الفصل الثاني: نظرة عامّة إلى سفر الأمثال

الفصل الثاني
نظرة عامّة إلى سفر الأمثال

عرف الأدب التوراتي أن يؤكّد شخصيته عبر ما أخذه من عالم الشرق القديم. فني تنظيم الأخبار عن بداية الخلق وروايته لبدايات البشريّة ومسائل الإنسان الكبرى، وفي تاريخ الآباء ولاسيّما موسى وتشريعه المرتبط بالعهد مع الرب، أخذ الشعب العبراني ما أخذ، وأدخله في إطار الإيمان بالله الواحد والوعي لرسالة ميّزته شيئًا فشيئًا عن سائر الشعوب ليستعدّ لاستقبال ربّ كل الشعوب.
ودخل في عالم الأدب الحكمي الذي نكتشفه منذ الالف الثالث ق م في مصر وبلاد الرافدين وسائر ممالك الشرق. فكّر الحكماء في الخبرة البشريّة، في مواقف الأفراد الخلقيّة، ونقلوا إلى الأجيال اللاحقة تعاليمهم لتكون حياتُهم وحياة مجتمعهم ناجحة. فسار على خطاهم حكماءُ أرض إسرائيل، فجاءت أقوالهم واسعة وسع الكون، لا تتوجّه إلى شعب من الشعوب وحسب، بل إلى كل الشعوب، لا تنغلق على العالم اليهودي بل تنفتح على العالم أجمع. وهكذا كما قرأت يهوذا حكمة مصر، قرأت مصر حكمة يهوذا، فما أحسّ بلد بغربة تجاه غنى الآخر.
وهكذا وُلدت أسفار حكمية في اللغة العبرية. وُلد سفر الأمثال. ووُلد سفر ابن سيراخ الذي دوّن في العبرية ووصل إلينا في اليونانيّة. وُلد سفر أيوب وسفر الجامعة. كانت أقوال مأثورة دخلت في كل اذن وردّدتها كل شفة. سيطرح كل من أيوب والجامعة على بساط البحث خبرة الأجيال السابقة، ويهدِّد وجودها التقليدي. وسيقدّم سفر الحكمة وكتاب باروك والكتيب الأول (ف 1- 9) من الأمثال تاريخ الحكمة في حدّ ذاتها، في علاقتها بالله وبعنايته.
مسائل عديدة طُرحت في الأسفار الحكمية وقد ألمحنا إلى بعضها في بداية هذا الكتاب، أما الآن فنتوقَّف على سفر الأمثال الذي يتضمّن أقدم ما عرفته الحكمة من أقوال لدى الشعب العبراني.

1- اسم الكتاب
عنوان الكتاب في التقليد اليهودي هو: أمثال سليمان ملك إسرائيل وابن داود (1: 1). هذا ما نقرأ في بداية أم في التوراة العبرية. وقالوا: أمثال سليمان (25: 1)، وقال التلمود: الأمثال (مشلي). بل قال في مكان آخر: كتاب الحكمة (سفر الحكمة). أما اوريجانس فسمّاه في تفسير المزامير "مسلوت" آخذا بصيغة المؤنث الجمع في الاضافة (كما لو قلنا في العربية: مثلاث، جمع مثلة). وتبعت السريانيّة خطى العبرية فقالت: كتاب أمثال سليمان ابن داود ملك إسرائيل. وترجمت اليونانيّة العبرية: تشابيه (أو أمثال سليمان). وكذلك فعلت اللاتينية الشعبية.
نِسبةُ أم إلى سليمان تدخل في خطّ التقليد العبري الذي يحدّثنا عنه 1 مل 3: 5، 10). أما في أم فلن نجد أثرًا لهذه النسبة إلاّ في 1: 1 و 25: 1، وهذا ما لا يقابل بما قيل عن سفر الجامعة (جا 1: 1؛ 12:1- 2: 11) وسفر الحكمة (7: 1- 21).
ترد كلمة "مشل " (مثل) 39 مرّة. نجدها في أقوال بلعام (عد 23: 4- 7، 16- 18؛ 24: 4- 15) لتدلّ على أسلوب رمزي وتصويري. وفي 1 صم 24: 4 تدلّ الكلمة على قول شعبي: "كما قيل في مثل الأقدمين: من الاشرار يخرج الشر". ونقرأ في 1 مل 4: 32: "وقال سليمان ثلاثة آلاف مثل... ". كل هذه الحكم تدلّ على أقوال تظهر بشكل تشبيه ومقابلة (10- 22). وتدلّ الكلمة أيضاً على تأليف أوسع يرد في أناشيد تعليميّة وشعريّة (رج أي 27: 1؛ 29: 1 ؛ مز 5:49؛ 2:78). وقد يصبح القول هجاء وسخرية (ضُرب الشعب فصار هزئًا للشعوب). رج مز 45: 15؛ 12:49؛ 2 أخ 20:7 ؛ 1 مل 7:9 ؛ تث 37:28. ويستعمل الأنبياء كلمة "مشل " ليدلّوا على أقوال الله يعبِّرون عنها بشكل مقارنة أو لغز (رج أش 14: 3، 33؛ إر 25: 9؛ حز 17: 2؛ 21: 5؛ حب 2: 6)، أو ليوردوا أقوالاً شعبيّة (حز 12: 22 ؛ 18: 2) وأناشيد تعليميّة (مي 2: 4) أو هجاء ضد الأنبياء الكذبة (حز 13: 1؛ 1:14، 8).
ماذا نستنتج من هذه النصوص؟ المثل هو حُكم نعبّر عنه بمقابلة ومقارنة، ونأخذه من عالم التقليد. إنه يقدّم عبرة أخلاقيّة أو دينيّة اكتشفها العقل البشري أو أوحت بها حكمة الله. إنّه تعليم يتطلّب من القارئ مجهودًا ليُدرك مدلوله وأبعاده.
وللكلمة "مشل " معنى آخر ولاسيّما في مصدر الفعل الذي يعني "تسلّط ". "الموشل " هو الرئيس، والمثل هو تعبير قصير يطلقه المعلم صاحب الخبرة والسلطة ليحدّد سلوك البشر فالمثل الحكمي هو في إطار التوجيه الأخلاقي ما هو البند القانوني على مستوى الفرائض. ولهذا وجد الشرّاح تقاربًا في التعبير بين القوانين ولاسيّما قانون العهد (خر 20: 22- 23: 19) وبين أقدم أقسام أم.
وإذا عدنا إلى العربية، نجد مثَّل الشيء له: صوَّره له بالكتابة ونحوها حتى كأنّه ينظر إليه. مثّل الشيء بالشيء: شبّهه به وجعله مثله. المثل: الشبه والنظير، القول السائر بين الناس. وهكذا تلتقي العربية بالعبرية لتقدّم معنى كلمة مثل وأمثال، حيث التشابه بين الواقع والتصوير هو العنصر الأساسي.

2- تنظيم الكتاب
إنطلق النقّاد من الملاحظات النصوصية والحاجات الموضوعيّة والاسلوبيّة، فاكتشفوا في أم تسعة كتيبات مختلفة. وتوقّفوا عند ملاحظات الجامع (17:22؛ 23:24؛ 25: 1؛ 30: 1؛ 31: 1) وزيادات وضعتها الترجمات اليونانيّة أو السريانيّة أو القبطيّة. فالأمر واضح في 9: 12، 18؛ 15: 27- 29، 33 حيث الاختلافات تطابق النقص في 16: 1- 9. وتُجمع أقوالُ الحكماء تجميعًا مختلفًا. فقد ضمّت السبعينية إلى أقوال الحكماء كلام أجور ولموئيل فربطت 30: 1- 14 مع 24: 22 و 15:30- 33، كما ربطت 31: 1- 9 بنهاية ف 24.
وإليك لائحة بالكتيبات:+ الكتيّب الأول (8:1- 18:9). مجموعة نجد فيها موضوعين رئيسيين: أصل الحكمة وشخصيتها، الهرب من عشرة السوء ومن الزانية. في هذه المجموعة تعتبر 6: 1- 19 ؛ 7: 1- 12 و 27:3- 30 مادّة غريبة عن المجموعة. إنّها أقوال ومَنعْ وخطبة أخلاقيّة عمليّة لا ترتبط بالموضوعين الرئيسيين. وإن 2: 5- 8 هي حاشية تقوية.
متى دوّن الكتيّب الأول؟ بعد الجلاء، ولكن قبل حكمة ابن سيراخ (حوالي 180 ق م) وظهور العالم الهليني في فلسطين.
+ الكتيّب الثاني (10: 1- 22: 16). نجد هنا سلسلة من 376 مثلاً عن الحياة الأخلاقيّة. لم يكن هناك تصميم مسبق من أجل تنظيم هذه الأقوال. ثم إنّ اختلافات النصّ اليونانيّ عن النصّ العبريّ في نهاية ف 15 أو بداية ف 16 تدعونا إلى تمييز قسمين في هذا الكتيّب. قسم أول يتضمّن ف 10- 15، وقسم ثان يتضمّن 16: 1- 16:22. يبدأ القسم الثاني ببحث عن ترتيب منطقي. 16: 1- 9، أمثال يهوية أي ترتبط بيهوه بالرب ؛ 16: 10- 15 أمثال عن الملك.
يُسمّى هذا الكتيّب "مجموعة سليمان الأولى" ويبدو مؤلّفًا من موادّ عديدة قد تكون جُمعت بعد موت سليمان بقرن ونصف قرن. ولكن التدوين النهائي تمّ بعد أشعيا والتثنية وحزقيال أي في ما بعد الجلاء، في أيام عزرا ونحميا، وقبل الظهور الهليني في فلسطين.
+ الكتيّب الثالث (17:22- 22:24). نحن هنا أمام مجموعة الحكماء الأولى (17:22)، لأن 23:24 تبدأ مجموعة الحكماء الثانية. ثمّ نلاحظ قرابة مع الكتاب المصري أمينوفي. نجد صورة السكير (29:23- 35) ثم نقرأ تنبيهًا أبويًا. ويتألف 24: 1-2 من اقوال منظّمة في أربعة أبيات. هنا زادت اليونانيّة بعد 24: 22 حواشي وعبارات مختلفة. متى دون هذا الكتيّب؛ بعد الكتيبين الثاني والخامس.
+ الكتيّب الرابع (23:24- 34). إنه مجموعة الحكماء الثانية وهو يشبه الكتيّب الذي سبقه: تلاحق الأمثال، صورة البطّال. ولكنه كتيّب صغير. دوّن هذا الكتيّب بعد الكتيّب الثالث، ولكنّنا لا نعرف متى دوّن.
+ الكتيّب الخامس (ف 25- 29). يشكّل هذا الكتيّب مجموعة سليمان الثانية (25: 1). إذا وضعنا جانبًا الآيات العشر الأولى التي تبدو بشكل مقدّمة، نجد أن فن الدستيك (درفتين أو بيتين) هو المسيطر. نجد هنا 127 مثلاً. ثم إن ف 28- 29 يشكّلان جزءًا مميّزًا بالأسلوب والتعبير الدينيّ. كما أن توسيع 23:27- 27 يبدو نهاية هذا القسم. إنّه يهتم بالاقتصاد المنزلي مثل 31: 10- 31 الذي هو خاتمة الكتاب. من هنا يُقسم الكتيّب الخامس قسمين: يتضمّن القسم الأول ف 25- 27، والقسم الثاني ف 28-29.
مواد هذا الكتيّب قديمة مثل مواد الكتيّب الثاني، ولكنه دوِّن بعد الكتيّب الثاني. ثم إن القسم الثاني المطبوع بالطابع اليهوي يعارض خصوصاً همّ الأشرار الذين يهدّدون النظام في المدينة ويعرّضون السلطة للخطر ويضطهدون الأبرار. كل هذا يعكس اهتمامات الأنبياء والحكماء في ذلك العصر
+ الكتيّب السادس (30: 1- 14). عنوانه: أقوال أجور. تعكس الفكرة تشاؤمًا واكتفاء بما وصل إليه الإنسان. نستطيع أن نرى في هذا الكتيّب ملحقًا لمجموعة سليمان الثانية. أما اليونانية فجعلته بعد 24: 22، وهكذا ضمتّه إلى مجموعة الحكماء كما ضمّت الكتيّب الثالث.
+ الكتيّب السابع (15:30-33). أمثلة عددية بشكل لغز. يستعمل عا 1: 1ي
هذا الأسلوب، ولكن لا شيء يبيّن أن هذا الكتيّب دون في زمن قديم.
+ الكتيّب الثامن (31: 1- 9). يتكوّن هذا الكتيّب من "أقوال لموئيل ". إنه نصائح أم لابنها الملك. قد جاء هذا الكتيّب إلى أرض إسرائيل من الخارج، وربطته السبعينية بمجموعة الحكماء.
+ الكتيّب التاسع (31: 10- 31). نحن هنا أمام تأليف شعري أبجدي يستقي مواضيعه من حكمة عائليّة وريفيّة. الموضوع قديم والتأَليف حديث. يشكّل هذا الكتيّب خاتمة سفر الأمثال، ويعيدنا في آ 30 إلى جوّ يهوي ظهر في بداية الكتاب: الحسن غرور والجمال باطل، وللمرأة التي تخاف الرب كل المديح.

3- الترجمات القديمة والتفاسير
أ- الترجمات
* هناك الترجمة السبعينية. إنّ أم هو أفضل ما نقله المترجمون من أسفار التوراة. هناك اختلافات بين النصّ الماسوري والسبعينية، كما أنّ السبعينية زادت بعض الآيات على النصّ العبري.
* وهناك الترجمات القبطية التي ارتبطت بالترجمة اليونانيّة فاحتفظت بزيادات اليونانيّة. أما السريانيّة، فانطلقت من العبرّية، ولكن المنقّحين عادوا إلى النصّ اليونانيّ فأوضحوا نصوص السبعينية كما زادوا بعض المرات ما زادته السبعينية على النصّ الماسوري.
" وهناك الترجمات اللاتينية القديمة التي انطلقت من السبعينية وظلّت أمينة لها. وهناك الفولغاتا أو اللاتينية الشعبية. عاد مترجمها، القديس إيرونيموس، إلى النصوص القديمة ينقّحها منطقا من الهكسبلة (ستة نصوص جعلها اوريجانس في عواميد) اليونانيّة. بعد هذا، نقل أم عن العبرية بسرعة، كما يقوله هو عن نفسه، ولكنه اجبر على العودة إلى اليونانيّة ليوضح بعض الآيات.

ب- التفاسير
* في العالم اليونانيّ: لن نجد إلاّ نتف تفاسير عند هيبوليتس مع تطبيقات أخلاقية وعمليّة، وكذلك عند اوستاشيوس الانطاكي الذي نقل النصّ إلى مستوى تدبير العهد الجديد. ونجد مقاطع لاوريجانس يفسر فيها النصّ آية آية ويستخلص المعنى الروحي. وقد شرح أوسابيوس القيصري آية واحدة. أما ديديمس الأعمى فاتبع النصّ آية آية ففسّر المعنى وأعطى التطبيق الروحي. وقدّم لنا يوحنا فم الذهب تفسيرًا في خطّ اوريجانس مشدّدًا على التطبيق الأخلاقي. وفسر كيرلس الاسكندراني 8: 22 بطريقة حرفيّة. ولن نجد تفسيرًا كاملاً إلى عند بركوبيوس الغزاوي مع تعليم أخلاقي يستقيه عند سابقيه. وعاد باسيليوس الكبير إلى أم فقدّم سلسلة من العظات الأخلاقية.
* في العالم اللاتيني. نشير إلى عظتين للقديس اوغسطينس، واحدة عن 9: 12 وأخرى عن 31: 10- 31، وإلى استنتاجات أخلاقية عند القديس بطرس دميان وإلى شواهد عند غريغوريوس الكبير.
* في العالم السرياني نعرف بطريقة عامة آباء فسروا الكتب المقدسة كلها مثل يعقوب الرهاوي وجاورجيوس أسقف العرب وموسى بركيفا، وهناك آثار وصلت إلينا. مثلاً تيودور بركوني الذي خصّص مقالة كاملة لشرح سفر الأمثال وغيره من الكتب الحكمية. وطرح الكاثوليكوس يشوع برنون ثلاثة أسئلة حول سفر الأمثال. وهناك تفسير أغفل اسم صاحبه يتطرق إلى أم. ولا ننسى ديونيسيوس ابن الصليبي، وغريغوريوس ابن العبري. ويتميّز ايشوعداد المرزوي بشرح مطوّل لسفر الأمثال المنسوب إلى سليمان الذي لمِ يكن نبيًا بل تميّز بالحكمة والفطنة. يتوقّف إيشوعداد عند الكلمات الصعبة ويشرحها محاولاً ان يقدّم للقارئ تطبيقًا أخلاقيًا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM