الفصل السادس
نداء الحكمة
1: 1 - 33
قلنا في المقدمة إنّ سفر الأمثال يُقسم إلى تسعة كتيّبات، بعضها طويل والآخر قصير. وها نحن نقرأ الكتيّب الأول الذي يقسمه بعضهم قسمين: القسم الأول يضمّ ف 1- 7. والقسم الثاني يضمّ ف 8- 9.
يعالج هذا القسم الأول أكثر ما يعالج موضوع الحكمة. ليست فقط دليلاً من أجل حياة ناجحة. إنّها خاصة بالله، وهو وحده يعطيها. إنّ التفسير اللاهوتي للحكمة يجعل هذا الكتيّب يأتي متأخّرًا بالنسبة إلى سائر كتيّبات سفر الأمثال. وقد وَضع الناشر هذا الكتيّب في مقدّمة الأمثال ليدلّ على كيفيّة فهم سائر الكتيّبات. ولكن هذه الفصول التسعة هي نتيجة تأليف طويل: أمّا النواة الأصليّة فتعليمات تشبه ما نجد في حكمة مصر: تبدأ بمقدمة تتبعها فصول قصيرة تُبرز المبادئ الأساسية للسلوك من أجل حياة ناجحة.
وزيدت على هذه النواة مواد متنوعة، بينها مجموعتان هامتان، بعد أن صار هدفها أن تعيد تفسير النصّ الأول وتقدّم تعليمها في ضوء جديد. في المجموعة الأولى نجد الحكمة التي تقابل كلمات المعلّم، والتي نطلبها مهما كلّفنا طلبُها غاليًا. كما نجد الحكمة وكأنّها شخص حيّ في صورة امرأة أو معلّم أو عروس تقدّم سرّ الحياة للشاب الذي يقبل دعوتها. في المجموعة الثانية تُنسب الحكمة إلى الله نفسه.
هذا الكتيّب الأول يتميَّز عن باقي سفر الأمثال، وفيه دعوة لسماع تعاليم الحكمة والعمل بها. إنه مقدّمة لسائر الكتيّبات، وهو يتضمّن سلسلة من النصوص الممزوجة حسب أساليب ومواضيع مختلفة: تارة تعلّم الحكمة الإنسان كما يعلّم المعلم تلميذه. وطورًا تثبّت التعاليم التي معها التلميذ. أمّا السامعون فيختلفون بحسب استعداداتهم الفكريّة. هناك الفتيان أو السذَّج (1: 4)، الذين لا خبرة لهم، وهناك الحمقى والأغبياء (7:1) والساخرون المتصلّبون. وهناك الحكماء الذين يُصغون إلى الحكمة ويستمعون إلى أقوالها (5:1).
أمّا مواضيع تعاليم هذا القسم فهي: فائدة الحكمة (2: 1- 9؛ 13:3- 26؛ 3:4- 9)، الشرور التي يسبّبها العنف (1: 10- 19؛ 2: 12- 15؛ 3: 31؛ 4: 14- 17)، والزنى (2: 16- 19؛ 5: 1- 23؛ 6: 20- 35؛ 7: 1- 27) وسائر الرذائل (6: 1- 9). ويقابل النصّ بين طريقين: الطريق المستقيمة والصالحة والنيّرة (2: 9- 29؛ 3: 6، 17؛ 18:4، 26)، والطريق الملتوية والمظلمة (1: 15- 19؛ 15:2؛ 14:4).
ويعرض الكاتب الدوافع بطريقة متوازية: من جهة، الخوف من العقاب يصيب الأشرار الذين يدخلون في الطريق المعوجّة والمظلمة (1: 10، 19؛ 4: 11- 19). يتعرّضون للعار (9:5- 14، 6: 30، 35) ويتهدّدهم موت مبكر (19:1؛ 2: 22؛ 5: 21- 23؛ 7: 24- 27؛ 18:9). ومن جهة ثانية، السعادة للحكماء الذين يدخلون في الطريق المستقيمة والنيرة (4: 10- 13 ؛ 6: 20- 21) فتقودهم إلى السلام والغنى والمجد (3: 23- 26؛ 8: 18) والحياة (3: 21- 22؛ 4: 13، 22).
وإنّ كلّ هذه التعاليم الحكمية ترتبط ارتباطاً وثيقًا بالرب، لأن الحكمة تتأصّل فيه، ولأنّها تدعو الإنسان إلى مخافة الله، فتعارض الحكمة الكاذبة التي تسبّبها الكبرياءُ البشريّة (20:8 ،31؛10:9).
ونبدأ مع ف 1 وعنوانه نداء الحكمة. لا نجد عنوانًا واحدًا لكلّ فصل، بل مواضيع متعدّدة تتورع الفصل الواحد. بعد أن يقدّم الكاتب المجموعة كلّها (آ 1- 7)، يسمعنا تنبيهًا أبويًا فحواه: أهرب من رفاق السوء (آ 8- 19). وتَظهر الحكمة وكأنّها شخص حيّ، فتخطب في الشبان المستهترين (آ 20- 33): إلى متى يعشق الجهّال الجهل، ويمدح الساخرون السخرية؟
1- مقدّمة المجموعة (1: 1- 7)
أ- المضمون
تُنسب هذه المقدمة إلى جامع الأمثال. ونحن نقرأ اسم يهوه في آ 7 فندخل في جوّ دينيّ. أمّا نسبة الكتاب كلّه إلى سليمان، فنفهمها بسبب وجود كتيّبات سلمانية في هذا السفر (10: 1- 16:22 ؛ 25: 1- 27:29)، وبالنظر إلى تقليد شرقيّ يدربّ فيه الملوك أبناءهم على واجبات الحكم ويقدّمون لهم التعليمات والدروس (مثلاً: ماريكارع، أمنمحات).
وإننا نكتشف في الأمثال أثر أصل ملكيّ قديم (28:14؛ 16: 10؛ 19: 12)، مع أن الفنّ الحكمي تجاوز الدوائر الملكية. وإذ ارتبط الحكماء بسليمان، فقد اهتموا بتربية الطلاّب الذين سينتمون إلى الطبقة الحاكمة. إن آ 1- 6 تهمّ "الامير" الذي يحتاج إلى صفات يقضي بها في البشر ويوجّههم (آ 3- 5 ب). ولكن الهدف الذي وضعه أمامه ناشر الكتاب وواضع ف 1- 9 هو أوسع من ذلك. يريد أن يدرّج تلميذه في حكمة ومعرفة تكوّنان العقل. وهذه الحكمة تعطيهم تفهّم الكلمات الغامضة والألغاز، وهذا فنّ قدّم فيه الحكماء تفكيرهم فأثاروا فضوليّة تلاميذهم (آ 2 ب- 6). وتعطيهم أيضاً مشورة تجعلهم عقلاء (آ 3 أ): يصبح الفتيان عقلاء، والشبّان عارفين (آ 4)، ويزداد علمُ الحكماء (آ 5).
لأجل هذا يجب أن نقبل بأنّ نصغي ونخضع للسلطة (الوالدين، الحكيم، الرب) التي تصل إلينا كلماتها. هي كلمة لا يُجادَل فيها. إنها تفرض نفسها. فهي بذاتها قاعدة حياة روحيّة. ومنِ احتقرها ورذلها أجرم في حقّ نفسه (8:1؛ 3: 1؛ 2:4، 10، 20 ؛ 7:5؛ 6: 20). وهي تأديب وتوبيخ (3: 11 ؛ 23:6؛ 18:13)، وهي تقود بلا شكّ إلى الحكمة، إلى المعرفة، إلى البرّ، إلى مخافة الله (2: 1- 6؛ 7: 1- 4). وتأتي آ 7 فتصحّح ما في البرنامج المعروض من عدم التشديد على حضور الله. فأساس الحكمة والمعرفة مخافة الله، وهذا ما شدّدت عليه السبعينيّة، فضمّت العقل إلى الحكمة. فن لا يفهم قيمة هذه المواهب هو جاهل ولا حسّ له. وهكذا أقحمت في دائرة الإيمان اليهوي، قيمُ الحكمة والمعرفة البشريّة، ورُذل كلُّ شكّ بعدم توافقهما مع الديانة.
وإذ يقدّم معلّم الحكمة برنامج كتابه، يقدّم لنا أيضاً جمهوره: الفتيان (فتايم)، أو البسطاء الذين يستعدّون لكي يقبلوا تأثيره (معنى حاط في 1:22، 32؛ 5:8)، والشبّان (آ 4، رج 22: 7، معنى حاط في 7:7). ويقدّم اسلوبه: أن يعلّم بالأمثال (مشليم) والأقوال المأثورة، بكلمات غامضة (مليصة)، ووصايا أو كلمات (دبريم) وأحاجي (هيدوت). وهكذا يعلّم العارفُ الجاهل.
نقرب هذه المقدمة من حكمة امينوموفي التي تعطي "تعليم الحياة" الذي يساعد الطالب على أن يلعب دوره في البلاط، أن يقوم بالمهمات الملقاة على عاتقه. ويكون هذا التعليم "توجيه خلاص " يدخله في نفسه، ويحفظه من كلّ شرّ خلال "عبور الحياة"، ويساعده على تفتّح شخصيّته على الأرض.
ب- تفسير الآيات
(1: 1- 3) ينسب العنوانُ مجملَ سفر الأمثال إلى سليمان، كما يفعل الأدب الحكمي
في التوراة. وتعرض المقدّمة هدف الكتاب: إقتناء الحكمة ذات الطبيعة المتشعّبة. خصائصها هي تارة نظريّة وعمليّة، وطورًا عمليّة وأخلاقيّة.
في آ 1 تقول السبعينية والقبطية: الذي ملك في إسرائيل. في العبرّية والسريانيّة: ملك إسرائيل أو على إسرائيل. في آ 2 "موسر" تعني التأديب والتدخّل من أجل التربية. في اليونانيّة: تربية الأولاد. وفي القبطيّة: المعرفة. وفي السريانيّة: التأديب والقصاص والتهذيب وتعليم محاسن الاخلاق. أما نحن فعدنا إلى العربيّة وتحدّثنا عن حسن المشورة. وعبارة "مري بينه " العبرّية هي كلمات تفترض العقل لتُفهم. قالت اللاتينيّة: أقوال الفطنة. وترجمنا: الكلام المبين. في آ 3 أ، إبتعد النصّ اليونانيّ عن النصّ العبريّ فقال: لنفهم تبديل الكلمات أو الكلمات المحوّلة (رج حك 8: 8). وزادت القبطيّة الصعيديّة: "لحلّ الاحاجي " (حك 8: 8). وتترجم السبعينية القسم الثاني من الآية: للتأمل في البرّ بكلّ حقّ، ولتوجيه الحكم بكل استقامة.
(آ 4) فئات التلاميذ: "فتى، فتأيم ". تدلّ الكلمة على البساطة والفتوّة والسطحيّة. في السبعينية: البريئين. في القبطية: الذين لا عقل لهم. في السريانيّة: شبري أي الطفل والسخيف والغبيّ. "نعر" هو الشاب الذي لا خبرة عنده، الذي لا حسّ عنده (7:7؛ 9: 4،6) ويصدّق كل ما يسمع (14: 15). إنّه معرّض لكل الأخطار (3:22 ؛ 27: 12)، ويتأثّر بالحكمة فيندفع إلى الخير، أو بالجنون والجهل فيندفع إلى الشرّ (9: 4، 16). فإن استمع إلى الحكمة حصل على التمييز والمعرفة (دعة)، أي معرفة الله (2: 6). أما إذا رذل الحكمة، فيصبح من الجهّال والأشرار (9: 7) والبلهاء (14: 7).
(آ 5- 6) يتقدّم التلاميذ الأمناء بسرعة في المعرفة. إنّ العلم يُعطى في الأمثال والأحاجي. هناك من يقرأ آ 6 قبل آ 5 من أجل المنطق. أما السبعينية والقبطية فإنّهما تجعلان من آ 6 التتمّة المنطقيّة لآية 5، وهكذا تبتعدان عن النصّ الماسوري. في آه "لقح " تعني العلم والمعرفة. ومن الممكن أن نحتفظ لها بمعناها الأصلي: أخذ، اقتنى. وقالت السبعينية والشعبية والبسيطة: حين يسمع الحكيم هذا يزداد حكمة. في آ 5 ب حسب السبعينية: الرجل الفطن يتعلّم كيف يمسك دفّة (السفينة). أما البسيطة فتتحدّث عن التدبير (مدبرنوتو).
(آ 7) يُجمل الكاتب كلامه عن التأديب في تناقض واضح. مخافة الله المرتبطة بالثقة (3: 5- 6) تدّل على الاحترام والوقار (تك 20: 11). نحن نقرأ آ 7 في السبعينية على الشكل التالي: بداية مخافة الرب. كل الذين يمارسونها لهم عقل صحيح (هم يقرأون هذه العبارة مع مز 111: 10 في اليونانيّة). وتزيد السبعينية على النصّ الماسوري (قد تكون هذه الزيادة وُجدت في هامش النصّ العبري): التقوى تجاه الله هي بداية المعرفة.
2- تنبيه أب لابنه أو الهرب من رفقة السوء (8:1- 19)
أ- المضمون
يقدّم الكاتب تنبيه أب لابنه من أجل منفعته. فالتربية عمل الوالدين اللذين يعطيان التعليم والحكمة. ويأتي المعلّم فيكمّل عملهما. وهذا يتطلّب الاصغاء. هذا التأديب نقبله باحترام فيكون زينة لشبابنا.
موضوع التنبيه موضوع معروف: لا تدخل مع جماعة الأشرار وإلا خسرت حياتك. كما وضع قايين فخًا لأخيه وقتله، هكذا يفعل الأشرار مع الصدّيق فيسفكون الدم الزكي. وإن الدم الزكي يصرخ إلى الله، كما أن الشريعة تحرّم القتل (خر 21: 12 ؛ تث 19: 11- 13؛ عد 35: 16- 21، 30- 34؛ لا 17:24- 22)، وكذلك الأنبياء (إر 3:22 ؛ هو 2:4؛ 9:6 ؛ حز 18: 10) والحكماء (17:6؛ 17:28).
والذين يشاركون في هذه المؤامرات هم الخطأة والأشرار. يُذنبون لا في أنهم يقترفون جُرمًا فحسب، بل في أنهم يهاجمون البريء من دون علّة ليزيلوه. هذا هو وضع إرميا ومساكين الرب الذين يتعرّضون لبغض الأشرار وحسدهم (إر 11: 19). وإن موضوع الشرّير الذي يتعدّى على حياة البريء يجد جذوره في التوراة (إر 2: 34؛ 19: 4؛ مز 10: 7- 9 ؛ أش 59: 7). موقف الشرير هذا موقف معارض للدين. وإن السبعينيّة تبرز هذا المعنى فلا تتحدّث آ 18- 19 فقط عن عقاب زمني يصيب أهل العنف، بل عن عقاب روحي. وإن كلمة "نفش " في آ 19 لا تعني فقط نفس بل حياة الإنسان كلها بتشعّبها وعمقها.
ب- تفسير الآيات
(آ 8- 9) تحريض معلم الحكمة: اسمع يا ابني مشورة أبيك... مثل هذا التحريض يعود مرارًا في الكتيّب الأول (3: 1؛ 4: 1؛ 5: 6؛ 6: 20؛ 7: 1)، ويلعب فيه المعلّم دور الأب أو الأم فيعتبر التلميذَ ابنَه. بهذه الطريقة يتوجّه الله أيضاً إلى شعبه (تث 1: 31؛ 8: 5؛ إر 3: 14- 15؛ هو 11: 1- 5). أما سفر التثنية فيشير إلى دور الأهل في تعليم الشريعة (تث 7:6- 20 ؛ 11: 19). كلمة "تورة" تعني عادة "تعاليم " وقد ترجمناها "نصيحة". في اليونانيّة تعني شرائع. لسنا أمام شريعة يفسّرها الكاهن كما في 18:29، بل أمام كلام يتلفّظ به الأهل: شريعة الحكمة (6: 20؛ 28: 7). في 9: 1 نقرأ كلمة "حن " (في العبرية) أو"خارين " (في اليونانية) فتعني النعمة أو الحظوة. ويشدّد النصّ على حموّ هذه التعاليم بواسطة الصورة: اكليل نعمة، قلائد بركة وحنان (4: 9، تك 38: 18؛ خر 32: 2؛ أي 42: 11 ؛ تث 8:6 ؛ 11: 8). وإن التلمود يجعل الأب يرمز إلى الله والأم إلى إسرائيل.
(آ 10- 11) هنا يبدأ التحريض: إبتعد عن رفقة السوء. ربطت اليونانية بين آ 10 و آ 11 فقالت: إن قالوا لك فلا تقبل... وفي آ 11 أ نقرأ "حنم ": بدون سبب. أما السبعينية فقالت: بدون حق. في الواقع، سيفكّر الأشرار أنهم يربحون حين يُسيئون إلى البرئ. إنّ المعلم ينبّه تلميذه الذي لا خبرة الله من الاغراءات (ولاسيّما عبادة الاوثان، رج تث 1:16؛ أش 20:44)، من ربح غير مشروع نحصل عليه بالسرقة (خر 13:20 -15 ؛ تث 5 :17 ؛ أي 12:24-17؛ عا 8: 5-6 ؛ هو 2:4؛ 8:6؛ 7: 1؛ أش 1: 23 ؛ 23:5؛ 10: 1 ؛ إر 5 : 28؛ 6:7- 11).
(آ 12) زادت السبعينية: لنمحُ ذكرَه من الأرض. الجحيم أو الشيول (بموازاة القبر) يدلّ على العالم التحتي ومثوى الأموات. يحيا فيها الإنسان حياة منقوصة (جا 9: 10) وتنقطع له كل علاقة بالربّ (أش 8:38). فالنزول إلى الجحيم شقاء، ولكنه ليس بعقاب، إلاّ في حالة الموت المبكر (مز 23:55).
(آ 13- 14) الحظّ (حسب الاوريم والتوميم) الذي به نحصل على جواب من الله (خر 28: 30؛ لا 8:16) صار هنا الصدفة في توزيع الخيرات (مز 22: 19). تقول السبعينية في آ 13 أ: نُمسك خيره الثمين ونملأ بيتنا من سلبه. وتزيد في آ 14 ب: نمتلك كلّنا هميانا مشتركا. ثمّ تعود إلى النصّ العبري: ويكون لجميعنا كيس واحد.
(آ 15- 19) الخوف من العقاب هو الباعث العملي على كُره هذه الرفقة. السبيل المعوجّة هي صورة عن الشرّ (2: 12- 15؛ 3: 31؛ 4: 14- 17). والتشبيه بالشبكة التي يقع فيها الصياد صورة متواترة تعبّر عن الخطر. نجد هذا التشبيه في حكمة احيقار. نقرأ آ 16 في أش 7:49. أما موضوع العقاب فهو الموت المفاجئ الذي يرتبط بالسلوك الأدبي ويَعد ضحاياه بحالة صعبة في الآخرة (18:2- 22؛ 5:5؛ 27:7؛ 18:9؛ 27: 20؛ مز 9: 4؛ 27: 2؛ أش 8: 15). هكذا تُطرح مسألة المجازاة. نقرأ في آ 18 أ حسب السبعينية: الذين يتحالفون للقتل يكنزون لنفوسهم الشقاء. فالكارثة التي تنتظر القاتلين هي عظيمة. وتقرأ السبعينية 19 ب: يخسرون نفوسهم بكفرهم. نحن هنا أمام تلميح إلى الهلاك الأبدي.
3- خطبة الحكمة (20:1-33)
أ- المضمون
وتبدأ الحكمة المشخَّصة (أي صارت شخصاً حيًا) بخطابها (كما في 6: 22؛ 7: 4؛ 8: 1)، وتصرخ مرّات بأعلى صوتها (آ 20 ؛ رج أش 58: 1؛ إر 15:2؛ 25: 30) وبكل حماس عقلها (آ 23 ب؛ رج أش 3:44). لسنا هنا أمام نصائح من أب لابنه، بل أمام تحذير احتفالي توجّهه السيّدة "حكمة" إلى الجهّال والمستهزئين والبلهاء (آ 22- 23) وهم الذين تسمّيهم السبعينيّة الكافرين (آ 31، 32 ب) والأشرار (آ 28 ب؛ رج مز 10: 4، 11؛ 14: 1؛ 119: 51 ؛ أش 14:28- 22). قدّمت الحكمة نفسها (آ 24- 25)، فلم تلقَ جوابًا (آ 29-30). ولكنّها لاتني تُسمع صوتَها وتُعلن نداءها (آ 22- 23) حيث تنتظر أن يصغي إليها الناس المضطربون (آ 20- 21، 32). نداؤها يقابل نداء يوجّه إلى الخاطئين في آ 10- 14.
وعقاب اللامبالاة والاحتقار اللذين يصبحان كرهًا للمعرفة ولمخافة (أو الكلمة كما يقول اليونانيون) الربّ (آ 24، 29) وبغضاً لنصائح وتنبيهات الحكمة، يكون بأنّ يُحرم الجهّال من الجواب حين يطلبونه (آ 28؛ رج أش 65: 1- 4). فيتوجّب عليهم حينئذ أن يعودوا إلى مشورتهم الخاصة (آ 31) من أجل هلاكهم (آ 32) ودمارهم الذي يشبه دمار مدينة ضربتها العاصفة (آ 27) أو هدمها العدّو. حينئذ تضحك الحكمة عليهم وتهزأ بهم. ونجد في آ 27- 28: حين، حين، فنتذكّر اعلان يوم الشقاء يهدّد به الأنبياء الشعب (أش 22: 5، 8 ؛ إر 7:30؛ 27:50، 31). أما حظّ الذين يصغون إلى الحكمة فمختلف. إنّهم في أمان وبعيدون عن كل خوف (آ 33) ولا يُقلقهم شرّ.
نجد هنا في نطاق الاخلاقيّة الفرديّة موضوع وتعابير الأنبياء حين يحذّرون ويهدّدون شعب إسرائيل. نبهّوه مرارًا (إر 26: 4) فرفض أن يسمع كلمات الربّ (إر 3:5؛ 7: 25- 26؛ 25: 4- 5؛ 29: 19؛ أش 65: 12). سيحلّ به الخراب (إر 25: 9- 10) وسيصمّ الربُ اذنيه في ذلك الوقت. لن يسمع نداءهم بل يضحك منهم (إر 11: 11؛ هو 5: 6 ؛ مي 3: 4). وكما تكلّم الأنبياء في الشوارع والساحات كذلك فعلت الحكمة (إر 7: 2؛ 11: 6؛ 17: 19- 20؛ 22: 2- 6؛ 26: 2).
والتضاد الموجود بين آ 27 وآ 33، بين مصير البلهاء ومصير التلميذ الخاضع للسيدة "حكمة" نجده في مز1 وفي إر 10:17 مع لهجة الحكماء الشخصيّة.
وعبر الشخص الذي يخلقه، يحاول الحكيم أن يجعلنا ندرك الله نفسه. فالحكمة تنتعش بالروح، وفيها تتّحد المعرفة والمشورة ومخافة الرب (آ 29). نبحث عنها بقلق كما نبحث عن الرب، وهي تبتعد عن الذين يحتقرونها فتتركهم في ضلالهم وشقائهم. وإنّ كلماتها تستعيد كلمات الله نفسه كما تلفّظ بها الأنبياء. ومنذ الآن تُطرح مسألة ستُطرح فيما بعد في ف 8: من هي الحكمة بالنسبة إلى الله؟ إنّها منذ الآن حضور الربّ الذي يُدخل القلق إلى ضمير الإنسان.
ب- تفسير الآيات
(آ 20- 22) هنا ترسل الحكمة نداءها فيكون تعليمها امتدادًا لتعليم المعلّم لتلميذه، وتذكيرًا بما قاله الأنبياء. ونتوقّف أولاً عند الظروف. إكتفى المعلّم بأن يعلّم في بيته بهدوء. أما الحكمة فتذهب إلى الشعب. تقف عند مفارق الطرقات وأبواب المدينة والهيكل (1 مل 1: 41؛ إر 7: 2 ؛ 17: 19؛ 19: 2، 14؛ 22: 2). وتسعى إلى اجتذاب الانتباه، فتصرخ وترفع صوتها وتنادي كما يفعل الأنبياء (أش 13: 20، 18: 1؛ إر 25: 30). هذا يعني أن مهمّة الأنبياء هي مهمّة الحكمة. من هم السامعون؛ ثلاث فئات في آ 22 (حسب العبري): الجهّال (فتايم) أو البسطاء والذين لا خبرة لهم. قد يعودون إلى الرب بالتوبة. ثم الساخرون (لصيم) أو المستهزئون (9: 7؛ 14: 6؛ 15: 12؛ هو 7: 5 ؛ أش 28: 14- 20). وأخيرًا البلداء (كسليم أو الكسالى). فالفئة الثانية والفئة الثالثة تتميّزان بتصلبّهما في الشرّ وبرفضها كل تأديب. فالسخرية تعبّر عن ردّة فعل الخاطئ الذي يرفض أن يسمع ويلتزم. والجنون هو نتيجة اللاوعي. ولهذا يدهش القارئ عندما يجد البلداء والمجانين بين السامعين للحكمة. وتدعو الحكمة (مثل الأنبياء): إلى متى؟ لقد عاند الشعب فهدّده الله بواسطة مرسليه (خر 3:10 ؛ عد 23:14).
في آ 21 أ نقرأ بدل الشوارع في اليونانية: الأسوار. في الترجوم: القلعة. وفي اللاتينية: على رأس الشعب. وفي السريانيّة: في رأس البرايا. في آ 21 ب قالت السبعينية: على أبواب العظماء جلستْ، وتكلّمتْ بجرأة على أبواب المدينة. وقد قرأت السبعينية آ 22 أ: ما دام الأبرار يتعلّقون بالبر.
يختلف الشرّاح في ترتيب نداءات الحكمة. ولكنّنا نتبع السبعينية والبسيطة والعبرية فنقسم النصّ قسمين: آ 22- 23: نداء الحكمة. آ 24- 33: رفضَ السامعون، فأطلقت الحكمة حكمها.
(آ 23) إرجعوا (شوب. في العبرية ثاب وتاب) حتى تسمعوا الحكمة. لسنا هنا أمام التوبة بالمعنى الأدبي والرجوع إلى الله. يمكننا أن نقرأ أيضاً: "إذا رجعتم أفيض من روحي. توبيخي (توكحتي) أي تعليم الحكمة. أفيض (نبع. رج النبع في العربية) روحي أي حكمتي.
الروح هو النسمة والتنفّس والحياة والهواء. إنّه مبدأ لامادي وعقلاني. هو يعرف ويسمع ويفهم ويوجّه كل شيء (حك 1 :6 ي؛ 7: :22 ي). ألهم في الله كلّ الأعمال الإلهية، ورأس خلق الكون وتدبيره (مز 104: 30؛ يه 16: 17). أعطي للخليقة فصار المبدأ الذي به يُوجد كلُ شيء، ويمارس كلُّ كائن نشاطه (تك 7: 22؛ عد 16: 22؛ 27: 16؛ أي 12: 10؛ حك 12: 1؛ جا 3: 19). وأعطي بصورة خاصة للإنسان بطبيعته الروحيّة. أعطي أولاً في النظام الطبيعيّ (تك 7:2 ؛ أي 3:27؛ 33: 4 ؛ 14:34 ؛ أش 42: 5). ثم أعطي في النظام الوحي (خر 31: 3؛ 35: 31؛ 1:36). وهكذا استطاع الإنسان أن يعرف ويعمل بطريقة أفضل (أي 7:32- 10). وأعطي أخيرًا بصورة خاصة لشعب الله، للأنبياء، للمسيح (عد 17:11 ؛ 24: 2؛ 18:27؛ يه 10:3؛ 1 صم 13:16؛ 2 مل 15:2؛ هو 7:9؛ يوء3: 1 ؛ أش 2:11 ؛ 3:44)، فمارس عمله القدير. ويُنسب هذا الفيض دومًا إلى الله. هناك عبارة روح الله (تك 41: 38)، روح القدير (أي 8:32؛ 33: 4)، روح يهوه (خر 31: 3 ؛ 36: 1؛ مز 143: 10؛ أش 63: 14)، الروح القدوس (مز 51: 13؛ أش 63، 10)، روحي (أش30: 1؛ 42: 1؛ حز 29:39؛ يوء2:3).
إن تصوير نشاط الحكمة التي تسير في الشوارع (آ 20) وتدعو الناس (آ 22- 23) وتُفيض مثل الله روحها، والتي تُعلن حكمَها (آ 24)، يدلّ على أنّنا أمام تشخيص الحكمة، كما نشخِّص الحق والعدل (أش 59: 14) والسلام والصلاح (مز 85: 11). وهناك شرّاح يتحدّثون عن الحكمة وكأنّها اقنوم قائم بذاته، يتكلّم مثل الله ويمارس نشاطاً إلهيًّا. ولكن لا ننسَ أهميّة وحدانيّة الله في العهد القديم. لهذا لا يمكن أن يوجد شخص آخر تجاه الله الواحد. وإنّنا سننتظر العهد الجديد لنقرأ نصّ سفر الأمثال في المعنى الناجز الكامل.
(آ 24- 25) تقول السبعينية في آ 24 أ: حين أفضت خطبتي. لقد ظلّ الشعب أصمّ لنداء الحكمة، فحكمت عليهم الحكمة على طريقة الأنبياء. وهي تذكّرهم: مدّت يدها لتخلّصهم (أش 65: 1). فشعرت بالمقاومة (كالمقاومة لنداء الله. رج نح 17:9؛ أش 1: 20؛ إر 3:5 ؛ 8: 5؛ 9: 5) والعناد والرفض لاتّباع نصائحها (إر 7: 12- 15).
(آ 26- 27) تزيد السبعينية بعد آ 27 ج: وحين يحلّ بنا الدمار. إرتاحت الحكمة بعد أن أعلنت حكمها وأذلّت الخاطئ (مز 8:52)، كما سرّ الأنبياء لاذلال أعداء الله (أش 37: 22). يعبّر الكاتب عن هذا الهزء لا بردع الانتقام، بل بمثَل ليؤثّر على الناس ويردّهم إلى التوبة (مي 2: 4؛ تث 37:28؛ 1 مل 7:9). ويصوّر العقاب بصور مأخوذة من الطبيعة (العاصفة، الزوبعة). ما هو نوع الشقاء الذي يحل بهم؟ هذا ما لا يوضحه النصّ.
(آ 28- 31) ويعود الحكم في تضاد متواز: فالرافضون البارحة يعودون إلى الحكمة. يطلبونها سحَرًا، ولكنّهم لا يجدونها (أي 8: 5؛ مز 2:63). في آ 28 أ، أخذت السبعينية بالخاطب بدل الغائب. وهذا ما فعلنا في الترجمة. في آ 29 أ نقرأ "كلمة الرب " في السبعينية، "تقوى الله " في القبطية. وتترجم السبعينية آ 32 على الشكل التالي: بسبب ما فعلوا جورًا للصغار سيُقتلون، والاستقصاء سيقتل الأشرار.
(آ 32- 33) المبدأ العام يُجمل العرض كلّه. الضلال (أو الهذيان) يدلّ عند الأنبياء على خيانة إسرائيل للربّ (هو 7:11؛ إر 2: 9؛ 3: 22؛ 5: 6؛ 8: 5؛ 7:14). الاستهتار (أو اللهو) هو سبب التصلبُّ في الشرّ (إر 22: 21؛ أش 46: 8 ي). أما الطمأنينة والسلام الحقيقي اللذان وعد به الله شعبه منذ الاقامة في أرض كنعان (تث 12: 10؛ 33: 12، 28)، وبعد العودة من الجلاء أو في الأزمنة المسيحانية (إر 23: 6؛ 37:32؛ 16:33 ؛ حز 26:28؛ 25:34 ؛ زك 14: 1)، فهما عطية الحكمة الموهوبة للتلميذ الأمين. وهكذا يضمّ الكاتب كل مبادئ سلوك الإنسان في مدلول الحكمة ويعرضها في إطار الوحي الإلهي