مقدّمة عامّة

مقدّمة عامّة

أولاً: التاريخ الكهنوتي
دوّن اللاويّون المتأثّرون بتقاليد الشمال سفر التثنية، وتكوّنت على خطاهم مدرسة ألّفت أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك، الأسفار المسمّاة تاريخية، أو ما سمّيناه التاريخ الاشتراعي. ودوّن الكهنة المعتصمون حول الهيكل، شرائع الذبائح والطهارة، وأحكام بناء الهيكل وآنيته، ثمّ ألّفوا تاريخهم الخاص، فجعلوا محوره أورشليم، المدينة المقدّسة، بسلالتها الداودية، وهو الذي نسمّيه التاريخ الكهنوتي.
ترك لنا الكهنة أسفار الأخبار، (1 أخ +2 أخ)، وعزْرا ونَحميا، بشكل مقالٍ كبير عن تاريخ الله، فحدّثونا عن أورشليم وهيكلها، وشعائر العبادة فيها، واعتبر التقليد اللاحق، أن ما جاء في حديثهم، هو تكملة لما رواه أسفار صموئيل والملوك، وتشديد على دور سلالة داود في مخطط الله، ونداء إلى المؤمنين، ليتعلقوا بجماعة الكهنة واللاويّين، المدافعين عن قداسة شعب الله ومدينته.
دوّن الكهنة "التاريخ الكهنوتي"، فجعلوا نصب عيونهم مدينة القدس، فحدثونا عن أورشليم، مدينة شعب الله، منذ بداية البشرية، عاصمة سلالة داود، وموضع هيكل سليمان، وحدثونا عن أورشليم، مدينة الجماعة الجديدة التي تضم في أسوارها العابدين للرب، السامعين لشريعته، العاملين بوصاياه.
إلى أورشليم سنرفع أنظارنا، عندما نقرأ التاريخ الكهنوتي، لنفهم ما كتبه المؤرخ في أسفار الأخبار وعزرا ونحميا، ولا ننسى، نحن المسيحيين، أورشليم الأخرى، أورشليم السماوية التي هي أمّنا، والتي إليها يجتمع الشعوب، ليعبدوا الله الواحد.
تسرد أسفار موسى الخمسة، تاريخ بني إسرائيل، منذ بداية الكون والإنسان، إلى إقامة بني إسرائيل في البرية، ليلة دخولهم أرض الميعاد، وذلك في إطار التقاليد الأربعة التي تعرفنا إليها: التقليد اليهوهيّ حمل تقاليد الجنوب، والتقليد الألوهيميّ تقاليد الشمال، أمّا التقليد الاشتراعيّ فنقل هو أيضا تقليد الشمال، ولكنه تأثّر بروحانية قريبة من تعليم هوشع وعاموس، عن الحياة الأخلاقية داخل الجماعة، والتقليد الكهنوتي نقل تقاليد الجنوب، ولكنه طبعها بروحانية الهيكل، فشدّد على أهمية العبادة للتعبير عن قداسة شعب الله.
وينطلق التاريخ الاشتراعيّ من خبر موسى، وإقامة الشعب في البريّة، فيروي لنا ما حدث لبني إسرائيل، منذ إقامتهم في أرض كنعان، إلى زَمَن الجلاء (587 ق م). أمّا التاريخ الكهنوتيّ، فيبدو أقصر من أسفار موسى والتاريخ الاشتراعيّ، ولكنّه يُغطِّي حِقْبَةً واسعة، تمتدّ منذ خَلْق البشرية إلى القرن الرابع ق م. فيُحدّثنا، بالإضافة إلى ما سبق، عن زمن الجلاء (587- 538)، والرجوع إلى أورشليم، وإعادة بناء الهيكل، وتنظيم الشعب في جماعة تيوقراطية، يرئسها الله عَبْرَ كاهنه الأعظم.
يتفق المُؤرخون على القول، إنّ أسفار الأخبار ونَحَميا وعزرا، كُتِبتَ بيدٍ واحدة، أو هي جُعِلَت داخل إطار واحد: فالرواية هي هي، والأسلوب لا يتبدل، والتقليد اللاهوتي يدور منذ بداية 1 أخ إلى نهاية نح، حول أورشليم التي هي مدينة شعب الله، منذ بداية البشرية، والتي هي مدينة هيكل الله، حيثُ تجتمع الجماعة لتُقدّم للربّ عبادتها، وتنتظر مُخلّصها مسيحًا على مِثال داود وسُليمان وسائر المُلوك الصالحين.
وبعد هذه التوطئة، نتعرّف إلى سِفْري الأخبار الأوّل والثاني، ونعتبرهما كتاباً واحداً، وإلى سِفْر عَزْرا وسِفْر نَحَمْيا.

ثانيا: سفر الأخبار الأول والثاني
أ- اسم الكتاب وكاتبه وتصميمه.
1- اسم الكتاب.
اسمه في اللُّغة العبرانية "سفر دبري هايميم" أي سفر أعمال (أو أخبار) الأيّام، (راجع في العهد الجديد سِفْر أعمال الرُسُل). واسمه في اليونانيّة "باراليبومينا" أي الأخبار التي أغفلها الكتّاب السابقون: هناك أمور عديدة أهملتها أسفار صموئيل والملوك، فذكرها سفر الأخبار، لأنّه اعتبرها جُزءا لا يتجزّأ من التقليد، لا يجوزُ أن يضيعَ في عالم النسيان. ظنّ التقليد اليونانيّ، أنّ سفْري الأخبار هما تتّمة لأسفار صموئيلّ والملوك، إلاَّ أنّ المُؤرّخ الكهنوتيّ أراد أن يُعطينا كتاباً كاملاً بذاته، من خلال نِظْرة تختلفُ عن نِظْرة المؤرّخ الاشتراعيّ القائل: "إنْ خَطِىء الشعب عاقبه ربّه، وإن تاب خلّصه" (قض 2: 13 ي).
اسمه في السريانيّة: سِفْر تدبير أيّام ملوك يهوذا، المدعو "سفر دبريمين" أي سِفْر سيرة الأيّام. نُلاحظ هنا أنّ السريانية البسيطة، نقلت عنوان الكتاب على حرفيّته، كما ورد في النصّ العبراني، فأخذت كلمة "دبر" التي لا تعني في العبرانيّة ما تعني في السريانيّة. ونُلاحظ ثانياً، أنّ الناقل حرص على القول في عنوان القسم الأول: إنّ الكتاب يروي أخبار ملوك يهوذا. وهذا ما سوف نُثبته في سِياق درسنا لسِفْري الأخبار اللذين لا يذكران إلا لُماماً، ما يتعلّق بشاول أو بملوك السامرة.
أمّا الاسم المعروف في اللغات الحديثة، فراجعٌ إلى القديس إيرونيمُوس، ناقل التوراة من العبرانيّة إلى اللاتينيّة، في النسخة المُسمّاة "فولغاتا" أو الشعبية. سمّاه "مجموعة أخبار كلّ التاريخ الإلهيّ"، فاستخرج الشُرَّاح من هذه التسمية: سِفْر أخبار الأيّام الأول، وسِفْر أخبار الأيّام الثاني، أي السِفْر الأوّل والسِفْر الثاني من أخبار الأيّام.
2- مَوْضِعُ الكتاب في التوراة.
نُسارع إلى القول، إنّ سِفْري الأخبار، كانا يُشكّلان في البداية كتاباً واحداً، قُسِمَ اثنين، ليسهُل استعماله في القراءة الجمهورية. كمَا أنّ سِفْري عزرا ونَحَمْيا، كانا يُشكّلان كتابا واحداً، والتلمود يقول في ذلك: "دوّن عزرا كتابه، وأورد سلسلة الأنساب في سِفْري الأخبار، إلى أن وصل إلى نَسَبِه".
أمّا موضع أسفار الأخبار وعزرا ونَحَمْيا، فليس بين الكُتب المُسمّاة "تاريخية" في التوراة العبرية التي بين أيدينا، بل في نهاية أسفار التوراة مع سائر الكُتب، أي "كتوبيم". هنا نُذكّر القارئ أنّ التوراة العبرانية، قُسِمَت ثلاثة أقسام. القسم الأوّل: التوراة بالمعنى الحَصْريّ (أو البنتاتوكس)، ويشتمل على أسفار موسى الخمسة. القسم الثاني: الأنبياء، ويشتمل على الأنبياء السابقين، (يش، قض، 1 و2 صم، 1 و2 مل)، والأنبياء اللاحقين (أشعيا، إرميا، حزْقيال، الأنبياء الصغار). القسم الثالث: الكُتُب، ويشتمل على كلّ سِفْر لم يجد له مكاناً في القسمين الأوّلين.
نقول إذن إنّ أسفار الأخبار وعزرا ونَحَمْيا، جُعلت بين الكُتب (الباقية) لأنّها دخلت مُتأخّرة إلى القانون العبريّ. وما يُلفت نظرنا، هو أنّنا نجد سِفْري عزرا ونَحَمْيا، قبل سِفْري الأخبار، وهكذا يكون سفرا الأخبار، في آخر صفحات التوراة العبرانيّة. ولكن، لمَاذا جُعِل سفرا عزرا ونَحَمْيا قبل سفر الأخبار، مع أنّهما تكملة لهما؟ السبب الأوّل: دخل سِفْر عزرا ونَحَمْيا قبل سِفْري الأخبار، في مجموعة الكُتُب (كتوبيم)، كتتمّة لما ورد في أسفار صموئيل والملوك، من أحداث وقعت بعد الجلاء إلى بابل. أمّا سِفْرا الأخبار اللذان يرويان تاريخ الشعب حتّى الجلاء، فقد اعتُبِرا تَرداداً لمَا ورد في أسفار صموئيل والملوك. أُبعِدا بادئ ذي بدء، من لائحة الكُتُب القانونية، ثم أُدْخِلا فيها بسبب ما يُضيفان من معلومات، لا نجدها في الأسفار التاريخيّة الأخرى. والسبب الثاني (هو مُجرّد افتراض معقول): وُجِدت صعوبة لإدخال سِفْري الأخبار في قانون التوراة، حين كان الخلاف قائماً بين الصادوقييّن والفرّيسيين. ولمَا خفّت حِدّة الصراع هذا، (خَسِر الصادوقيون كلّ سلطة لهم بعد دمار الهيكل سنة 70 ب م) دَخَل سِفْرا الأخبار في لائحة الكُتُب القانونية في مجمع يمنية (جنوبيّ تل أبيب الحاليّة)، في نهاية القرن الأوّل ب م.
ولكنّ السبعينية اليونانية، أخذت بالترتيب المنطقي، فجعلت سِفْري الأخبار بعد سِفْري الملوك (أي في إطار الكتب التاريخية)، وقبل سِفْري عزرا ونَحَمْيا. وتبعت هذا الترتيب الترجمةُ السريانيّة البسيطة، والترجمات العربيّة ومُعْظم الترجمات الحديثة.

3- من كَتَبَ أخبار الأيّام، ومتى كُتبت؟
لا نعرف اسم كاتب أخبار الأيّام، ولهذا نُسمّيه المُؤرّخ. هو من جماعة لاوي العائشين في ظِلّ الهيكل. يُركز كلّ تاريخه حول أورشليم وهيكلها، ولايني يذكر اثنين: يهوذا وسُلالته، ليصل إلى داود وسليمان، هارون وسُلالته ليصل إلى الكهنة العائشين في زمانه.
أمّا متى كُتبت أخبار الأيّام؟ كُتبت بعد الجلاء، بل بعد سنة 330 ق م. وما الذي يدفعنا إلى هذا القول؟ أولاً: يذكر نَحَمْيا (12: 22) يدّوع رئيس الكهنة، الذي عاصر الإسكندر المقدوني (336- 323)، بحسب المُؤرّخ يوسيفوس. ثانياً: يذكر 1 أخ 29: 7 كلمة "ادركنيم" أي درهم، وهي اسم النَقْد الذي صكّه الملك داريوس كودومان الفارسي، الذي توفي سنة 330 ق م، في معركته مع الإسكندر المقدونيّ. ثالثاً: يُركّز الكاتب بصورة خاصة على أهمية الهيكل، وهذا أمر نفهمه، عندما نتذّكر أنَّ الديانة اليهودية، كانت مُهدّدة بخطر التمزّق على أثر الانشقاق السامريّ، الذي بدأ سنة 350 ق م، وانتهى ببناء هيكل جرزيم (بُنيَ ليُزاحم هيكل أورشليم. رج 2 أخ 13: 4- 12). رابعاً: نجد في أخبار الأيّام، صدىً للصراع القائم بين رئيس الكهنة شمعون الأوّل الصدّيق، وبين جماعة طَوبيا (تزوّجت أخت أونيا الثاني ابن شمعون، من ابن طوبيا حوالي السنة 240)، التي ساندها بطليموس الثالث (حوالي سنة 250) بنفوذه وماله.
وهكذا نقول إنّ أخبار الأيّام، تعود إلى ما بعد الجلاء. بدأ الكهنة بتدوينها في بداية القرن الثالث ق م، وانتهوا قبل سنة 157 ق م، وهي السنة التي قرأ فيها أوبوليميس أخبار الأيّام في الترجمة اليونانية.
4- تصميم الكتاب.
نجد في سفر أخبار الأيّام الأول قسمين. القسم الأوّل (ف 1- 9) يعرض علينا سلاسل الأنساب البشرية من آدم إلى داود، ويُشدّد على قبائل بني إسرائيل الاثنتي عَشْرة. ويورد لوائح تصل بنا إلى عهد الجلاء، وإلى الزمن الذي بعد الرجوع من الجلاء: أعيد بناء الهيكل في أورشليم، وتنظّم الشعب في جماعة دينية عابدة. القسم الثاني (ف 10-29)، يروي كلّ ما عمله داود بعد شاول، منذ بداية ملْكِه حتى موته. ثُمّ يُحدّثنا عن ابنه سليمان، مُستلهماً مواضيع كتابه من أسفار صموئيل والمُلوك.
ونجد في سِفْر أخبار الأيّام الثاني قسمين. القسم الأوّل (ف 1- 9)، يُحدّثنا عن سليمان الملك، كمَا عرفناه في سِفْر الملوك الأوّل (ف 3- 11). والقسم الثاني (ف 1- 36)، يُخبرنا بأحوال ملوك يهوذا، منذ انقسام المملكة، بعد موت سُليمان، إلى زمن المنفى في بابل. يتّتبع الكاتب في هذا الإطار، ما ورد في سِفْري الملوك (1 مل 12: 1- 2 مل 25: 30)، فيهتمّ بمَا يتعلّق بملوك يهوذا، ويترك جانباً ما يَخُصّ مملكة إسرائيل، فيُنعش الأمل بالرجوع إلى اورشليم، بفَضْل كورش الفارسيّ.
رواية شاملة لأحداث جرت في فترة طويلة من الزمن. ولكن، ما قَبْل داود، يقتصر الكاتب على الإحصاءات ولوائح الأنساب. فالشعب اليهوديّ يقرأ فيها مُلخّصاً عن فترات طويلة من تاريخه، يجد تفاصيلها في نصوص أخرى. والكاتب الذي يشدّد على القرابة بين العشائر والبيوت، جعل التاريخ الحاضر يتصل بالماضي، وفتح آفاق المؤمن على مُستقبلٍ يرجوه زاهراً.

ب- الفن الأدبيّ وتأليف أخبار الأيّام.
1- الفن الأدبيّ.
دوّن الكاتب الإخباريّ ما دوّنه، وهمّه أن يكتب تاريخاً، يجعل فيه تعليماً دينيّاً. فبعد الرجوع من الجلاء، برزت مشاكل مُعقّدة، لا حلّ لها إلا بالعودة إلى العناصر التي كانت أساس تكوين جماعة شعب الله، ألا وهي الأصول المُوسويّة التي تبلورت في شخص داود، وتجسّدت في مدينة أورشليم وهيكلها. هذه النِظْرة جعلها الكاتب في إطار فنٍّ أدبيّ، اسمه المِدراش.
المدْراش (راجع درس في العربيّة) فنّ أدبيّ، يرجع فيه الكاتب إلى النصوص القديمة، ويطلب منها تفسيراً للحاضر (المعنى الأوّل لفعل درش: سأل الإله). ولا يهتمّ المدْراش بالإحاطة بالنصّ إحاطةً دقيقة، بقَدْر ما يسعى من خلال هذا النص، إلى ما يبني الجماعة ويُبرّر تصرف الله في شعبه. فكلمة الله المكتوبة للبشر، لا تقتصر على زمان مُعيّن ومكانٍ واحد، بل هي لكلّ زمان ومكان. ومن أجل هذا، فهي تحمل كلّ علْم ومعرفة، وإليها يتوّجه المؤمن، فيسألها وينتظر منها لتساؤلاته جواباً، يُوافق الزمن الذي يعيشُ فيه. لأجل هذا نجد في المدْراش بحثاً عقلياً وخيالياً، يستند إلى الكتاب المُقدّس، فيُقدّم لنا نظرة جديدة إلى الأمور، وتفكيراً لاهويياً يُلائم العصر.
والمِدْراش فنّ أدبيّ عرفته العصور المُتأخّرة في اليهودية. فسِفْر طوبيا هو مِدْراش ينطلق من واقع حياة بني إسرائيل في المنفى، فيُبّين أنّ الله لا يترك أتقياءَه. وسِفْر يهوديت ينطلق من خبر حصار أورشليم على يد الأشوريين، ليدلّ على أن أعداء الله سيزولون، وأن شعبه سينعم بحمايته. ولنا مثال آخر عن المدراش في سفر الحكمة، الذي يتذكر ملحمة الخروج (حك 10: 15- 12: 27)، وضَرَبات مصر (حك 16: 1- 19: 22)، فيُطبّقها على الحالة التي يعيشها المُؤمن في القرن الأوّل ق م.
ونقول عن أخبار الأيّام إنه مِدْراش، ينطلق من التاريخ الذي يعرف القارئ قسمه الأكبر، فيُكّيفه ويُعطي جواباً لتساؤلات المُؤمنين العائشين في القرن الثالث ق م: هل ترك الله شعبه، هل نَسِيَ ميراثه؟
2- تأليف الكتاب.
يمكننا أن نحدّد موضوع أخبار الأيّام على الشكل التالي: سرد التاريخ وإقامة التيوقراطية في شعب إسرائيل. يبدأ الكاتب عرضه لهذا التاريخ، منذ بداية البشرية (1 أخ 1: 1)، وينتهي في نهاية القرن الرابع ق م (إذا جمعنا عز، نح إلى 1 و2 أخ، رج نح 12: 22)، أي مع رئاسة كهنوت يدوّع الذي عاش على عهد الإسكندر المقدونّ.
وهذا التاريخ الطويل لمخطط الله الذي يُحقّقه في شعب إسرائيل، بل في شعوب الأرض، نقرأه في مراحل أربع. المرحلة الأولى أو مرحلة التهيئة: من آدم إلى داود. المرحلة الثانية أو مرحلة الإنجاز والتحقيق: داود وسليمان. المرحلة الثالثة أو مرحلة التقلّبات والانهيار: من موت سُليمان إلى دمار أورشليم. المرحلة الرابعة أو مرحلة إعادة البناء: تبدأ على أثر نداء كورش، الذي يدعو فيه المنفيّين، ليرجعوا إلى أرضهم.
أولا: من آدم إلى داود.
يُغفل الكاتب أحداث هذه المرحلة، لا لأنّه يجهلها، بل لأنّها خارج نطاق رؤيته. فهمّه أن يصل بالقارئ سريعاً إلى بطل تاريخه، إلى داود مختار الله، ولهذا نراه يتخذ أقصر الطرق ليصل بنا إلى تاريخ مَجْدٍ، يعرفه الكثير من قُرأنّه.
نقرأ إذن لائحة أنساب تربط داود بأوّل إنسان على الأرض، ثمّ لوائح أنساب الشعوب والقبائل التي تُهيئ الطريق لمُختار الله. ومثل هذه اللوائح، كانت تلذّ لليهود بعد الجلاء، وهمّهم في ذلك، ألاّ يقبلوا في جماعتهم إلا الذين يَجِقّ لهم ذلك (1 أخ 9: 1؛ عز 2: 62؛ 8: 1-13؛ نح 7: 5- 64).
نقرأ هذه اللوائح، مع ما فيها من تكرار وتعارُض وتشابُك، فنُقِلَ ونضجر، ونودّ أن ننتهي سريعاً من قراءتها. إلاّ أنّ وراء هذه اللوائح فكرة عميقة: إن بناء الهيكل، وتنظيم شعائر العبادة، هما تحقيقٌ لمخطط يعود إلى بداية الكون. وقبيلة يهوذا (منها خرج داود) وقبيلة لاوي (القبيلة الكهنوتية) وقبيلة بنيامين (حيث موقع الهيكل)، تحتلّ مكانةً بارزة في مرحلة التهيئة والاستعداد لحُكم داود وسُليمان.
ثانياً: داود وسُليمان
ويصل الكاتب إلى داود، لا ذلك الملك الذي عرفتنا به الكتب التاريخيّة السابقة، بل ذلك المؤمن المُتجرّد من هموم العالم اليوميّ، والمتحرّر من مُغامرات الطُموح المندفعة كالسيل. فداود المؤرّخ الكهنوتيّ، هو ملك تقيّ، تهمّه أول ما تهمّه، مصالح الربّ وكهنته، والاحتفالات الدينية وتنظيم الأناشيد لها. ليس داود مَلِكاً لنفسه، بل مَلِكاً لله. فيهوه هو مَلِك بني إسرائيل، وليس داود إلاّ مُمثلاً له ومُفوضاً عنه (2 أخ 9: 8). إسرائيل هو بيت يهوه ومملكته (1 أخ 17: 14؛ رج 2 صم 7: 16)، وعرش داود هو عرش يهوه (1 أخ 29: 23)، وموضع مُلْكِهِ في بني إسرائيل (1 أخ 28: 5). تلك هي النظرة التيوقراطية إلى مملكة بني إسرائيل.
كان داود قد أبان عن قصده في بناء بيتٍ للربّ (2 صم 7: 13؛ 1 أخ 17: 1؛ 22: 7؛ 28: 2)، ولكن الربّ لم يُجبه إلى رغبته (2 صم 7: 5؛ 13، 1 أخ 17: 4- 12؛ 22: 8 ي؛ 28: 3 ي)، وانتهى الأمر عند هذا الحدّ، إلا أنّ أخبار الأيّام، ستُورد لنا استعدادات داود لتشييد الهيكل (1 أخ 22: 2- 19)، وتسرد التعليمات التي أعطاها لابنه سُليمان: رَسَم له تصميم أقسام البناء، وآنية المعبد، فم ينسَ حتّى الشمعدان وسُرجه، والمناشل والطاسات والكؤوس والأقداح (1 أخ 28: 11- 18). وقبل أن يبني الهيكل، نظّم له داود بصورة تفصيلية، خدمة الكهنة وشعائر العبادة (1 أخ 23: 1- 26: 32).
وجاء سُليمان فحقّق رغبة أبيه، وأنهى ما بدأ به داود. أمّا سُليمان، كما يُصّوره الكاتب الإخباريّ، فهو رجل الفضيلة والعظمة، الملك التقيّ الكامل، الجدير وحده ببناء بيت لاسم الربّ (2 أخ 6: 8- 18)، ويستفيض الكاتب في الحديث عن بناء الهيكل، فيُخصّص له ثمانية فصول (2 أخ 2: 1- 8: 16) من أصل تسعة فصول، تُحدّثنا عن سُليمان، ويهمل كلّ ما يتعلّق بنشاط الملك السياسيّ والتجاريّ. وبعد أن أنهى الملك (داود أو سُليمان) العمل الذي تهيأ له (1 أخ 17: 10؛ 12)، رقد بسلام، مُطمئناً بالنسبة إلى نَسله، لانّ الإله الذي لا يكذب (مز 89: 36)، قد وعده بدوام نَسله، يوم قال له: "يكون بيتك وملكك ثابتين على الدوام أمامي، وعرشُك يكون راسخا إلى الأبد" (1 أخ 17: 14).
ثالثاً: تقلّبات وانهيار.
ولكنّ الإنسان يعارض مشاريع الله، وحصلت الهزّة الأولى بالنسبة إلى تيوقراطية بني إسرائيل: إنفصلت قبائل الشمال عن أورشليم، وخانت بيت داود (2 أخ 10: 19)، فم يعد المؤرّخ يُحدّثنا عن الشمال إلا لُماماً، فحصر همّه بمصير بيت يهوذا وبيت بنيامين، الذين ظلّوا أمناء للعهد مع ربّهم، مع ما في هذه الأمانة من شوائب. لا شك في أنّ العديد من ملوك يهوذا انحرفوا عن الخطّ الذي رسمه داود. فندّد بهم المؤرخ الكهنوتيّ، وهدّدهم بالعقاب، وزاد على المؤرخ الاشتراعيّ حين قال: إنّ العِقاب سيكون مباشراً ولا يتأخر. وكان داود قد قال لابنه: "أنت تنجح ان حرصت على العمل بالفرائض والأحكام التي أمر بها الرب بني إسرائيل على لسان موسى" (1 أخ 22: 13). وقال أيضاً: "وأنت يا سُليمان ابني، فأعرف إله أبيك، واعبده بقلب سليم ونفس راغبة، لأنّ الربّ يفحص جميع القلوب، ويتبين الخواطر والأفكار. إذا طلبته وجدته، وإن تركته تخلّى عنك إلى الأبد" (1 أخ 28: 9). وسيقول النبيّ عزريا للملك آسا، بوحيٍ من الرب: "إنّ الربّ معكم ما دُمتم معه، وإن طلبتموه وجدتموه، وإن تركتموه ترككم" (2 أخ 15: 2). أجل، إن الأمانة للربّ، تُعطي الشعب النصر والسعادة، والخيانة له تسبّب الهزيمة والشقاء. وفي هذا الإطار نقرأ: "انتصر شعب يهوذا لأنّهم اتكلوا على الربّ إلههم" (2 أخ 13: 8)، ونقرأ أيضاً: "خرجت لبنة من تحت سيطرة يُورام، لأنّه ترك الربّ إله آبائه" (2 أخ 21: 10)، ونقرأ أخيراً: "وقُتِلَ عدد من جنود يهوذا الأشداء... لأنّهم تركوا الربّ إلههم" (2 أخ 28: 9؛ رج 2 أخ 16: 7- 9؛ 24: 22- 26؛ 25: 14- 22).
آمن الملوك رَحَبْعام وعزّيا ويوشيا بالله فنجحوا، تركوا الله فضربهم الشقاء، وحلّت بهم الهزيمة. عرف عهد رحبعام الازدهار (2 أخ 11: 8- 23)، ولكن ما إنْ ترك شريعة الربّ، حتّى زحف ملك مصر على أورشليم الخائنة لربّها (2 أخ 12- 2). ولمّا تدخل شمعيا النبيّ، فأعاد رحبعام إلى ايمانه الأوّل، وعد الربّ، قال: "بما أنّهم ندموا فلا أهلكهم، بل أمنحهم بعض النجاة" (12: 5- 7). وأنجح الربّ عزيا، فأعطاه الربّ ما طلب (2 أخ 26: 5)، ولكن ما إنْ طمح قلبه للفساد، حتّى ضربه الربّ بالبرص، وبقي أبرص إلى وفاته (2 أخ 26: 16- 21). ويوشيا، الملك التقيّ، الذي وعده الربّ بأن يموت ويدفن مع آبائه، (2 أخ 34: 28)، سيموت في مَجدّو لأنّه وقف بوجه نكو المصريّ الذي كلّمه باسم الربّ، فرفض أن يسمع، (2 أخ 35: 21- 24).
دأب الربّ في إرسال أنبيأنّه، ليُعلنوا كلمته في شعبه. أرسل شمعيا إلى رحبعام (2 أخ 12: 5- 8)، وعزريا إلى آسا (2 أخ 15: 1- 7)، وحناني الرائي إلى آسا أيضاً (2 أخ 16: 7)، وياهو بن حناني الرائي إلى يوشافاط (19: 1- 3)، ويحزيئيل إلى شعب يهوذا (2 أخ 20: 14- 17)، وأليعازر إلى يوشافاط (2 أخ 20: 37)، وإيليا إلى يورام (2 أخ 21: 12)، وزكريا الكاهن إلى الشعب (2 أخ 24: 20- 21؛ 25: 7- 9؛ 15- 16)، وعوديد إلى مملكة إسرائيل (2 أخ 28: 9- 11، 33: 10). أجل، "أرسل الربّ إليهم أنبياء ليردّهم إليه وينذروهم، فلم يسمعوا" (2 أخ 24: 19). ولم ينقطع الربّ إله آبائهم من إنذارهم على ألسنة أنبيأنّه، لأنّه أشفق على شعبه ومَسْكِنِه، فكانوا يستهزئون برسل الله وأنبيأنّه، ويحتقرون كلامه على ألسنتهم، حتّى ثار غضب الله على شعبه، ولا من علاج" (2 أخ 36: 15- 16).
ولكن، رُغْمَ كل هذه التحذيرات والتنبيهات، ورُغْمَ ما فعله ملوك مُصلحون، أمثال يوشافاط وحِزْقيا ويوشيا، فمَا زالت مملكة داود، تسير بخُطىً واسعة نحو الانهيار. ولمَا تكرّرت خيانة الشعب لربّه، وأخطاء الملوك في مجال السياسة (يوياقيم، يوياكين، صدقيا)، دقّت ساعة الصفر. وفي هذا يقول المؤرخ: "وفعل صدقيا الشر في نظر الربّ إلهه، ولم يخشع أمام إرميا النبيّ الذي كان ينطق بكلام الربّ. وتمرد أيضا على نبوكد نصر... وعاند الربّ إله بني إسرائيل وقسّى قلبه عن الرجوع إليه. وبالغ جميع رؤساء الكهنة وزعماء الشعب في خيانة الربّ، باتباع رجاسة الأم حولهم، ونجّسوا بيت الربّ الذي قدّسه الربّ في أورشليم...". (2 أخ 36: 12 ي). فثار غضب الربّ على شعبه وأخذت أورشليم عنوةً، ودُمّر الهيكل، وذهب الملك صدقيا وشعبه إلى المنفى. إنهارت مملكة داود الإلهيّة، وزالت من الوجود.
رابعاً: نداء كورش.
وتنتهي أخبار الأيّام بنداء كورش. ساعة بدا أنّ كلّ شيء ضاع، قام ملك وثني يُعيد بناء مملكة الله في بلاد يهوذا، ويشيِّد هيكلاً لإله السماء. أجل إنّ الله لا يترك شعبه.
إنّ ما نَسْتَشِفُّه أولاً من قراءة أخبار الأيّام، هو شعور بالفرح. الشعب يُنْشِدُ، اللاويون يُنْشدون، والكهنة يُسبّحون الربّ بكلّ قِواهم (2 أخ 30: 21؛ 35: 15). وما نستشفّه ثانياً، هو أنّ أخبار الأيام، هو كتاب الأمل والرجاء. فالمُؤرّخ لا يجهل وَعْدَ الربّ لداود بفم ناتان وهو يُردّده مِراراً: "عرشُك يكون راسخاً إلى الأبد" (1 أخ 17: 14): أو: "أيّها الربّ الإله، لا تردُدْ طلب الملك مسيحك، واذكر مراحمك لداود عبدك" (2 أن6: 42).
لا نجد في أخبار الأيّام انتظاراً مسيحانياً محموماً، كذلك الذي نقرأه في سِفْر حَجاي (2: 21 ي)، ولا تطلّعاً إلى ملك مسيحانيّ يكون على مثال داود (رج ار 30: 9- 21؛ حز 34: 23 ي؛ 37: 24 ي؛ إش 11: 1؛ مي 5: 1؛ هو 3: 5)، بل رغبة في العيش بأمان، بالاتفاق مع السلطة الفارسية التي لا تُريد شراً لشعب يهوذا. أجل، لم يعد لليهود أيّ طموح سياسيّ أو زمني، فجُلّ مُبتغاهم أن يعيشوا إيمانهم حول هيكلهم، وأن يُردّدوا كلام توراتهم في بيوتهم، وأن يُعيِّدوا أعيادهم بأمانٍ وسلام.
ولكن، من خلال هذه الحياة الهادئة، تبقى قلوب المُؤمنين تنتظرُ ساعة خلاص الله، وتعمل على تسريع مجيئه، بالتقوى وحِفْظِ شرائع الربّ.

ج- أخبار الأيّام والتاريخ.
1- المراجع.
تُورِد أخبار الأيّام المراجع التي استقى منها المؤرخ ليُدوّن أخباره، وهذه المراجع على نوعين، مراجع من النوع التاريخيّ، مراجع من النوع النبوي.
أولاً: مراجع من النوع التاريخيّ: سفر ملوك إسرائيل (1 أخ 9: 1؛ 2 أخ 20: 34)، سِفْر ملوك إسرائيل ويهوذا (2 أخ 27: 7؛ 35: 27؛ 36: 8)، سِفْر ملوك يهوذا وإسرائيل (2 أخ 16: 11؛ 25: 26؛ 32: 33)، مدراش أو (تفسير) سٍفْر الملوك (2 أخ 24: 27)، أعمال (أو أخبار) ملوك إسرائيل (2 أخ 33: 18)، حَوْلِيّات (أو أخبار الأيّام) الملك داود (1 أن 27: 24).
ثانياً: مراجع من النوع النبويّ: أعمال (أو أخبار) صموئيل الرائي (1 أخ 29: 29)، وناتان النبيّ (1 أن29: 29؛ 2 أخ 9: 29)، وجاد الرائي (1 أخ 29: 29)، ويا هو بن حناني (2 أخ 0 2: 34)، وحوزاي (أي الرائين 2 أخ 33: 19). نبؤة أحيا الشيلونيّ (2 أخ 9: 29)، رؤى يعدو الرائي (2 أخ 9: 29)، رؤيا أشعيا (2 أخ 32: 32)، بقية أعمال عزريا، كمَا كتبها أشعيا (2 أخ 26: 26)، مدراش (أو تفسير) النبيّ عدو (2 أخ 13: 22) ورثاء إرميا لحوشيا (2 أخ 35: 25).
كلّ هذه المراجع غير معروفة، وقد أراد بعضهم أن يردّها إلى أسفار صموئيل والملوك، أو إلى مدراش سِفْري الملوك.
ثالثاً: مراجع أخرى: هناك مراجع لا يشير إليها الكاتب، ولكنّنا نكتشفها بسهولة. ويعود المُؤرّخ إلى نصوص الأنبياء (إش 7: 9 في 2 أخ 20: 20؛ زك 4: 10 في 2 أخ 16: 9)، والمزامير (مز 138: 8- 11 في 2 أخ 6: 41- 42؛ مز 96، 105، 106 في 1 أخ 16: 8- 36)، وإلى تقاليد شفهيّة مِدراشية (1 أخ 4: 9- 10، 38- 43) تعود إلى أجواء الهيكل. نذكر هنا كلّ ما يتعلّق بدور داود في بناء الهيكل، وتنظيم الكهنة، وترتيب الليتورجيا (1 أخ 22: 2- 29: 20)، وكل ما يتعلّق بتدخل حزقيا ويُوشيا، لتعود إلى شعائر العبادة نقاوتها وعظمتها، كما كانت في أيّام داود (2 أخ 29: 3- 31: 21؛ 34: 3- 35: 19)، وكلّ مسّ بقداسة الهيكل، كمَا فعل عزيا عندما أراد أن يُقدّم البخور على المذبح، فأُصيب بالبَرَص (2 أخ 26: 16- 20).
2- أخبار الأيّام وأسفار صموئيل والملوك.
ذكرنا مراجع عديدة، ولكنّ أسفار صموئيل والملوك، تبقى المرجع الرئيسيّ المكتوب، الذي استفاد منه كاتب أخبار الأيّام. فهو أحيانا يتبع حرفيّا ما ورد عند سابقيه. ويمكننا على سبيل المثال، أن نقابل بين 2 أخ 5: 9 وبين 1 مل 8: 8، بين 2 أخ 10: 19 و1 مل 12: 19. ولكنّ كتاب الأخبار يبتعد مرّات كثيرة عن مرجعه، فيُسقِط أشياء ويُهملها، أو يزيد ويُضيف غيرها، فيُصحح ويلطّف من حِدّة بعض العبارات، وكلّ هذا من أجل الهَدَف الذي وضعه نُصْبَ عينيه.
أولاً: يسقط المؤرّخ كل ما "يُسوِّد" صفحة مَجْدِ بطله العظيم داود، ومجد ابنه سليمان. فهو يهمل في حياة داود كل ما سبق اعتلاءه العرش، وكلّ خطاياه (الزنى مع بتشابع، وقَتْل زوجها أورثا)، والفواجع التي حلّت بعائلته، وهربه من أورشليم من وجه ابنه أبشالوم، وشيخوخته وعَجْزه، وانتقاماته من الأعداء حتّى بعد موته. ويتحدّث عن سُليمان باني الهيكل، فيُحيطه بهالة من المجد، ويتحاشى أن يذكر شيئاً من الموآمرات التي أوصلته إلى سُدّة الحكم، أو حبّه للنساء الأجنبيات، أو الصعوبات الداخلية والخارجية التي عرفها عَهْدُهُ.
ونرى المؤرّخ يُهمل كل ما هو دلالة شُؤمٍ بالنسبة إلى سُلالة داود، فيحذف من نبُؤة ناتان، كلّ ما يجعل المستقبل قاتماّ، وبالأخصّ هذه الآية: "وإذا أثِمَ أؤدبه بالقضيب كمَا يفعل الناس، ولا أوفّر له الضربات" (2 صم 7: 14). كمَا يهمل كلّ ما يتعلّق بمَملكة الشمال التي "تمرّدت على بيت داود إلى هذا اليوم" (2 أخ 10: 19). وإنْ ذكرها، ففي معرض إذلال بيت يهوذا، عقاباً لهم على خطيئتهم (2 أخ 25: 17- 24؛ 28: 9)، أوفي معرض جرّ بيت يهوذا إلى الخطيئة (2 أخ 18: 1- 19: 2، 20: 37).
ثانياً: يضيف المؤرّخ إلى النصّ السابق، تفسيراً لاهوتياً للأحداث. ونورد بعض الأمثلة: في 1 صم 31: 13، يُنهي المؤرّخ الاشتراعيّ حديثه عن موت شاول بهذا القول: "وصاموا سبعة أيّام". أمّا المُؤرّخ الكهنوتي فيزيد: "فمات شاول لخيانته للربّ، وعصيانه كلمته، ولأنّه استشار أرواح الموتى، ولم يستشر الربّ، فأهلكه وحوّل ملكه إلى داود بن يسّى" (1 أخ 10: 13- 14). في 1 مل 14: 25 نقرأ: "زحف شيشاق ملك مصر على أورشليم"، أمّا في 2 أخ 12: 1 ي فنقرأ: "وما إن ثبّت رحبعام ملكه ووطّده، حتّى ترك شريعة الربّ، هو وجميع بني إسرائيل... فعاقبهم الربّ على خيانتهم له، بأن زحف شيشاق ملك مصر على أورشليم". في 1 مل 15: 23، نقرأ عن آسا: "إلا أنّه عند شيخوخته اعتلَّت رجلاه". وفي 2 أخ 16: 12، نقرأ: "واعتلّ آسا في رِجْليه... ومع أنّ العِلّة اشتدت عليه، إلا أنّه لم يستعِنْ بالربّ بل بالأطباء".
وفي خبر إبحار رجال أحزيا ويوشافاط (1 مل 22: 49)، يزيد 2 أخ 20: 37، أن اليعازر تدّخل فقال: "لأنّك يا يُوشافاط صادقت أحزيا، فسيهدم الربّ ما بنيت". وعندما يذكر 2 مل 8: 22، ثورة لبنة على يُورام، يقول 2 أخ 21: 10: "ثارت مدينة لبنة، وخرجت من تحت سيطرة يُورام، لأنّه ترك الربّ إله آبائه". ويمكننا أن نقابل 2 مل 15: 5 مع 2 أخ 26: 16- 21، في البحث عن سبب بَرص الملك عزيا، و 2 مل 4: 11 مع 2 أخ 25: 20، عن أمصيا الذي أسلمه الله إلى يد عدّوه، لأنّه طلب آلهة أدوم.
وبعد نكبة مجدّو، (إنتصر فيها المصريّون على بني إسرائيل سنة 609 ق م)، وموت يوشيا الملك الصالح، تساءل الناس بألم عميق: كيف تخلّى الله عن مَلِكٍ تقيّ، عمل ما عَمِلَ لتجديد شعائر العبادة في الشعب، وإعادة الديانة اليهودية إلى سابق نقأنّها؟ كيف أسلمه إلى ملك غريب، إلى عدّو شعبه الدائم؟ وأجاب المؤرّخ: "فأرسل إليه (أي إلى يوشيا)، نكو (ملك مصر) رُسُلا، يقول: مالي ولك يا ملك يهوذا، لم أجئ لمُحاربتك، بل لمُحاربة اعدائي، والله أمرني أن أسرع. فلا تقاوم الله الذي يُساندني لئلا أهلكك" (2 أخ 35: 21 ي). فلم يسمع يُوشيا لكلام الله من فم نكو، وجاء إلى لقأنّه في وادي مجدّو (قابل أيضاً 1 مل 10: 9؛ 2 أخ 9: 8 ونِظرة الكاتب التيوقراطية إلى الملك).
ويُضيف المؤرّخ الكهنوتيّ أموراً عديدة، تتعلّق بشعائر العبادة (قابل 1 مل 3: 4 مع 1 أخ 16: 37- 38 و2 أخ 1: 2- 6؛ قابل 2 صم 24: 25 مع 2 أخ 21: 26- 27)، وبكلّ ما يُضفي الفخامة على الاحتفالات الليتورجيّة (قابل 1 مل 3: 4 مع 1 أخ 15: 1- 24 و16: 4- 36 و2 أخ 1: 2- 3؛ قابل 1 مل 8: 63- 64 مع 2 أخ 7: 6).
ثالثاً: يُصّحح المؤرّخ الكهنوتيّ بعض المعطيات التي تُناقض نظرته اللاهوتية، أو تعارض تصوّره لعظمة أبطاله. وإليك بعض الأمثلة: في 2 صم 8: 17 نقرأ: "وبنو داود كانوا كهنة". أما في 1 أخ 18: 17 فنقرأ: "وبنو داود كانوا الأولين بجانب الملك". ونقرأ في 2 صم 24: 1: "إن الربّ غضب على بني إسرائيل، بسبب الإحصاء الذي قام به داود". أما في 1 أخ 21: 1 فنقرأ: "ونهض الشيطان على بني إسرائيل وأثار داود أن يُحصي بني إسرائيل". ويورد 2 صم 5: 21 أنّ داود ورجاله، أخذوا أصنام الفلسطيين بعد أن هزموهم. ويقول 1 أخ 14: 2: "وترك الفلسطيون هناك الهتهم، فأمر داود، فأحرقت بالنار". فجاء عمله موافقاً لما يقول سفر التثنية: "تهدمون مذابحهم، وتكسرون أنصابهم، وتقطعون أوتاد آلهتهم، وتحرقون تماثيلهم بالنار" (7: 5؛ 12: 3). أن يُعطي سُليمان لحيرام ملك صور، عشرين مدينة في إرض الجليل، لقاء ما قدّم إليه من خشب وذهب (1 مل 9: 10 ي)، يبدو أمراً مُشيناً بنظر الكاتب الكهنوتيّ الذي نقل إلينا تقليداً آخر يقول: "أعاد سُليمان بناء المدن التي أعطاها له الملك حيرام، وأسكن فيها بني إسرائيل " (2 أخ 8: 2).
رابعاً: أوردنا هذه الملاحظات، لنبيِّن أن أخبار الأيّام، ليست ترداداً لما ورد في أسفار صموئيل والملوك، بل تعبيرا جديداً كتبه المؤرّخ الكهنوتيّ من زاوية يهوذا وعاصمتها أورشليم. وحصل تطور في النظرة اللاهوتية، وتبدلٌ في الظروف السياسية والاجماعية، فأثّر على المجموعة الكهنوتيّة، وطبعها بطابع خاص.

3- الإطار التاريخي لأخبار الأيّام.
قبل أن نتطرق إلى القيمة التاريخيّة لأخبار الأيام، نوّد أن نرسم لوحة، عن الحِقْبة المتصلة بالأحداث التي نقرأها في أسفار الأخبار وعزرا وتحميا.
حوالي سنة 1000 ق م: داود
حوالي سنة 970 ق م: سُليمان
حوالي سنة 930 ق م: ألانفصال: مملكة الشمال، ومملكة الجنوب.
سنة 734 ق م: الحرب بين مملكة أرام ومملكة الشمال، (أو الحرب الآرامية الأفرائيمية)
سنة 721 ق م: سقوط السامرة بيد الأشوريين، ونهاية مملكة الشمال.
سنة 701 ق م: حِصار أورشليم على يد الأشوريين، في عهد الملك حزقيا
سنة 622- 621 ق م: إصلاح يوشيا
سنة 612 ق م: دمار نينوى على يد البابليين
سنة 609 ق م: موت يوشيا في مجدّو
سنة 605 ق م: الحرب بين البابليين والمصريين في كركميش
سنة 597 ق م: سقوط أورشليم بيد البابليين: الجلاء الأول.
سنة 587- 586 ق م: دمار أورشليم: الجلاء الثاني ونهاية مملكة يهوذا
سنة 538 ق م: قرار كورش، ورجوع أوّل الوفود من الجلاء
سنة 520- 515 ق م: إعادة بناء الهيكل وتدشينه (بين السنة الثانية والسنة السادسة لحكم داريوس)
سنة 445 ق م: وصُول نحميا إلى أورشليم، إعادة بناء أسوار أورشليم: السنة العشرون لحكم ارتحششتا.
سنة 432 ق م: عودة نحميا وإقامته في أورشليم: إصلاحات اجتماعية ودينية في السنة الثانية والثلاثين لحكم أرتحششتا.
سنة 398- 397 ق م: مجيء عزرا إلى أورشليم. إعادة تنظيم شعائر العبادة والقيام بالإصلاحات اللازمة، وكان ذلك السنة السابعة لأرتحششتا الثاني.

4- القيمة التاريخيّة لأخبار الأيّام.
أولاً: عندما نقرأ أخبار الأيّام، نُحس أنّنا لسنا أمام مؤرّخ أمين لما تطلبُه منه مِهنته، بل مؤرّخ يسعى إلى تنظيم الوقائع من منظاره الخاصّ. هو ابن مكان مُعيّن (أورشليم وهيكلها)، وزمان مُعيّن (القرن الثالث ق م)، وهو يكتب تمجيداً لبيت الله، وتكريماً للذين بنوه والذين يخدمونه. ولأجل هذا الهدف، يُِوجّه أحداث الكون والتاريخ. إذن، لن نبحث عن دقّة في المعلومات، وصرامة في الأحكام. ولكنّ هذا لا يعني أنّ الكاتب شخص كذاب يشوّه الحقائق، أو غبيّ تفوته المعلومات. إن المُؤرّخ لا يجهل الماضي، ولا يسعى إلى تمويهه وتشويهه، ولكنّه يُغيّر له شكله وهيئته، ليكون بحسب المثال الذي يتمثّله.
ثانياً: لا نستطيع أن نأخذ بأحداث أخبار الأيّام، وكأنّها وثيقة تاريخيّة، بل علينا أن نُؤوّل العناصر الإخباريّة على ضوء الملاحظة الأولى. وإليك بعض الأمثلة: نحن لا نأخذ بحرفيّة ما قاله المؤرّخ عن داود ودَوره في تشييد الهيكل، وترتيب شعائر العبادة لله (1 أخ 22: 2- 29: 20)، ومما نقرأه من تآليف مِدْراشية (2 أخ 20: 1- 30) أو خُطَبٍ دينية ودفاعية (2 أخ 13: 4- 21: خطبة أبيا)، وما نراه من أعداد غير معقولة. ففي 2 أخ 12: 3؛ 13: 3، نقرأ أنّ رجال أبيا كانوا 400000، ورجال يربعام 800000. وفي 2 أخ 14: 7 ي، نعرف أنّ رجال آسا كانوا 580000، وجيش زارح الكوشيّ 1000000. وفي 2 أخ 17: 14 ي، كان عدد رجال يوشافاط 1160000، ورجال أمصيا 300000 (2 أخ 25: 5 ي)، ورجال عزيا 307500 (2 أخ 26: 13). ونعرف أنّ فقع بن رمليا قَتَلَ في يوم واحد 120000 رجل من يهوذا، وأخذ معه 200000 أسير. ولا حاجة إلى القول، كم أن هذه الأرقام مُضخّمة.
ثمّ إننا إذا قابلنا أخبار الأيّام بالمراجع التي استقى منها المُؤرّخ معلوماته، فلا يمكن أن نُوفّق بين ما نقرأه هنا وهناك.. مثلاً: هل أزال آسا المعابد التي على المرتفعات (2 أخ 14: 4) أم لا (1 مل 15: 14)؟ هل كانت حرب بين آسا وبعشا (1 مل 15: 16)، أم سلام في القسم الأكبر من ملك آسا (2 أخ 15: 19)؟ هل دفع داود لأرونا اليبُوسيّ ثمناً لبيدره خمسين مثقال من الفضة (2 صم 24: 24)، أم ستة مئة مثقال من الذهب (1 أخ 21: 25). يُمكننا أن نقابل بين 2 أخ 24: 24 و2 مل 12: 14، بين 2 أخ 9: 21 و1 مل 10: 22، بين 2 أخ 20: 36 و1 مل 22: 49، بين 2 أخ 22: 9 و2 مل 9: 27- 28، بين 2 أخ 35: 23- 24 و2 مل 23: 29- 30، بين 2 أخ 36: 6 و2 مل 24: 1.
ثالثاً: ولكن هذا الذي لاحظناه، لا يعني أنْ لا عناصر تاريخيّة البتّة في أخبار الأيّام. فهناك أمور لا تقبل الشكّ، نذكر منها: أنّ رحبعام خاف من مصر، فبنى في الجنوب سِلسلةً من الحصون، وجعل فيها المؤن والعَتَاد (2 أخ 11: 5- 12)، وأنّه اتخذ له نساء كثيرات (2 أخ 11: 21). وأنّ آسا كان رجل بناء وَحربٍ (2 أخ 14: 5- 7؛ الأعداد المذكورة مضخّمة)، وأنه دُفِنَ دفنة مهيبة (2 أخ 16: 14). وما تقوله أخبار الأيّام عن يوشافاط (2 أخ 17: 2- 13؛ 19: 4 ي؛ 20: 1 ي) ويورام الذي قتل إخوته (2 أخ 21: 2- 4) والفلسطيين والعرب الذين قتلوا أبناء يورام، ما عدا يوآحاز (2 أخ 21: 16- 28؛ 22: 1)، كلّ هذا أهْلٌ للثقة. وفي 2 أخ 22: 9، نعرف في أيّ ظروف مات يوآحاز (2 مل 9: 27-28). وفي 2 أخ 26: 6- 15، نعرف أنّ عزيا كان رجل بناء وحرب، وفي 2 أخ 26: 16- 21، نعرف أنّه مرض بالبرص. وفي 2 أخ 27: 3- 7، نعرف أن بيت يهوذا قَوِيَ، وأنّه ازدهر في عهد يوتام (رج اش 2: 7)، وفي 2 أخ 28: 9- 5، نطّلع على تفاصيل عن الحرب الآرامية الافرائيمية، وفي 2 أخ 28: 17- 19، عن زحف الأدوميين والفلسطيين على بيت يهوذا، وفي 2 أخ 32: 2- 82، عن تنظيم المقاومة الشعبية بوجه سنحاريب، الهاجم على أورشليم. وفي 2 أخ 33: 11- 16، نعرف أنّ منسى اقتيد إلى بابل بسلاسل من نحاس، وأنّه تاب إلى ربّه، فرده ربّه إلى مملكته.

د- النظرة اللاهوتية في أخبار الأيّام.
قبل أن نُحلّل نصوص أخبار الأيّام، نورد ثلاث وجهات لاهوتية، تبدو أهمّ ما في سِفْري الأخبار وهي: المملكة الداودية، الهيكل، والعبادة التيوقراطيّة.
1- المملكة الداودية. أوّل ما يلفت انتباهنا، هو مكانة وأهميّة تاريخ مملكة داود. فكل ما سبق حُكمَ داود، ينحصر في لوائح أنسابٍ تعود إلى آدم، والرباط بين هذه اللوائح وسيرة داود، يتمُّ من خِلال خَبَر موت شاول، الذي رفضه الله، واختار مكانه داود الذي سيُخصص له الكاتب تسعة عشر فصلاً.
يُحدثنا الكاتب عن داود الرجل المثاليّ، الرجل الذي على خشب قلب الله، الرجل الذي تدوم سُلالته إلى الأبد، الرجل الذي كرس حياته ليجعل من أورشليم عاصمته، المدينة المُقدّسة، الرجل الذي أعدّ العُدّة لتشييد الهيكل، ونظّم شعائر العبادة التي ستُقام فيه. يُشبّه المُؤرّخ داود بموسى. فكما كان هذا قائد شعب الله في البريّة، كذلك كان ذاك قائدهم في أرض كنعان، فنظّم الشعب، وشرع له القوانين باسم الربّ، على مِثَال موسى.
ويُحدّثنا المؤرّخ عن سُليمان، الرجل المثاليّ مثل والده، الذي بنى الهيكل بحسب التصاميم التي وضعها أبوه، ثمّ دشّنه بأبّهة، لم يُعْرف لها مثيل.
2- الهيكل والعبادة. الهيكل والعبادة هما مِحْور اهتمام الكاتب الكهنوتيّ، لا بل الهدف الرئيسيّ، لكتاب يحدّثنا عن تاريخ هيكل أورشليم، المدينة المقدسة، وعن الاحتفالات التي تقام فيه. من أجل هذا، نراه يتوسّع في ذكر سلسلة أنساب يهوذا وبنيامين، لأنّ من قبيلة يهوذا، خرج داود، وفي أرض بنيامين، أقيمَ الهيكل. وعندما يذكر خُلفاء داود، يتوقّف، بصورة خاصّة، عند الملوك الذين كان شُغلهم الشاغل، بناء الهيكل وتنظيم شعائر العبادة، آسا، يُوشافاط، حزقيا، يُوشيّا. وهذا الإهتمام بالهيكل، سيظهر في سِفْري عزرا ونَحَمْيا: رَفْعُ المذبح فوق رُكام الهيكل، إعادة تنظيم العبادة في الهيكل.
ويُحدّثنا المؤرّخ عن خُدّام الهيكل، وكلّهم أبناء لاوي، أكانوا كهنة، متحدّرين من هارون، أم لاويين، مُتحدّرين من سائر عشائر لاوي. فوظيفة الكهنة: النفخ في الأبواق أمام تابوت العهد (1 أخ 15: 24؛ 2 أخ 13: 12)، ورشّ دم الأضْحيات على المذبح (2 أخ 30: 16). أمّا اللاويّون، فليسوا عمَّالا من الدرجة الدُنيا، بل لهم دورهم في شعائر العبادة: هم يحملون تابوت العهد، ويفتحون أبواب الهيكل، ويحرسون مداخله، يعزفون ويُنشدون، ويُشاركون الكهنة في تهيئة الذبائح، لا في تقدمتها (رج 2 أخ 29: 34؛ 30: 16- 17). كما يُشاركونهم في حّمْل كتاب شريعة الله، وتعليم الشعب (2 أخ 17: 7- 9؛ 35: 3، نح 8: 7- 9). ولقد اهتمّ الكاتب الإخباريّ بلوائح أنساب اللاويين، فلم ينسَ عشيرةً من عشائرهم (2 أخ 17: 8 ي؛ 29: 12 ي؛ 31: 12 ي)، وأثنى على غَيْرتهم (2 أخ 35: 10- 15)، ومهارتهم الفائقة في خدمة الربّ (2 أخ 30: 22)، فقال فيهم: "كان اللاويّون أكثر أمانة من الكهنة في تطهير أنفسهم (2 أخ 29: 34).
ويحدّثنا المؤرّخ أن لا هيكل ألاّ هيكل أورشليم، ولا عبادة شرعية إلاّ في المكان الذي اختاره الله مكاناً لسُكناه. ولهذا فهو يشحب كل المحاولات لتأسيس معبد غير هذا المعبد الواحد، وإقامة الطقوس خارجاّ عن الهيكل، ويقوم بهجوم عنيف على السامريين ومن وراءهم، عندما أرادوا بناء هيكل جرزيم. وهنا نفهم لماذا أغفلت أخبار الأيّام تاريخ مملكة اسرائيل، بعد الانفصال الذي حدث على أثر موت سُليمان. فمملكة يهوذا الداودية هي وحدها المملكة الشرعيّة، أما ملوك السامرة، فهم مُنشّقون ولا يُمكنهم أن يمثلوا شعب الله الحقيقيّ. وفي هذا الإطار، نقرأ عن الصراع القائم بشأن بناء الهيكل، بين الذين بقوا في أرض إسرائيل، وبين أبناء الشعب المنفيين العائدين، الذين كانوا يعتبرون نفوسهم، الممثّلين الحقيقيين لشَعْبِ الله (عز 4: 1 ي؛ نح 2: 19- 20؛ 4: 1 ي؛ 6: 1 ي).
3- التيوقراطية أو حكم الله على الأرض.
إنّ ما قُلناه عن داود وسليمان وعن الهيكل والعبادة، يقودنا إلى نظرة تيوقراطية، تجعل الله مَلِكاً على شعبه في أرضه. فالجماعة اليهودية التي يعيش فيها المؤرّخ، هي صورة مثالية للمملكة التيوقراطية التي أسّسها الله، وجعل داود عليها مَلِكاً. وفي الحقيقة، الله هو المَلِكُ الوحيد، أمَّا داود، فيجلس على عرش الله باسم الله. وهكذا يُصوّر الكاتب، عَبْرَ الواقع الأرضيّ للتاريخ السابق، مملكة الله، كما يتمثّلها الإنسان في القرن الثالث ق م: العبادة في موضع واحد، هو هيكل أورشليم، مدينة مقدسة يُعبّر المؤمنون عن إقامتهم فيها، بالإيمان والفرح والتهليل، بفضل وجود الكهنة واللاويين أمام الله الملك. أمّا الطاعة لشريعة الله، فهي أولى واجبات الشعب في حياته اليوميّة. والعلاقة بيت الله وشعبه، تُترجَم بمَبدأ المكافأة والمجازاة: عدالة الله تُجازي بالبركة أمانةَ الشعب والملَك لله، وهي تُعاقب كلّ تخاذُل أو عصيان، وبالأخصّ في ما يتعلّق بالهيكل والعبادة. ومثل هذا التعليم يبدو واضحاً في حياة خلفاء داود: دام ملكُ منسّى طويلاً، لأنّه تاب إلى ربّه، ومات يُوشيا شاباً، لأنّه عارض مشيئة الله.
تختلف أخبار الأيّام، عن أسفار الجليان في نظْرتها اللاهوتية. فأسفار الجليان ترسم في المستقبل، صورة عن الواقع الحاضر، لتُعلن ما ستكون عليه مملكة الله في الآتي من الأيّام. أمّا أخبار الأيّام، فهي تُعطي صورة مثالية عن الماضي، لتُبيّن لنا كيف يجب أن تكون حياة الله في الزمن الحاضر. وهكذا، فالمملكة التيوقراطية في عهد داود، تُذكِّر المؤمنين العائشين بعد الرجوع من الجلاء، كيف يحتفلون بشعائر عبادتهم، وكيف يخضعون لوصايا الله، وكيف يَرجُون منه المُجازة العادلة عن أعمالهم الصالحة.
من أجل هذا، لا نجد في أخبار الأيّام، تعبيراً صريحاً عن الانتظار المسيحانيّ، لأنّ المؤرّخ ينظر إلى الماضي، لا إلى المستقبل. فلو نظر إلى المستقبل، لقال ما قاله الأنبياء عن داود الجديد (ار 30: 9- 21)، الذي سيرعى شعب الله، ويكون له رئيساً (حز 34: 23 ي). ولكنّه نظر إلى الماضي، فأعطى المؤمنين أمثولة في الأمانة لله، والتعلّق بشريعة الله، والقيام بشعائر عبادته على أكمل وجه. وتلك تبقى العِبْرة التي نأخذها، نحن المسيحيين، من قراءتنا لسِفْري أخبار الأيّام الأوّل والثاني

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM