الفصل الأربعون
الله الأسمى
يتحدّث سفر الأمثال عن الإنسان ووضعه الحياتي. لهذا لن نجد فيه تحديدًا عن طبيعة الله. غير أننا سنحاول أن نكتشف طرقه وصفاته. ونبدأ مع الاله الأسمى، الاله الذي يرتفع فوق العالم ويشرف على الكون.
هناك تمييز بين والسموّ والتلازم. فالتلازم يدل على حضور الله داخل الكون. أما السموّ فيجعله فوق الكون أو ما وراء الكون. نستعمل لفظة السموّ في ارتباطها مع طبيعة الله لندلّ على أن جوهره غير مقيّد ولا محدود بما في الكون. ولكن حين نقول بسموّ الله، فقولنا لا يتعارض مع نشاطه وحضوره في العالم. فالله يستطيع أن يفعل ويكشف عن ذاته في عالم الإنسان، ولكنه لا ينحصر في حدود الزمان والمكان.
1- الإله الأسمى في أم
لاحظ الشرّاح منذ زمن بعيد غياب العناصر الانتروبومورفية (تشبّه الله بالإنسان) في الأدب الحكمي. وهذا ما يبدو واضحًا في سفر الأمثال.
أ- رب العدالة والمجازاة
ما يتميّز به أم هو تصويره للربّ كالديّان السامي وكافل العدالة في العالم. وإليك بعض الأمثلة: "لعنة الربّ في بيوت الأشرار، وبركته في بيوت الصديقين. بالساخرين يسخر الرب، وعلى المساكين يسكب نعمته " (أم 33:3- 34). ونقرأ في 5: 21: "طرق الإنسان يراها الربّ، وهو يمهّد جميع مسالكه ". وفي 3:10: "الربّ لا يقاوم رغبة الصديقين، وأما هوى الأشرار فيصدّه ". وفي 12: 2: "الرب يرضى عن الصالحين، ويدين من يذمّ الآخرين " (رج 15: 25؛ 7:16؛ 20: 22؛ 22: 12، 22- 32؛ 23: 10-11؛ 24: 11- 12،14، 17- 18؛ 25: 21- 22؛ 25:28 ؛ 29: 25- 26).
إن الله يرى الكون، يعرف الكون ويسوسه بطريقة تؤمّن العدالة للأفراد. إن اعتقاد الحكماء المتين بالربّ كمحافظ على العدالة والنظام، قد ارتبط باعتقاد يقول إنه الاله السامي، الذي هو فوق حدود الإنسان وضعفه. وحده الاله المتعالي يستطيع أن يقوم بهذه المهمّة "المستحيلة" وهي تأمين العدالة لكل فرد من الأفراد وفي جميع أوضاع الحياة. بما أن الله يشرف على العدالة والمجازاة، فقاطع أم التي تتحدّث عن الربّ العارف بكل ما يحدث في العالم، هي مهمّة جدًا. فعين الله حاضرة في كل مكان. هو يراقب كل شيء ويعرف أفكار الإنسان الخفيّة. في هذا المجال نقرأ 15: 3: "عينا الرب في كل مكان، تراقبان الأشرار والأخيار". وفي 15: 11: "أرض الأموات واضحة للرب، فكيف قلوب بني البشر". وفي 22: 12: "عينا الرب تنظران المعرفة، وتستبقان كلام الغادرين ". فالرب "يزن ما في القلوب ويتبيّنه " (12:24). هو يعرف "فيجازيك حسب عملك " (رج 21:5).
كلّ هذا يشكّل مقدّمة لفهم الحكماء لله، ويدلّ على موقفه الرفيع بالنسبة الى العالم. هذا ما تعبّر عنه 3:17: "البوتقة تمتحن الفضّة والذهب، والربّ يمتحن جميع القلوب ". إن الشطر الأول الذي يعود إلى تصفية المعادن هو موضوع معروف في التقليد النبويّ (أش 1: 25 ؛ 48: 10؛ إر 6: 29- 30؛ حز 22: 17- 22؛ دا 12: 10؛ ملا 3: 3). وهو يتكرّر في 27: 21. إنطلق الكاتب من مقابلة الله مع البوتقة، فبيّن أن الله وحده يعرف ما في داخل الإنسان. أما معرفة الإنسان فتبقى محدودة ولن تكون يومًا كاملة. ونجد في 5: 21 مثلاً يتحدّث عن الرب الذي يرى كل شيء، ثم عن شرور الإنسان التي هي فخّ له. طرق الإنسان هي أسلوبه في العيش بشكل عام. وحين نقول إن الله يزن طرف الإنسان فهذا يعني أن الله يرى هذه الطرق رؤية كاملة. فلا شيء يفلت من عينيه، والإنسان مسؤول أمامه عن كل تفاصيل حياته. والارتباط بين المدلول القائل إن الله يراقب، ووظيفته كمحافظ على العدل في عالم البشر، نجده هنا في 22:5- 23 مع دينونة تبدو في صورة ميزان. "يؤخذ الشرير بشرّه، وتمسكه حبائل خطيئته... ".
هناك قول أوردناه في 22: 12 حول الربّ الذي يرى كل شيء. يسهر على كل شيء، ويهتمّ بتأمين العدالة للإنسان. إن الربّ يرى الأعمال الشريرة ويعاقب الإنسان بسببها. نكاد نظنّ أنه لا يرى الأعمال الخيّرة، فهو يعتبرها أمرًا طبيعيًا. ولكن عينيه تنظران بالأحرى إلى أعمال الشرّ.
في هذا المجال، نقرأ 15: 11 حيث تُنزع السطر. فالعالم التحتي (الشيول والهاوية) مفتوح أمام الله. لم يعد مغلقًا أمام سلطانه. فالشيول والهاوية ليستا سلطة مستقلة أو ألوهة تتحدّى الله. عالم الأموات السرّي يدركه نظر الرب.
والله يعرف الأفكار الداخليّة لدى الفرد. هذا ما نقرأه في 24: 11- 12. إن هذا يدلّ على أن الحكماء اطّلعوا على مسألة البار المتألم. فهذه المسألة تدلّ على "وجود" العدالة والنظام. فالله الذي يرى كل شيء، ليس بمسؤول. هذا ما يدلّ على حريّة الإنسان ومدى تدخّل الله في الكون. فالإنسان هو في وضع يستطيع أن يختار بين أن يتدخّل أو لا. والله عالم بالظلم، وهو سيدين ذاك الذي يرى ولا يفعل، كما يدين كل من يُفسد العدالة. نقرأ في 15:17: "تبرئة المجرم وتجريم البريء كلاهما يمقتهما الرب ". وفي 22:22- 23: "لا تقهر الفقير لأنه فقير، ولا تسحق المسكين في القضاء. فالربّ يردّ التهمة عنهما، ويسلب نفوس سالبيهما". وفي 23: 10- 11: "لا تزح الحدود القديمة، ولا تدخل حقول الأيتام. لأن الربّ وليّهم قدير، يردّ عداوتك عنهم " (رج 26:29).
رغم هذه الأقوال التي تتحدّث عن التزام الله الناشط في دينونة الأعمال الشريرة، فمن المهمّ أن نلاحظ أن أم لا يقول شيئًا عن تدخّل الربّ لينقذ البريء الذي تركه الجميع (ما عدا 23: 10- 11 حيث يتدخّل الله من أجل الضعفاء). هذا مثل يدلّ على معرفة الحكماء بأن الجور يسيطر على عالم البشر ومع ذلك، نلاحظ أن الله عالم بهذا الوضع ويعتبر الإنسان مسؤولاً حتى ذاك الذي لم يفعل شيئًا ليساعد انسانًا بريئًا. فالاهمال خطير مثل العمل الايجابي. من قتل إنسانًا يشبه من ترك إنسانًا يموت.
ب- الرب الخالق
وما يميّز سمّو الله وطبيعته المتعالية هو أنه الخالق. لقد لاحظنا أن التقاليد حول الله خالق الكون والإنسان هي تقاليد مميزة في أم، وهي تستعمل لتقوية تعليم الحكماء. ففكرة الله الخالق (خلق كل شيء) هي اعتقاد معروف لا يحتاج إلى برهان. بل هي الأساس لبراهين تتعلّق بمواضيع أخرى.
إن نظرة شاملة إلى النصوص التي تتحدّث عن الخلق في أم، تدلّ على اختلاف تام بين الله الخالق من جهة، وبين الخلائق من جهة أخرى. هذا يعني أن الحكماء رأوا في الله ذاك المتعالي عن الخلائق، لا الملازم لها. يعود بنا 8: 22- 31 إلى زمن سبق خلق كل شيء، إلى زمن أقام فيه الله السماء، وجعل للأرض أساساتها. فالفكرة الأساسيّة في هذا النصّ هي التأكيد على وجود الحكمة قبل الزمن. ولكننا نجد فيه أيضاً صورة عن الخالق. فكل شيء في الكون، من السماء إلى الغمر، قد صنعه الله الأزلي والكائن قبل جميع الخلائق. وهكذا يتحدّث النصّ عن قدم الحكمة، وعن وجود الاله المتعالي.
ويربط أم 16: 4 (الربّ صنع الجميع لغاية ما) و 13:29 (الربّ ينير أعين) بمسائل الربوبيّة في تأكيدها على أن الربّ هو خالق الجميع، حتى الأشرار، وأن لكل واحد هدفًا. الله هو وحده الخالق وهو السامي الذي لا يُسبر، الذي لا يدركه الإنسان. فالإنسان لا يستطيع أن يفهم أسرار الكون العميقة. وهكذا تكون مسائل الربوبيّة مناسبة لتبيّن الفجوة الواسعة بين الله المتعالي والإنسان المربوط بالأرض.
ج- تصوّر الحكمة لله
هناك واقع يعني علاقة الإنسان بالله في أم، وهو أن الإنسان لا يتوجّه مباشرة إلى الله. هذا لا يدهشنا في أقسام الكتاب المؤلَّفة من أقوال مأثورة. ولكننا انتظرنا أن نجده في أم 1-9 حيث نستطيع أن نتخيّل أن الكلام خرج من فم الله. فما وجدناه. ماذا نجد محلّ هذا في أم 1- 9؟ تشخيص الحكمة (ابرازها كشخص حي) التي تمثّل الله أمام الإنسان (مثل الأنبياء). هي تتكلّم، لا الله. تكلّم الإنسان بالسلطان الذي تملكه وفي صيغة المتكلّم المفرد (أنا: وُجدت أنا)، وتقدّم له خيار الحياة أو الموت المؤسّس على الطاعة لكلمتها أو لعصيانها.
إذا عدنا إلى 1: 20- 33؛ 8: 1 ي؛ 9: 1- 6، نجد أن الحكمة تأتي في شكل منظور، إلى ساحة المدينة حيث يجتمع الناس. تتكلّم بشكل واعظ أو نبيّ يعلن كلمته، فتدعو الشعب إلى التوبة (1: 22- 23). وما تعتّم أن تبدّل لهجتها فتشجب عدم التوبة (آ 24- 32)، بعد أن رفض الشعب نداءها.
حين نتأمَّل في مضمون الخطبة، نلاحظ أن الحكمة تدعو الإنسان لكي يرتبط بها. فالعلاقة بالحكمة وبتعليمها تعني الحياة أو الموت. فإياها يجب أن يدعو "المتصلّبون " لتساعدهم ساعة يحلّ بهم الدمار. يُذكر الله مرة واحدة في 1: 20- 33 (ما اخترتم مخافة الربّ، آ 29). نقل الأنبياء تعليم الربّ في صيغة المتكلّم المفرد، واضعين أمام الإنسان الموت والحياة. أما الحكمة فانطلقت من سلطانها وتحدّثت بالقوّة عينها. هناك تشديد على العلاقة بالحكمة، فصار الله بعيدًا عن الإنسان. وظيفة النبي والحكمة تمثّلان الله أمام الإنسان. ولكن الحكمة ترتدي سلطتها لكي توجّه كلامها إلى الإنسان. أما العلاقة بين الله والنبي فهي علاقة المرسل مع الذي أرسله والسيّد مع خادمه.
وهذه العلاقة الحميمة بين الله والحكمة، نجدها في ف 8 حيث تظهر الحكمة أيضاً في الساحة العامة، فتتوجّه إلى الناس في صيغة المتكلّم المفرد. غير أن خطابها يختلف في لهجتها الإيجابيّة والمقنعة عن ف 1 . فمضمونه يقابل تعليم الحكمة العادي ويدلّ على الخير الذي يكون لنا حين نتعلّق بمشورة الحكمة. فالعلاقة بالحكمة تدلّ على الخيار الذي نختاره (الحياة أو الموت). يُذكر الله في آ 35 حيث العلاقة وثيقة بين الحكمة والرب. "من وجدني وجد الحياة، ونال رضى من الربّ ". و "الحياة" و "رضى الربّ " هما نتيجة اكتشاف الحكمة. فالحكمة تلعب الدور الأول بالنسبة إلى الإنسان. غير أن الحديث عن أن رضى الربّ ينتج عن اكتشاف الحكمة، له أهمية لاهوتيّة. فنحن ندلّ على علاقة الله بالحكمة، كما ندلّ على المسافة بين الله والإنسان. فنحن ننال رضى الربّ عن طريق الحكمة. ففي صورة الحكمة ووظائفها، نكتشف الإنسان المحدود أمام الله، والله المتعالي أمام الإنسان.
وترسل دعوتان في ف 9 للمشاركة في عيد هيّأته الحكمة (حيّد إلى هنا، تعال كل من طعامي، آ 4- 5)، أو للعودة إلى الحماقة (آ 16- 17). نتيجة الدعوة الأولى هي الحياة (أشركوا الحماقة فتحيوا، آ 6)، والثانية هي الموت والشيول. وينهي الفصل التاسع القسم الأول من أم فيشدّد بشكل دراماتيكي على الخيار بين الحكمة والحماقة.
2- أم وسائر تقاليد العهد القديم
حين نقابل أم مع سائر أسفار العهد القديم، نحاول أن ندخل إلى نظرتنا تقاليد أخرى، فندلّ على وحدة الكتاب المقدس في مختلف تياراته.
أ- تقاليد الحكمة
من السهل أن نرى أن اهتمام الله بالعدالة والمجازاة يشكل موضوعًا رئيسيًا في النظرة إلى الله في سائر كتب الحكمة. هذا ما نجده في سفر أيوب المبني على سؤال يقول: هل الله عادل ومستقيم؛ فأيوب واصدقاؤه لا يشكّون أن آلام أيوب تأتي من الله الذي في تساميه يسوس العدالة وينفّذها. فالمشكلة بالنسبة إلى أيوب هو أنه لا يجد نسبة بين قساوة "العقاب " وخطورة خطاياه.
ويختلف سفر الجامعة عن سائر الأسفار في وجهته السلبيّة في الاعتقاد بعدالة الله. إنه يتساءل: هل من عدالة في العالم؟ قد يبدو في بعض المرات أن الحكيم في سفر الجامعة يأخذ بالاعتقاد التقليدي بأن الله هو كافل العدالة. ولكنه ما يعتّم أن يعارض هذا الاعتقاد (8: 10- 15: رأيت أشرارًا يُدفنون بكرامة، 9: 1- 6). ومع ذلك، ليس من اختلاف جوهري في النظر إلى الله كمسؤول عن العدالة. الاختلاف هو أن "الحكيم " يحلّل الواقع الملموس ويجد أنه غير كافٍ . وفي النهاية، لا يقدّم قوهلت أي تعليم غير مستقيم حول طبيعة الله أو علاقة الإنسان به. فالله يبقى الربّ المتسامي والمتعالي الذي يهتمّ بالعدالة في العالم. ولكن طرقه (في نظر سفر الجامعة) تبقى خفيّة على الإنسان فلا يستطيع أن يلجها. فعلى الإنسان أن يتقبّل الفرح الذي تقدّمه له الحياة كهديّة من الله.
وهذا التعليم عن الاله المتعالي نجده أيضاً في المزامير الحكمية: 37: "لا تغرمن أهل السوء. ولا تحسد الذين يجورون "؛ 29: "إسمعوا هذا يا جميع الشعوب ": 73: "الله صالح للمستقيمين، صالح لأنقياء القلوب ".
والتشديد على فكرة الله الخالق بطبيعته المتسامية، نجده أيضاً في تقاليد الحكمة. ففي مقدمة أي، يتشكّى أيوب فيتمنّى أن يعود الكون إلى العدم. هذا يعني أنه يثق بأن الله يحافظ على النظام في الخليقة. فخُطب أيوب التي تبدو بشكل تشكٍ فردي، تتضمّن عودة إلى خلق الإنسان بشكل تساؤل مؤلم. "يداك كوّنتاني وصنعتاني... من الطين جبلتني... كسوتني جلدًا ولحمًا وجبلتني بعظام وعصب. منحتني حياة ورحمة، وعنايتك حفظت روحي... لماذا أخرجتني من الرحم؛ إذن لمتُ ولم ترني عين " (أي 8:10- 18؛ رج مز 22: 10- 11؛ 6:71).
النصوص الرئيسية المتعلّقة بالخلق في هذا السفر، هي خطبتا الله اللتان تعدّدان ظواهر الكون بشكل أسئلة بلاغية. "أين كنت (يا أيوب) حين أسست الأرض؟... من أقرّ حجمها إن كنت تعلم؟ من الذي أرسى حجر زاويتها" (38: 4 ي)؟ ومع أنه لا علاقة خاصة بين هاتين الخطبتين ووضع أيوب الشخصي، إلا أنهما تشكّلان جوابًا لأيوب فتفهمانه أن الله الخالق يمسك بيده كل شيء. بهذه الأسئلة البلاغيّة التي بها يكشف الله عن نفسه، يدلّ على المسافة الواسعة بين قدرة الله وامكانيات الإنسان المحدودة. فنظرة الإنسان محدودة بحيث لا يستطيع أن يصل إلى فهم كامل لبنية الكون ولا للقوة التي تحرّكه. وهكذا نلاحظ أن الربوبيّة توسّع الشق بين الاله المتسامي والإنسان في محدوديّته. وهناك شرّاح يلاحظون أن سفر الجامعة يعود إلى تك 1- 3 في برهانه حول الحياة الباطلة: خُلق الإنسان كالحيوان. وهو مثله يموت. أخذ من التراب ويعود إلى التراب. في جا 3: 11 يؤكّد الحكيم على الخير الذي في الخلق كما في تك 1 (ورأى الله ذلك انه حسن)، ولكنه يعلن حالاً: إن الإنسان "لا يدرك أعمال الله من البداية إلى النهاية".
إن جا يتركّز على الاعتقاد بالله كالخالق وعلى مسائل تشير إلى عدم النظام واللا عدالة في الخلق. هناك أشياء عديدة لا تُفهم في الكون، لأن الله جعل الكون بهذا الشكل. نحن هنا بعيدون كل البعد عن البحث المتفائل عن المعرفة كما نجده في أم. إن اللا منطق في العالم يقود من جهة إلى الانفعالي وعدم التحرّك، ومن جهة ثانية إلى التأمّل في تسامي الله الذي لا يُدرك حين ننظر إلى أعماله.
وإذا توقفنا عند مزامير الحكمة، وجدنا أن مز 104 يشدّد على عمل الله الدائم لكي يحفظ التناسق والنظام في خليقته. كما يصوّر الربّ العظيم الذي لا تستطيع المياه ولا لاويتان شيئًا ضدّ قدرته. فالمرتل لا يفكّر في الله على أنه الخالق المتسامي في الماضي السحيق. بل هو يحفظ الخليقة الآن لئلا تموت وتزول. وهذا ما يدلّ على علاقته الرفيعة بكل شيء.
حين تحدّثنا عن طبيعة الله المتعالية، رأينا أن لا علاقة مباشرة بين الله والبشر في أم. فالحكمة تقوم لهذه الوظيفة (أم 1- 9). هناك مثل لافت في أي عن حوار مباشر مع الله، أو ما ظنّه أيوب الله. ولكننا لا نجد ما يوازي هذه الوظيفة التي فيها تكون الحكمة واسطة، في أي من الأسفار الحكمية الأخرى. ففي جا الذي يتميّز ب "البعد" عن الله، لا محاولة لردم الهوّة بين الله والإنسان. وفي أي، نلاحظ أن أيوب يعود إلى "واحد" يقف بجانبه، ويعمل كوسيط ليحكم بينه وبين الله الذي هو أبعد من إدراكه.
وهكذا نستنتج أن التعالي والبعد يميّزان مدلول الله في تقاليد الحكمة في العهد القديم. ولكن هناك بعض التخفيف في أم من خلال تشخيص الحكمة (هي شخص حي)، وفي أي من خلال كلام الله عن نفسه، وفي المزامير من خلال التعبير عن الإيمان والثقة بالله. أما بُعد الله في جا فيرتبط بطبيعة بحثه الفلسفي ومقاربته النقديّة من الواقع.
ب- سائر التقاليد
لا نستطيع أن نتوسَّع في العلاقة بين ما قلناه عن الاله المتسامي في أم، وما نكتشفه في تقاليد العهد القديم. لهذا سنلقي نظرة سريعة إلى بعض النقاط.
فالنظرة إلى الله المسؤول عن العدالة والمجازاة ليست محصورة في تقاليد الحكمة، وإن اتخذت مكانة كبرى في هذه الأسفار. فهذا الادراك لله هو أيضاً أساس التقليد النبوي. ففي نظر الأنبياء، يتعارض الله القدوس أساسًا مع كل خليقة خاطئة. هذا يعني أن دينونة الله تقع حيث تسود الخطيئة. فكرازة الأنبياء كلّها مبنيّة على الاعتقاد بالله كالديّان السامي وكالمجازي. فالأنبياء يرسلون تعليمهم من قبل الله الذي يعتبر البشر مسؤولين عن طريقة حياتهم، لا في المجال الديني وحسب، بل في المجال السياسي والخلقي والاجتماعي أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، لا تنحصر حلقة نشاط الله في إسرائيل، بل تمتدّ إلى سائر الشعوب. وهذا واضح من الحكم على جيران إسرائيل. الربّ هو إله على كلّ الأرض وهو يدين كلّ الأمم ويعاقبها (أش 24: 1، 21).
ولا ننسَ أيضاً التقليد الاشتراعي. فالمفهوم حول المجازاة ينقسم اثنين: إما البركة وإما اللعنة، حسب إيمان أو لا إيمان الإنسان بالربّ (1 مل 8: 31- 32: ليست النتائج موافقة لأعمال الشرّ والخير، لهذا يجب على الله أن يتدخّل). وهذا المفهوم هو المفتاح من أجل تفسيرنا تاريخ إسرائيل كله. فالتاريخ الاشتراعي يبرز برّ الله في ممارسة العدالة، ويفسّر تقلّبات مصائر الأمم انطلاقًا من طاعتها للربّ.
هذان الواقعان يبيّنان أن الاعتقاد بإله مسؤول عن العدالة والمجازاة، هو في خطّ تقاليد العهد القديم الكبرى، وأن التقاليد الحكمية هي مشتركة مع قسم كبير من أسفار التوراة. أما ما هو خاص بأسفار الحكمة، فهو تطبيق رسمة المجازاة على الأفراد. وهو التشديد على دور الفرد، وهذا ليس بغريب عن الأنبياء (حز 18 ؛ إر 31: 39- 30) ولا عن كتّاب التقليد الاشتراعي (صورة الملك في تث 17: 14 ي، مع التشديد على الحياة الخلقيّة الفرديّة).
وهناك مراجع تتحدّث عن الله الخالق فتتضمّن الكلام عن تساميه. فالنصوص حول خلق العالم في أم تدلّ على ذات الاتجاه لكي نتجنّب السطر (قريب من عالم الميتولوجيا) والصور الانتروبومورفية (يشبّه الله بالإنسان)، والذي نجده في خبر الخلق في تك 1. ففي كلا الحالين نحن أمام تأسيس الكون وتنظيمه كعالم يليق بالحياة. والحديث عن الربّ كخالق الإنسان، الذي هو أساس الخلقيّات، لا يجد ما يوازيه في سائر تقاليد العهد القديم. ففي أش 40- 55، برز خلق الكون والإنسان في جوّ وطني وتحرري، وموضوع الخلق صارا أساسًا للثقة وتشجيع المؤمنين. "أما عرفتَ، أما سمعت أن الرب إله سرمدي خلق الأرض بكاملها؟ هو لا يتعب ولا يملّ أبدًا، وفهمه يعمى على الادراك. يمنح المتعب قوّة، ويزيد فاقد القدرة احتمالاً" (أش 40: 28- 29؛ رج 43: 1- 7، 19- 21 ؛ 44: 2، 21- 28). ونجد في أش 45: 7 (أنا مبدع النور وخالق الظلمة. وصانع الهناء. وخالق الشقاء. أنا الربّ صانع هذا كله) و 54: 16 (أنا خلقت الحدّاد لينفخ الجمر... وأنا خلقت المقاتل) تأكيدًا بان نشاط الله الخالق يشمل حتى الوجهة السلبيّة في النظام الخلقي. وهذا ما يجعلنا قريبين من أم 16: 4 (الربّ صنع الجميع لغاية ما، حتى الشرير لسوء المصير) و 13:29 (الفقير والابله يتساويان والربّ ينير أعين كليهما).
إن وظيفة موضوع الخلق في أش 40- 55، هي التشديد على تسامي الله وعظمته. ففكرة الله الخالق هي أساس للثقة بقدرته واستعداده للعمل من أجل شعبه في الزمن الحاضر أما الموضوع عينه في أم 10- 16 فهو أساس للخلقيات الفردية. والهدف اللاهوتي الأول في نشيد الخلق في تك 1، هو الاعلان بأن الله هو وحده خالق كل شيء. واستعمال موضوع الخلق في أش 7:45 ؛ 54: 16 وأم 16: 4؛ 13:29 يدلّ على هدف واحد بين النصين. نجد شقًا واسعًا بين الله الخالق والعالم المخلوق، مع اختلاف في الفهم اللاهوتي. ففي خبر الخلق (تك 1) يصوّر الخلق كحرْب بين قوى متصارعة.
وتبقى صورة الله المتسامي، وعدم الاتصال المباشر بين الله والإنسان، وتشخيص الحكمة كممثّلة لله. فالله يستعمل وسيطاً في سائر أسفار العهد القديم. فوظيفة الأنبياء هي أن يتكلّموا باسم الله في صيغة المتكلّم المفرد، وأن يمثّلوا الشعب أمام الله. وموسى أيضاً يقف في الوسط بين الله والإنسان. ولكن البشر لا يمارسون وحدهم وظيفة الوسطاء. فهناك صورة "ملاك الربّ " الذي بسلطة كلمته وقربه من الربّ، يبدو وكأنه يتماهى مع الربّ. وفي الوقت عينه يصوّر ككائن منفصل (تك 7:16- 14 ؛ 17:21). إن وظيفة ملاك الربّ تبدو شبيهة بوظيفة الحكمة في أم: أن تردم الهوة بين الله المتسامي والإنسان العائش على الأرض. إن ملاك الربّ يمثّل الربّ وله سلطة بأن يقدم مواعيد يقدّمها الله نفسه (تك 15: 5 و 10:16).
3- أم والحكمة المجاورة
في هذه الخطوة، نقابل بين طبيعة الربّ المتسامية في أم، مع مدلولات اللاهوت في الأدب الحكمي الواسع كما عرفته حضارات تحيط بأرض فلسطين.
أ- بلاد مصر
نبدأ فنقابل أم مع الفن التعليمي في الأدب المصري. وتتوزّع النصوص منذ المملكة القديمة حتى زمن البطالسة.
وأول شيء نلاحظه في صورة الألوهة في هذه النصوص، هو أن الله يبدو بشكل عام، وكأن لا "اسم " له. هو "إله ". و"تعليم أمينيموفي " يعود إلى الألوهة باسمها في نصوص قليلة، مع أن العودة إلى عالم اللاهوت متواترة. وهذا التعليم (كما في أم) لا يدخل بشكل واضح في جدال حول طبيعة الألوهة. فالألوهة تعود بنا إلى موضوع الثقة بالله والاتكال عليه (أمينوفي 9: 5 ؛ 14: 1). إنها فوق الإنسان وتوجّه مصير الإنسان.
نقرأ في أمينوفي 13:24- 18: "الإنسان هو طين وقش، والله هو بانيه. هو يهدم وهو يبني في كل يوم. هو يصنع آلاف الفقراء بإرادته. يحوّل آلاف الرجال إلى رؤساء في ساعة من ساعات الحياة".
أولاً: الله المتسامي
ويسمّى ف 18 من أمينوفي "مديح الله المتسامي". "لا تنم في الخوف من الغد. فحين يأتي اليوم، كيف يكون الغد؟ فالإنسان يجهل ما يكونه الغد. الله هو دومًا في كماله. والإنسان هو دومًا في نقصه. الكلمات التي يقولها البشر شيء، وأفعال الله شيء آخر.
"لا تقل أنا ما أخطأت، ثم تسعى إلى النزاع. فالخطأ يخصّ الله وهو يختم القرار بأصبعه. فما من كمال أمام الله. ولكن هناك صدعًا أمامه. إن سعى أحد إلى طلب الكمال، ففي وقت صغير سيفسده. شدّد قلبك، هدّئ قلبك، لا توجّهه بلسانك. إذا كان لسان الإنسان هو ربّانه، فربّ الكل هو أيضاً موجّهه ".
نرى هنا الشرح الواسع بين إله الكمال والإنسان الضعيف. والنظرة إلى الله الذي هو مسؤول عن العدالة والمجازاة يعود إلى التقليد الحكمي في مصر فالآلهة المصرية (رع، تحوت، حورس، أمون، بل الملك الذي هو ابن رع، وابن تحوت) تصوّر على أنها ترى كل شيء وتعرف كل النشاط البشري ولا سيّما أعمال الشرّ. نجد هذه النظرة بشكل خاص في "التعليم الموجّه إلى الملك مريكارع "، كما نجدها في أماكن أخرى.
"بما أن الله يعرف من يحوك الخيانة، فالله يضرب المتمرّدين في الدم". "جيل يتبع جيلاً، والله الذي يعرف الطبائع هو الخفي. لا يستطيع أحد أن يقاوم سلطان اليد فيدرك كل ما تراه العيون". "هو الله الذي يدين الأبرار. يأتي قدرُهم فيأخذهم". "حين رفع الشعب يده، فالله يعرف بذلك. هو يعرف الشرير الذي يفكّر بالشرّ ويعرف الصالح والذي عظمة الله في قلبه. قبل أن يسال اللسان، فالله يعرف الجواب ".
و "تعليم فتاح حوتب " الذي يعود إلى المملكة القديمة يتحدّث أيضاً عن الله الذي يمنح النجاح والصحة والتقدّم لشخص من الأشخاص. فالنصوص تربط النجاح والصحة والتقدّم بسلوك الإنسان وطبعه. ويعود "تعليم مريكارع " إلى الدينونة بعد الموت ساعة يُعاد النظر في أعمال الإنسان ويُدان بحضوره. فيقول إن الاله يفضّل العمل المستقيم على التقدمة الصالحة. كما يقدّم نظرة تشبه إلى حدّ بعيد التعليم عن المجازاة. "إنه لشرّ أن تدمّر، لا فائدة من اصلاح ما تعطّل، وإعادة بناء ما تدمّر فاحذر! فالصفعة يرد عليها بالصفعة، وهناك جواب لكل عمل ".
في "تعليم أمينوفي " ترتبط الخلقيات بإرادة الله ورضاه. هو لا يقول إن الإنسان مسؤول عن أعماله، ولكننا نستطيع أن نفرض هذا القول. وهناك بردية تعود إلى حقبة البطالسة (بردية انسنجر). إنها تردّد في نهاية كل مقطع: "الله هو الذي يحدّد مصير وحظّ كلّ إنسان ". وهكذا نرى أن الله هو المجازي العادل. "فالذي مات في منتصف حياته، يعرف الله ما فعل. فالله لا ينسى أن يعاقب كل جريمة".
إن الاعتقاد بأن الله مسؤول عن العدالة والمجازاة، نجده في كل الحقبات، ولاسيّما في المرحلة الأخيرة. الله يتّخذ القرار. وعلى الإنسان أن يقبل بتواضع كل ما تحمله إليه الحياة. في بعض التعاليم نجد عنصرًا اعتباطيًا في أعمال الله من أجل الإنسان أو ضدّه. نجد مثلاً في أمينوفي 24: 13- 18 (ذكرناه أعلاه) وهو يخبرنا عن الله الذي يهدم ويبني كل يوم، يصنع آلاف الفقراء، وآلاف الرؤساء. إن مثل هذه المقاطع تلقي الضوء على حريّة الله وسلطانه، ولكنها تدلّ أيضاً على بعض الاعتباطية في طبيعة الاله. غير أن هذا العنصر في الصورة لا يجب أن يحوّل نظرتنا إلى الله كالمتعالي والسامي في طريقة عمله في العالم. نحن لا نفهم أعمال الله وهذا ما يجعل الاله متساميًا فوق الإنسان.
ثانيًا: الإله الخالق
والميزة الثانية في الله هو أنه الخالق السامي. ونجد العلاقة بين تعاليمه وعمل الخلق في موازاة نقرأها في "تعليم مريكارع " الذي يتضمّن مديحًا لله الخالق. هو نصّ دوّن في الديموتية (الكتابة الشعبية) المتأخّرة. هو بردية "انسنجر" التي تتضمن مديح الخليقة لله (23:31- 17:32) مع مقطع رئيسي يقول إن الله صنع كلّ شيء وهو يحافظ على مسيرة الكون. إن هذا المديح هو جواب لسؤال يبدو كما يلي: "كيف تروح الشمس والقمر في السماء ويجيئان؟ من أين يجيء الماء (والنار والريح) وإلى أين يذهب؟ كيف تصبح التعزيمات والكتابة أدوية"؟
يروي هذا التعليم كيف أن الله صنع كل شيء في الخلق من أجل الإنسان، وخلق الإنسان على صورته الخاصة انطلاقًا من جسده. ويعلن في النهاية أن "الله يعرف كل الأسماء". إن وظيفة نشيد الخلق داخل هذا التعليم، هي أن تبرز ما في الخلق من خير ومساعدة من أجل الإنسان: النبات والحيوان من أجل الطعام، قوّاد ليعينوا الضعيف، السحر ضد الأرواح الشريرة. كل هذا يدلّ على حضور الله الناشط ليحافظ على النظام.
ونجد اشارة إلى خلق الإنسان في علاقته بالخلقيّات في أمينوفي، في سطور اوردناها حول الإنسان الذي هو طين وقش وحول الله الذي هو بانيه. "لا تضحك على الأعمى ولا تهزأ من القزم، ولا تضع العراقيل للأعرج. لا تهزأ من الإنسان الذي هو في يد الله، ولا تغضب عليه إذا سقط. فالإنسان هو طين وقش... " (8:24- 13).
إن القول بأن الله هو خالق الكون والجنس البشري، يبرز الفرق الأساسي بينه وبين الخليقة. والله هو المرتّب الذي ينتمي إلى عالم فوق عالم الإنسان. خلق كل شيء من أجل هدف معيّن. وهذا الهدف يتجاوز انتباه الإنسان. وهكذا يحتاج الإنسان إلى تعليم حكمي يستند إلى التقليد والخبرة والفكر اللاهوتي لكي يعيش في راحة في هذا الكون.
وكما في سفر الأمثال. كذلك في التعاليم المصرية، نجد غيابًا لاتصال مباشر بين الله والإنسان (في أم ستكون الحكمة الوسيط). فالتعليم يبدو بشكل إنسان ينصح ابنه أو معلّم يعلّم تلميذه. ولا نجد أبدًا صيغة المتكلّم الإلهي. وكما في أم 1-9، نجد في "تعليم مريكارع " أن "معط " يلعب دور موصل الارادة الالهية إلى الإنسان.
وإذا وسّعنا نظرتنا إلى أبعد من العالم الحكمي فوصلنا إلى سائر الأدب المصري، نستطيع أن نقدم الملاحظات التالية.
الأولى: لا نجد مجموعة شرائع آتية من مصر وهذا يعود إلى دور فرعون الذي هو إله، وأن كلمته كلمة الله. هذا الواقع قد أثَّر على النظرة إلى الله في مصر لا يصوّر القرار الذي يصدره في لغة قانونية بل على أنه مشيئته ورضاه.
الثانية: تعود كل الآلهة في مصر إلى الاله الخالق، بل هي تعتبر جزءًا من الخلق في أعلى درجاته. وهكذا تساءل بعض الشرّاح: هل الآلهة المصريون متعادلون في المعنى الحقيقي للكلمة؟ لهم بداية ولهم نهاية. يُولدون، يُصنعون، يتحوّلون في الزمن، يتبدّلون ويموتون، ولن يكونوا في يوم من الأيام. يبدو أن المصريين آمنوا بإله أولاني. في البدء وُجد إله (خلق نفسه، الاله الشمس) خلق سائر الآلهة. في هذا المعنى، فتاح، رع، امون، اتوم، أي إله خالق، كلهم يعودون إلى أبي الآلهة. وهؤلاء الآلهة محدودون على مستوى الجغرافيا (ليسو في كل مكان) ومستوى القدرات (لا يستطيعون كل شيء). في المملكة الحديثة سيعطى للإله الشمس صفات شاملة. وهكذا إن كان الآلهة مثل البشر محدودين، وإن كان الشرّ سبق خلْقَهم، فلا يستطيعون أن يكونوا مسؤولين عن اللاعدالة والشرّ في العالم بل كمقاتلين مع البشر ضد الشرّ.
لقد فسّر بعض العلماء غياب الربوبيّة في مصر بغياب الشرائع المكتوبة وبالتالي النظرة إلى العدالة كحقّ ومطلب. ثم إن اعتقاد المصريين بالخلود جعل اللا عدالة في هذه الحياة موضوعًا أقل أهمية. وهناك نصّ في المملكة الوسيطة عنوانه: "خلق كل البشر متساوين في الفرص ". يرتبط بالربوبية ويتذكّر جا 7: 29 (وجدت أن الله صنع الإنسان مستقيمًا ولكن الإنسان يكثر من سوء الظن) وتك 3 فيندّد بالشرّ في قلب الإنسان وعصيانه، لا في الخالق. "لقد صنعت كل إنسان مثل قربيه. لم آمرهم بأن يصنعوا الشرّ، ولكن قلبهم تجاوز ما قلت لهم ".
ثالثة: الملاحظة الثالثة حول الديانة المصرية ترتبط بدور "معط ". إن "معط " يمثِّل النظام والتناسق في الخلق الذي هو دومًا مهدّد ويحتاج إلى إعادة تنظيم. هل نستطيع أن نجد الحكمة المشخَّصة (كما في أم 1- 9) في صورة "معط " أو في غيرها من الصور؟
هناك تشابه بين "معط " والحكمة المشخَّصة: على مستوى تقديم الذات. ولكن معط لا يوجّه كلامه أبدًا إلى البشر، وهذا ما يميّزه عن الحكمة التي تبدو كواعظ ومعلّم، فتعطي سفر الأمثال سلطته الرفيعة.
ب- بلاد الرافدين
في مجموعة النصوص التي تسمّى "محاولات فكرية"، نجد نمطاً من التعبير اللاهوتي في الأقوال حول الآلهة والإلاهات. ففي مجموعة أمثال، يذكر إله شخصي مثل أوتو/ شمش نينجيشيدا، إينانة.
هناك مقابلة بين أم وبعض حكمة بلاد الرافدين خلال الحديث عن الآلهة المسؤولة عن العدالة والمجازاة. وينسب إلى الآلهة الكبار رؤية شاملة ومعرفة شاملة، بمعنى أن لهم علمًا فائق الطبيعة بنشاط الإنسان. هناك أنو، انليل، أيا، سين، شمش، مردوك. ثم بعض الآلهة من درجة دنيا. وترتبط النظرة إلى المعرفة الشاملة التي بها يراقب الإله ويعلم نشاط كل إنسان بدور الإله ووظيفته على مستوى الشريعة.
فالإله الشمس، اوتو/ شمش، هو مسؤول عن العدالة والإنصاف. ونجد مثلين سومريين يدلاّننا على الطريقة التي بها يمارس أوتو العدالة. الأول: "سفينة تهتمّ بالأمور المستقيمة تسير نحو البحر مع الرياح. طلب لها أوتو أمورًا مستقيمة". والثاني: "سفينة تهتمّ بالأمور الكاذبة تسير نحو البحر مع الرياح. إن اوتو يجعلها تتحطّم عند الشاطئ ".
في مجموعة أمثال متقطّعة جاءت متأخّرة من بلاد الرافدين، لا نجد الشيء الكثير حول النظرة إلى الآلهة كمسؤولين عن العدالة، مع أن هناك إشارات تدل على أن الآلهة يملكون المعرفة الشاملة، وأنهم يعتبرون البشر مسؤولين عن أعمالهم.
وهناك عدد من المحاولات الفكريّة المرتبطة بالاعتقاد بالعدالة والمجازاة في هذا العالم. فالنصّ السومري "الإنسان والهه " يتحدّث عن ألم لا نستحقّه. يعبّر الإنسان عن وعي لخطيئة الشعب كلّه، ولكنّه لا يقدّم البرهان من أجل قضيّته. والمتألّم في النصّ البابلي "لودلول بال ناماقي " يبرّر نفسه فيؤكد انه كان دقيقًا في تتميم الفرائض الدينية. ولكنه يبدو متميّزًا بعد أن تبدّلت حاله بشكل مفاجئ لا يفسّر. "والربوبية البابلية" تحكي بوضوح عن مسألة الألم الجائر. هذا ما يقوله المتألم:
"الذين لا يطلبون الله يسيرون في طريق الازدهار، بينما الذين يصلّون إلى الآلهة يحطّون ويفتقرون. حاولت في شبابي أن أكتشف إرادة الهي. وطلبت إلاهتي بالركوع والصلاة، فجُعل عليّ نير في عمل سخرة لا نفع منه. أقرّ لي إلهي الفقر لا الغنى. الأعرج يفعل أفضل مني، والثقيل سار أمامي. الأبله ارتفع وأنا انحدرت ".
إن الصدّيق التقليدي يدافع عن مفهوم عدالة الله ومجازاته فيعلن أن الإنسان لا يفهم. نحن هنا في موازاة مع الربوبية في إسرائيل. فالإله يُعتبر مسؤولاً عن العدالة والمجازاة، ولكن الإنسان يختبر ضربة الألم الجائر.
هذا ما يتعلّق بدور الله المتسامي. وهناك دوره كخالق. فنحن نجد في الأدب الحكمي إشارة إلى خلق الإنسان. قال مثل سومري: "الولد الشرير، تتمنى أمه لو انها ما ولدته، والاله الشخصي لو انه ما كوّنه ". ويرافع الشاب المتألم في "الإنسان والهه " فيقول: "أنت أبي الذي خلقني، فارفع وجهي مثل عجل بريء. أشفق عليّ في صراخي. إلى متى ستهملني وتتركني من دون حماية؟ مثل ثور... إلى متى تتركني بدون هداية"؟
يُنسب خلق العالم إلى الآلهة العظام. ويُنسب خلق الإنسان إلى الإله الشخصي. لا نجد كلامًا واضحًا عن خلق الكون في النصوص الحكمية. غير ان "لودلول بال ناماقي " الذي يبدأ بمديح لمردوك، ربّ الحكمة، يصوّره كالإله السامي الذي يشرف على الأيام والليالي، كما يشرف على سائر الآلهة. وهكذا نستنتج أن موضوع الخلق ليس بارزًا في تصوير الآلهة في النصوص الحكمية في بلاد الرافدين. وإن ورد بعض الشيء فعن خلق الإنسان بيد الاله الشخصي.
صوّر أم الربّ كالإله الأسمى والإله الخالق. وتحدّث عن غياب كلام مباشر يوجّهه الإنسان إلى الله، وبالتالي عن وظيفة الحكمة كواسطة تربط الإنسان بالته. نجد ما يوازي هذا الدور عند الإله الشخصي. ففي "لودلول بال ناماقي " اعتُبر مردوك، الإله السامي، كمسؤول عن الألم. وهذا واضح في مقدمة الخبر كما في خاتمته. ومع ذلك، فالمتألم يوجّه صلاته إلى إلهه الشخصي وإلى الاهته، ويشتكي من غيابهما وصمتهما. لا نجد تماثلاً بين مردوك والإله الشخصي، وهذا يعني أن الإله الشخصي هو وسيط بين الفرد والآلهة العظام مثل مردوك (الإله الشخصي يشفع من أجل الإنسان في مجلس الآلهة). مثل هذه الوظيفة يتضمّنها هذا المثل السومري: "الدمار يأتي من الإله الشخصي. هو لا يعرف مخلصاً". فإذا كان الدمار يأتي من الإله الشخصي، فهذا يعني أن ليس للإنسان من يتشفعّ به، وأن لا سبيل له لتقويم الأمور.
لا نجد مثلاً في النصوص الحكمية عن الإله الشخصي الذي يبدو كوسيط بين الإنسان والآلهة العظام. تحدّثنا خاتمة "لودلول بال ناماقي " عن ثلاثة أحلام يظهر فيها للمتألم "شاب وجيه " و "كاهن مميّز" و "امرأة فريدة" ومقسّم (يخرج الشياطين) اسمه "اورمندونلوغا". ومع أن المقسّم ليس بإله، إلا انه في النهاية لعب دور الوسيط وحمل بلاغًا من مردوك يعلن عودة المتألّم إلى حاله الأول وازدهاره المقبل.
إن الظهور الكهنوتي في "لودلول بال ناماقي " ودور الإله الشخصي في ديانة بلاد الرافدين يردمان الهوّة بين الآلهة المتسامية والإنسان. فهي تبدو بعيدة فلا يصل إليها الإنسان. وهناك نصوص حكمية عديدة تعلن عدم تمكّن الإنسان من فهم طرق الآلهة. إن هذا الجو المتشائم يميّز حكمة بلاد الرافدين (لا نستطيع أن نفهم إرادة الإله، لا نستطيع أن نعرف إرادة الله) عن سائر حكمات الشرق.
وإذا تطّعنا إلى ديانة بلاد الرافدين بشكل عام، أول ما يلفت نظرنا هو تنوّع مجمع الآلهة وتشعّبه. وحين يتطلعّ العلماء إلى طبيعة هؤلاء الآلهة، يتساءلون إن كان التسامي هو الصفة التي توافقهم. هناك اتجاه لاختبار اللاهوت كملازم وفي شكل مواجهة، لا كمتسام كل التسامي. فبلاد الرافدين ترى القدرة الالهية ككشف عن روح مقيمة في الكون، كقوّة في قلب شيء يجعله يُوجد ويزدهر ويتفتّح.
هناك ارتباط متبادل بين الآلهة والبشر: فالإنسان يحتاج إلى عون الآلهة وحمايتها. والآلهة تخلق البشر لكي يعينوها في عملها المتعب، ويؤمِّنوا لها التقادم. ففي بلاد الرافدين، هناك تمييز واضح بين عالم البشر وعالم الآلهة. حسب السومريين والبابليين، هناك طبقتان من الأشخاص تسكنان الكون: الجنس البشري والآلهة. الأولويّة هي للآلهة وان لم يكونوا متساوين. في أدنى درجة من السلّم الإلهي، نجد مجموعة الآلهة الادنين والشياطين. وفي القمة، هناك ثالوث الآلهة العظام، انو، انليل، ايا.
التمييز الجوهري بين عالم الآلهة وعالم البشر، هو أن الآلهة خالدون، أما الإنسان فيموت دون أي تأمين للحياة الأخرى. وحين يتطلعّ الإنسان إلى الآلهة العظام، فهو يرى نفسه مفصولاً عنهم وخاضعًا كل الخضوع لهم. أما السلطة العليا في بلاد الرافدين فهي لمجلس الآلهة الذي يرأسه ان/ انو، ويلعب فيه انليل دورًا بارزًا. فبين هذا المجلس والجنس البشري، هناك هوّة واسعة لا يمكن ردمها. وهكذا لا يستطيع الإنسان أن يعرف أيّ شيء يقرّر إن لم يُعلمه أحد الآلهة بذلك. غير أن هناك مثلاً واحدًا قطع فيها واحد المسافة بين الآلهة والإنسان فصار إلهًا هو "اوتنفستيم ". هذا كان أمرًا فوق العادة. ولم يكن جلجامش وحده هو الذي استطاع أن يصل إلى الحياة الخالدة مع الآلهة.
ونلاحظ أخيرًا الطريقة الاعتباطيّة التي بها يتصرَّف الآلهة في بلاد الرافدين. قد نناديهم، وننادي بشكل خاص اوتو/ شمش، إله الشمس والمحافظ على العدالة والإنصاف. ولكن يبدو أن الإنسان يسلّم إلى تعسّفيهم واستبدادهم. نجد صورة عن ذلك في خبر اتراحاسيس. فالآلهة التي خلقت الجنس البشري، قرّرت فجأة أن تفني عددًا منهم بضربة، وفي النهاية أن تفنيهم لأنهم تكاثروا جدًا وتنامت ضجّتهم فازعجوا الآلهة. وهكذا كان الطوفان. غير أن الإلآلهة ايا كشفت قرار الآلهة لأوتنفستيم وأعطته التعليمات حول بناء السفينة وحول ما يجب أن يضع في السفينة. وبهذه الطريقة نجا اوتنفستيم مع سائر الأحياء الذين كانوا معه.
وفي "لودلول بال ناماقي " تشكّى المتألم لأنه يستحيل عليه أن يعرف ما يرضي الإله. ولأن حظّ الإنسان ينقلب فجأة وبشكل غير متوخّ. فما الذي يبقى للمتألم؟ أن يدعو الله وهو يرجو رحمة ونجاة. نحن هنا قريبون من أي مع الاعتقاد الواثق بالله البار والعادل ومع مطالبة أيوب ببرارته.
خاتمة
هكذا بدا لنا الإله الأسمى في أم كما في سائر الأسفار الحكمية، بل في كل أسفار التوراة. وقابلنا هذه الصورة مع ما في عالم الشرق القديم، فاكتشفنا تقاربًا في التعبير بين عالم التوراة وسائر الآداب الحكمية، وتباعدًا على مستوى الإله الواحد الذي يعلنه أم وسائر الأسفار الحكمية في أرض إسرائيل