خاتمة

خاتمة

حين نقرأ أم نحس أننا لم نشبع. أحسسنا بتشتّت الملاحظات وتبعثر النصائح. رأينا وجهات أدبيّة مغلقة على ذاتها ولا ترتبط مرارًا بالقرينة المباشرة. ثم إن تعدّد الكتيّبات يضلّل فكرنا فينقلنا دومًا من عالم إلى آخر.
ولكن الكتاب لا يخلو من تماسك داخلي، أساسه نيّة الكتّاب بأن يقودوا الإنسان في طرق الاستقامة والحكمة، في عالم ديني يؤمّن الحياة والنجاح.
ويرتبط أم بسائر أسفار التوراة حيث يبحث المؤمن عن قائد يوجّه سلوكه إلى الله. هناك ارتباط فكر وتعبير بين أم وديانة العهد، ولكن أم يدل على أصالة خاصة. فعالمه هو سلوك الفرد ومصيره، ومشاكله هي مشاكل الحياة اليوميّة، هي مواجهته مع العالم، مع سائر البشر (البلاط وعامة الشعب) وعيوبهم وشرورهم، ومع السحر الذي يمارسوه على الشاب الذي لا خبرة له ليعلّموه النجاح بالرذيلة والعنف. قد يحدث للحكيم أن يرافق سائر معلّمي الاخلاق، ولكنه يفتح طريقه وحده. يتعرّف إلى رفاق الله في حكماء من أرض إسرائيل أو خارج أرض إسرائيل، ولكنه يحافظ على أصالته حتى ولو انكبوا مثله على البحث عن كيان الحكمة وطريقة التعبير عنها في الوحي البشري باسم شريعة أسمى، عن وضعها في فكر الله وعن عملها.
كل حركة الكتاب مبنيّة على اهتمام لجلب الإنسان إلى حياة فضلى، إلى انفتاح دائم على عالم تعمل فيه اغراءات متنوعة، إلى قلق ولّده سرُ تحيط به الحكمة نفسها.
لن نجد شميلة ترضينا. ولكن كل تعاليم الكتاب تتوجه نحو هدف واحد هو لكوين المؤمن المثالي كإنسان كامل ومتعلّق بالرب. ومن أجل هذا النجاح يضع المعلمون مبادئ الديانة التقليديّة (لا يعلنونها ولا يرفضونها) قرب مبادئ الخبرة البشريّة. هذه المبادئ هي ثمرة وحي أناس اتصلوا بواقع الطبيعة وما فيها من عبوديّات، اتصلوا بامثالهم وما تفرضه الحياة الاجتماعيّة من مساومات. فالتهذيب والاستقامة لهما مكانهما مع مخافة الله. والنجاح والفشل هما نتيجة المعرفة أو الجهل والبلادة. ولكن لا حتمية اطلاقًا. والظلم والمكر لا ينقصان كثيرًا، لأن الربّ يوزّع الخيرات والشرور توزيعًا عادلاً. وسيتوجّه علماء الاخلاق إليه ليجدوا ما يصحِّح تفاؤلهم الذي تكذّبه الأوضاع الحاضرة.
لا يظهر أم تشكّكه من نجاح الشرير وشقاء البار، مع أن المشكلة ظهرت في أيامه مع الأنبياء (حبقوق، إرميا) وصاحب المزامير والحكماء (أيوب، الجامعة، كل من زاويته). هناك أقوال تبيّن أن أم لم يكن أعمى ولا مخدوعًا أمام هذه المثاليّة المشوّهة. فعالم الأشرار وأرباحهم ظاهر في الكتاب كخطر يجب أن نتجنّبه: الشاب الفاسد، والمرأة الساحرة بجمالها (ف 1- 9)، والأشرار المشاركون في الحياة العامة (ف 28- 29)، كل هذا يشكّل فشلاً للفلسفة. إن قوّة هؤلاء تتكوّن من نجاحهم. ولكن الحكماء لا يبدون مغتاظين من فشل يمكن أن يُخسرهم ثقتهم بنفسهم وبمجهودهم. فروح النقد الشرسة عند صاحب المزامير ضد المتنعّمين الناجحين، وقلق أيوب أمام مشكلته وثورته أمام براهين أصدقائه الضعيفة، كل هذا ينبع من موقف الأتقياء الذين يعتبرون أن نجاح الشرير فشل لله لا يطاق. أما أم فيعتبره حاجزًا ضد تحقيق التوازن البشري الذي هو حياة في الفرح والثبات والكرامة والفضيلة، دون غنى ولا فقر. فالحكمة في سلوكنا وسائر القيم الاخلاقيّة والدينيّة ستتغلب على هذا الوضع. فالمجازاة ستتمّ بطريقة ما، وذلك ما دام العقل والخبرة والفطنة والضمير ومخافة الله يلعب دوره.
إذًا، أم هو نظرة متفائلة إلى عالم البشر، ودعوة للتغلّب على هذا العالم بالعقل الذي هو انعكاس الله في الإنسان. فالحكمة في عمل الخلق تبدو وسط البشر مثل نور الضمائر فتبرّر هذا التفاؤل على مستوى الإيمان. ففي هذا الكتاب لا تبدو أخطر الوقائع مأساوية ولا تلك التي توجّه الحياة البشرية. من أجل هذا يُدفع القارئ إلى الدخول في هذا الكتاب كما في سفر الجامعة وسفر أيوب، ولن يكون خاسرًا. فالابتسامة والتفكير اللذان نجدهما وراء كل قول يبرهنان على أن المؤمن (بل الإنسان) يدرك تعليمًا شخصيًا وأنه سعيد لأن أشخاصاً ملهمين وقريبين من اهتماماتنا قد كلّمونا بلغة تختلف عن لغة الشريعة والأنبياء

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM