الفصل الخامس: المعجزة لدى المعلمّين اليهود

الفصل الخامس
المعجزة لدى المعلمّين اليهود

عندما نتحدّث عن المعجزة في اللغة العربيّة، نفهم أننا أمام أمر خارق العادة يعجز البشر عن أن يأتوا بمثله. أمر لا يقدر أن يقوم به إلا الله أو من أعطيت له قدرة الله. وعندما نتحدّث عن العجيبة، نشدّد على العجب والدهشة أمام ما يقوم به إنسان تقيّ بقدرة الله. ونحن نجد هذا التعبير مرارًا في الأناجيل. بعد أن هدّأ يسوع العاصفة، تعجّب التلاميذ قائلين: "من ترى هذا، حتى تطيعه الرياح والبحر" (مت 8: 27). وبعد أن شفى يسوع مجنونًا أخرس، تعجّب الجموع قائلين: "لم يظهر قطّ مثل هذا في إسرائيل" (مت 9: 33). وقبل أن يكسر يسوع الخبزات، قدّموا إليه المرضى فشفاهم. "فتعجّب الجمع إذ رأوا الخرس يتكلّمون والعرج يمشون..." (مت 15: 31). أما الآية فهي العلامة. فهي شيء منظور يدلّ على ما هو غير منظور. يدلّ على عمل الله الذي لا يُرى في جسم إنسان نستطيع أن نراه ينتقل من المرض إلى الصحة، من الموت إلى الحياة. وقد يعمل الله في الطبيعة فيهدئ البحر والرياح، ويكثر الأرغفة، ويؤمّن الصيد الوفير.
وإذا تطلّعنا إلى ما بقابل المعجزة في الفرنسية مثلاً، نفهم أننا أمام حدث خارق يربطنا بعالم سحريّ أو فائق الطبيعة. وما يقابل العجيبة: ظاهرة تفسَّر على أنها تدخّل من قبل الله. أما الآية أو العلامة: ما يتيح لنا أن نعرف، أن نحزر، أن نستنتج. وهذه اللفظة ترتبط بحضور الشخص الذي يبدو وكأنه وضع ختمه، وقّع بيده فدلّ على حضوره وعمله.

1- النصوص
بعد هذه التحديدات للآية والعجيبة والمعجزة، نتعرّف إلى الينبوع الذي يتيح لنا أن نقدّم المعجزة في التقليد اليهوديّ. هذا الينبوع هو الأدب الرابيني الواسع جدًا.
من كتاب الصلاة (ت ف ل هـ) الذي كان يستعمل في زمن يسوع إلى "تكوين ربه" الذي يتضمّن مجموعة التقاليد المدراشيّة، والذي دوّن في فلسطين في النصف الثاني من القرن الخامس. في المشناة. في أقوال الآباء، في خروج ربّه الذي هو مدراش حول الخروج حيث نجد حوارًا بين الله وموسى قبل عبور البحر. في معجزة البحر وفي وحي سيناء اختبر الشعب حضور الله الفاعل. في "مكلتا رابي اسماعيل" التي هي تقاليد مدراشيّة حول الخروج. وفي التلمود.
ما نكتشفه في هذه الكتب هو أن الله وحده يستطيع أن يكون صانع العجائب. وبما أنه لا يتبدّل، فقد هيّأ كل شيء ساعة الخلق، أخذ احتياطاته منذ البداية (راجع حاشية 4). أما المعجزة فهي تدلّ على حضور الله وعمله. ليس ميتًا كالأصنام التي لها آذان ولا تسمع، لها عيون ولا ترى. "هو لم يخرجنا بواسطة ملاك ولا بسرافيم ولا بمبعوث ما. فالذي عمل هو القدوس (مبارك هو) شخصيًا، في مجده كما قيل (خر 12: 12): "في هذه الليلة، أعبر أرض مصر وأقتل كل بكر فيها من الناس والبهائم".
المعجزة هي عطيّة الله، وهي تقابل الحرارة الدينيّة عند المؤمنين. تساءل الناس: لماذا لم نعد نرى المعجزات؟ وسأل رابي فافا أبّايي. فأجاب هذا: أنت تسأل لماذا؟ لأن الأقدمين كانوا مستعدّين لأن يضحّوا بحياتهم من أجل تقديم الاسم (اسم الله). أما نحن فلسنا بمستعدّين لهذه التضحية". ولكن المعجزة ليست شيئًا شاذًا يحدث مرّة ويتوقّف. إنها تملأ الحياة اليوميّة: رحمة الله التي تنير الأرض وساكنيها، حنانه الذي يجدّد عمل الخلق. وحين يعطينا قوتنا اليوميّ فهو يجري معجزة شبيهة بمعجزة البحر الأحمر. وسيقول أحد المعلّمين إن تحصيل القوت اليوميّ معجزة كبيرة جدًا. وقال رابي أباهو إن اليوم الذي فيه يسقط المطر أكثر أهميّة من يوم قيامة الموتى. فقيامة الموتى هي للأبرار، ولكن الابرار والخطأة ينعمون بالمطر. وقال ربّه: "يوم المطر أهمّ من اليوم الذي فيه أعطيت التوراة".

2- المعجزة مظهر من مظاهر القوّة
لن نتوقّف عند المعجزة في العهد القديم، ولكننا نودّ هنا أن نقول إنه لما بدأ الشعب العبراني يضعف على المستوى السياسيّ والحربي، لما صار مشتّتًا وسط الأمم، لما صار لا كيان له ولا قوّة، لما رأى نفسه خاضعًا لسلطة أجنبيّة، تعلّق بالله وحده وأراد أن يكون هذا التعلّق ظاهرًا حتى للذين من الخارج. لهذا كان تشديد على المعجزة حتى ولو كان الأمر طبيعيًا. هنا نذكر ما سمّي "الضربات العشر" في سفر الخروج. أن يصير لون مياه النيل أحمر فأمر معروف في مصر ساعة يحمل النهر الطمى. ولكن الكاتب رأى في هذا اللون، "الدم" الذي قد يكون دم الأطفال العبرانيين أو دم أبكار مصر. وهكذا نقول عن البعوض والضفادع. وحين روى الكاتب ما روى، ضخّم الأمور ليدلّ على أنه ليس أمام أمر طبيعيّ يحصل كل يوم، بل أمام تدخّل خاص من قبل الله الذي يلاحق فرعون وأهل مصر حتى آخر موضع يستطيعون أن يختبئوا فيه. ونأخذ مثلاً الضفادع، ووجودها معروف حيث المياه. أما الكاتب الملهم فقال: "يفيض النهر بها، فتصعد وتنتشر في بيتك وغرفة نومك وعلى سريرك (يا فرعون)، وفي بيوت عبيدك وشعبك، وفي أفرانك ومعاجنك". وزاد: "وتصعد الضفادع عليك وعلى جميع عبيدك".
ويشدّد الكاتب على قدرة الله التي تفعل في الحال، وكأننا أمام قوّة سحريّة. مدّ موسى يده على الأنهار فخرجت الضفادع. صرخ موسى فاستجاب الله. فكأني بالله صار أداة في موسى، ولم يعد موسى أداة في يد الله. كأني بموسى يوجّه "المعركة" ضد فرعون، عابد الأوثان، والله ينفّذ له خططه. وفي أي حال، هذا ما يفهمه المصريون. ضرب موسى النهر فتحوّل إلى الدم. "وفعل كذلك سحرة مصر بسحرهم" (خر 7: 22). ولكن السحر عند موسى أقوى منه عند سحرة مصر. ألقى موسى العصا فصارت حيّة. فدعا فرعون المنجّمين والعرّافين. وهم سحرة مصر، فصنعوا كذلك بسحرهم ولكن عصا هارون ابتلعت عصيّهم" (خر 7: 12). وفي الضربة الثالثة، ستركع السلطة الدينيّة في مصر، ويعلن سحرة مصر: "هذه إصبع الله". أجل، الله هو الأقوى. وبالتالي، ليس شعبه بضعيف. وبعد ذلك تتراجع السلطة السياسيّة وفي النهاية تستسلم.
وما نلاحظه في النهاية هو أن الضربة تصيب المصريّين ولا تصيب العبرانيّين، وهكذا يفهم الشعب أن الله معه على غيره، على الأعداء. في الضربة الخامسة "ماتت مواشي المصرّيين كلها. وأمّا مواشي بني إسرائيل فما مات منها واحد" (خر 9: 6). ونزل البرَد على أرض مصر كلّها، مع أن هناك مناطق لا ينزل فيها مطر. "أما أرض جاسان التي فيها بنو إسرائيل فلم ينزل عليها البرَد. وجاءت الظلمة في الضربة التاسعة. "فما كان الواحد يبصر الآخر" في مصر، أما "بنو إسرائيل فكان لهم نور في مساكنهم" (خر 19: 23).
وسيواصل سفر الحكمة التأمّل في الضربات العشر، فيدلّ على حكمة الله في كل ما عمل. عطش بنو إسرائيل وما إن صرخوا إلى الربّ حتى أخرج لهم ماء من الصخر (11: 4). أما المصريون، فالماء الذي عندهم تحوّل إلى دم فما عادوا يستطيعون أن يشربوا منه. جاء الحيوان على المصريّين فعذّبهم، أما بنو إسرائيل فجاءهم طير السلوى غذاء، بل أطيب غذاء في تلك الصحراء القاحلة. وفعلت الحيّات في المصريّين ما فعلت ساعة نجا العبرانيون بالحيّة النحاسيّة. للشعب العبراني سقط من السماء منٌ، أما للمصريّين فسقط البَرد بشكل حجارة أماتت بهائمهم. حلّت الظلمة في وضح النهار على المصريّين. أما العبرانيون فكان لهم عمود نار ينير طريقهم في البرّية (حك 16- 18). وكانت النهاية في البحر الأحمر (ف 19).
وحين يُنقل النصّ العبري إلى اليونانيّة في الترجمة المسمّاة سبعينيّة، سوف نرى تشديدًا على الوجهة العجائبيّة حيث لا نرى معجزة. اكتفي هنا بإعطاء مثلين إثنين. واحد من سفر الملوك الأوّل يتحدّث عن إيليا الذي ذهب إلى قبائل عربيّة، فأضافته أحسن ضيافة: الخبز واللحم ساعة كانوا يأكلون هم الحليب واللبن. أما التقليد اللاحق منذ ابن سيراخ، فتحدّث عن "الغراب" الذي حمل الطعام إلى إيليا. والمثل الثاني ينطلق من نصّ أشعيا الذي يتحدّث عن "صبيّة متزوّجة" أنجبت للملك ابنًا. أما السبعينيّة فقد ترجمت لفظة "صبية" بـ "العذراء" في اليونانيّة، وهكذا برزت المعجزة في هذا العمل العجيب الذي قام به الله. نودّ هنا أن نقول إن الولادة التي يتحدّث عنها أش 7: 14، ليست ولادة الولد من حشا أمّه، بل ارتقاؤه العرش، وفي ذلك اليوم يتبنّاه الله. فالعيد في أرض إسرائيل لا يحتفلون به يوم يولد ابن للملك، بل يوم يعتلي هذا الابن العرش فيقول له الله: "أنت النبيّ، أنا اليوم ولدتك" (مز 2: 7).

3- تحفّظ تجاه المعجزة
هذا المظهر المدهش للمعجزة، الذي يدلّ على أن الله هو معنا وضدّ الآخرين الذي هم "أعداؤنا" وبالتالي أعداء الله، سيكون موضع تساؤل وتحفّظ. هل الله معنا لأننا من شعبه بعد أن قبلنا الختان؟ وما يلفت النظر، هل يكون دومًا المعيار الأخير للحكم؟ أما يفعل الله أيضًا بشكل سريّ في قلب عبيده ولا سيّما في من سُمّوا "مساكين الربّ"؟ فالمعجزة لا موضع لها إلاّ داخل إيمان الشعب، ولا يمكنها أبدًا أن تتعارض مع هذا الإيمان.
في هذا المجال، قال سفر التثنية الذي وصل إلينا في صيغته النهائية بعد العودة من المنفى: "إذا قام فيما بينكم نبيّ أو حالم حلم، فوعدكم بآية (أوت) أو معجزة (م و ف ت)، وتمّت هذه الآية أو المعجزة (أو: الأعجوبة) التي كلّمك عنها قائلاً: لنذهب وراء آلهة أخرى (في تطواف أو زيّاح. ونسلك بحسب التعليم الوثني) (أي: غريبة) لم تعرفها، ولنعبدها، فلا تسمع لكلام هذا النبيّ أو حالم الحلم. فالربّ إلهكم يمتحنكم لكي يعرف هل تحثون الربّ إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم... ذلك النبيّ أو حالم الحلم يُقتل، لأنه تكلّم بهذا الكلام ليصرفكم عن الربّ إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر" (13: 2- 6). هناك مقياس لا نستطيع أن نتخلّى عنه: خبرة الخروج من مصر، بيد الله القويّة وذراعه المحدودة. وهناك عقيدة تبقى الأساس في كل ظواهر النبوءة والرؤى: عبادة الله الواحد. فكل ما يبعدنا عن هذه العبادة كل ما يشوّه هذه العبادة أو يجعلنا نشرك "شيئًا" آخر مع الله، يجب أن يُرفض.
إن تعليم النبيّ يترافق مرارًا بآية عجائبيّة تؤكّد الأصل الالهي لأقواله. هذا ما كان بالنسبة إلى موسى (خر 4: 30- 31) وإيليا (1 مل 18: 36- 39) وأشعيا (7: 14). ولكن الأنبياء الكذبة قد يجرون آيات كما فعل سحرة فرعون (خر 7: 11؛ رج مت 24: 24). لهذا، حذّر سفر التثنية المؤمنين من هؤلاء "المشعوذين" الذين عرفتهم كل العصور، وشدّد على معيار التمييز: مضمون التعليم النبويّ.
هنا نقرأ نصًّا أول في التلمود نجد فيه معلّما تقيًا اعتبر أنه يستطيع أن يجري الايات بالنظر إلى استحاقاقاته. غير أن الرجل القديس رأى أن العجائب المصنوعة تُحذف من المكافأة التي تنتظرنا. "كان في نهارديا جدار مهدّد بالسقوط. فاعتاد راب وصموئيل أن يتجنبّاه مع أنّ حاله لم تتبدّل منذ 13 سنة. في ذات يوم، جاء رابي عدّة بن أهبة إلى تلك المدينة. وقال صموئيل لراب: تعال ندور (حول الجدار). فقال راب: لا حاجة إلى ذلك اليوم، لأن رابي عدة بن أهبة معنا، فاستحقاقاته كبيرة. لهذا لا أخاف شيئاً...". بعد ذلك الوقت سقط الجدار فقال رابي عدّة إنه لا يجب أن نتعرّض للخطر ونحن ننتظر معجزة. فقد لا تتمّ المعجزة. وإن تمّت نخسر بعض المكافأة التي نكون قد استحققناها. فقد كُتب، "صرت صغيرًا بسبب كل النعم" (تك 32: 11). في هذا المجال نتذكّر كلام أحد الاخوة السبعة الذين تألّموا في سبيل الإيمان في أيام انطيوخس الرابع: هو الربّ. إن شاء، أجرى معجزة وخلّصنا. وإلاّ فنحن نموت من أجل الشريعة، والربّ يقيمنا من أجل حياة أبديّة (2 مك 7: 9).
وتوقّف العلماء عند "المعجزة" في المناقشات السلوكية. فقال يبموت (حود الزواج) في التلمود يتساءل حول زواج المرأة التي فقدت بعلها وما استطاعت أن تقدّم الدليل على أنه مات. والجواب: "لا نستطيع أن نستند إلى المعجزات ونعتبرها دليلاً" (121ب). ثم إن شريعة سلوكيّة لا يمكن أن تستند إلى "بنت القول" أي إلى صوت جاء من السماء. وفي التلمود (بابا مصيا 59أ) سيقتلع أحدهم شجرة الخروب وينقلوها مئة ذراع (وقال آخرون 400 ذراع) فقيل له: "هذه الخروبة لا تعطى الدليل". وجعل المياه تتراجع من أسفل إلى أعلى. فكان الجواب ليس هذا بدليل... وجاء صوت من السماء. فقيل له: "ليس هذا القول في السماء". فليست التوراة في السماء (تث 30: 12)، بل أعطيت على جبل سيناء.

4- الاتقياء والمعجزات
وهكذا نصل إلى الرجال الاتقياء الذين تجري المعجزات على يدهم، وقد سبق وذكرنا بعضًا منهم. ونذكر الآن "صانع الدوائر" الذي عاش في الثلث الأول من القرن الاول ب. م. أشارت إليه المشناة وتوسفتا من خلال نصوص رابينيّة، كما عرفه فلافيوس يوسيفوس، المؤرّخ اليهوديّ (37- 100). أما مثال "صانع الدوائر هذا فهو إيليا النبيّ الذي قال: "لا يكن في السنوات ندى ولا مطر إلاّ حين أعلن ذلك" (1 مل 17: 1؛ رج تكوين ربه 1/ 13: 7).
وذكر يوسيفوس في العاديّات اليهوديّة (14: 22- 24) أونياس (أي هوني) الذي كان رجلاً بارًا وخليل الله. مرّت فترة بدون مطر، فصلّى إلى الله لكي يضع حدًا للجفاف. فسمع الربّ صلاته وأرسل المطر. وشدّدت المشناة في مقال تعنيت (أي: الصوم، المقال التاسع في نظام موعد) على الصوم والصلاة من أجل المطر. فالجفاف يُعتبر عقابًا من الله. يروي هذا المقال (3: 8) أنهم صلّوا وصاموا دون أن يحصلوا على المطر. فقام "هوني" ورسم دائرة وأقام في وسطها وقال: "يا ربّ الكون، وضع أبناؤك ثقتهم فيّ لأنهم اعتبروني من خلاّنك. أقسم باسمك العظيم أني لن أتحرّك من هنا حتى ترحم أبناءك". فبدأت نقاط مطر تتساقط. فقال: "ما هذا الذي طلبته، بل طلبت ما يطلب الآبار وكل جبّ ومغارة". فسقط الشتاء مدرارًا...". وتروي توسفتا تعنيت (3: 8) أنه قيل لأحد الاتقياء (لا يُذكر هنا اسم هاني): "صلّ فيسقط المطر". صلّى فنزل المطر. ثم قالوا له: "كما صلّيت فتساقط المطر، صلّ لكي يتوقّف".
ويذكر التلمود (تعنيت 23ب) حكليا، أحد أحفاد هاني، كما يذكر حنين حفيد هاني من ابنته الذي صلّى إلى القدوس فقال: "يا سيّد الكون، أرسل مطرك إلى أولادك الذين لا يعرفون أن يميّزوا أبًا يستطيع أن يعطي المطر من أب لا يستطيع".
نرى في وجه هاني ذاك الذي "يفرض" نفسه على الله، ذاك الذي يريد أن يُستجاب سريعًا. ولكن أين تقع الصلاة التي لا تملّ في هذا الإطار؟ وإذ يفرض هاني على الله بأن يتدخّل، يبدو وكأنه يجرّب الله ويمتحنه كما نقرأ في خر 17: 7 حيث جرّب بنو إسرائيل الربّ، وشكّوا في أن يكون معهم حقًا. فإنَّ كان معهم فلماذا لا يفعل؟ أتراه أضعف من أن يفعل؟ أهو يهمل أبناءه؟
ونذكر أيضًا حنينة بن دوسة الذي كان تلميذ رابي يوحنان بن زكاي. عاش في مقاطعة صفورية في قرية تبعده 15 كلم إلى الشمال من الناصرة. امتدّ عمله خلال القرن الأول، وقد احتفظت المشناة بثلاثة أقوال له في أقوال الآباء (فرقه ابوت 3: 10)، ومنها هذا القول: "من يمنح السعادة للخلائق ينال رضى المكان (= أي الله). ومن لا يمنح سعادة للخلائق، لا ينال رضى المكان".
نبدأ فنذكر معجزة نعم بها حنينة بصلاته. كان يمشي في الطريق وهو يحمل سلّة مملوءة ملحاً. فبدأ المطر يتساقط. فتوجّه حنينة إلى الله: "يا سيّد الكون، الكل راضٍ في هذا الوقت ما عدا حنينه". فتوقّف المطر. ولما وصل إلى بيته قال: "الكون كله في غمّ وكدر ما عدا حنينه". حينئذ تساقط المطر من جديد".
وتتحدّث المشناة في "بركوت 5: 5" عن شفاء المرضى. فإنَّ حنينة يعرف أنه عندما يطلب من الله شفاء مريض، فطلبه يستجاب حين يتوصّل إلى الصلاة بسهولة. رووا أن رابي حنينة بن دوسة كان يصلّي من أجل المرضى ويعرف مسبقًا من يحيا ومن يموت. فسألوه كيف يعرف ذلك. فأجاب: "إذا سالت صلاتي بسهولة من فمي، أعرف أنها استجيبت، وإلا أعرف أنها ألغيت".
ويورد التلمود (بركوت 24ب) شفاءين عن بُعد نستطيع أن نقرّبهما ممّا في إنجيل يوحنا (4: 52- 53). أما اللذان نالا هذه النعمة فهما ابنا شخصيتين كبيرتين: الاول، صغير غملائيل القديم (معلّم بولس الطرسوسي حسب أع 22: 3)، ربان غملائيل الثاني الذي كان رئيس اليهوديّة الرابينيّة سنة 10- 90. والثاني ابن ربان يوحنان بن زكاي الذي أسّس بيت الدرس" في يبنه (أو: يمنية) بعد دمار أورشليم سنة 70 ب. م.
روى معلّمونا: مرض ابن رابان غملائيل. فأرسل رابان غملائيل اثنين من تلاميذه إلى رابي حنينة بن دوسه، يسأله بأن يطلب الرحمة الالهيّة لابنه. ما إن رآهما رابي حنينة، حتى صعد إلى العلّية (كما فعل إيليا، 1 مل 17: 19)، وشرع يصلّي إلى الرحيم من أجل المريض. وحين نزل قال للتلميذين: تستطيعان الذهاب، فقد فارقته الحمّى (ق يو 4/ 52). لست نبيًا ولا ابن نبّي (رج عا 7: 14). ولكني امتلك تقليدًا ورثته من أبي... وعاد التلميذان إلى رابان غملائيل فأكّد لهما: "في الساعة (التي تقولان)، لا قبل ولا بغد، فارقته الحمّى وطلب منّا أن نسقيه"
ومرّة ثانية مضى رابي حنينة بن دوسة يدرس التوراة لدى رابان يوحانان بن زكاي. ومرض ابن يوحنا هذا. فقال رابي يوحنان: "يا حنينة ابني، صلِّ لكي يُشفى. فوضع رابي حنينة رأسه بين ركبتيه (كما فعل إيليا، 1 مل 19: 42) وتوسّل إلى رحمة الله، فشُفي المريض.
قد نستطيع أن نطيل لائحة الاشخاص الاتقياء الذين عملوا من أجل الأفراد، لا من أجل الشعب كله، فما وُضعت "معجزاتهم" على مستوى المعجزات التي جرت حين تأسّس شعب إسرائيل في أرض مصر. ثم إن معجزات هؤلاء الناس ارتبطت دومًا بالصلاة. كما توجّه إيليا أو أليشاع إلى الله، هكذا يفعل رجال الله بطريقة تجعلنا قريبين من الممارسات السحريّة.
ذكرنا ما يتعلّق بالمطر في وقت الجفاف. كما ذكرنا الاشفية ولا سيّما ما فعله رابي حنينة بن دوسة. ونرى في طرد الشياطين نمطًا آخر من المعجزات يرد مرارًا في الأدب الرابينيّ. يبدو عمل "المقسّم" (طارد الشيطان) وكأنه عمل سحريّ وهو ما ترفضه التوراة بشكل قاطع. غير أن التلمود يعلن أن كل ما نفعله من أجل الشفاء، لا يعتبر عمل سحر وشعوذ".
حدّثنا التلمود عن رابي شمعون بن يوحاي أنه أخرج الشيطان. وسوف نرى في الخبر التالي أن أشهر المعلّمين اعتقدوا أن عالم الشيطان موجود في كل مكان. وحصل أن الحكم الظالم (أي الحكم الروماني بحسب تقليد الرابينين) أعلن قرارًا (يحرّم على اليهود) بأن يحفظوا السبت والختان (ويأمرهم) بعلاقات جنسيّة مع نسائهم في وقت طمثهم (وهذا ما تحرّمه الشريعة). (حينئذ قال المعلّمون): من يذهب إلى رومة، ليبعد هذه النكبة، ليكن رابي شمعون بر يوحاي المعتاد على المعجزات في الطريق التقوا (رابي شمعون ورفاقه) ابن تمليون (وهو شيطان، فقال لهم): أتريدون أن أجيء معكم؟ فشرع رابي شمعون يبكي قائلاً: تراءى ملاك لخادمة بيت جدي (ابراهيم، هو يعني هاجر، تك 16: 7) ثلاث مرات ولي مرّة واحدة فقط. ولكن لتحصل المعجزة بأيّ شكل كان (ولو كان بتدخّل شيطان). سبقهم بن تمليون ودخل في ابنة الامبراطور. ولما وصل (رابي شمعون) قال: أخرج يا ابن تمليون، أخرج يا ابن تمليون! على أثر هذا الأمر تركها (الشيطان) ومضى. حينئذ قال الامبراطور: "أطلبوا ما تريدون. وأدخلهم إلى قاعة الكنز ليختاروا ما يشاؤون. فوجدوا القرار (قرار ادريانس) فمزّقوه...".
هنا نتذكّر جدال يسوع مع الفرّيسين بعد أن أخرج الشيطان من رجل أعمى وأخرس. قالوا عنه: "هذا يخرج الشياطين ببعل زبول، رئيس الشياطين". فأجاب يسوع: "إن كنت أنا ببعل زبول أخرج الشياطين، فأبناؤكم (أو: تلاميذكم) بمن يخرجونهم"؟ هذا يعني أن الفريسيّن وتلاميذهم مارسوا طقوس طرد الارواح النجسة كما نقرأ في الأناجيل.

خاتمة
نستنتج من كل ما قلنا أن المعجزة هي حدث يفوق الوضع العاديّ، فيقلب نظام شريعة الطبيعة. وسببها هو الله. وقد ذكرت التوراة عددًا من الأحداث تدخل في هذا الإطار: فصل الله مياه البحر الأحمر ليستطيع العبرانيون أن يجتازوه. وسقط المن من السماء، طعامًا للعبرانيين في البرّية. وصعد إيليا إلى السماء. تتحدّث التوراة عن "ج د و ل و ت" أي الاشياء العظيمة، العظائم (2 مل 8: 4؛ تث 10: 21). وعن "نفلوت" أي العجائب (خر 34: 10)، تجعلنا نعجب، (ندهش) وعن "الآيات والمعجزات" (اوتوت ومفتيم) (إر 32: 21).
إن مدوّني التوراة لا يعتبرون أن هذه الأحداث هي غير عادية. فعرض مآثر الله وأعماله العظيمة هي موضوع الكتاب المقدس. فالله دمرّ سدوم وعمورة، وأتاح لسارة أن تحبل في شيخوختها، وضرب فرعون ضربات قاسية لأنه خطف سارة (تك 12: 17)، وأخرج الماء لهاجر من بئر في الصحراء (تك 21: 19).
عاد التقليد اليهوديّ إلى كل هذه المعجزات فرأى فيها حضور الله الدائم وسط شعبه. تأمّل في ما حدث في الماضي، واعتبر أن الله قد هيّأه منذ خلق العالم. عاد إلى أمور طبيعيّة فرأى فيها معجزات الله المتواصلة من أجل شعبه الضعيف المقهور. وما اكتفى المعلّمون بتذكّر المعجزات الماضية، بل هم قد اجترحوا مثلها في أيامهم: جعلوا المطر ينزل كما فعل إيليا حين أقام ابن الأرملة. وأخرجوا الشياطين لأنهم اعتبروا أن العالم كله تحت سلطتهم. وأعطوا ما معهم فما فرغت أهراؤهم كما فعل رابي اليعازر على مثال أرملة صرفت صيدا بالنسبة إلى إيليا. وفعلوا كم فعل موسى حين صارت يده برصاء، ليهربوا من التجربة.
ما يمكن أن نلاحظه هو البحث عمّا يعجز الإنسان، عمّا يدلّ على قدرة الله التي تعمل من أجل شعبه وأتقيائه، عمّا يدهش. وهذه الظاهرة باقية في أيامنا حين نقرأ النصوص الإنجيليّة. نتوقّف عند قدرة يسوع الذي يُجري المعجزات وننسى التعليم الذي توخّاه الإنجيليّون حين رووا لنا معجزة من المعجزات. كل هذا يدعونا إلى أن نعرف كيف نقرأ الآيات والمعجزات. فقد تقود إلى الإيمان ولكن الربّ يقول لنا ما قاله لتوما: "طوبى للذين لم يروا وآمنوا".
الخوري
بولس الفغالي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM