الفصل الأوّل
مدخل إلى الأسفار الحكمية
الأدب الحكمي اسم نضع تحته أسفار أيوب والأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد والحكمة ويشوع بن سيراخ. يحتلّ هذا الأدب مكانة هامّة بجانب الأدب الشرائعي والأدب النبوي، وهو ثمرِة حركة فكريّة ودينيّة وأخلاقيّة. ولقد ترك الحكماء عند الشعب في مدى تاريخه أثرًا عميقَا يوازي أثر الكهنة والأنبياء.
الحكمة في اللغة هي الكلام الموافق الحق، وهي الفلسفة وصواب الأمر وسداده، وهي العدل والحلم والحكم. والحكيم هو صاحب الحكمة والعلم، ومن عجَنته التجارب ومن أتقن الأمور وتمكّن منها.
وترتبط الحكمة بالحاكم الذي يقضي بالأمر بين الناس، والذي يتولّى إدارة شؤون البلاد. والحاكم يحتاج إلى الحكمة ليسوس أمور العباد وإلى أن يمنع نفسه ويردّها عن المزالق ليستحقّ أنّ يفوّض إليه الناسُ الحكمَ في أمورهم. هكذا احتكمت المرأتان إلى سليمان (1 مل 3: 16 ي) فحكم لصاحبة الحق وحكم على الثانية بأنّ تُعيد الولدَ إلى أمه. كان سليمان ذاك القاضي الحكيم الذي فصل الخصومة، فهابه جميع بني إسرائيل "لأنهم رأوا حكمة الله فيه في إجراء الحكم" (1 مل 28:3).
1- طبيعة الحكمة
كان لاسرائيل كما لشعوب الشرق القديم حكمته. وهي جهود الفكر البشري الذي يلاحظ الأمور بعقله فيحاول أن يلج في سر الكون لِيعرفه ويتكيّف معه ويتسلّط عليه حسب كلمة الرب في البداية: "اخضعوا الأرض وتسلّطوا على سمك البحر وطير السماء وجميع الحيوان الدابّ على الأرض " (تك 1:28). الحكمة هي مهارة اليدين (سي 9: 17؛ أش 3: 3؛ 40: 20؛ إر 10: 9) ومعرفة الألغاز والأحاجي (أم 1: 2- 6) وفنّ إدارة الأمور الخاصّة والتجاريّة (سي 7: 18- 28 ؛ حز 28: 1- 10 ؛ 27: 28) والسياسيّة (أم 11: 11، 14، 21؛ 21: 1 ؛ سي 10: 1- 5)0 الحكمة فطنة توجِّه سلوك الحياة الفردي (أم 1: 10- 19؛ 2: 1- 22؛ 4: 10- 19 ؛ 20: 21)، وحسّ داخلي وفطرة طبيعية تريه الخير والشر مع نتائجهما العاديّة (أم 16: 18؛ 27:26 ؛ سي 7: 36؛ 13: 1؛ مز 3:37). الحكمة معلّمة الفضائل: تعلِّم اللباقة (أم 23: 1- 3 ؛ 6:25-7 ؛ سي 31: 12- 31؛ 32: 1-13 ؛ 35: 1ي) والتبصرّ (أم 2: 10- 11) والصبر (سي 8:7- 9) والعفّة (أم 5: 1- 20؛ 6: 20 ي). وهي تنصحنا بتجنّب الإفراط في كل شيء، بالابتعاد عن الرذائل ونتائجها التعيسة. نبتعد عن الزنى (أم 6: 20 ي ؛ 7: 1ي) والكسل (أم 26: 13) والسكر (أم 23: 29- 35) والشراهة (أم 23: 19- 21) وسائر العيوب (أم 6: 16- 19)0 الحكمة تعلّمنا فن تنظيم حياتنا لنكون سعداء ويحالفنا النجاح (أم 15:10 ؛ 3:13- 8 ؛ 14: 10- 13 ؛ 13:15؛ 26:16 ؛ 8:17 ؛ 16:18 ؛ 15:30 ي؛ سي 7: 1-17 ؛ 8: 1-9؛ 2 صم 20: 16- 22). مع الحكمة تسير الحيلة والدهاء وتصرف غير خلقي في بعض المرات. تلك كانت حكمة يوناداب الذي علّم صديقه امنون بن داود كيف يحتال على أخته تامار (2 صم 13: 1ي)، وحكمة ادونيا بن داود (1 مل 2: 16) التي ساقت صاحبها إلى الموت.
ظهرت الحكمة في نصوص عديدة مطبوعة بطابع بشريّ وشامل. وتنظَّمت في معرفة تقليديّة تجمع نتائج اختبارات الأجيال المتعاقبة، وتجملها في أقوال وأمثال تنتقل من الآباء إلى البنين (قض 18:14؛ 1 صم 14:24؛ 1 مل 20: 11؛ إر 29:31؛ حز 17: 12). وهي تجد اصولها في الخبرة (أي 8:8 ؛ 15: 10- 17؛ 6:32) والتقليد (أي 18:15؛ أم 17:22- 21؛ سي 9:8؛ 39: 1؛ 51: 23 ي ؛ جا 12 :9- 12) اللذين تجد فيهما سلطتها وقيمتها. فالحكماء لا يدَّعون أنّهم حصلوا على وحي إلهي، وهم لا يشيرون إلى رؤية أو إلى حلول روح الرب عليهم كقوّة إلهية، كما عند الانبياء. تلك هي الحالة في المجموعات الحكمية القديمة (أي، أم) وفي الأسفار الأقرب عهدًا إلى المسيحيّة، كلها تشدّد على الحكمة البشريّة.
هل يعني هذا أن الحكماء ينفون صفة الحكمة عن الله؟ حاشا وكلاّ. فالتوراة تعتبر منذ القديم أن الحكمة مُلك الرب. وهنا يتساءل الشراح: أية نظرة هي النظرة القديمة، تلك التي تتحدّث عن الحكمة البشريّة أو التي تتحدّث عن الحكمة الإلهيّة؟ تبرز هذه الحكمة في "معرفة الخير والشر" التي احتفظ بها الله لنفسه (تك 17:2؛ 5:3، 22) وهي صفة خاصة بالله بحيث إن من حاول الاستيلاء عليها حُسب وكأنّه يتهجّم على الجلال الإلهيّ (أي 8:15). هذه الفكرة تسيطر في سفر أيوب (9: 4 ي؛ 13:12 ي ؛ 22:21؛ 28: 22- 27) حيث تختفي الحكمة التي يعرف الله وحده طريقها، عن أعين كل الاحياء. ويعلن باروك (3: 15- 38) أن الحكمة فوق متناول البشر: لم يَسمع بها أهل كنعان. ولا بنو هاجر، ولا تجّار تيمان (الذين اشتهروا بحكمتهم، إر 49: 7؛ عو 1، 8؛ أي 2: 11)، ولا مفسّرو الاساطير، ولا الباحثون عن الفكر، ولا الجبابرة القدماء (تك 6: 4). كل هؤلاء لم يكتشفوا طريق الحكمة لأنه لم يصعد أحد إلى السماء ليتناولها، ولا نزل بها من الغيوم. يطيب للأنبياء أن يعظّموا حكمة الرب (أش 29:28؛ 2:31 ؛ إر 10: 12 ي). إن حز 28: 1- 5 يوبّخ ملك صور الذي استعلى بحكمته، وصنع لنفسه قلبًا كقلب الله، أي حسب نفسه قويًا وحكيمًا كالله. ونقرأ أيضاً في مز 94: 10- 12: "هل الذي يؤدّب الأم لا يعاقب؟ هل الذي يعلّم البشر لا يكون حكيمًا؟ الله يعرف خطط البشر ويعرف أنها باطلة. طوبى للرجل الذي تؤدبه، يا رب، وتعلِّمه شريعتك " (رج مز 139: 6).
إذًا، الله هو سيّد هذه الحكمة السامية التي ترتبط بالحكمة البشريّة أو تُعارضها، وهو يملك مُلكًا مطلقًا كلّ حكمة بشريّة حقّ، فيوصلها إلى البشر بحسب مشيئته. هذه الحكمة تبدو أولاً في الكتب التاريخيّة والنبويّة كقوّة سريّة تُعطى لأشخاص مميزّين. فهكذا نال يوسف "روح الرب " الذي به تفوّق على كل سحرة مصر وفسّر أحلام فرعون (تك 41: 8، 24، 38 ؛ رج أيضاً دا 1: 20 ؛ 2:2 ؛ 4: 5- 15 ؛ 5: 11-28). ونقول إن مهارة اليدين هي أيضاً نتيجة عطاء إلهي أتاح للصنّاع أن يبنوا المسكن والهيكل (خر 23:28؛ 3:31؛ 35: 31 ؛ 1 مل 7: 14 ؛ 2 أخ6:2، 12)، وعلّم المزارعين الزراعة (أش 28:28- 29). ولكن الله يعطي روحه بصورة خاصة للملوك والمستشارين والقضاة بحيث لا تُعتبر حكمتُهم صفة طبيعيّة محضة. فموسى والشيوخ حصلوا على قدرة الرب وروحه (خر 18: 21- 23؛ عد 11: 17- 25 ؛ 18:27 ؛ تث 1: 15- 17، 34: 9)، وكذلك القضاة (قض 4: 4 ي) وداود (1 صم 23: 1- 2)، وخاصة سليمان الذي نال بغزارة روح الحكمة هذا فاشتهر في كل الشرق (1 مل 3: 11، 28).
أما ابن سيراخ الذي يُجمل ما قال سابقوه، فيتحدّث عن الحكمة البشريّة والحكمة الإلهيّة. فهو يجعل الحكمة تنشأ من الخبرة والدراسة (سي 34: 9 ي؛ 39: 1- 4)، ومن التقليد (سي 8:8 ي؛ 2:39)، ويجعلها تنبع من وحي الله وشريعته (سي 23:24 ي؛ 39: 1- 8)، لأنها عطية من الله (1: 1- 10). وستتأثّر الحكمة بالوحي الموسويّ والكرازة النبويّة، فتتّخذ منحى دينيًا واخلاقيًا ظاهرًا فتقابل التقوى والفضيلة كما أن الجنون يرمز إلى الكفر والرذيلة (هو 4: 6؛ 14: 10؛ مز 19: 8؛ 37: 30 ي؛ 107: 43؛ 119: 1ي؛ إر 22:4؛ 5: 21؛ 9:8 ؛ 9: 11؛ أش 11: 12؛ 6:33؛ أم 2:4؛ 12: 8؛ 15: 21؛ سي 6: 32- 37). وسيصبح الحكماءُ المبشرّين بأخلاقيّة نفعيّة ودينيّة معًا (أم 11: 1 ؛ 17: 15؛ 22: 2، 4 ؛ 13:29)، ويعتبرهم الناس رجال الله مع الأنبياء والرائين (أش 3:3 ؛ 44: 25؛ إر 18:18 ؛ حز 7: 26) بعد أن امتلأوا من روح الله وإليهم تكلّم فمُ الرب (إر 9: 11). حينئذ تصبح الحكمة مخافة الله (أم 1: 7؛ سي 1: 11- 30)، مخافة ممزوجة بالثقة (أم 3: 18) وأساس الديانة. وتصبح أيضاً روحًا نبويًا يوحي بأقوال الله. وتبدو في أي 4: 12- 16 همسًا إلهيًا يُسكت الشيوخ (عكس ما تعوّدنا أن نسمع) لأنهم لم يقولوا شيئًا معقولاً (أي 32: 4-7). وفي النهاية تماثل الحكمة روحَ الله. حينئذ تظهر كمبدأ فاعل في الخلق وفي تدبير الكون، ويُنسب إليها الدور الذي كان لروح الرب (أش 63: 11- 14؛ حك 10: 15- 11؛ إر 10: 12-13 ؛ 15:51؛ مز 104: 24؛ أم 19:3؛ أي 12:26 ؛ 25:28-27؛ 36: 25 ي). ويطيب لها أن تصوّر أصلها الإلهي منذ الازل في أشكال أدبيّة تجعلها اقنومًا من الأقانيم (أم 8: 22- 31؛ حك 9: 9؛ سي 24: 3). إنها هذا الروح القدير في الله الذي يُدرك كل شيء في العالم (حك 7: 24- 28 ؛ 8: 1)، الذي يُعطَى للبشر فيصبح مربّي البشريّة أفرادًا وملوكًا (أم 16: 10- 12 ؛ حك 6: 1- 7: 14)، ويُعطَى لبني إسرائيل فيوجّههم في رسالتهم (حك 10- 12؛ سي 44- 50)، ويُعطى للمسيح فيساعده على اتمام عمله (أش 11: 1). حينئذ تُعَدُّ الحكمة موهبة شبيهة بالعهد والشريعة (سي 22:24- 31) وتصبح مبدأ كل فكر وكل خير (سي 1: 1- 10، حك 1:6- 8 ؛ 15:7-30؛ مز 104: 1ي).
وتماثل الحكمة روح الله والشريعة والعهد. لن يكون تماثلها تماثلاً مطلقًا، لأنها لا تقدر أن تتحرّر من أصلها البشري. أجل، لن تكون ينبوع حياة مثل روح الله، ولن تكون قوَّة إلهيّة تحفظ حياة الانسان في الوجود وتجدّد حياة الشعب الخلقيّة والدينيّة (أش 32: 15- 18؛ 44: 3 - 5؛ حز 25:36- 27؛ 39:39؛ مز 51 : 12- 14 ؛ 143: 10). هذه الحكمة لن تبرز في وحي نبويّ، بل تبقى مربّية البشريّة التي لا تخلق النتائج الإلهية، بل تفترضها وتتعهّدها بنصائحها وأنوارها ودوافعها.
هذه التصوّرات عن الحكمة ستدخل في الوحي الجديد فتعبّر عن اسرار الإيمان والرجاء والمحبّة في العهد الجديد. فيسوع ابن الله هو الحكمة المتجسِّدة.
2- الأدب الحكمي
الأدب الحكمي هو ثمرة هذه الحكمة. بدأ ببداية ظهور الفكر البشري، وتوسّع من جيل إلى جيل، وجُمع فصار خير التقليد المشترك. فتوصيات الآباء قيلت على أنها نصائح حكمة بحيث إنّ كلمة "ابني " صارت معهودة في فم معلّمي الحكمة. هكذا أوصى اسحق ابنه يعقوب أن لا يأخذ امرأة من بنات كنعان (تك 28: 1ي). وهكذا أنبأ يعقوب أبناءه بما يكون لهم في آخر الأيام (تك 49: 1ي). وأوصى سليمان ابنه داود (1 مل 2: 1- 9)، وطوبيط ابنه طوبيا (طو 2:4 ي؛ 10:14 ي ؛ رج أم 1:8-9؛ 1:30؛ 1:31). اعتبر الناسُ الشيوخَ أنهم يحملون وديعة الحكمة فسمعوا لنصائحهم واحتفظوا بها وانقادوا لها (أي 8:8؛ 15: 10؛ 6:32 ؛ 1 مل 6:12 ؛ سي 34:6؛ 25: 5). والتعاليم التقنيّة التي قدّمها الصنّاع عُدَّت ثمر حكمة، وافادت نموَّ المدينة (أش 11: 20؛ إر 10: 9؛ حز 8:27 ي). وتذكر النصوص القديمة بعض النساء اللواتي أبدين حكمة سمع به الناس. هناك امرأة تقوع (2 صم 14: 2 ي)، وهناك امرأة آبل (2 صم 20: 16 ي) التي نجَّت مدينتها من الدمار. ولقد احتفظت لنا الكتب التاريخيّة ببعض الأقوال (قض 8:8- 15؛ 18:14 ؛ 1 صم 10: 12) وبعض الأمثال والأخبار التي تشير بنوع خاص إلى أحداث من حياة داود (1 صم 24: 14؛ 2 صم 12: 1- 6). هذه أولى ثمار الحكمة الشعبيّة العفويّة التي يعبِّر عنها الناس بأشكال بسيطة.
وجاء عهد سليمان، فجعل بلاطه كبلاط الملوك الذين حوله. جمع حوله الحكماء من مستشارين وكتبة يدوّنون الأعمال الرسميّة (1 مل 4: 1ي). سار هؤلاء على خطى ملكهم الذي "قال ثلاثة الآف مثل وكانت أناشيده الفا وخمس أناشيد". وكان جميع الشعوب يأتون إلى سليمان لسماع حكمته (1 مل 12:5- 14). لا يحق لنا أن نشكّ في هذا التقليد الذي يجعل من سلمان الموجِّه الأول للأدب الحكمي في إسرائيل. فبعد هذا الزمن، تنظّمت طبقة خاصة هي طبقة الحكماء والأدباء والكتبة الذين أوكل إليهم تدبير الأمور الاقتصاديّة والسياسيّة في المملكة وتدوين أعمال الملك. كان الملك يختارهم في صفوف الطبقة الارستقراطيّة فيصبحون مستشاريه (1 مل 6:12؛ 22: 2 ؛ 2 مل 8:6؛ 12:7)، ويحتلّون مكانة مرموقة في المجتمع. لا تتحدّث التوراة عن تجمّع الكتبة كما تحدّثت عن فرق الكهنة (لا 8- 9؛ عد 3- 4؛ حز 44) وجماعة الانبياء (تث 18: 1ي؛ 1 مل 18: 19 ؛ 20: 35؛ 2 مل 5:2؛ 4: 1، 38؛ 6: 1). غير أنها تذكرهم مع الأنبياء والكهنة (أش 5: 21 ؛ أم 17:22؛ 23:24؛ سي 17:9؛ 38: 24؛ حز 7: 26). ولقد قال إر 18:18: "لا تبيد الشريعة عن الكاهن، ولا المشورة عن الحكيم، ولا كلمة الله عن النبي ". هذا النص يبيّن المهمات الخاصة بكل من هذه التجمّعات والعلائق التي توحِّد بينهم والتعارض الذي يبعد بينهم. تعلّق الكهنة بعبادة يهوه، وهم مختارو الله في قبيلة لاوي، واستند الأنبياء إلى الوحي الإلهي وهم الذين دعاهم الله دعوة خاصة. أما الحكماء فتثقّفوا بالدرس وإعمال الفكر فلجأوا إلى العقل وإلى الفطنة البشرية. ولهذا لن نتعجّب من النزاعات التي حصلت بينهم في وقت من الأوقات. وسيكتسب الحكماء شيئًا فشيئًا وعيًا لوظيفتهم الخاصة، ويفهمون دَيْنهم للعقل البشري وللوحي الإلهي. إستندوا إلى العقل فارتبطوا بالوحي وثبتوا في طريقهم متجنّبين الافراط في التعبّد للشريعة تاركين جانبًا الاهتمامات المسيحانيّة والوطنيّة العزيزة على قلب الشعب اليهودي والتي ذكّر بها الأنبياء، فاهتمّوا خاصة بتربية الشبيبة وتعليمها. لا شكّ في أن نشاطهم لم يكن واضحًا في فلسطين كما في مصر، إلا أن التقليد الحكمي له مدارسه في كل عواصم الشرق القديم. وإليك ما يقوله ابن سيراخ عن كيفيّة اقتناء الحكمة: "حين كنت صبيًا، وقبل أن أتيه، إلتمست الحكمة علانية في صلاتي. طلبتها أمام الهيكل وسألتمسها إلى النهاية. فابتهجَ قلبي بزهرتها كما بعنقود عنب. سارت قدمي في الطريق المستقيم وتبعتُ آثارها مذ كنت صبيًا. أملتُ أذني قليلاً وقبلتها فوجدتُ لنفسي تعليمًا كثيرًا" (سي 12:51-16).
وكان تأثير الحكماء كبيرًا، فاتّخذت وظيفتهم مدى دوليًا. فالحكماء أو الكتبة عرفوا اللغات المتعدّدة، فكانوا أداة اتصال بين الشعوب. تُحدّثنا التوراة عن الحكماء الأجانب، وتقابلهم بحكماء اسرائيل (1 مل 5: 10؛ تك 41: 8، 24، 38؛ خر 7: 10-13؛ أش 19: 11- 15). ونحن نجد في كل بلاط كتبة يحملون اسماء غريبة: هناك شوشا (اسم بابلي في بلاط داود) (1 أخ 18: 16)، وهناك شبنا (اسم أرامي) في بلاط حزقيا (2 مل 18:18، 26، 37). كان لقب الكاتب في مصر في زمان المملكة الجديدة: ماهر أو ساخر ماهر أي كاتب ماهر. وهذا اللقب هو كنعانيّ (مز 45: 2، عز 7: 6). تعلّم هؤلاء الكتبة في كل ميادين العلوم والأدب والسياسة، فعرفوا وحدهم أسرار العلاقات بين الناس وواجهوا تقلّباتهم. كانوا وحدهم القادرين على تدوين أفكارهم بطريقة مبتكرة وعلى نشر هذه الأفكار على أوسع نطاق.
هناك أحداث ساعدت على تأثيرهم وألهمت توجّهاتهم. فالاصلاحات الدينيّة المتنوِّعة في أيام حزقيا (2 مل 18: 1ي ؛ أم 25: 1) ويوشيا (2 مل 22: 1ي) أدخلت الروح الدينيّة عند الكتبة وفي المحيط الارستقراطي الحائز الحكمة وقرَّبتهم من الكهنة ومن العبادة. والمنفى الذي دمَّر الاطار التقليدي للنظم وقلب ظروف الحياة، أزال الفوارق بين طبقات المجتمع المتنوّعة. ألغيت شعائر العبادة ودخل التأثير الوثني في المجتمع، فخفّف من روح التعبّد للشريعة. في هذه الظروف، خفّ عدد الأنبياء وضعفت سلطتهم وكثر عدد الأنبياء الكذبة. كل هذا بلبل الأفكار. ثم إن الفوضى الدينية والأخلاقية وضعت اليأس في نفوس يهود تحمَّسوا موقتا للعودة إلى أرض الميعاد (إصلاح عزرا ونحميا. رج عز 7؛ نح 7- 8). في هذه الظروف ولدت حاجة إلى تجميع كل العقائد والتقاليد وإلى توحيد الأفكار والقلوب. هذا العمل قام به كتّاب ذلك العصر بعد أن ورثوا كل هذا الماضي.
لهذا لا نتعجّب من نموّ الادب الحكمي. بدأ مع التقاليد الأولى في عائلات الآباء، فانتقل بطريقة شفهيّة، ثمّ انتشر في كل أسفار التوراة. نجده في الأناشيد والأمثال، في التعليم والهجاء والتاريخ (قض 8:9- 15 ؛ 1 صم 12:10، 24:19، 2صم 12: 1-6 ؛ 2 مل 14: 9). وهناك مزامير عديدة تسمّى مزامير حكميّة (مز 1، 37، 49، 73، 91، 112). ولقد عاد الأنبياء مرارًا إلى هذه الأشكال التعبيرية في كرازتهم. كل هذا التيَّار الحكمي تبلور شيئًا فشيئًا وتوسّع في مجموعات خاصّة به، فكان سفر الأمثال أو مجموعات أقوال حكمية، وسفر ايوب الذي هو نظرة انسان إلى المصير البشري، وسفر الجامعة الذي يقدّم اعتبارات عن أحداث الحياة البشرية، وسفر نشيد الأناشيد الذي يقدِّم في الحب البشري مثلاً عن حب الله لشعبه، وسفر يشوع بن سيراخ الذي يقدِّم لنا أقوال أحد المعلّمين في كل نواحي الحياة، وسفر الحكمة الذي يفلسف مشاكل القلب البشري ويفتحها على عالم الخلود.
هذا الفن ازدهر مع أيوب شعرًا غنائيًا فكان فخر الادب الحكمي في اسرائيل بل في الشرق القديم. وتقدّم مع سفر الحكمة نحو النثر الذي يقدّم البراهين والحجج فيفتح الطريق للأدب المنحول مثل رسالة أرستيس (التي تتحدث عن أصل السبعينية) وسفر المكابيين الرابع (كتبه خطّيب يهودي ليبيّن أن العقل الذي توجّهه التقوى يسيطر على الرغبات).
بعد هذا التيَّار الحكمي الذي استقى من ينابيع العقل والوحي، سيقوم كتّاب علماء يحافظون على التوراة بعناية قصوى لا ليطمروها بل ليطمروها في الأرض. ولهذا ستضيق نظرة الحكماء في أيام المكابيين. ولما بزغ فجر يقظة وطنية، وجّه العقول نحو نظّم شريعيّة وآمال مسيحانيّة وطنيّة. وحين جاء ملء الزمن وتعرّفنا إلى كمال الوحي الإلهي، كان الكتّاب الذين دوّنوا الادب الحكمي أقرب الى المسيح من معاصري المسيح أنفسهم.
3- موضوع الأدب الحكمي
موضوع الأدب الحكمي هو تقديم الحلّ العملي للمشاكل الكبرى التي تطرحها أحداث الحياة على العقل البشري: الله، أصل الانسان ومصيره، الخير والشرّ، السعادة والشقاء، الحقّ والعدل، البحث عن السعادة الحقّة.
الله هو أساس كل شيء في العالم (حك 13: 1- 9 ؛ أم 8: 22- 23). إنه سيّد العالم المطلق والشامل (أي 38: 4 ؛ أم 30: 3- 4، سي 36: 1- 4)0 اسمه يمثّل طبيعته الإلهية والخفيّة (أم 30: 1؛ حك 14: 21- 27). صفات الله عديدة. هو العقل والارادة والقدرة. إنه يعرف كل شيء ويسود كلَّ شيء (أم 8: 22- 30، سي 1: 4- 10 ؛ حك 7: 11- 21 ؛ 8: 4- 6). حكمة الله هي مبدأ عمله في الكون من خلق العالم وتدبيره (أم 8: 22- 30 ؛ حك 8: 6).
هذه الحكمة التي نحصل عليها بالخبرة أو الدراسة (أم 1: 7؛ سي 34: 9 ؛ 39: 1- 4) أو التي يرسلها الله إلينا موهبة مجانية (حك 7: 1- 8)، يمكن أن تكون من نصيب البشر وتصير مبدأ حياة الإنسان (حك 12: 1) ومربّية البشرية وحاملة إلى الإنسان العون والنور من أجل الحياة.
في سفر الأمثال، تقدّم هذه الحكمة للبشر حلاً عمليًا لسلوك عاقل وأخلاقي، تقدّمه بثقة وتفاؤل فتجعلهم يتعرّفون إلى الخير والشر مع نتائجهما الطبيعية من ثواب وعقاب. نحن في سفر الأمثال أمام نظرة بسيطة وملموسة تُجنّبنا التأملَ المباشر في مسألة مصير الإنسان بعد هذه الحياة.
ويحاول أيوب أن يناقش هذه المسألة التي ظلَّت غامضة في إطار التقليد وانحصرت في تطبيق لا يتعدّى هذه الحياة (الشر للاشرار والخير للابرار). من مخاطر هذا التقليد أنه حصر نظرة الإنسان في هذه الدنيا، ولهذا لم يعد كافيًا على ضوء معطيات الوحي. هذا المجهود الذي قام به الكاتب ليلج اعماق السرّ البشريّ وليوفّق بين معطيات مختلفة، بدا شاقًا لفكر يهودي لم يتعوّد التفكّرات والأبحاث المجرّدة، يحسّ بالشرّ ولا يستطيع أن يجد له جوابًا. ولكنّ هذا المجهود يضع علمًا على طريق الأبد معترفًا بقدرة الله التي تجازي البار وتعاقب الخاطئ بطريقة تتجاوز العقل البشري (أي 19: 25؛ 42: 1- 6).
أما طريق الحكيم الذي كتب سفر الجامعة فطريق طويل لا نرى نهايته، ولهذا نعلن على هذه الأرض: كل شيء باطل ما عدا الفضيلة... والله يجازيها في ساعتها.
هذه الصعوبات لم تصدّ يشوع بن سيراخ، الكاتب الاورشليمي، الذي حاول أن يقطف كل ثمار التقليد ليقدّمها لمعاصريه. لم يكن عمله عديم الجدوى لأنّه هيأ الدرب لسفر الحكمة الذي أفاد من معطيات التقليد ومن تطوّر العلوم في عصره، فتوصّل إلى سرّ رجاء مليء بالخلود من أجل الأبرار (حك 3: 4).
4- خاتمة
إن الأدب الحكمي في التوراة قد أعطى الشعب المختار تربية أخلاقيّة ودينيّة. ولكنّه "ظلّ بشريًّا، بمعنى أنّه استلهم مبادئه من العقل البشري ومن الخلق الطبيعي، وقدّم في عبارات بسيطة وواضحة كلمات تنطبق على كل ظروف الحياة. إستخرج من الخبرة البشريّة وتوافقِ الشعوب سلطةً تفرضُ نفسها. إقترب من حكمة الناس. ولكنه اهتمَّ بأن يرتبط بالشريعة والأنبياء وأن يجد تثبيتًا لسلطته في أصل ديني. وهكذا ارتفع إلى نظرة دينيّة وأخلاقيّة فتجاوز ما حوله من آداب.
وظلّ هذا الأدب الحكمي شاملاً. هو لم ينغلق على ظروف خاصة بعهد سيناء المعقود بين الله وشعبه، ولم يشدّد على رجاء ينفرد به الشعب اليهودي، فامتدَّ خارج إطار أرض إسرائيل. وما انحصر في طبقة من الناس، بل توجّه إلى كل انسان، وتكيّف حسب ظروف الحياة المتنوّعة حاملاً إلى كل الظروف النصيحة والرأي والنور.
وكان هذا الأدب اخلاقيًا، فجعل أساس علم الأخلاق في الله، وحاول أن يوجّه الشخص البشريّ في طرق الفضيلة والخير. واهتمّ بصورة خاصّة بواجبات الأهل والاولاد. بالاعتناء بالمساكين والضعفاء. وكان هذا الأدب دينيًا وتوحيديًا. فالحكمة في إسرائيل تعرَّفت منذ القديم إلى الرب السامي وخالق الكون والسيد المطلق الذي يمارس العدالة. لهذا تطلّبت استعدادات نفسيّة تجعل العمل البشريّ دينيًا. وظلّت عقيدتها مستقيمة وبالأخصّ عن الله وعن المصير البشريّ.
إن الحكمة في شعب الله اتبعت خطها الخاص. أخذت من الكنز الشرقي العريق وأعطته حياة بالوحي الإلهي. وهكذا صار الأدب الحكمي امتدادًا للأدب الشرائعي والأدب النبوي، وضوءًا ينير درب شعب الله المنتظر ذاك الذي هو الطريق والحقّ والحياة