دخول الربّ إلى هيكله

دخول الربّ إلى هيكله
المزمور الرابع والعشرون

1. المزمور الرابع والعشرون هو مزمور الحجّاج الواصلين إلى الهيكل. يُنشدونه في تطواف، وهم يحملون تابوت العهد الذي يرمز إلى حضور الرب في شعبه. يُنشدونه في ليتورجيّة عيد المظال: يسير الشعب في المقدّمة ليفتح الطريق أمام الرب ويحتفي به. يهتف الهاتفون أمام الله العظيم: إرفعن رؤوسكّن أيتها الأبواب، ليدخل ملك المجد.

2. نشيد الدخول: يدخل الشعب، ثم يدخل تابوت الرب إلى الهيكل.
آ 1- 6: يصعد الشعب إلى جبل الرب ويدخل الهيكل وهو ينشد نشيد حمد للرب، الذي خلق الأرض وأسّسها على المياه على أربعة عواميد (كما قال الاقدمون)، فلا تتزعزع لأن قدرة الرب تثبّتها. ويبدأ حوار بين الحجّاج والكاهن: من يحقّ له أن يصعد إلى جبل الرب ويدخل الهيكل؟ فيجيب الكهنة: النقيّ الكفين، والطاهر القلب، والمستقيم الشفتين. ليس فقط من تحلَّى بالطهارة الطقسيّة، بل من كان كلام فيه، وأعمال يديه، ورغبات قلبه بحسب وصيّة الرب. مثلُ هؤلاء يكونون ضيوف الرب، ويصعدون (أش 2: 3) إلى جبل الرب (أش 30: 29)، ويقفون في مكانه المقدّس (132: 5)، ليحصلوا على بركاته وبرّه. مثلُ هؤلاء يأتون حجّاجًا ليلتمسوا وجه إله يعقوب (27: 8)، أي حماية الرب، وهم شعبه الذي اختاره.
آ 7- 10: ويأتي دور دخول تابوت العهد، فيبدأ حوارٌ ثان: إرفعن رؤوسكن أيتها الأبواب، لأن الداخل فيك كبير جدًا (1 مل 8: 27). فيجيب الذين في الداخل: من فذا ملك المجد؟ فيقول الشعب: هو الربّ الجبار... ويُعاد الحوار مرة ثانية: ربّ الجنود هو ملك المجد، وهو يحضر إلى هيكله وإلى جبل قدسه. هذا الجبل خلقه الرب منذ الأزل (48: 1)، وها هو يصعد إليه ظافرًا (68: 19). وهكذا تظهر العلاقة بين خلق الأرض وبناء الهيكل (78: 68- 69): بنى بيته المقدّس كبيته في العلى، وثبّته كالأرض إلى الأبد. في هذا المزمور نفهم أن بناء أساسات الهيكل في التاريخ، هي امتداد لتكوين المسكونة حيث يسكن الله، والهيكل صورة مصّغرة عن المسكونة.

3. نقرأ في هذا المزمور فعل إيمان بالله الذي أسّس الكون على عواميد فوق المياه المعادية للخلق (104: 5؛ أي 38: 4 ي) فلا يعود الكون إلى العدم لأن الربّ سيّد الكون. فمن يدخل إلى هيكل الله، يتذكّر ذلك ليعرف أن الله الذي بنى الكون هو ذاته الحاضر في هيكله، وأن على المؤمنين أن تكون حياتهم مقدّسة في الهيكل كما في الكون، لأنَّ الله حاضر في الهيكل كما في الكون. هذا المزمور لا يشدّد على الطهارة الطقسيّة كالغسل وغيره، بل على الطهارة الأدبيّة أي العلاقات بين الانسان وقريبه، وهي علاقات تنطلق من قلب مستقيم وروح طاهرة فتظهر في تصرّفات وأعمال صالحة في نظر الرب.
يجتمع الشعب أمام أبواب الهيكل حيث عرش ربّ الجنود (أش 6) بمجده الذي يملأ الكون. الرب قائد شعبه (خر 13: 21)، ورفيقه في حروبه (خر 15: 3) وملكه (خر 15: 18؛ عد 23: 21) الذي يظهر مجده في سيناء (خر 24: 6) وداخل خيمة الاجتماع التي هي النموذج الاول للهيكل (خر 40: 34؛ عد 14: 10). وكلمة "مجد الله" و"اله الجنود" ترتبطان بتابوت الله الذي كان يُحمل إلى الحرب (2 صم 11: 11؛ 15: 24) ليكون حاضرًا مع شعبه فيشجّعه على القتال وينصره على الأعداء.

4. ما يقوله المزمور عن الرب نقوله عن يسوع المسيح وهو الذي له المسكونة وما فيها، المخلوقات المنظورة والمخلوقات غير المنظورة، لأنه به كوّن كلّ شيء (كو 1: 15). وهو ملك المجد (1 كور 2: 8)، وملك الملوك وربّ الأرباب (رؤ 19: 16). جاء مرّة أولى بالجسد، وسيأتي مرّة ثانية بمجد عظيم ليدخل العالم، والعالم سيكون صغيرًا لاستقباله.
وهو حاضر في كنيسته يساعدها وقت الشدّة والجهاد. وكنيسته ترافقه كما في يوم الشعانين، فتهتف بحياته، وتدخل وراءه إلى الهيكل لتملك معه كما ملك هو، لا بسلاح البطش والقوّة، بل بسلاح صليبه وموته.

5. صعود المسيح
يعبّر عيد الصعود عن السرّ الفصحي في نظرة مسيحانية. فهو عيد إقامة المسيح الملك كما تنشدها ليتورجية المزامير الملكية. فسفر المزامير هو الموضع الكتابي الرئيسي الذي يحدّثنا عن الصعود. وعلاقة الصعود واضحة بالاخص في ثلاثة مزامير (24، 68، 110). نقرأ عن المزمور 24 في يوستينوس: "انتظروا كيف وجب أن يصعد إلى السماء حسب النبوءات. قيل: ارتفعن يا أبواب السماء لتنفتح وليدخل ملك المجد". هذه الآية ترد في 24: 7. أمّا أقدم تطبيق لهذا المزمور على الصعود فنجده في انجيل بطرس: "تزاحم الملائكة فيما بينهم لتتم كلمة الكتاب: افتحوا أبوابكم أيها الرؤساء". والرؤساء هم الملائكة حرّاس كرة السماء حيث يُدخل كلمةُ الله بالصعود، البشريّةَ التي اتّحد بها.
وارتبط تطبيق هذه الآية بموضوع لاهوتي قديم هو موضوع المسيح النازل إلى العالم دون علم قوات السماء الملائكية التي تتدخّل حين تراه عائدًا في المجد خلال صعوده. فنحن نقرأ في صعود أشعيا (كتاب منحول): "حين نزل الكلمة من السماء الثالثة وتحوّل إلى شكل الملائكة، فالذين يحرسون باب السماء سألوا كلمة السر التي أخفاها الرب لئلاّ يعرف. وحين رأوه لم يسبّحوه لأن منظره كان كمنظرهم". ولكن حين رجع المسيح "وصعد إلى السماء الثالثة، لم يتحوّل منظره، لكن كل الملائكة الذين على الشمال وعلى اليمين مع العرش الذي في وسطهم سجدوا له وسبّحوه وقالوا: كيف أخفي علينا ربّنا حين نزل ولم نفهم"؟
ونجد موضوع التجسّد الذي خفي على الملائكة عند اغناطيوس الانطاكي (توفي في بداية القرن الثاني). "جهل سلطانُ هذا العالم بتوليّة مريم وولادة يسوع كما جهل موتَ الرب، وهي أسرار لها صدى بعيد ظلَّت في صمت الله". هذا الجهل عند القوّات وقت التجسّد، والكشف لهم عن الامر حين مُجّد الانسان الله في الصعود، نقرأهما عند القديس بولس (1 كور 2: 7- 8): "نكرز بحكمة الله الخفيّة السرّية. إنها حكمة لم يعرفها أحد من رؤساء هذه الدنيا. ولو عرفوها لما صلبوا رب المجد". وقال أيضًا (أف 3: 10): "ليكون الفضل للكنيسة في اطّلاع أصحاب الرئاسة والسلطة في السماوات على حكمة الله التي لا تُحصى وجوهُها". وموضوع النزول الخفيّ والصعود الظاهر للملائكة حرّاس أبواب السماء، يتوافق مع الصعود كما نقرأه في المزمور 24.
دمج يوستينوس الفكرتين فقال: "أيّها الرؤساء، إرفعوا أبوابكم. إرتفعن أيتها الأبواب الأزليّة فيعبر ملك المجد. حين قام المسيح من بين الأموات وصعد إلى السماء، جاء الأمر إلى الرؤساء الذين أقامهم الله في السماء ليفتحوا أبواب السماء لكي يدخل الذي هو ملك المجد، ويصعد ويجلس عن يمنِ الآب إلى أن يجعل أعداءه موطئًا لقدميه. ولكن حين رآه رؤساء السماء، بدون جمال ولا كرامة ولا مجد في منظره، لم يعرفوه فقالوا: من هو هذا ملك المجد"؟ نلاحظ هنا أن الملائكة لم يعرفوا المسيح في صعوده بسبب الشكل البشريّ الذي لبسه.
ويفسّر ايريناوس المزمور في هذا المعنى: "إنه رُفع إلى السماء. فداود يقول في مكان آخر: إرفعوا أيها الأمراء أبوابكم. إرتف عن أيتها الأبواب الأبديّة ليدخل ملكُ المجد. الأبواب الأبديّة هي السماء. فكما نزل الكلمة ولم تره الخلائق ولم تعرفه في نزوله، كذلك جُعل خفيًا في تجسّده ورُفع إلى السماء. فحين رآه الملائكة الأدنون صرخوا للذين هم أعلى منهم: إفتحوا أبوابكم. إرتفعن أيتها الأبواب، لأن ملك المجد يدخل. وإذ قال ملائكة العلاء منذهلين: من هو هذا؟ هتف الذين رآوه من جديد: هو الربّ القويّ القدير، هو ملك المجد".
ونعود إلى فكرة يوستينوس مع أوريجانس: "حين تقدّم ظافرًا بجسده القائم من بين الأموات، قالت بعض القوات: من هو هذا الآتي من بصرة بثياب حمراء (أش 53: 1)؟ ولكن مرافقيه قالوا للموّكلين على أبواب السماء: إنفتحن أيتها الأبواب الأبديّة". ويقول أثناسيوس: "حين رآه صاعدًا ملائكةُ السماء الذين تبعوه على الأرض، هتفوا للقوّات السماويّة لكي يفتحوا أبوابهم. ذُهلت القوّات حين رأوه في الجسد. لهذا صرخوا: من هو هذا؟ وانذهلوا من هذا التدبير العجيب. فأجابهم الملائكة الصاعدون مع المسيح: هو الربّ ملك المجد، الذي يُعلم الذين في السماء بالسرّ العظيم: إن الذي تغلّب على القوى الروحيّة هو ملك المجد".
ونشير أخيرًا إلى هذا التساؤل عن الصعود في كتاب الاسرار للقديس أمبروسيوس: "شكّ الملائكة أيضًا حين قام المسيح، ورأوا جسده صاعدًا إلى السماء، فقالوا: من هو هذا ملك المجد؟ بينما قال الآخرون: إرفعوا أبوابكم أيها الرؤساء، فيدخل ملك المجد. ولكن آخرين شكّوا وقالوا: من هو هذا الصاعد من أدوم" (أش 63: 1)؟
إذًا حُسب هذا المزمور نبوءة عن الصعود في العهد الجديد، فقرأته الجماعة المسيحيّة الأولى وأدخلته في ليتورجيتها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM