الفصل السابع
الحكمة كنز يحميك
2: 1 – 22
نقرأ في هذا الفصل موضوعين. الأول (آ 1- 9): تحريض أب لابنه حول الحكمة. إن الإصغاء والطاعة والخضوع للحكة تقود إلى الله. الثاني (آ 10- 22): الحكمة تحفظ الإنسان في طرقه.
1- تحريض أب لابنه (2: 1- 9)
أ- المضمون
يُوضع هذا التحريض في فم الأب وهو يقسم قسمين، وينتهي كلّ قسم: حينذاك تفهم (تبين في العبرية) في آ5 وآ 9.
يفرض القسم الأول (آ 1- 5) على الابن أن يتقبّل ويحفظ في قلبه الأقوال والوصايا (آ 1) أو أوامر الشريعة وفرائضها (تث 11: 18- 19). ولكن الحكيم لا يعود إلى كلمة الله، شأنه شأن الأنبياء، بل يقدّم كلماته وكأنّها صادرة عنه.
وكما يعود الأب إلى مقولة "الوصيّة" الاخلاقيّة المرتبطة بالعهد، يعود أيضاً إلى مقولة الحكمة (آ 2). ويجب أن نصغي إلى الحكمة والفطنة والعقل (آ 2- 3). علينا أن نحفر عميقًا (أي 28: 1ي) لانّنا نبحث عن هذه الخيرات كما نبحث عن الفضة (3: 14- 15، 16:16)، ولأننا نحتفظ بها كما نحتفظ بكنز ثمين.
وبنتيجة هذا التعب نصل، بممارسة الفضائل واتّباع الحكمة، إلى مخافة الله ومعرفته (أي 27:28- 28). لقد دمج الكاتب التأديب الحكمي بمجهود البحث عن الله كما يقول الأنبياء (هو 3:6، 6: ترتبط معرفة الله بحبه؛ 5: 4، 14).
ويدعونا القسم الثاني أن نتّخذ الطريق المعاكس. حين نجد الله نعرف أنّه ينبوع كلّ حكمة ومعرفة وفهم (آ 6). وهو يعمل من أجل الأبرار والمؤمنين فيحفظهم في السراط المستقيم. عند ذاك يفهم الحكيم (في الله وفي حياة الكمال) ما يعني البرّ والاستقامة والصلاح. وإذ يحسّ بحماية الربّ له يختبر طريق السعادة.
تبدو الحكمة هنا كشرط للسعادة. ولكنّها ليست الشرط الوحيد. وهي لا تمنح السعادة إلا إذا جعلَ الحكيمُ نفسه في الله فيستحق المكافأة. يدلّ هذا المقطع على مقصد الكاتب الذي يُفكّر بالحكمة القديمة ويدخلها في أخلاقية دينيّة متقبّلة للمجهود البشريّ. وسيصل بنا المقطع اللاحق (آ 10- 22) إلى الغاية عينها: نجاح الأبرار المجذَّرين في الأرض. ولكن رغم ما نقرأ في آ 17، تبقى الحكمة مستقلّة في نشاطها.
ب- تفسير الآيات
(2: 1-4) هنا يبدأ تحريض معلّم الحكمة. هولا يتكلّم باسم الله (مثل الأنبياء)، بل يتكلّم باسم نفسه فيقول: أقوالي، وصاياي (التي هي الحكمة وما تتضمّن من فهم وفطنة). تقرأ السبعينية آ 1- 2 كما يلي: يا ابني، إذا قبلتَ أقوال وصاياي واخبأتَها في ذاتك، تُصغي أذُنك إلى الحكمة ويميل قلبُك إلى الفهم. ثم إن السبعينية تزيد بعد آ 2: وتطبّقها في تعليم ابنك. وتزيد آ 3 ب: إذا بحثتَ عن الفطنة بصراخ عظيم (اليونانيّة، السريانيّة، القبطيّة الصعيديّة).
(آ 5- 8) هنا يحدّثنا الكاتب عن ثمار الحكمة. وأولها مخافة الربّ ومعرفته (لا معرفة مجرّدة، بل محيية وأساس الحياة الأخلاقية). ترتبط المعرفة بالحقيقة والتقوى. الله هو ترس (تك 15: 1؛ مز 4:3؛ 33: 20؛ 84: 12 ؛ 115: 9 ي). تقول اللاتينية: يحمي الذين يسلكون ببساطة. الاتقياء (حسيد): الأمين الصالح، المحبّ، الباحث عن حياة حميمة مع الله (تك 12:24؛ خر 6:34؛ مز 25:89). في القرن الثاني ق م. في زمان الصراع ضد انطيوخس ابيفانيوس، دلّت كلمة "حسيد" على اليهود الذين تعلّقوا بالشريعة تعلقًا وثيقًا ورفضوا الحضارة الهلينية مع ما فيها من وثنيّة.
(آ 9) امتلاك الحكمة: يذكّرنا هذا المقطع بتصوير الحكمة كما في المقدمة (1: 1- 6)، ويعبّر عن الهدف الموضوع أمامنا: امتلاك الحكمة مع النتائج المتعدّدة. العقل، الفكر، البرّ، العدالة، الاستقامة.
2- الحكمة تحفظ الإنسان في طرقه (2: 10- 22)
أ- المضمون
ما زال الأب يتكلم، وهو ينسب إلى الحكمة التي صارت سيّدة قلب الشاب، دورًا اخلاقيًا خيرًا.
أولاً: في هذا المقطع تبدو الاختلافات بارزة بين النصّ الماسوري ونصّ السبعينية (يتبعه النصّ القبطي). وهناك آ 19 حيث يزيد النصّ القبطي: ولكنهم سيرجعون.
أما الزيادات فهي في خطّ تقويّ. مثلاً الصفات المزادة في آ 11 وفي آ 16. إن "خطر البعد عن طريق التقوى" يحلّ محلّ "لقاء المرأة الغريبة". والتبديل الهام في آ 17 يحفظ المعنى في خطّ آ 16 ويصبح نداء للحذر من "الارادة السيّئة" أو"المشورة السيّئة" التي تبعد عن عهد الله الذي قبلناه في صبانا. وفي آ 19 ب تصبح "سبل الحياة" سبل التقوى. قد ترتبط هذه التبدّلات باستعمال الكتاب في جماعة الاسكندرية استعمالاً تقويًا واخلاقيًا.
وهناك زيادات تفسيرية. فالآيات 13- 15 التي تحدّد الإنسان الذي يجب ان نحذره، لا تتضمّن أي اختلاف بعد أن رأى المترجم أن النصّ الماسوري واضح. والاختلافات في آ 21- 22 لا تزيد شيئًا على المعنى. ولكن اليونانيّة تقدّم درسًا أخلاقيًا في آ 22 التي تتحدّث عن سبل الأشرار (لا الأشرار فقط) التي ستنقرض من الأرض. ولكن آ 22 ب تبقى مطابقة للنصّ الماسوري.
ثانيًا: يُعلَن الموضوع في آ 10: تقديم ثمار الحكمة والمعرفة. وهذه الثمار هي: التمييز، التعقّل. وهي تحفظ التلميذ وتسهر عليه في طرقه.
ويحدّد المقطع الثاني (آ 12- 19) الشرور التي يحمينا منها التمييز والعقل: من الإنسان الناطق بالكذب (آ 12- 15)، من المرأة الغريبة (آ 16- 19) التي تُحلّ السبعينيةُ محلَّها "المشورة السيئة".
يُصوَّر الإنسانُ الفاسد كضالٍ في "سبل معوجّة" تعارض "الطرق المستقيمة". هذا النمط من الرجال سيظهر في كلّ سفر الأمثال كالشرير والكافر والظالم والكاذب.
المرأة الغريبة تقود إلى الموت وتُبعد عن سبل الحياة. تدلّ هاتان العبارتان على الموت الروحي والحياة الروحية، ولا نحمّلها المعنى الذي تضعه المسيحية فيهما. وقد تصيبان نتائج السلوك الماديّة كما في مقاطع أخرى من المجموعة.
قرأ بعض الشراح آ 17 واعتبروا أنّها تدلّ على المرأة الكنعانية التي تجرّ المؤمن إلى الزنى والعبادات الوثنية في شعائر عبادة عشتار الفاجرة. ولكن لا حاجة إلى كلِّ هذا الشرح. يعتبر سفر الأمثال أن الزانية لا تشكّل خطرًا كبيرًا على الحكيم (ولكن رج 6: 26؛ 27:23؛ 3:29)، لأن لا خطرَ تحذّر منه الشريعة (تث 23: 19؛ لا 19: 29؛ 9:21).
"رفيق الصبا" الذي تتحدّث عنه آ 17 هو زوجها الأول. ولكن آ 17 ب تدعونا إلى أن نرى الرب. وهكذا نكون أمام ميزة نبويّة لخطيئة الزنى هذه: إنّها التخلّي عن العهد. في الواقع تبدو الوجهتان مترابطتين. فهذه الخاطئة التي تنقض العهد والشريعة متجاوزة الفرائض، لا يمكن أن تكون إلا إسرائيلية. إذًا، نحن هنا أمام نظرة سامية ودينية إلى الزواج والحب وأمانة الزوجين التي يحامي عنها الرب. هذه نظرة تك 23:2 ي وعدّة نصوص نبويّة يبدو فيها العهد بين الرب وإسرائيل بشكل حبّ عميق ورقيق ومهدّد، تصل إليه الخيانة ولكن يُعاد إليه اعتباره. وان أف 5: 25- 33 هي نقطة الكمال في هذا التعليم (رد أم 5: 15- 19).
وتذكّر الخاتمة (آ 20- 22) بالتنبيهات الاشتراعية. فثمرة الأمانة لطريق الصلاح، لسبل الأبرار، هي امتلاك الأرض، أرض الآباء، أرض المواعيد (تث 4: 1ي؛ 5: 16، 33؛ إر 27:46 ي)، أرض الرجاء المسيحاني (أش 65: 9 ي؛ إر 23: 6- 8؛ 33: 16). ومع الأرض يُعطى الاستمرارِ في العمر الطويل (تث 4: 40؛ 5: 16).
ب- تفسير الآيات
(آ 10- 11). أول ثمار الحكمة والمعرفة هي التمييز والفهم. تتحدّث السبعينية عن الإرادة الصالحة.
(آ 12- 15) وأول نتيجة هي الاحتراس من الشرّ (رع)، من طريق الظلمة والاعوجاج (1: 19؛ أش 59: 8 ؛ مي 3: 9؛ أي 19: 8)، من الأشرار الذين يسعون إلى الغواية (تث 31: 20)، بل هم فاسدون بحيث يُسرّون بالشرّ. في آ 12 تفسّر السبعينية: لا يقولون شيئًا جديرًا بالثقة.
(آ 16- 19) الاحتراس من المرأة العاهرة والفاجرة. وسيعود سفر الأمثال إلى أخطارها (5: 1ي؛ 6: 20- 35؛ 7: 1ي). ليست امرأة غريبة عن أرض إسرائيل، بل امرأة التزمت برباط الزواج. يتحدّث الكاتب عن "زره" "نكريه" أي الغريبة والتي هي نكرة بالنسبة إليك وغريبة (3:5، 20؛ 24:6؛ 5:7؛ 14:22)، ولم يتحدّث عن "زونه " أي الزانية (6: 26؛ 7: 10). وتوضح آ 17 الوضع العائلي لهذه المرأة. الزانية تسلّم نفسها لقاء اجرة (يوء4: 3) ولا تخاف أن تظهر للرجال (أش 23: 16). أما العاهرة فتدفعها الرغبة الجنسيّة (حز 16: 30- 34)، فتسيء إلى حقوق زوجها (خر 17:20؛ تث 18:5). لهذا تحرّم الشريعة عملها تحريمًا واضحًا (خر 14:20-17؛ تث 17:5-18؛ مت 27:5 ؛ لو 18:16). والزناة يستحقّون الموت (لا 20: 10؛ تث 22:22 ؛ عد 5: 11، 13)، الموت رجمًا (تث 22: 21 ؛ حز 38:16 ي؛ يو 8: 1- 11). إذًا لسنا أمام الدعارة والفجور، بل أمام فعل زنى مع امرأة متزوّجة. نحن نجد النصائح عينها في حكمة أني وفي كلمات مماثلة: "المرأة الغريبة والبعيدة عن زوجها، جريمة تستحقّ الموت ". تبدو الفكرة عن الزواج سامية. فهو عهد مع الله وتكريس له (إر 3: 1- 5؛ مت 19: 1- 2). ولهذا فالزنى هو خيانتان: خيانة تجاه الزوج (أش 54: 6؛ ملا 2: 14- 15)، وخيانة تجاه الله الذي ربط بشريعةٍ هذا العقد (تث 4: 9؛ 5: 2). وهذا الاتحاد الوثيق والحميم الذي تشكّله الرباطات الزوجية يُستعمَل للتعبير عن اتحاد الله بشعبه (هو 2: 9- 17؛ إر 2: 2؛ 3: 4؛ حز 16: 43). أما العقاب الأكيد فيعبَّر عنه بصورة الطريق التي تقود باكرًا إلى الموت، إلى الجحيم والشيول، إلى عالم الأموات، من دون أمل بالرجوع إلى نهاية الحياة على الأرض (أي 7:14- 12؛ جا 9: 6؛ سي 17: 22). والحديث في سفر الأمثال عن نزول مبكر إلى الجحيم بسبب سلوك سيِّئ، وعن حياة وموت ينتجان عن تصرّف أخلاقي، يوجّهنا إلى نوع من المجازاة.
في آ 16 لا تتكلّم السبعينية عن المرأة الغريبة بل تكتب: لتبتعد عن طريق التقوى وتصبح غريبًا عن العقل الرجيح. وتقرأ السبعينية آ 17: يا ابني، لا تستولِ عليك إرادة سيّئة بحيث تتخلّى عن تأديب صباك وتنسى العهد الإلهي. وفي آ 18: إن إرادة السوء جعلت بيتها قرب الموت وقرب الجحيم أثلامها.
(آ 20- 22) الخاتمة. إن التعليمات والأمثلة التي أوردتها الحكمة قد حصلت على نتيجتها. فالتلاميذ يعملون الخير وينعمون بحياة الأرض بثقة. نجد هنا تلميحًا إلى خيرات أرض الموعد المعطاة للشعب الأمين (خر 20: 12؛ تث 4: 10؛ 5: 16) في بداية تاريخه مع يشوع أو بعد عودته من الجلاء (إر 27:46؛ أش 40: 1ي)، أو في الأزمنة المسيحيانية (أش 65: 9؛ إر 23: 6- 8 ؛ 33: 16). وهذه الفكرة ترتبط ببقيّة إسرائيل (تث 4: 6 ي؛ 11: 7؛ أش 10: 20- 22؛ مي 2: 2؛ 5: 6؛ إر 31: 7). أما اللا أمناء فينقرضون. وتبدو هذه المجازاة في سفر الأمثال، لا نتيجة ممارسة الشريعة، بل نتيجة السلوك الأدبي. كانت النظرة اجتماعيّة وزمنيّة في الأسفار التاريخيّة والنبويّة، فصارت فرديّة واسكاتولوجيّة في الكتب التعليميّة