الفصَل العَاشر: الملكُ يوُشِيَا وَآخِرُ مُلوكِ يَهوُذا

الفصَل العَاشر
الملكُ يوُشِيَا وَآخِرُ مُلوكِ يَهوُذا
33: 1- 36: 33

أ- المُقدّمة
تتوقف أخبار الأيّام على شخصية منسّى (687- 642)، الذي مَلَكَ خمسًا وخمسين سنة، وصنع الشرّ في عيني الربّ (33: 1- 20)، وعلى شخصيّة أمون (642- 640)، الذي لم يكن أفضل من منسّى، فقُتِل في مُوآمرة نَصَبَها له رجاله (33: 21- 25). بعد هذين الملكين الشريرين، أطلّ يُوشيا (640- 609)، فأصلح الفساد الذي تركاه وراءهما، وفعل كما فعل حزقيا قبله (34: 1- 35: 27). ولكنّ نهاية أورشليم صارت قريبة: حكَمها كلّ من يوآحاز (609 ق م) ويُوياقيم (609- 598)، ويُوياكين (598 ق م)، الذي، على أيّامه، أخذ البابليون نفائس الهيكل، واقتادوا إلى المنفى بعض الناس من أورشليم، وجعلوا صدقيا (598- 587) ملكًا. ولكنّه ثار على الكلدانيين، فجاؤوا فاحتلّوا أورشليم، وسبوا أهلها وأحرقوا بيت الله، وهدموا أسوار أورشليم (36: 1- 21). ولكنّ الربّ سيُعيد شعبه من السبي، عندما يَنْقَلِبُ الفُرْس على الكلدانيين فيسمح كورش لبني الجلاء، أن يرجعوا إلى أورشليم، ويعيدوا بناء بيت الله (36: 22- 23).
ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- الملك منسّى (33: 1- 20)
الملك منسّى هو بالنسبة إلى 2 مل 21: 1 ي، شرّ ملوك يهوذا، لأنّ عهده امتلأ بخيانة الربّ وعبادة الأصنام والمُمَارسات الوثنية (قدّم ابنه ذبيحة إلى الآلهة). جاءه الأنبياء، وتنبّأوا على دمار أورشليم وجهوذا، ولكنّ منسّى لم يرجع إلى الربّ. أما 2 أخ، فسيُحدّثنا، بالإضافة إلى ذلك، عن توبة منسّى بعد ذهابه أسيرًا إلى بابل.
(آ 33: 1- 10)، نقرأ هنا بعض المعلومات عن منسّى: في أيّة سنة ملك، كم سنة ملك...؟
(آ 11- 17)، إستدعى أسرحدّون (أو أشور بانيبال) منسّى إلى بابل، فصلّى منسّى هناك، فاستجاب الرب له، وردّه سالمًا إلى أورشليم. شكّ أسرحدّوت بأمانة منسّى، ولكن عندما تأكدّ من صدْقه وإخلاصه، أعاده إلى عرش أورشليم. أجل، تساءل المُؤرّخ: كيف يُمكن لمَلِكٍ عَمِلَ الشرّ في عيني الربّ، أن يحتفظ بالعرش هذه المدّة الطويلة؟ الجواب: تاب، صلّى، تذلّل، فتحنّن الربّ عليه، وربّما هدم الأصنام، وأعاد عبادة الله الواحد إلى سابق عزّها. كلّ هذا خلّف لنا كتابًا منحولاً، إسمه "طرة منسّى".
نقرأ في آ 14، أنّه بنى سور أورشليم، وقد قام بهذا العمل، لا ليُدافع عن نفسه بوجه الأشوريين، بل ليكون أوّل خطّ دفاع لأشور بَوجْه مصر. من يدري؟ ربّما كان بناء هذا السور شرطًا قَبِلَ به منسّى، ليتمّكن من الرجوع إلى مملكته.
(آ 18- 19)، خاتمة الحديث عن منسّى. كلّمه الأنبياء باسم الربّ الإله (2 مل 21: 10-15)، صلّى فاستجاب له الربّ، مات وقُبِرَ في مدفن آبائه.
2- الملك آمون (33: 21- 25)
يُحدّثنا 2 مل 21: 17- 25 و2 أخ، عن الملك آمون في بضعة آيات: صَنعَ الشرّ مثل والده، فلم يملك على عرش أورشليم طويلاً (ملك سنتين فقط). تآمرت عليه الحاشية، إمّا حَسَدًا منه، وِإمّا لأسباب سياسية: هل قتلوه لسياسته الأشورية، أو لسياسته المُعارضة لاشور؟ هذا ما لا نستطيع الجَزْمَ فيه. كلّ ما بقي لنا عن آمون، أنّه كان ملكًا خائنًا لربّه، عابدًا للأوثان مثل أبيه منسّى قَبْلَ توبته.
3- الملك يُوشيا (34: 1- 35: 27)
بالنسبة إلى 2 مل، يُوشيا هُو أقرب مثال لداود الملك، الذي كان بحَسَبِ قَلْب الله. أمّا بالنسبة إلى 2 أخ، فقد أخذ حزقيا وَهَجَ يُوشيا. ولكن يبقى يُوشيا مُهِمًا في تاريخ يهوذا، لأنّ أورشليم في عهده، عرفت مُحاولة استقلال عن الأشوريين.
يستعرض 2 أخ، العناصر التي وجدها في 2 مل 22: 1- 23: 30، ولكنّه يُنظّمها على طريقته الخاصّة، ليُبرز فكرته اللاهوتيّة. بعد المُقدّمة (2 مل 22: 1- 2؛ رج 2 أخ 34: 1-2)، يُورد 2 أخ 24: 3- 7، مَقْطعًا عن إصلاح للعبادة، قام به يُوشيا في يهوذا وأورشليم، في السنة الثانية عشرة لمُلْكِهِ. ولكنّ 2 مل 23: 4- 20، يعتبرُ أنّ هذا الإصلاح، تمّ بعد اكتشاف كتاب الشريعة، وتجديد العهد (2 مل 22: 3- 23: 3؛ رج 2 أخ 34: 8- 33)، أيّ بعد السنة الثانية عشرة من مُلْكه. ضَعُفَ نفوذ الأشوريين، واستقلّ يُوشيا بعض الشيء، فسمح لنفسه بسياسة مُتحرّرة عن ملك أشور وآلهته.
(آ 34: 1- 2)، المُقدّمة: ملك يُوشيا، وهو ابن ثماني سنوات، مَلَك 31 سنة، صنع القويم في عيني الربّ.
(آ 3- 7) الإصلاح الدينيّ.
في 2 مل (ف 22- 23)، نعرف أنّ يُوشيا اكتشف كتاب الشريعة، وهو في السنة الثامنة عشرة لملكه، فأمر بإصلاح في أورشليم ويهوذا، وبعض مُقاطعات مملكة إسرائيل القديمة (2 مل 23: 15- 20). أمّا في 2 أخ 34: 3- 4، فيُوشيا الذي اعتلى العرش، وهو ابن ثماني سَنَوات، بدأ يلتمس الربّ في السنة الثامنة لمُلكه (أي في عُمْر 16 سنة)، وشرع يقُوم بإصلاحٍ في السنة الثانية عشرة لمُلكه (أي في عُمْر 20 سنة). ولكنّه لم يكتشف كتاب الشريعة، إلاّ في السنة الثامنة عشرة من مُلْكه (أي في عُمْر 26 سنة)، فم يَبْقَ له أن يعيش كثيرًا. لهذا جعل المُؤرّخ هذا الإصلاح في بداية عهد يُوشيا، بسبب نظرته اللاهوتيّة إلى الأحداث: بمَا أنّ يُوشيا كان ملكًا صالحًا، هل يُعقل أنّه صح خلال 18 سنة من عهده، (الذي دام 31 سنة)، أن تُسَيْطِرَ العبادة الوثنيّة في أورشليم ويهوذا؟ بدأ يُوشيا باكرًا يلتمس الربّ، وأمر بالإصلاح اللازم، وهو بعُمْر 20 سنة. هل كان بقُربه كهنة يُشيرون عليه؟ هل انتظر أن يتحرّر من الوصاية، قبل أن يقُوم بإصلاحه؟ كلّ هذا معقول. ثُمّ إذا كان يُوشيا ملكًا صالحًا، هل يُمكن أن يرتبط إصلاحه بحدَثٍ خارجيّ، كاكتشاف كتاب الشريعة؟ كلا. فالملك الشابّ اتخذ قراره في أعماق قلبه، وعزم على السَيْر في خُطى أبيه داود، ففعل ما فعل. بدأ بالإصلاح منذ بداية عهده، ولمّا اكتشف كتاب الشريعة، أكمل الإصلاح مُستفيدًا من ضُعْفِ المملكة الأشورية.
(آ 8- 33)، إكتشاف كتاب الشريعة (رج 2 مل 22: 3- 23: 3).
خلال أعمال الهيكل، وجد الكاهن العظيم كتاب الشريعة، فقرأه على الملك. خاف الملك وسأل الله بواسطة النبّية حلدة. ثمّ عزم على دعوة الشعب، ليُتلى عليهم الكتاب بصُورة علنيّة. وجدّد العهد مع الربّ، باسم الشعب الذي تعّهد بأن يحفظ الفرائض الموجودة في هذا الكتاب.
اتّبع المُؤرّخ 2 مل، وابتعد عنه في ثلاث فقط. الأولى: أعطى دورًا كبيرًا للاويين، فذكرهم بأسمائهم، وقال إنّه كان بينهم عمال ومُناظرون، ومُغّنون وكتبة وُوكلاء وبّوابون وأشار إلى أنّهم حضروا قراءة الشريعة مع الكهنة وجميع الشعب (في 2 مل 23: 2 نقرأ الكهنة بَدَل اللاويين). الثانية: إنّ ما حدث لا يهمّ يهوذا وحسب، بل كلّ إسرائيل، أكان منسّى وأفرائيم (آ 6) أم الباقون في إسرائيل (آ 21)، أم الذين وُجدوا داخل إسرائيل (آ 33). الثالثة: إنّ الكتاب الذي اكتُشِف في الهيكل، قد قرأه شافان كلّه أمام الملك (رج 2 مل 22: 8، 10، 16). ولكنّ المُؤرّخ اعتبر أنّ الكتاب أكبر من أن يُقرأ في جلسة واحدة، لهذا جعل شافان يقرأ أمام الملك بعض المقاطع (آ 18). إذاكان الكتاب الذي ذكره 2 مل و2 أخ، قد خطّته يد موسى، فهذا يعني أنّ 2 مل، أشار إلى سِفْر العهد، أي سِفْر التثنية، بينما أشار 2 أخ، إلى البنتاتوكس (أي أسفار موسى الخمسة) الذي كان قد اكتمل، يَوْمَ دوّن المُؤرّخ كتابه.
(آ 35: 1- 19)، الاحتفال بالفِصْح.
يذكر 2 مل 23: 21- 23، كيف أمر يُوشيا بالاحتفال بالفصح. ولكنّ المُؤرّخ يتوسّع في تصوير الاحتفال، فيجعل لنصّه أهمّية تُضاهي النصوص التشريعيّة (خر 12: 1 ي؛ تث 16: 1 ي)، والأخبار عن الفصح (30: 1 ي؛ عز 6: 16- 22: فِصْح حزقيا، فصح بعد الرجوع من الجلاء).
ما نُلاحظه في هذا الخبر، هو الدور الذي يلعبُه اللاويّون: لا يحملون تابوت العهد وحسب، كما في الماضي (آ 13)، بل يُشاركون في الاحتفال بالفصح: يذبحون حَمَلَ الفصح (آ 6)، يُقدّمون الدم إلى الكهنة (آ 11)، ليَرُشّوه على المذبح، يُفرزون المُحرقات، يَشوُون الحَمَل ويَطبُخُونه (آ 12- 13)، ويُهيئونه للكهنة (آ 14)، والمُغنّين والبّوابين (آ 15). يفعل اللاويون كلّ ذلك، بناءً على أمر الملك، وبحَسَبِ شريعة موسى (آ 6). نرى هنا تَطورًا في دور اللاويين. في عهد موسى (خر 12: 3- 16)، كان ربّ البيت يذبح حَمَل الفِصْح. في عهد حزقيا (30: 1 ي)، كان للكهنة الدور الأوّل، أمّا في عهد يُوشيا، فاللاويون هم في المُقدّمة. وهنا نفهم آ 18: لم يكن فِصْحٌ مثل هذا في إسرائيل، منذ أيّام صموئيل. أجل، قبل الملكيّة لعب اللاويون دورًا كبيرًا، ولكنّ هذه الحالة لن تدوم لهم.
ونُلاحظ ثانيًا أنّ الفصح لم يَعُد، كما كان في السابق، عيدًا عائليًا، يُذبح فيه حَمَلُ القصح، بل أصبح عيدًا احتفاليًا، يُشارك فيه الشعب كلّه، فتُذبح الذبائح، وتُحرق المُحرقات (آ 12). أجل، هكذا أراد يُوشيا أن يَتمّ الاحتفال بالعيد، ولكن بقي هذا العيد فريدًا، ثمّ عاد المؤمنون إلى الاحتفال بعيد الفصح، بحَسَب التقاليد القديمة، والمُتطّورة على ضوء الظروف الجديدة، وتشريع سِفْر التثنية.
ونُلاحظ ثالثًا أنّ عدد الذبائح يزيد على الأربعين ألفًا، وهو عدد مُبالغ فيه، ويفترض حضور أربعة مئة ألف مُؤمن. ولكنّ المُؤرّخ أراد بذلك، أن يُشدّد على طابع العيد الفريد. هكذا يجب على المُؤمنين أن يحتفلوا بالعيد في أورشليم، بعد أن طهّروها من كلّ رجاسة.
(آ 20- 27)، موت يُوشيا: مات يُوشيا في معركة مجدّو، على يد الفرعون نكو. كان الجيش المصريّ زاحفًا إلى الشمال، ليُساعد الأشوريين حلفاءه على البابليين. تَصدّى له جيش يهوذا في وادي مجدّو، وهناك قُتِلَ المَلِكُ سنة 609 ق م. ولكنّ موت الملك الشابّ، طرح سؤالاً على المُؤرّخ: أين عدالة الله ومبدأ الثواب والعِقاب في موت ملك شاب، كرّس حياته لخدمة الربّ؟ ولكنّ يُوشيا رفض أن يسمع كلام الله بلسان الفرعون. ولكن أيكون السبب معقولاً أم لا، يبقى أنّ المُغّنين والمُغّنيات ظلّوا يندُبون يُوشيا هذا الملك العظيم الذي كان أمينًا لربّه، على مِثَال داود أبيه.
4- آخر ملوك يهوذا (36: 1- 23)
(آ 36: 1- 4)، الملك يوآحاز: ملك ثلاثة أشهر، عزله ملك مصر (2 مل 23: 31-35).
(آ 5- 8)، الملك يُوياقيم: أوثقة الملك الكلداني، ساقه إلى بابل. السبب اللاهوتيّ: صنع الشرّ في عيني الربّ. يبدو أنّه حدثت في أيّامه، ثورة بني يهوذا على الكلدانيين (2 مل 24: 1- 4).
(آ 9- 10)، الملك يُوياكين: جلاه نبوكدنّصر إلى بابل، وأخذ آنية بيت الربّ، وأحلّ صدقيا مكانه. نحن هنا أمام أحداث سنة 597 ق م: حصار أورشليم، إستسلام الملك، سَلْب ونَهْب ودمار. أسر نبوكد نّصر نُخبة الشعب والصنّاع والجنود، وأفراد العيلة الملكية.
(آ 11- 21)، الملك صدقيا ودمار أورشليم.
لم يُصوّر المُؤرّخ الأحداث التي انتهت بدمار أورشليم (نكبة 587. رج 2 مل 25: 1 ي)، بل اكتفى بعرض الواقع من الزاوية اللاهوتيّة: رفض صدقيا أن يسمع كلام النبيّ إرميا الذي أرسله الربّ (آ 12)، تمّرد على ملك بابل، رُغْمَ وعده له بالأمانة، قسّى قلبه وجرّ شعبه إلى عبادة الأوثان (آ 13- 14). ومع أنّ الله أرسل الأنبياء، فالشعب هَزِئ بكلام الأنبياء (آ 15- 16). من أجل هذا أرسل الله العِقاب اللازم لشعبه، بِيَدِ ملك بابل، فكانت كلّ المصائب من قَتْلٍ ونَهْبٍ وحَرْق وإجلاء، وكلّ هذا نتيجة خيانة الربّ لشعبه. ولكن سيكون زمن المَنفى، مُناسبةً للرجوع إلى مُمارسة شريعة السبت التي أهُمِلِتَ، وستدوم أيّام المنفى سبعين سنة.
هذا هو عِقاب مدينة الربّ، بسبب سُلوك سكّانها وشرّ أعمالهم. ذهبت نُخبة الشعب الجلاء، ففرغت المدينة، وهي تنتظر رجوع المنفيين من بابل، ليُرمّموا أسوارها، ويُعيدوا بناء هيكلها.
(آ 22- 23): الرجوع إلى أورشليم. نقرأ هاتين الآيتين في عز 1: 1- 2. وهذا يُؤكّد ما قُلناه سابقًا، وهو أنّ المُؤرّخ الكهنوتيّ كتب كتابًا واحدًا، يتألّف من 1 أخ، 2 أخ، عز، نح. ولمّا انفصل 2 أخ عن عزرا، وجُعل في آخر أسفار التوراة، أعاد "الناشر" بداية سِفر عزرا، كتوطئة لقِصّة الرجوع من السَبْي، وإعادة بناء الهيكل. أجل، إنّ مُخطّط الله لا يُمكنه أن يصل إلى الحائط المسدود، لا يمكنه أن يفشل. يتأخر الله في تحقيق ما نواه، ولكنّه يُحققه، لا محالة، في الوقت الذي تُحدّده نعمته. فعلى الإنسان أن يُبقي قلبه مفتوحًا على الأمل والرجاء: الربّ الإله سيبدأ خروجًا جديدًا مع شعبه وسيكون معهم. أَعِدُّوا طريق الربّ، واجعَلوا سُبُلَ إلهنا قويمة. أجل، سيتجلّى مجد الربّ، فيراه جميع البشر (اش 40: 3- 5)، لا سيّما الذين ابُتلوا بالمِحَن، وعرفوا الألم: فالمحزونون يُعزَّون، والجياع والعِطاش يُشبَعون، والمساكين المُضطهدون يكون لهم ملكوت السماء

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM