما تملك، فما استفادت شيئًا، لا بل صارت من سيّئ إلى أسوأ". يئست من الأطبّاء، ويئس الأطباء منها. "فلما سمعت بأخبار يسوع" ذهبت إليه ونالت الشفاء (آ 27). نحن لا نقابل بين ايزيس والربّ يسوع، ولكننا نبرز التشابه على مستوى التعبير الأدبيّ. ولا ننسى أن العاطفة الدينيّة في الإنسان هي هي. وإذ يذكر نصّ ديودورس في صيغة عامة "العميان والعرج"، يجعلنا نفكّر بعدد من الاجمالات في الأناجيل. مثلاً نقرأ في مت 21: 14: "وجاء إليه العرج والعميان وهو في الهيكل فشفاهم".
وروى ديودورس الصقلّي في "المكتبة التاريخيّة" (5: 63) ما يلي: "كانت الالاهة تتراءى في الحلم للمرضى، فتدلّهم بشكل واضح على وسائل الشفاء. وهكذا استعاد الصحّة عدد كبير من المصابين بأمراض ميأوس منها. بالإضافة إلى ذلك، فالالاهة تُسعف النساء اللواتي يبدو وضعهنّ صعبًا، فتبعد عنهنّ كل خطر". هنا نلتقي بظواهر عديدة ما زالت موجودة في أيامنا، ويعزوها العلماء إلى الإيحاء الذاتيّ، إلى رؤية ما قيل لهم نهاراً في أحلام الليل.
ما رأي المؤرّخين القدماء في هذه "المعجزات" و"الخوارق"؟ ذكرنا بوليبوس (208- 126) وبلوترخس (46: 126 ب. م) ونذكر أيضًا هيرودوتس (490- 420) وتوسيديد (460- 400). هم يرون في مسيرة التاريخ تدخّلات من الآلهة. ويسمّون هذا التدخّل بثلاثة أسماء: العناية، الانتقام (أو: الغضب)، الحظّ (أو: النصيب). إلا أنهم يتحدّثون بطرق مختلفة عن تدخّلات الله الملموسة. فيورد هيرودوتس وبلوترخس عدداً من الأحداث الالهيّة والاحلام والرؤى والخوارق (تيراتا في اليونانيّة) التي يرى فيها بلوترخس آيات وعلامات (سيمايا). وأورد توسيديد عددًا من الاحداث الالهيّة، ولكنه ظلَّ متحفظًا تجاهها. فقد لاحظ بالنسبة إلى الذي أعلن كم تطول حرب البلوبونيز فقال: "بالنسبة إلى الذين يستندون إلى هذه الأقوال الالهيّة، لا نجد هنا ما يثبت ذلك". كما لاحظ أن هذه الأقوال هي ملتبسة وغير ناجعة. ويهاجم بوليبوس هذه المدهشات ويدلّ على احتقاره لما يورده اليونان والرومان من آيات ومعجزات.
ويورد هؤلاء المؤرّخون معجزات أجراها الملوك. مثلاً، نسب بلوترخس إلى بيروس ملك إبيرة (آ 227) أشفية عديدة. ونسب تاقيتس وسواتانيوس (القرن 2 ب. م) معجزات إلى الأمبراطور الروماني وسباسياس.
إليكم ما قال بلوترخس في "مسيرة بيروس" (3: 7- 9): "كانوا يظنّون أن بيروس يشفي مرض الطحال: يذبح ديكاً أبيض، ويجعل المريض ينام على ظهره ويدوس هذا العضو برجله اليمنى: وأي رجل، مهما كان فقيرًا أو من حالة وضيعة، وطلب منه، نال هذا الشفاء. وكان يتسلّم اجرته ذاك الديك الذي ذبحه، وكان يرضى بهذه الهدية كل الرضى. وقد قيل أنه كان لباهم رجله قوّة إلهيّة بحيث إنه حين أحرق جسدُه كله بعد موته، لم تتأثّر هذه الباهم بالنار".
ويقول تاقيتس في أخباره (4: 81): "خلال الاشهر التي فيها انتظر وسباسيانس في الاسكندريّة، الوقت الذي فيه تصبح الرياح مؤاتية للإبحار، حصلت عدّة معجزات توّخت أن تدلّ على الحظوة التي نالها وسباسيانس من السماء، وعلى تعاطف الآلهة معه. جاء واحد من سكان الاسكندريّة، ذو حالة وضيعة، وكانت عينه مفكّكة. ارتمى على قدميه وأخذ يتوسّل إليه لكي يشفيه من عماه. وقال: هذا ما أمرني به سيرابيس... وتوسّل إلى الملك أن يضع من لعاب فمه على وجهه ودائرة عينيه. وجاءه آخر يده يابسة قد أرسله إلهه. طلب من القيصر (وسباسيانس) أن يضع أخمص رجله على يده. في البداية هزئ منهما وسباسيانس وأبعدهما. ولكن لما ألّحا... (وأخذ كل الاحتياطات) نفّذ ما طلبا منه. حالاً، استعادت اليد وظيفتها، ورأى الأعمى نور النهار من جديد".
ويذكر سواتانيوس أيضًا في "السير"، وسباسيانس 7، هاتين المعجزتين. وما نلاحظه هو قرب ما عمله وسباسيانس ممّا عمله يسوع مع أعمى بيت صيدا: "تفل في عينيه، ووضع يديه عليه وسأله: أتبصر شيئًا". وفي مر 3: 1- 6، نرى رجلاً يده يابسة. قال يسوع للرجل: "مدّ يدك". فمدّها فعادت صحيحة كالأخرى. هنا اختلفت طريقة الشفاء في الأناجيل الازائية الثلاثة. قال يسوع كلمة، فأعاد "خلق" تلك اليد، بل بدا وكأنه خلق ذلك الإنسان من جديد، على ما في سفر التكوين.

3- أشفية في المعابد
اكتشف العلماء عددًا كبيراً من الكتابات التي تركها أناس شفوا في معابد آلهة الشفاء، مثل اسكلابيوس وسيرابيس. وأهمّ هذه الكتابات نجدها على مسلاّت معبد اسكلابيوس العظيم في ابيدوروس في اليونان. هي تعود إلى القرن الرابع ولكنها نسخت كتابات تعود إلى ما قبل ذلك الوقت. وهي تورد ثمانين خبر معجزة: 7 في أمراض العيون، 4 في حبل لا أمل فيه للأم بأن تضع طفلها، ولادتان بعد خمس أو ثلاث سنوات من الحمل، 4 حالات لأشخاص كسيحين، ثلاثة أشفية للعرج، ثلاث حالات للدود في الامعاء...
يتحدّث نص أول عن امرأة حملت ابنها في حشاها خمسة أعوام: "لما ظلّت حاملاً خمسة أعوام، جاءت تتوسّل إلى الاله وقضت الليل في معبده. وما إن خرجت وتجاوزت حدود المعبد حتى وضعت صبيًا، ما إن وُلد حتى ذهب يغتسل في العين ثم جاء راكضًا إلى أمّه. ولما حصلت "كلايو" على هذه النعمة نقشت على تقدمتها: لا تتوقّف عند أكبر اللوحة، بنى عند قدرة الإله. ظلّت كلايو تحمل الثقل في بطنها حتى قضت ليلتها في معبد الإله، فردّ إليها الإله الصحّة".
أما "امبروسيه" ابنة أثينة فكانت عوراء. "جاءت تتوسّل إلى الإله. ولما دارت حاول المعبد، أخذت تهزأ ببعض الأشفية التي اعتبرتها غير معقولة ومستحيلة. لا يستطيع العرج والعميان أن يشفوا بمجرّد رأوا رؤية. ولما قضت الليلة في المعبد، رأت رؤية: رأت في حلمها الاله يقف بقربها ويقول لها إنه سيشفيها ولكنه يطلب منها أجرًا، أن تعلّق في المعبد خنزيرًا من الفضَّة تذكرًا لجهالتها وبلادتها. وحين قال هذا فتح (كما في عمليّة جراحيّة) العين المريضة ووضع فيها دواء. ولما طلع النهار وجدت نفسها معافاة".
والحالة الخامسة، ولد أخرس. "جاء إلى المعبد لكي يستعيد الكلام. قدّم الوالد الذبائح الأولى وأتمّ الطقوس التقليديّة. عند ذاك قال له العبد الصغير الذي يحمل النار قبالة الاله، أن يقدّم ذبائح الشكر خلال السنة إن حصل على الشفاء الذي جاء يطلبه. فصرخ الولد فجأة: "أعو". تعجّب الوالد وأمر ابنه أن يعيد ما قاله. فأعاد كلامه، ومنذ ذلك الوقت شفي".
أما نكانور فكان أعرج. "إذ كان جالسًا سرق له صبيّ عصاه في وضح النهار وهرب. قام الرجل ليمسك بالولد، وشُفي منذ تلك الساعة".
ذكرنا هنا أربع حالات، ونستطيع أن نذكر غيرها، إنما نودّ أن نستخلص العناصر المشتركة. نجد في البداية اسم المريض، موطنه ومرضه. وقد يتوسّع النصّ في شرح المرض. كما نلاحظ لا إيمان لدى المريض أو لدى الحاضرين. كل هذا يدلّ على أننا أمام أشخاص ملموسين، محدّدين، لا أمام عموميّات.
ويتمّ تدخّل الله بشكل عام خلال ليلة يقضيها المريض في المعبد. يرى المريض الاله الذي قد يعمل له عملية جراحيّة أو يقدّم له دواء، أو يدلّه على ما يجب أن يفعله. وقد تكون الفعلة الإلهيّة مدهشة: يشفي الأخرس حين يلمس له فمه. ويشفي المخلّع بخاتم في إصبعه. وقد تأتي حيات المعبد وكلابه فتلحس العضو المريض. وفي النهاية، يُذكر الشفاء، بصورة مقتضبة، فيعلنه ذاك الذي نال حظوة الاله، وينشد قدرة الاله فيكون نشيده درسًا للامؤمنين.
وما توخّته أخبار الأشفية هذه هو أن تملأ قلوب الحجّاج ثقة بالاله الشافي، وهذا ما يجعل المعبد يزدهر. هي لا تتضمّن تعليمًا عن الحياة الدينيّة والأخلاقيّة التي يجب أن يعيشها الإنسان، كما لا تحاول أن تعيد العلاقة إلى سابق عهدها بينه وبين إلهه على مثال ذبائح الخطيئة مثلاً في إطار الديانة اليهوديّة. هذه الأخبار كُتبت مرّة أولاً. ثم أعيدت كتابتها. وكانوا يزيدون كل مرة بحيث يصبح النصّ مليئًا بالسمات العجيبة المدهشة. ولقد شدّدوا على قدرة الله بحيث وصلوا إلى مستوى اللامعقول.
وتشير أخبار تدخّلات الاله إلى أن الخَدَم في المعبد يقومون في الليل ببعض الممارسات الطبيّة والعمليات الجراحيّة. وما يسند هذه الفرضية اعتباران. الأول، صارت معابد اسكلابيوس منذ القرن الثاني ب. م، مستشفيات بالمعنى الحصري للكلمة مع أطبّاء وعلاجات مطوّلة. ولكن مع ذلك، يرافق هذا العلاجَ خبرة دينيّة، على ما يبدو. فالفلاسفة يعتبرون أن عمل الإنسان لا يستبعد عمل الله. وقد تعود الخوارق في بعض الأحيان إلى سببيّة ترتبط بالطبيعة البشرّية. وهكذا استطاع الكهّان الأطبّاء في معبد ابيدوروس أن يقولوا: "ضمدّت الجرح، ولكن الله هو الذي شفى".

4- الفلاسفة يصنعون العجائب
بين الفلاسفة العديدين الذين عرفهم العالم اليونانيّ، تحدّث التقليد عن عدد منهم كصانعي معجزات. نذكر بعض الأسماء: ابيمنياديس من كفرسوس. فيريسيدس من سيروس، بيتاغور في القرن السادس. امبيدوكلس تلميذ فيتاغور في القرن الخامس. ابولونيوس التياني الذي عاش في القرن الأول واعتبر نفسه تلميذ فيتاغور. دوّن بورفيريوس الصوريّ في القرن الثالث ب. م سيرة فيتاغور. ومثله فعل يمبليك في القرن الرابع. وسنة 217، كتب فيلوستراتيس حياة أبولونيوس التياني.
ونبدأ مع الفيلسوف والعالم في الرياضيات فيتاغور الذي سيطرت الاساطير على حياته بسرعة فائقة. دوّن سيرته، كما قلنا، بورفيريوس (234- 305) الفيلسوف المرتبط بالافلاطونيّة الجديدة. كان بورفيريوس خصمًا عنيدًا للمسيحيّة، فجمع عددًا من التقاليد القديمة. عاد إلى نيكوماك ابن جراسة وهو فلسطينيّ من شرقي الأردن عاش في بداية القرن الثاني ب. م. قال:
في اولمبيا، طار نسرٌ فوق رأسه حين كان يتحدّث مع المقرّبين إليه عن تنبوءات زوش ورموزه وعلاماته قائلاً إن هذه هي بلاغات وأحداث يرسلها الآلهة إلى البشر العزيزين على قلوبهم. وقيل عنه أنه انزل الطير، وبعد أن دلّله أطلقه. ومرّة أخرى، كان واقفًا قرب الصيّادين الذين كانوا يسحبون من البحر شبكة مملوءة بالسمك. فعرف مسبقًا كميّة السمك الذي اصطادوه وقال العدد. وحين وعده الناس بأن ينفذوا أوامره إن تحقّقت نبوءته، أمرهم بأن يرموا السمكات في البحر بعد أن يعدّوها بشكل دقيق. وأعجب ما في الأمر، هو أنه لم تمت سمكة واحدة أمامه طوال المدّة التي فيها أحصي السمك...
وقيل عنه أنه تنبّأ عن هزّة أرضيّة. أنه أوقف الوباء بسرعة. واسكت الرياح الهائجة، ومنع سقوط البرد.
وهناك فيلسوف آخر، امبيدوكلس تلميذ فيتاغور. كتب عن نفسه: "جئت إليهم كإله خالد، لا كإنسان مائت... وما إن دخلت إلى مدنهم... حتى عبدوني. تبعوني جماهيرَ ليسألوا عن الطريق الواجب اتّباعها للحصول على الغنى. وكثيرون طلبوا معرفة المستقبل. والذين اعتراهم ألف مرض ومرض... رغبوا في أن يسمعوا كلمات الشفاء".
قيل له: "كل الأدوية التي تساعد على الشرور والشيخوخة، سوف تتعلّمها. ولك وحدك أعطي جميع هذه الإيحاءات. ستعرف كيف تلجم قوة الرياح التي لا تتعب، التي تدمّر الحقول حين ترتفع عن الأرض بشكل إعصار. ومن جديد، إن شئتَ أعدتَ النسمة التي تعوّض. وبعد شتاء مظلم ترد الجفاف المؤاتي للبشر. ومن جديد، بعد جفاف الصيف تنتج مطرًا ينزل من السماء، لكي ينمي النبات. وفي النهاية، تستعيد من الجحيم نفس إنسان سبق له ومات".
ونقرأ في "حياة الفلاسفة المشهورين وتعاليمهم وأقوالهم" لـ "ديوجين لائيرتيوس" (القرن الثالث ب. م) في الفصل الثامن عن امبيدوكلس ما يلي: قال تيماوس (فيلسوف من القرن 3 ق. م) إنه كان لامبيدوكلس عدد من الميزات العجيبة. مثلاً، كانت رياح الشمال تنفتح بقوّة هائلة بحيث اقتلعت الثمار. سلخ الحمير وجعل جلودهم على التلال ورؤوس الجبال... توقّفت الرياح فسمّي "مُوقف الريح". وضرب الوباء أهل سيلينونتس في صقليّة، فمات الرجال وأحسّ النساء بالصعوبة في وضع أولادهن... عمد إلى الماء وجعلها صحيّة. فقدّم أهل سيلينونتس ذبيحة قرب النهر. فظهر لهم امبيدوكلس. فوقفوا كلهم وأدّوا له الاكرام كما لإله".
ولكن "الفيلسوف" الذي سيطر بعجائبه هو أبولونيوس الذي من تيانيس وهي مدينة في كبادوكيّة. يورد كاتب سيرته ما يقارب عشرين معجزة: خبر قيامة. خمسة أشفية. أربعة طرد شياطين من الناس. تخليص أفسس من الوباء، بعد أن دلّ على الشيطان الذي كان سببَ المرض، ثم أمر برجمه. أما سلطانه على الطبيعة الجامدة فظهر حين ارتفع ذراعين فوق الأرض على مثال حكماء الهند. وانتقل في لحظة من إزمير إلى أفسس. وظلّ البحر هادئًا حين أبحر الماء خلال الشتاء. اتّهموه فمُحي الاتّهام حالاً. وُضعت رجله في القيود فأخرجها. أغلقت أبواب الهيكل في وجهه، فانفتحت أمامه.
إن فيلوستراتس الذي روى سيرة ابولونيوس، رأى فيه إنسانًا حكيمًا، وكانت معجزاته علامة تدلّ على قوّة الحكمة. لهذا، حين روى ما روى عنه من معجزات، ما أراد أن يرينا فيه مجترح المعجزات، ولا المعلّم الذي يجمع حوله تلاميذ، بل ذاك الذي يدعو القارئ ليسمع نداء الحكمة.
ونذكر شيئًا من سيرة ابولونيوس التياني (3: 38- 39) كما دوّنها فيلوستراتس. في وسط الحديث جاء رسول فأدخل امرأة مسكينة وأخذت تتوسّل من أجل ابنها. روت أنه في سنه الحادي عشر، قد امتلكه شيطان منذ سنتين. وطبيعة هذا الشيطان الهزء والكذب... يأخذه إلى الأماكن المقفرة... وسأل الفيلسوف: هل الولد هنا؟ أجابت المرأة: كلا، مع أني فعلت المستحيل لكي يأتي. فالشيطان هدّدني بالسقوط في الأعماق وبقتل ابني إن جئت به إلى هنا. قال الحكيم: "تشجعي. فهو لا يَقتُل ابنك حين يقرأ هذا". وأخذ رسالة من ثيابه تحمل تهديدًا لذاك الشيطان.
ووصل أيضًا أعرج في الثلاثين من عمره. شفاه الحكيم. وجاء شخص اقتلعت عيناه، فعاد بنظر كامل. وكان لشخص يد يابسة، فذهب بيد معافية. وكانت المرأة تضع طفلها بصعوبة. فنصح الحكيم زوجها بأن يدخل أرنبًا إلى الغرفة ساعة الولادة.
وفي 4: 10، قال فيلوستراتس: "ضرب الوباء أفسس، وما استطاع شيء أن يوقفه. أرسل الافسسيون وفدًا إلى ابولونيوس (الذي كان في إزمير) وأرادوه أن يكون طبيب مرضهم. فرأى أنه يجب عليه أن لا يتأخر. وما إن قال: لنمض حتى كان في أفسس، وهكذا جدّد على ما أظنّ مأثرة فيتاغور حين كان في الوقت عينه في توري وماتابنتس. اذن، جمع الأفسسيّين وقال لهم: تشجّعوا. فأنا اليوم أضع حدًّا للمرض. عند ذاك اقتاد الشعب كله إلى المسرح، إلى الموضوع الذي ارتفع فيه تمثال إله العون الصالح (أي هركلس)". وطلب ابولونيوس من السكان أن يرجموا شيخًا فقيرًا. فهذا الشيخ تلبّس شيطانًا... وهكذا جعل تمثال إله العون الصالح في الموضع الذي فيه قُتل الشيطان.

خاتمة
وهكذا بدا لنا أن العالم الهلنستي، العالم اليوناني والروماني، العالم الوثني، قد انتشرت فيه معتقدات عديدة حول المعجزات. على مستوى الاحلام والرؤى. على مستوى الأعمال المدهشة ولاسيّما الشفاءات. على مستوى البحر والريح والوباء. وقد نسب الناس هذه الخوارق إلى الإله، إلى شخص غير منظور. واعتادوا أن يؤمّوا المعابد ولاسيّما معبد اسكلابيوس في ابيدوروس. كما اعتبروا أن بعض البشر يستطيعون أن يجترحوا المعجزات بفضل الحكمة التي اوتوها، أو بفضل قدرة خاصة وصلت إليهم فحملوا بركة الاله إلى البشر. فالفلاسفة يجترحون المعجزات. وكذلك الملوك. "معجزات" تصل إلى الجماعة فتنجّيها من الوباء. أو إلى الافراد فتنجّيهم من الأمراض. قد نفسّر هذه المعجزات عوامل طبيعيّة ونفسيّة. كما لا ننسى أن هذه العجائب لا تتوخّى أبدًا أن تكون علامة خلاص يشمل البشرية فيصل بها إلى نهاية الأزمنة. فأعمال البشر تبقى على مستوى البشر.
الخوري
بولس الفغالي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM