الفصل الخامس والأربعون
أخلاقية العلائق البشرية
عرضنا حتى الآن موضوع الحكمة، وقابلناه بمقولات البرّ والشرّ. وها نحن نوسّع الآن بحثنا فنجمع حول بعض المواضيع الأقوال التي تشير إلى العلائق المتبادلة بين البشر.
1- الصدق، الإنصاف، العدالة
ذكّر الأنبياء مرارًا بمتطّلبات الصدق في الأعمال (عا 8: 5 ؛ هو 8:12- 9؛ مي 6: 11-12؛ رج تث 13:25-16). والحكماء أيضاً يشجبون كل سلوك معوج ومعارض لموقف مستقيم وصادق. فالكذبُ يُعرف سريعًا ويولّد الاحتقار. أما الصدق فيولّد الطمأنينة (10: 9 ؛ 8:12). إذًا من المفيد أن يسير الإنسان مستقيمًا، ومن الخطر أن يترك حسّه يغشّه (15:12 ؛ 12:14؛ 25:16؛ 2:16؛ 2:21 ؛ 8:21؛ رج 2: 20- 22). وفي 21: 2 يبدو يهوه القاضي الرفيع الذي يدين القلوب والنوايا.
واختبار الحكماء يتيح لهم أن يعلنوا أن الاثم لا ينفع في الحياة (1: 2؛ 3:11- 4؛ 13: 11) وأن الكمال والعدالة يخلّصان من الموت.
ويوافقون الأنبياء (عا 5: 12؛ أش 1:23؛ إر 3:22؛ حز 22: 12؛ رج تث 1:17 ؛ 16: 19) فيحذّرون من استعمال عاطل للعدالة أمام المحاكم. فالربّ يمقت القضاة الأشرار (17: 15 ؛ 26:، 18: 5) والمحاباة في الحكم. وهو يرذل أيضاً شهود الزور ورجال المكر (14: 5، 25)0 الشاهد الامين ينجّي من الموت. أما شاهد الزور فيحمل الموت (رج 6: 19؛ 18: 1 2). فالذين يهزأون بالعدالة (19: 28) ويضيعونها (12: 17) يبادون (19: 5، 9؛ 21: 28). والربّ يمقت الذي يتّهم الصديق، كما يمقت القاضي الفاسد الذي يبرّئ الشرير (17: 15؛ رج 6: 19 ؛ 24: 24). ويحارب الحكماء الرشوة لدى القضاة وحبّهم للهدايا (23:17 والشرير يدل على القاضي، رج 15: 27). وهناك تحذير للقاضي (18: 17) الذي يُسحر بأوّل المتكلمين، فلا يعود يكتشف الحقيقة عندما يتكلّم الخصم.
2- الكلام
إهتمّت حكمة الشرق بهذه الوجهة من العلائق البشرية. الحكيم يعلّم ويعرف أن يقدّر الخير والشرّ اللذين ينتجان من الكلمة. ولقد توقّف ف 10 عند هذه المسألة وفيه نجد 12 مثلاً (من أصل 32) تتحدّث عن الكلام.
يشدّد الحكماء على الكلام في الحياة الاخلاقيّة. فالإنسان يقدر بكلامه وشفتيه وفه، أن يقدّم الحكمة والمعرفة (13:10، 31؛ 15: 2، 7). في هذا المعنى "ترعى كلماته الشعوب " (10: 21). والكلام هو ينبوع تناسق بين البشر "فشفتا البار" تنشران اللطافة التي تقطرها (32:10). والكلمة المهدئة هي شجرة حياة (15: 4). هذا ما يعنيه 18:12 ب: "لسان الحكماء يشفي ". وما يختصّ به فم الصديق هو أن يكون ينبوع حياة (10: 11). ويلخّص مثل 20: 15 خيرات الكلمة الصالحة، فيعظّم قيمة الشفاه المتعلّمة التي لا تقدّر. وهكذا، إن نتائج كلام البار تساوي ما ينتجه كلام الحكيم والإنسان العارف.
ولكن الكلام يمكن أن يقود إلى الموت (18: 21): "الموت والحياة هما في سلطة اللسان ". هذا يصحّ بالنسبة إلى الحياة والموت في النطاق الطبيعي. مثلاً: في المحكمة. ويصحّ أيضاً في النطاق الأدبي. فتجاه خيرات كلام الحكماء يضع أم نتائج كلام الأشرار والجهّال. فهو يقدر أن يسبّب دمار مدينة (11: 11). فكلمة يقيم فيها الفساد تحطّم الروح (15: 4) وتُسقط الإنسان إلى الأرض (10: 14 ؛ 18: 7). ولهذا تُعتبر خطيئةُ الشفاه مثل فخّ قاتل (12: 13) يفلت منه الصديق. فأن أخفى كلامُ الأشرار العنف (10: 6، 11)، فكلام الجهّال يولّد الجنون والشرّ (15: 2، 14، 28).
ولكن الإنسان يستطيع أيضاً أن يجد بعض الفائدة من الكلام. "كل يشبع من ثمر الفم " (12: 14 ؛ 13: 2 ؛ 18: 20- 21). و "ثمر الشفتين " هو كلام مديح (هو 3:14؛ أش 57: 19). وهكذا إن 12: 14 و 13: 12 يدلاّن على أن الإنسان الذي يتكلّم بالخير عن الجميع ويستعمل لسانه استعمالاً حسنًا، يحصل على بعض الخير من كلامه. أما الفاسدون فلا يطلبون إلاَّ كلام العنف. ويشدّد 23:21 على أهمية استعمال الكلام استعمالاً حسنًا. من حفظ فه ولسانه حفظ نفسه من الضيق.
والكذب بأشكاله المتنوّعة (الافتراء، شهادة الزور) مرذول. فالشفاه الكاذبة رجس عند الربّ (12: 22) الذي لا يرضى إلا بالحقّ. ومن هنا التهديدات: اللسان الكاذب لان يثبت (19:12). لا نستطيع بالكذب أن نجمع ثروة تدوم (6:21). المسكين خير من الكاذب (19: 22)، لأن الله يرضى عن المساكين. يرى الناس الكاذب فيأخذون حذرهم منه. ليس من شريف وليس من إنسان يحترم نفسه يرضى بالكذب والكذّابين (7:17). فالأشرار وحدهم يشاركون الكاذبين ويحثّون على التواطئ معهم (17: 4). أما شهادة الزور فقد تحدّثنا عنها في مناسبة النظر إلى علاقات العدالة بين البشر.
ويشجب الحكماء أيضاً الميل إلى الافتراء والنميمة. وفي 8:18 (رج 22:26) نجد ملاحظة وتحذيرًا: كلمات النمّام كقطع الحلوى، فهي تنزل إلى أخادير الجوف. ويرى الحكيم خطأ في الوقاحة التي تنتج الخصومة (13: 10). وترتبط السخرية والهزء (25:19) بالكبرياء والاكتفاء الذاتي (21: 24؛ رج 21: 11)، ويُعتبران ينبوع منازعات واحتقار (22: 11)، ويعدّان مثل خطيئة الفكر واللسان (رج أش 28: 9- 13). والذين نقرأ عنهم في 21: 11، 24 هم خصوم الحكماء (22:1؛ 7:9؛ 13: 1؛ 6:14 ؛ 6:15 ؛ رج 14: 9 حيث الأغبياء الذين يسخرون من الخطيئة هم من الساخرين. ولكن قد نكون أمام موقف باطني). والذين نجدهم في 22: 15 هم حواجز أمام التفاهم. وفي 15: 10 نحن أمام الشفاه المجنونة مع العيون الغامزة. قد نكون أمام مؤامرات رديئة كما في 1: 10 ي ؛ 3: 29 أو أمام شرّ ماكر كما في 6: 12- 15.
وهناك شكل من خطأ اللسان يهاجمه الحكماء هو الثرثرة. فكثرة الكلام تهوّر يقودنا مرارًا إلى الخطيئة: فالإنسان العاقل يحفظ نفسه (10: 9). فالكاتب ينظر إلى الحكمة والأخلاقيّات ووجهة السلوك الدينيّة. فمن عرف أن يخفّف من حدّة لسانه كان حكيمًا (12: 18، 27:17- 28)، كان راجح العقل (11: 13). أما الذي يتكلّم كثيرًا فهو يفقد نفسه (13: 3، 21: 23)، ويصل إلى الفاقة (14: 23)، ويخسر ثقة الناس، ويدلّ على خفّة عقله. من أجاب دون أن يفكّر (13:18) ناله الخزي.
إذا كان الجواب الطيّب والمناسب هو خيرٌ للجميع (15: 1؛ رج 12: 18)، ففلتان اللسان الذي يمنعنا أن نحفظ سرًا (11: 13)، يعرّضنا لزرع الشقاق بين أفضل الأصحاب (28:16؛ 17: 9). فمن الخير أن لا نختلط بالفضوليين (20: 19). فالجاهل الذي يتكلّم دون ان ينتبه إلى كلامه يجرح الآخرين (18:12) وتصل به الأمور إلى النميمة والافتراء (20: 19؛ رج 15: 4، 28) ويناله الغضب (15: 1).
وتجاه جماح اللسان يذكّر العلماء بخير السكوت. فالإنسان العاقل يسكت (11: 12- 13)، فيتجنّب هكذا أن يحتقر قريبه (12:11). إنه يحمل الطمأنينة.
3- السيادة على الذات
يُعتبر كل جموح في الطبع وفي الطرائق نقصاً في الحكمة. فلماذا التحرّك دون أن نفكّر؟ والتسرعّ يقود إلى الضلال (19: 2) ويوصل الإنسان إلى الفاقة (21: 5). وهنا تأتي النصائح التي تعلن التروّي: فالإنسان الذي يسود على طبعه أفضل من الذي يحتلّ المدن (23:16). ومن عرف أن يتجاوز الاساءة دون أن يغضب، يستحقّ التكريم (19: 11). فالإنسان الذي يفكّر، يعرف أن يكون صبورًا (14: 17). ويصيب حكمُ الحكيم الغضب والإنسان الجامح والعنيف. ولكنه يمتدح الإنسان الصبور والمتروّي. غير أن الحكيم يبقى على مستوى الاخلاقيّة الطبيعيّة، ولا يرتفع إلى نطاق العالم الفائق الطبيعة. فالصبر علامة ذكاء، والاحتداد علامة جهالة (14: 29). فمن أخّر انطلاقة غضبه، دلّ على رزانة (19: 11)، ومن احتد ونزق، ترك المجال حرًا لكل الجهالات (17:14) لأن الإنسان المحتدّ لا يرى إلا أن يحقّق رغبته دون أن يسمع إلى أحد (18: 1).
وللمنازعات والخصومات والخلافات مكانة خاصة في العلاقات البشريّة في مجتمعات منغلقة على ذاتها. هناك خلافات الرعاة حول بئر نمتلكها (تك 25:21- 26؛ 26: 19). هناك اختلاف في الآراء (إر 15: 10؛ مز 55: 10) يحاول القانون أن ينظّمه (تث 17:19؛ 21: 5؛ 25: 1)، ويبيّن الأنبياء الخطأ الذي فيه (أش 58: 4). ولقد حذّرت أسفار الحكمة الشرقيّة من كل منازعة وخصومة، وطلبت من العاقل أن يتجنّب معاشرة الخاصمين. وسبب الخصومة هو في قلب الإنسان، في عجزه عن التسلّط على ذاته. ويبيّن 18:15 العلاقة بين الصبر والتهدئة، بين الغضب والخصومة. والتهديد بالعقاب يذكّر الغضوبين بالعدالة التي تخيف (19: 19).
وفي 17: 14 يحذّرنا الحكيم من الميل إلى رفع الدعاوى: لن نتخلّص منها بسهولة (19: 20). نحن نؤخذ كالسيل، فلنتوقّف منذ البداية. كانت القرعة وسيلة لفضّ الخصومة المستعصية (18:18)، ولكنّها لم تكن يومًا برهانًا على العدالة. فطوبى للذين ينصحون بالسلام (12: 20).
الصبر فضيلة إنسانيّة والغضب رذيلة، والمشاجرة ترافق الخطيئة (17: 19). وهذا يعني أننا في عالم أخلاقيّة دينيّة.
4- عواطف تجاه القريب
إحتقارُ القريب هو عملُ إنسان فاقد اللب (11: 12). أما الحكيم فيلتزم بالصمت، لا يعطي حكمًا ولا يتلفّظ بكلمة. ولكن الموقف المحتقر يعتبر خطيئة (14: 21) بل معصية وجرما (19:17).
وفي أساس الازدراء تجد الشرّ (18: 3)0 الشرّ الداخلي أولاً: نفكّر في الشرّ، في الجريمة (18:6؛ رج 1: 10- 16). هنا نجد أيضاً الضالّين (22:14) والذين لا خير فيهم (27:16) يستعدّون للشرّ. لا شيء يوقف طبيعة هذا الشرّ الذي يخبئه الناس في قلوبهم والذي لا يستطيع الجهال أن يتخلّصوا منه (13: 19). في أي حال، يشكّل هذا الشرّ تهديدًا للآخرين وتهديدًا للذين يفكّرون فيه. وهؤلاء الناس يقابلون الذين يسعون للخير ويتقبّلون في نفوسهم الرحمة والامانة (14: 22). فالحكمة والرحمة تترافقان، والجهالة والشرّ يتصاحبان.
ويشجب 13:17 أولئك الذين يردّون على الخير بالشر هذه اخلاقيّة بدائيّة. ولكن هل نستطيع أن نردّ على الشرّ بالشرّ؟ لقد سمحت به الشريعة (خر 21: 23- 25 ؛ لا 24: 19- 20، أي إنسان أحدث عيبًا في قريبه، فليُصنح به كما صنع: الكسر بالكسر، والعين بالعين، والسن بالسن). ولكن متطّلبات الحكماء أرفع من هذا القول. فسفر الأمثال (20: 22) يمنعنا أن نردّ على الخير بالشرّ. ويقول لنا: ترجَّ الله وهو يخلّصك. الله هو الديّان وهو الذي يحكم على الأعمال والنيّات. ونقرأ في 24: 29: "لا تقل: كما صنع بي هكذا أصنع به، أردّ للإنسان مثل صنعه " (دون الرجوع إلى الله). وفي 25: 21- 22: "إن جاع عدوك فأطعمه خبزًا، وإن عطش فاسقه ماء، فإنك تركم على هامته جمرًا والربّ يجازيك " (رجوع إلى الله).
ويمتدح الحكماء عواطف المحبة والرحمة. فالحبّ الذي يعارض البغض هو أثمن من كل غنى، وهو يعوّض عن الفقر، بينما البغض يفسد الغنى (17:15). ويؤكدون على حبّ القريب بالاهتمام بالفقير. هنا يسير الحكماء في خطى المشترعين والأنبياء. أجل، ليست الرحمة نادرة عند البشر، وهي أكثر وجودًا من الأمانة. على كل حال، يجب أن تكون أولى فضائل الإنسان (19: 22)0 المحبة "تستر الخطايا" (لا تحسب لها حسابًا) وبالتالي تتجنّب المنازعات، وهكذا تخالفُ البغضَ القاتل (10: 12). تعلّمنا كيف لا نصمّ اذنينا عن صراخ الفقير (13:21)، بل أن نرحمه ونعطيه خبزًا (9:22) وأن نسقيه ماء إذا جاء عطشانا (25:11). فمن فعل هكذا نال البركة وكرّم الخالق (14: 31؛ 17: 5). فمن أعطى الفقير أقرض الله الذي يردّ له ما أعطاه (19: 17). "والنفس الحاملة البركة تنال فيضا من العطايا". "والإنسان الرحوم يحسن إلى نفسه ". "والإنسان الرحيم يُبارك " (17:11، 25؛ 22: 9). "فهنيئًا للإنسان الذي يرحم المساكين " (14: 21- 22). هذه فريضة يحدّثنا عنها الحكماء دون أن يرجعوا إلى الله.
ويقابل هذه المدائح وهذه البركات اعلانُ الشقاء للإنسان القاسي والذي لا رحمة في قلبه. سيُمنع عنه ما امتنع أن يعطيه. ملعون من يهزأ بالفقير أو يسخر منه (17: 5؛ 21: 13؛ رج سي 10: 23).
يعود العمل إلى صاحبه. وهذا الكلام يهدّد من يرفض أن يعين قريبه في الضيق. هذا ما يقوله العلم الاخلاقي في العهد القديم. لن نقول إن الحكماء يبحثون في هذه الأقوال عن منفعة شخصيّة. فهناك أمثال تبيّن عكس ذلك (رج 17:15 ؛ 19: 22). فالحكماء اختبروا الحياة وعملوا على تربية تلاميذهم، فشدّدوا على عودة نتيجة العمل إلى ذلك المسؤول عنه.
5- الصداقة
إنها شكل من أشكال المحبّة والرحمة. فيها الثبات في الضيق كما في الفرح. "فالصديق يُحبّ في كل حين " (17: 17). وهناك صديق أقرب إليك من أخيك، وآخر يقودك إلى الدمار (18: 24). هناك صداقة وصداقة.
فإذا كانت المودّة والثبات علامة الصداقة الحقّة، فالنفع والخيانة هما علامة الصداقة الكاذبة. ويُشير الحكماءُ مرارًا إلى أن الفقير لا صديق له، أما الغنى فيجتذب الأصدقاء إلى صاحبه. نقرأ في ف 19 ثلاثة أمثال عن هذا الموضوع: "الغنى يُكثر الاصدقاء، والفقير يفارقه صديقه (آ 4). كثيرون يستعطفون وجه الشريف، كل يصادق صاحب العطايا (آ 6). جميع إخوة المعوز يبغضونه، فكم بالاحرى اصدقاؤه يبتعدون عنه " (آ 7). ونقرأ في 14: 20: "المعوز يبغضه حتى صديقه، وأحبّاء الغني كثيرون ". هذا هو الواقع وهو يدعو إلى التشاؤم.
6- الغني والفقير
تطوَّر المجتمعُ الإسرائيلي من عالم البدو إلى عالم الأرض والمدينة، فتكوّنت طبقات اجتماعيّة، وتولّدت تناقضات بين أناس لم تعد تجمعهم وحدة الإيمان. ويقدّم لنا الكتيّب الثاني من سفر الأمثال حكمة تبدو سابقة للأنبياء والكتبة. إنها حكمة المزارعين (10: 5 ؛ 12: 9، 11؛ 23:13؛ 15: 19 ؛ 13:26، 16: صورة الكسلان والبطال ؛ رج 6:6- 11) والذين يعيشون من تربية المواشي (12: 10؛ 14: 4 ؛ رج 23:27- 27). يتطلعّ الإنسان إلى شتاء الربيع (16: 15 ؛ 2:19 1). ويتطلعّ أيضاً إلى الملك. وهناك ظلم فادح هو المتاجرة بالحبوب (26:11، رج ما فعله يوسف في مصر: تك 47:41- 57). قد تكون بعضُ هذه الأمثال معاصرة لعاموس وهوشع، ولكنها لا تملك شدّة اللهجة التي تحلّى بها هؤلاء المدافعون عن اليهوية (ديانة يهوه) المهدّدة. ولكن أخلاقيّة الحكماء هي أخلاقية الأنبياء والتقليد الاشتراعي. إنهم مربّون يوعون الضمائر. يقفون على مستوى الاستقامة البشريّة، ولكنهم لا يرفضون نظرة دينيّة إلى واجبات الغني وحقوق الفقير. يطلبون الشفقة من أجل الفقير، لأن الرب يهتم به.
يراقب الحكماء المجتمع ويريدون أن يكونوا معلّميه فيتعرّفون إلى فوائد الغنى. إنه حماية لصاحبه، أما العوز فيسبّب خراب الفقير (10: 15؛ 18: 11؛ رج 40: 25). فالغني تحيط به حلقة من الاصدقاء، بينما يترك الفقيرُ وشأنه (14: 20؛ 19: 4، 5). ويعرف الحكماء أيضاً أن مصدر الغنى قد يكون الظلم: "الغني يسود المعوزين والمقترض يكون عبد المقرض " (7:22). هذا أمر يمقته الرب. كانت الشريعة قد تكيّفت مع العبودية المتأتية عن الدين (خر 21: 2 ؛ تث 15: 12؛ لا 39:25) وكان الرجل يبيع ابنه أو ابنته (رج خر 21: 7- 11 ردة الفعل لدى نحميا، رج نح 5: 1-17)، فقبل الحكماء بهذا التدبير رغم اقترابهم من الطبقة الميسورة.
ومع هذا، فهم يسمحون لنفوسهم بانتقاد الغنى من الوجهة العقلانيّة: فاقتفاء الحكمة والفهم خير من تكديس الأموال (16: 16). "والصيت أفضل من المال الكثير" (22: 1). الشهرة تلازم الحكيم، أما الغنى فعابر وزائل. والبرّ وحده يتيح لنا مستقبلاً سعيدًا (11: 28؛ رج مز 1 :3؛ إر 8:17). والفقر يُفضَّل على الغنى من وجهة أخرى. فالغنى ينبوع كدر: الهموم والخصومات تلاحق الأغنياء، أما الفقر فيتيح للإنسان أن يعيش في طمأنينة (8:13 ؛ 16:15؛ 17: 1؛ رج سي 31: 1- 11 الذي يقول إن الغنى ينبوع خطيئة). ويندّد الحكيم بمن اغتنى بسرعة. فمثلُ هذا الغنى مهدّد بالزوال (13: 11؛ 4:23 ي ؛ 22:28).
ويقدم النصّ أيضاً وجهة المؤمن. فالغنى يأتي من الله، والإنسان لا يقدر ان يفعل شيئًا. هذا ما يقوله أحد الحكماء (10: 22). ولكن آخرين يقولون إنه ثمرة عمل الإنسان ونشاطه (11: 16) وفضيلته (التواضع: 22: 4 ؛ الحكمة: رج 8: 18). وإذا كان الغنى غشّاشًا، فلأنه ليس مباركًا (من الله) بسبب العكر في أصله (20: 21). ثم إنه لا يفيد شيئًا في "يوم الغضب " (يوم الربّ كما يقول الأنبياء). ما يهمّ هو البرّ الذي "ينجّي من الموت" (2:10).
ويشدّد الحكماء على التناقض بين الأنبياء والفقراء، ويعلنون أنهم يفضّلون الفقراء. فتجاه الفقير الذي يعطيه شغل الحقول طعامًا وافرًا، يضعون الشرّير الذي يهلك (23:13). وتجاه الفقير الذي يتوسّل، يضعون الغني الذي يقسّي قلبه ويتجافى بكلامه (18: 23)0 الله نفسه يقف بجانب الفقراء ويناصر قضيّتهم: فمن شتم فقيرًا أو سخر منه، أغاظ الله. ومن رحِمَه أكرم الله (14: 31؛ 17:19). لن نكون رابحين إن أقرضنا الأغنياء وحدهم، لأننا حينذاك نفتقر ولا نغتني. ولن نكون رابحين إن ظلمنا الفقير، لأنه سيغتني (16:22؛ رج 22:13؛ 8:28)، لأن الله سيباركه رغم كل شيء. ثم إن السخاء أنفع من الاقتصاد والتقتير (11: 24).
ويضع الحكماء تجاه الفقير، الظالمَ الذي لا يعرف الانصاف (23:13)، والكذّاب (19: 22) والإنسانَ الذي لا قلب له (18: 29). فالفقير الذي يتصرّف باستقامة هو أفضل من البليد المنحرف الشفتين (19: 1؛ 28: 6). وهناك شكل من الظلم: إحتكار الغنى (بالغش أو الباطل 21: 6)، إحتكار القمح فيلعننا الشعب (11: 26). والجاهل العائش بالباطل هو وصوليّ يحتقر الفقير العاقل (رج 28: 11). والبلادة التي تتبجّج ويعوزها الخبز (12: 9)، تجعل الإنسان يتظاهر بالغنى ولا شيء له (7:13). نشير أيضاً إلى أن هذا المثل يهاجم الفقير الكاذب والبخيل الذي يتظاهر أنه محتاج لكي ينعم بخيراته دون أن يقلقه أحد.
مثل هذه الأحكام مطلقة. ولكن الحكماء سيخفّفون من حدّتها. فليس الفقر دوما علامة فضيلة. وقد يكون ثمرة تبذير المال في الملذات (7:21) أو وضع أناس يختفون بالعيش وراء الأوهام (12: 11) أو في الكسل: فلا بركة لمثل هؤلاء. وهناك مثل يجعلنا نعيش في الحتميّة: "الغني والفقير تلاقيا، والرب صنع كليهما " (22: 2؛ رج 13:29). أين سيتلاقيان؟ هل في ارتباطهما بالله أم في بداية الحياة ونهايتها (أي الموت)؟ نحن هنا قريبون من جا 6: 1-6.
7- العلاقات البشرية في المجتمع
أ- العائلة
يتوافق الحكماء مع الفكر البيبلي فيعتبرون أن الأولاد العديدين هم شرف لوالديهم. وسيقدم 17: 6 القضية العكسيّة: الآباء هم اكليل البنين، وكمال البار عربون سعادة لأبنائه من بعده (14: 26؛ 7:20).
ويتطرّق الحكيم إلى واجبات الأولاد نحو والديهم انطلاقًا من تث 5: 16. وهناك أمثال تندّد بالعنف ضدّ الأهل، وتهدّد من يلعنهم (19: 26؛ 20: 20؛ 28: 24؛ 30: 11، 17؛ رج 22:21). ولكن الحكماء يعون ما تحمله حكمة الولد من تعزية، وجهالة الولد من كدر (10: 1؛ 15: 20؛ 17: 21، 25؛ 13:19 ؛ 27: 11؛ 7:28؛ 3:29).
لا يتحدّث أم عن علاقات الاخوّة إلا ليقابلها مع الصداقة (18: 24 ؛ 27: 10). فالاخوّة تظهر خاصّة في وقت الضيق (17:17)، وتصبح قوّتها عنفًا حين تحلّ اغاظة بالأخ (18: 19). واهتمّ الحكماء بقضايا التربية وقد بدأ الكتيّب بهذا المثل: "الابن الحكيم يسرّ أباه، والابن الجاهل غمّ لأمه " (10: 1). فمن خلال كلمة "موسر" نجد التوبيخ والعقاب وكل وسائل التربية. والأب والأم يهتمان بالتربية كما يقول الحكيم (10: 1؛ 25:17؛ رج 1 :8).
الابن متشعّب. الأبن لغز. ونحن نتعرّف إليه من خلال أعماله. نعرفه "إذا كان عمله نقيًا ومستقيمًا" (20: 11). وانطلاقًا من هذه المعرفة نبدأ بتربيته منذ بداية الطريق على سلوك لا يتركه ولو صار شيخًا (6:22، 18:19). فالتربية الابويّة هي أساس كل أخلاقيّة (15: 1؛ رج 1:8- 9). فمان غابت، صار ابن العائلة رجلاً محتقرًا يتغلّب عليه العبدُ البسيط (17: 2). فعليه ان يقبل بالتوبيخ لئلاّ يحيد عن كلمات المعرفة (19: 27)، عن المعرفة التي هي حكمة وقاعدة حياة.
لا غنى عن التربية لأن الولد يحمل في ذاته "الجهالة المتأصلة في قلب الشاب" (22: 15). وإذا أردنا أن نزيل الغباوة نستعمل العصا. والتوبيخ مهما كان قاسيًا، يشفي أخادير الجوف (20: 30). فاستعمال العصا علامة حبّ (13: 24)، فمن تركها أبغض ابنه (13:23- 4، من أصلح ابنه حماه من الموت، من النزول إلى الجحيم). ولكن نستعمل العصا بطريقة مترويّة، فلا نتعدّى الحدود المرسومة. إن التوبيخ يؤثّر أكثر من مئة ضربة، شرط أن يكون الابن فطنًا لا جاهلاً (17: 10).
التوبيخ والعقاب لا ينفعان الاولاد فقط، بل الجهّال أيضاً، لأن البراهين لا تقنعهم (13:10؛ 17: 10؛ 29:19). ثم إن عقاب الجهّال يكون عبرة للبسطاء، ويدفعهم ليكونوا حكماء.
ب- الشيوخ والشبّان
إذا عدنا إلى التقليد الإسرائيلي نجد أن الشيخوخة تُعتبر بركة من عند الله. فالشعر الأبيض "إكليل مجد" ونتيجة حياة بارّة (16: 31؛ 20: 29). إلا أن العلاقة بين الشيخوخة والحكمة ليست ظاهرة في هذا الكتيّب. فكل ما نراه هو أن الحكمة التي هي ثمرة بحث طويل هي نتيجة عمل امتدّ العمر كله. وليس لسفر الأمثال ما يقوله عن الشبان إلا أنهم لا يُولدون حكماء. لقد بيّن ف 1- 3 أنهم يميلون إلى عدد من الرذائل: ولكنهم أقوياء، وقوّتهم تشكّل جمالهم، كما أن الشعر الأبيض يشكّل جمال الشيوخ (20: 29).
ج- المرأة
قالوا إن الحكمة في بني إسرائيل لا تقيم اعتبارًا للمرأة. ولكن هذا القول لا يصحّ في الكتيّب الثاني. نقرأ في 11: 16: "ذات الحسن تحصل على المجد". كما أن الرجل القوي ينجح فيحصل على الغنى، كذلك تحصل المرأة الجميلة على المجد (رج 5: 15- 20 حيث يرتبط جمال المرأة بأمانتها). "والمرأة من دون عقل هي حلقة من ذهب في أنف خنزير" (22:11).
وينتقد الحكيم ساخرًا خلافات النساء. إنهن كَوكْف لا ينقطع (19: 13؛ 27: 15- 16). ولهذا فالحياة لا تُطاق مع المرأة النقناقة الخاصمة (2: 19).
والمرأة هي قبل كل شيء أم ومربّية. فالحكمة هي مثل امرأة تدعو الناس إلى بيتها أو تكون سيّدة بيتها (1: 20- 21؛ 8: 1ي؛ 3:9 ي)، وهذا ما يبرز أيضاً الوجهة الايجابيّة في دور المرأة. هي في بيتها المرأة القديرة والداهية والزوجة والأم المثاليّة (31: 10- 31). نقول عنها إنها: "رضى من لدن الربّ " (22:18؛ 19: 14) واكليل لزوجها. أما المرأة الفاسدة فنخر في عظامه (12: 4). ونجد مثلاً واحدًا عن خطر المرأة الزانية والغريبة (أو العاهرة). فمن أخذ بكلامها المعسول يمقته الرب (22: 14 ؛ رج 2: 16- 25؛ 5: 6؛ 7:23، 27).
خاتمة
هكذا بدت أخلاقية العلائق البشرية في أم. نحن أمام شعب مزارع يحاول أن يبحث عن السلام في بيته وفي محيطه. لهذا شدّد على فضائل الصدق والإنصاف والعدالة، كما حذّر من الكلام الكاذب وما يرافقه من افتراء ونميمة. كل هذا يفترض السيادة على الذات والاحترام للقريب مهما كان مستواه الاجتماعي. وهكذا نصل إلى حياة من السعادة داخل العائلة صغيرة كانت أم كبيرة، إلى حياة من التناغم داخل المجتمع، تُبنى على الصداقة والتعاون.