الفصْلُ التّاسع: أليشَاع وَنهَاية بَيْت آحَاب

سِفرُ المُلوُك الثَّاني

الفصْلُ التّاسع
أليشَاع وَنهَاية بَيْت آحَاب
1 : 1 – 10 : 36

أ- ألمقدّمة
1- في الفصل السابق، هيمنت شخصية إيليا، وفي هذا الفصل تُهيمن شخصية أليشاع. فمن خلال سُلالة عمري، يُشكّل إيليا وأليشاع وحدة متكاملة، لأنّ أليشاع يُتمّ ما بدأه إيليا. أجل، بدأ أليشاع ثورة ياهو التي ستُطيحُ بسُلالة عمري من دون شفقة (ف 9-10). غير أنّ لسُلالة عمري فروعًا في يهوذا، ولا بدّ من ثورة في أورشليم، للإطار بعثليا وإعادة سُلالة داود إلى العرش في شخص يُوآش (ف 11-12). هذه الثورة سيقوم بها الكهنة في أورشليم، أمّا الأنبياء فلا دور لهم يُذكر في يهوذا.
2- يختلف أليشاع عن إيليا كلّ الاختلاف. عاش إيليا في عُزْلَةٍ ، أمّا أليشاع فكان في السامرة، يدخل عند الملك ساعة يشاء (4 :13؛ 8: 1-6)، وكان له مكان راحةٍ في شُونم (8:4-17). ثمّ إنّه مرتبط بجماعة الأنبياء ارتباطًا وثيقًا (38:4-44). أليشاع نبيّ متعدد الجوانب، ولكنّ وظيفته لا تطلب منه أن يُوصل أحكام الله إلى الملوك، فيكتفي بأن يُوبخّهم بتروٍ وحَذَر (13:3). هو قبل كلّ شيء مُجترح المُعجزات (ف 4- 5)، والمُستشار الحربيّ للملك (4:3-27؛ 8:6-23؛ 24:6؛ 7: 20)، ولهذا سُمّي مركبة إسرائيل (13: 4). هو سلاح سرّي بيد الملك، وهو يُبدّل الملوك حتى في دمشق (8: 7-15). فانقلاب حزائيل في دمشق، رافقه تنصيب أليشاع الذي أعطاه بُعْدَهُ اللاهوتي. ولكنّ هذا اللاهوت مُزعج لأنّ ابن ياهو، ألملك الذي امتدحه أليشاع، سيُحسّ بثِقَلِ الهَجمات الآرامية.
3- ويصفّي ياهو سُلالة عمري، فيُدشّن سُلالة جديدة. شخص ياهو بارز بالأخبار النبوية التي تروي وصوله إلى الحُكْم، وباللَمْحَة التي خصّصها له المؤرّخ الاشتراعي. فهو أوّل ملك بعد سليمان، يحصل على كلام مُباشرٍ من الله، وهذا الكلام يتضّمن وعدًا غير مشروط لسُلالته (10: 30).
4- يروي 2 مل قِصّة إنحطاط وانهيار مملكة إسرائيل ويهوذا، ولكنّ الكاتب لم يهتمّ بتسجيل هذه الوقائع، بل أشار إلى الأسباب التي جعلت الأمور تتّجه في هذا المنحى، وآمن أنّ السبب الوحيد الذي قاد البلاد إلى الكارثة، هو سياسة الملوك كلّهم، ما عدا حزقيا ويوشيا، وهي سياسة بليدة وشرّيرة. أرسل إليهم الله رجالاً هم الأنبياء، ليُعلنوا لهم إرادته في شعبه. ولكن، يا للأسف، لم يهتمّ الملوك إلا قليلاً بالأنبياء الحقيقيين. فكانت النتيجة عداءً وتصادُمًا بين الملوك والأنبياء. وهذا التوتّر بين الملوك والانبياء، كان جُزءًا من وَضْعِ تحدّث عنه سفر الملوك الثاني، ثمّ أسفار عاموس وهوشع وأشعيا. أمّا كاتب سفري الملوك، فاختار أن يُعْلِمنا بتركيز الصِراع بين مَلَكٍ وخَلَفِه، بين نبيّ وخَلَفِه. والفصل الأخير من 1 مل، قدّم لنا الصراع بين آحاب وإيليا، وما يُمثّل كلّ منهما من تعلّق أو عَدَم تعلّق بالتقاليد الدينية. وعندما يبدأ 2 مل يكون آحاب قد مات وخلفه ابنه آحزيا، فيتتابعُ الصراع بينه وبين أليشاع.
5- أحد التعاليم الرئيسية في الأسفار الاشتراعية، هو أنّ الله يُجازي الأبرار بالبَرَكة، ويُعاقب الأشرار بالويلات. قِصة أليشاع كُتبت لتُبرهن على هذا التعليم. مات إيليا قبل أن يرى نَصر القضية التي جاهد من أجلها. هو لم يَعِشْ ليرى ديانة الكنعانيين خارج إسرائيل ويهوذا، ولكنّ ذلك سيصير. وتلميذه أليشاع سيُوحي بثورة تُطيح بسُلالة عمري، وتترك سياسة التحالُف مع الدولة الفينيقية. هذه الثورة دلّت على أنّ تعليم إيليا انتصر وزالت سُلالة عمري. وبالنسبة الى المؤرخ الاشتراعي، ألحقّ سيسُود وأعداء الله سيُعاقبون.
6- الأخبار عن أليشاع متنوّعة، بعضها يرتبط بالملوك أو بسائر الأنبياء، وبعضها الآخر يُصوّره مُجْتَرِحَ مُعجزات، يستعمل قوّة خارقة ليَرفع مركزه ويُسند كرامته. والأخبار الأخيرة أسطورية، وقد ضخّمت أمورًا فعلها النبيّ. وهناك أخبار اخترعها تلاميذه ليُعظّموا قوته وسُلطانه. وأخيرًا هناك أخبار شعبية قيلت في أيّ قائد روحي، وارتبطت هنا بشخص أليشاع، وهدفها أن تُشدّد على قوّة بطلها وإمكاناته وبراعته، وأن تُحذِّر من مغبّة معارضته، وتصوّر عظمة شخصه وتعليمه الأدبي والروحي. وبالنسبة إلينا نحن قرّاء اليوم، هذه الأخبار هي مصدر إزعاج، لأنها تُصور رجلاً يعتبر نفسه رجل الله، ويعمل بطريقة تأباها الأخلاق. إذًا يجب أن نعترف بالأصل الفولكلوري لهذه الأخبار، ونكتشف كيف ولماذا ارتبطت بشخص أليشاع، وحينئذ نفهم هدفها. احتاج الكاتب المُلهم أن يُصوّر أليشاع كرجل قوي، في خدمته قُدُرات خارقة، لأنّه مُتوّرط في حرب شرسة. هو يقاتل من أجل الدين الحق ضِدّ الدين الكاذب. إهتمّ الكاتب بأن يصور تقدّمه بالقوة لا بالصفات الأخلاقية والروحية، فأعطانا عنه هذه الصورة. وهكذا يبقى أن نتعلّق بأليشاع كنبيّ الله، ونترك جانبًا بعض الأخبار المُرتبطة باسمه.
7- لم تنته بعد قِصّة إيليا وأحزيا، فنتعرف مجددًا إلى معجزة لإيليا، يُنزل فيها نارًا من السماء (1: 1-18) ثمّ نرافق إيليا في اختطافه بعد أن جعل أليشاع خَلَفه (2: 1- 25). ونعود إلى يورام ملك إسرائيل، وحَمْلَته على موآب (3: 1-27)، قبل أن نشاهد بعض مُعجزات أليشاع (4: 1-44): تكثير الزيت لتدفع الأرملة دُيُونها، إقامة ابن الشونمية من الموت، إصلاح الطبيخ المسموم، تكثير الخبز لإشباع مئة رجل. ولن تتوقف قُدرة أليشاع عند بني إسرائيل، بل تتعداهم إلى نعمان السِريانيّ، قائد جيش ملك آرام (5: 1-27). وتعود الحرب بين الآراميين والإسرائيليين، فيتدخل أليشاع لصالح شعبه (6: 1-7: 20)، وبسببه سيردّ الملك إلى الشونميّة أملاكها التي تركتها بسبب الجوع (8: 1-6)، ونعود إلى ملكي يهوذا يُورام وأحزيا (8: 7-29)، قبل أن نشهد ثورة ياهو وقَتْلَه السُلالة الملكية، واستئصال عبادة البَعْل من أرض يهوذا وإسرائيل (9: 1- 10: 36).

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
ا- إيليا يُنزل نارًا من السماء (1: 1-18)

(آ 1: 1-8) ومرض أحزيا، وبدلاً من أن يسأل الربّ، أرسل يسأل بعل زبوب إله عقرون، هل يشفى من مرضه؟. فتصدّى إيليا للرُسل: أليس إله في إسرائيل... وأنبأ أن أحزيا سيموت، وهكذا كان. (آ 17).
موآب جار إسرائيل وأرضه، تمتدّ شرقيّ البحر الميّت. كان تابعًا لإسرائيل منذ عمري، وها هو يتمرد اليوم على أحزيا.
بعل زبوب بعل الذُباب الذي لا يكاد يستطيع أن يجعل الذباب يهرب. في الواقع هو بعل زبول أو بعل الأمير والسامي. صار بعل زبوب في الإنجيل أي أمير الشياطين (مت 24:12؛ 22:35؛ لو 15:11).
عقرون: مدينة من المُدُن الفلسطية الخمس، وقد عَرَفَتْ عبادة آلهة الكنعانيين.
يتحدّث النصّ عن ملاك الربّ في آ 3، 15؛ رج 1 مل 7:19، أما فيمَا عدا هذه الآيات، فالله يُكلّم إيليا مُباشرة (1 مل 13:19، 15)، أو هو يُرسل كلمته (1 مل 2:17، 8؛ 1:18؛ 9:19؛ 1 صم:7).
أخبر الرسل الملك، فعرف أنّ الذي تصدّى لهم هو إيليا التشبي. لقد جاء يذكّر الملك أنّ الله وحده إله إسرائيل، ولا إله سواه.
(آ 9-18) نقرأ هنا حدثًا مكتوبًا بشكل مدْراش: يُنزل إيليا النار من السماء على فرقتين من خمسين رجلاً فتقتلهم. ما هي دِقة هذا الحدث؟ هل وقعت الصاعقة على إحدى الأشجار، فأحرقتها وأحرقت من تحتها. ألأمر معقول. على كلّ حال، حاول الملك أن يستعمل القوة مع إيليا فم يفلح، لأن سُلطان إيليا من الله الذي يُهلك ويُخلّص. ممثل الله يُحتَرم ويكرَّم، وهذا ما تعلّمه أحزيا على حساب رجاله.
في العهد الجديد، سيطلب يعقوب ويوحنا أن تنزل نار من السماء، وتُعاقب السامريين الذين رفضوا أن يستقبلوا يسوع. أمّا هو فوبّخ وقال لهما: "لا تعلمان من أيّ روح أنتما. فابن الإنسان لم يأتِ ليُهلك نفوس الناس بل ليُخلّصها" ( لو 10 : 54 – 55 ) .

2- إيليا يُختطَف وأليشاع يُصبح نبيًا بعده (2: 1-25)

(آ 2: 1-13) إختطاف إيليا أعجب خبر في التوراة، وهدفه أن يُبيّن كيف صار أليشاع نبيًا، بعد أن كان خادم إيليا. وإختفاء إيليا مذكور في آية واحدة كاختطاف أحنوخ (تك 5: 24)، وصعود يسوع في آيتين (أع 1 :9- 10). صعد إيليا إلى السماء في العاصفة، تُرافقه مركبة ناريّة وخيول ناريّة. في بداية حياته كان إيليا لُغزًا، وفي نهاية حياته سيبقى لُغزًا بالنسبة إلينا، مع العِلْم أنّ الكاتب المُلهم لم يعتبر حدث اختطاف إيليا أمرًا رمزيًا بل واقعيًا وحقيقيًا.
ألجِلْجال (ألحلقة) هو غير الواقع بين أريحا والأردن (يش 4: 19)، بل في منطقة بيت إيل، وهو يبعُد عنها 12 كلم (ألجلة ألحاليّة).
قال إيليا لأليشاع: إبْقَ هنا، وكأنّه يُريد أن يُبعِدَهُ عن الحدث الذي سيتمّ، ولكنّ أليشاع لم يقبل، ورافق معلّمه حتى النهاية، وهو قَلِقٌ على مصيره.
وجاء بنو الأنبياء، فقد عرفوا أنّ إيليا "سيموت"، سيأخذه الربّ. ولكن سكتوا كلّهم. فمن يستطيع أن يقف بوجه الله؟ ثمّ إنّ أليشاع تظاهر بالجهل، ليستطيع مُرافقة معلّمه. وتتردد العبارات ذاتها، فتخلق شعورًا سريًا أمام تدخّل الله القريب، وحُزْنًا لساعة النفصال الآتية ولا محالة.
وعَبَر إيليا وأليشاع الأردن بطريقة عجيبة، وارتفع إيليا. وكان أليشاع الشاهد الوحيد للمُعجزة، فصار الوارث الروحيّ للذي طلب أن يراه وهو صاعد. ظلّ بنو الأنبياء بعيدًا، وقد خافوا خوفًا دينيًا. سيُشاهدون معجزة عبُور القدر، وظواهر طبيعية تُرافق الاختطاف، ولكنّهم لن يشهدوا الاختطاف.
ألعاصفة هي إطار لظهور الله (أي 38: 1؛ 40: 6؛ مز 50: 3). في حز 1: 4 نرى مركبة الله السرّية نازلة نحو النبيّ حزقيّال في العاصفة، وسنرى المركبة تحمل إيليا في العاصفة.
رداء إيليا رمز إلى شخصيّته، وهو ينتقل إلى خَلَفِه الذي يجترح المُعجزة ذاتها التي فعلها معلّمه. أمّا مُعجزة نهر الأردن، فيرويها الكاتب بطريقة عابرة.
طلب أليشاع من إيليا سهمين من روحه، أي حصّة الابن الأكبر في البيت، ولكنّ ما يطلبه لا يتعلّق بإيليا، بل بالربّ الذي يُعطي روح النبؤة لمن يشاء.
يا أبي، يا مركبة إسرائيل. أُعْطيَ أليشاع نعمة خاصّة، فرأى ما لا تستطيع الأعين البشرية أن تراه. في 6: 17 ألمركبات الناريّة تُمثّل قوّة الله التي تُرافق أليشاع. أمّا في هذا المقطع، فالمركبة الناريّة التي تُؤلّف وحدةً مع الهيكل، فهي تُعبّر عن قوّة الله التي تحمل إيليا. ألنار تُرافق ظهور الربّ، ومع ذلك لا يُحسّ أليشاع برهبة أمام الظهور الإلهيّ، ولا بَرَحِ العارف أنّ الربّ استجاب طلبته، بل يُحسّ بالحزن لأنّه فقد مُعلّمه. ولكي يُعبّر عن حزنه مزّق ثيابه. ثمّ ما حاجته إليها، بعد أن أخذ رداء مُعلّمه.
هذه العبارة التي هتف بها أليشاع، حين رأى إيليا يصعد، سيهتف بها يُوآش ملك إسرائيل مُتوجّهًا إلى أليشاع (13: 14). فإيليا وأليشاع، يقوله الترجوم، يُساويان أكثر من المركبات، للدفاع عن أرض الربّ. ولكن لا إيليا ولا أليشاع قادا هذه المركبات. يا أبي. إيليا هو أبو أليشاع الروحي، هذّبه وعلّمه، فصار كالحُكماء بالنسبة إلى تلاميذهم.
(آ 14-18) وأخذ أليشاع رداء إيليا، فظهر أمام الجميع أنّه خَلَفُهُ، وسيستعين بسُلطته في اجتراح المُعجزات، فتقول بعض التقاليد إنّ الذي طلب سهمين، سيجترح ضِعْفي العجائب التي اجترحها إيليا.
عاد أليشاع ومعه رداء إيليا، واجترح المعجزة ذاتها. ولكنّ جماعة الأنبياء الذين عرفوا روح النُبوّة في أليشاع، لم يقبلوا باختفاء إيليا، فراحوا يبحثون عنه، ولكن دون جدوى. فكان البُرهان على هذا الاختطاف الذي لم يشهده إلا أليشاع.
إختفى إيليا وظلّ مصيره سرًا لم يُفْصِحْ عنه أليشاع. لا يقول النصّ إنّ إيليا لا يموت. ولكنّ التقليد استنتج ذلك، واعتبر أنّه سيعود (ملا 23:3-24؛ سي 48: 10).
(آ 19-25) هنا تبدأ حقًا دورة أليشاع، وسوف تنتهي بموته في 13: 21. إجترح مُعجزتين. ألأولى: أصلح ماء المدينة، فلا يكون فيها موت لإنسان وجَدْبٌ . هذه العين التي اسمها اليوم عين السُلطان، قد دعاها المسيحيون عين أليشاع، وهي تبعُد 2 كلم عن أريحا الحاليّة.
ألمعجزة الأولى كانت للحياة، والمُعجزة الثانية ستكون للموت. هزأ صبيان بأليشاع وقالوا: يا أجلح. لعنهم أليشاع فخرجت دُبتّان عليهم. لا شكّ في أنّ العِقاب كان قاسيًا على هؤلاء الأولاد. أمّا يسوع فسيُبارك الأولاد ويقول: "دعوا الأطفال يأتوا إليّ، لا تمنعوهم، فلأمثال هؤلاء ملكوت الله " (مر 10 : 14-16).
نحن هنا في إطار التعليم الاشتراعي، حيث الخطيئة تلقى عِقابها سريعًا. ثمّ إنّ من يتعدّى على نبيّ الله، يُعتبر خاطئًا كالذي يتعدّى على شريعة الله. إذًا لا خلاص ولا أمان إلاّ بالخضوع لكلمة الله التي تصل إلى الشعب عبر الأنبياء.
وذهب أليشاع إلى الكرمل (2: 25؛ 4: 25) الذي تقدّس بحضور مُعلّمه (1 مل 18: 20-46)، فبدا وكأنّه يُتابع الطريق الذي نهجه إيليا، ولكن لا في العُزلة بل في السامرة بالذات.
3- يُورام ملك إسرائيل (3: 1-27)

(آ 3: 1-3) يُورام (أخو أحزيا وثاني أولاد آحاب)، هو آخر ملك في سُلالة عمري، وسيذكر الكتاب موته في 9: 24. أفرد له الكاتب فسحة واسعة في الكتاب، لأنّه أقحم في عهده أخبار أليشاع النبي.
كان أبوه وأمه من العبّاد المُتحمّسين لبعل (1 مل 22: 41).
(آ 4-8) إنّ خبر حملة يُورام على ميشع ملك موآب، يُشبه خبر حملة آحاب ويوشافاط على راموت جلعاد في 1 مل 22. جُعِل هنا بسبب دور أليشاع فيه. ولكن يبدو أنّ الحَدَث حصل في أيّام آحاب الذي كان قويًا لا في أيّام يُورام.
ميشع ملك موَآب معروف بنُصُب تذكاريّ، اكتشفه مرسل أميركي في ديبون، وهو يروي انتصارات ميشع على إسرائيل، بعد أن خضع لعمري وآحاب أيامًا طويلة. هذا النُصُب موجود اليوم في متحف اللُوفر بباريس.
(آ 9- 20) وانطلق ملك إسرائيل (يُورام) وملك يهوذا (يوشافاط) وملك أدوم، وداروا حول موآب في أرض أدوم، تخلّصا من القِلاع الحصينة المُسيطرة على وادي الأردن. توجّهوا أولاً نحو الجنوب، ثمّ داروا تجاه العَرَبة (منطقة بحر الميّت). ولكنّ الأرض قاحلة لا ماء فيها.
وتصرّف يوشافاط كعادة ملوك ذلك الزمان: آمَا من نبيّ نسأل الربّ به (رج 1 مل 7:22)؟ هُناك أليشاع، ولكنّه لن يُجيب إلى سؤال ملك إسرائيل، بل لن يميل بنظره إليه لولا وجود ملك يهوذا. نُلاحظ هنا أنّ النبيّ أكبر من الملك في أرض إسرائيل.
"ربّ الجنود" (يهوه صباؤت) هي عبارة تدلّ على أنّ يهوه ليس فقط سيّد جيش إسرائيل، وليس فقط إله حرب بل سيّد الكواكب وقوَى السماء، وكلّ قِوى الكون تخدُمه وتُحارب لأجله.
وطلب أليشاع من يضرب له بالعود. هذه ممارسة تُساعد على الوحي النبويّ (1 صم10: 5-6). ولكنّ الله يُمكنه أن يستغني عن كلّ هذه الوسائل البشريّة. وبعد هذا طلب النبيّ من الملوك أن يحفروا في الأرض فيجدوا ماء. وهكذا كان.
(آ 31-27) وهجم المُوآبيون على الجيوش المتحالفة، فانهزموا إلى مُدُنهم، فتبعهم جيش يهوذا وإسرائيل ومُوآب، ودمروا المُدُن وقطعوا الأشجار (امر ممنوع في الشريعة رج تث 19:20-20).
قير حراست (اش 16: 7) أو قير حارس (اش 16: 11 ؛ ار 48: 31، 36) او قير موآب (اش 15: 1) هي الكرك الحالية في شرقيّ الأردن، وكانت في ذلك الزمان عاصمة مُوآب.
حاول ملك موآب أن يهرب نحو ملك آرام (لا أدوم) حليفه الطبيعي ضدّ إسرائيل، فلم يقدر، فقدّم ابنه على السور ذبيحة للإله كموش، لعلّ المُحاصرين يخافون غضب إله موآب. نشير ونشير أيضًا إلى أنّ بني إسرائيل لم ينجوا من عادة ذبح أولادهم (قض 11: 39، بنت يفتاح؛ 2 مل 3:16، إبن آحاز؛ رج يش 6: 26؛ 1 مل 16: 34؛ ي 7:6).
4- بعض مُعجزات أليشاع (4: 1-44)

(آ 4: 1-7) ألزيت للأرملة. هذه المُعجزة تذكّرنا بما فعله إيليا من أجل الأرملة وابنها (1 مل 8:17-16). أمّا هدف الكاتب فهو أن يُبيّن أنّ أليشاع هو الخَلَف الحقيقي لإيليا. لقد منحه الله القُدرة نفسها، وهو يستعملها بطريقة معلّمه نفسها. ويعلّمنا الخبر أيضًا أنّ على المؤمنين أن يبحثوا عن العون عند يهوه لا عند بعل. إنّ هذه المِعجزة تبدو قريبة من الأسطورة، إلاّ أنّها تُبيّن أنّ الله لا يسمح أن يتعذّب الأبرياء. هذا هو التعليم الاشتراعي.
لا تستطيع المرأة أن تدفع الدين. إذًا يُصبح ابناها عبدين (خر 31: 2-3 ؛ نح 5: 1- 5). لهذا استغاثت المرأة بأليشاع. فأمرَها بأن تصبّ الزيت في الأواني فتمتلىء، وهكذا كان. فباعت الزيت وَوَفَت الدين.
تمّت المُعجزة في سريّة تامة، فلم يعرف بها إلاّ أهل البيت. آمَا هكذا صنع يسوع حين شفى الأعمى، وأمره أن لا يدخل حتّى القرية (مر 26:8)؟
(آ 8-37) أليشاع والشونمية. نجد هنا خبرًا يُشبه ما فعله إيليا عند أرملة صرفت صيدا التي أقام لها ابنها (1 مل 17: 17-24). أجل، ألله اختار أليشاع ليَخْلُف إيليا ويُتابع عمله. ألله يحمل البركة والحياة لا البعل، ثم إنّ إكرام الأنبياء والخضوع لتعاليمهم، هو ما يُريده الربّ من شعبه.
مرّ أليشاع في شونم وتعرّف إلى امرأة غنية، فبنت له علّية وكان يختلي فيها للصلاة (آ 8-10). شونم (يش 98:19 ؛ 1 صم 4:28؛ 1 مل 1 :3، 15؛ يش 7: 1) هي في يساكر، وتبعد 12 كلم إلى الشمال الغربيّ من جبل الجلبوع.
وأراد أليشاع أن يني دينه لهذه المرأة فدعاها، ولمّا عرف أنّها عاقر وعدها بولد. وهكذا جاءها الولد في الوقت المحدّد (آ 11-17). وكبر الولد. ولكن في يوم من الأيام مرض فأشرف على الموت، فذهبت الشونمية إلى جبل الكرمل حيث كان رجل الله (آ 18 - 25)، وشكت له همّها: لماذا أعطيتني ولدًا؟ لماذا خدعتني (آ 26- 28)؟ أرسل أليشع جيحزي ثمّ تبعه، ولمّا وصل إلى البيت، كان الصبيّ قد مات (آ 29- 32).
وهنا (آ 33-37) نرى أنّ أليشاع لم يتمدّد على الصبي كما فعل إيليا (1 مل 17: 19-24)، بل ركع وصلّى لا ثلاث مرّات بل سبع مرّات. إيليا حمل الصبي إلى أمّه، أما أليشاع فنادى الشونمية وقال لها: خُذي ابنك.
(آ 38- 41) ألطبيخ المُضرّ. مع مُعجزة إصلاح الطبيخ وتكثير الخبز (آ 42- 44)، ندخل مع أليشاع في جماعة الأنبياء: ألمعلّم يُعلّم تلاميذه (وعددهم مئة تقريبًا) الجالسين أمامه، وهم يُهيّئون الطعام. ولكنّ الحَنْظل الذي وضعوه في الطبيخ جلب المرض للجماعة. فخافوا وصرخوا إلى رجل الله: الموت في القِدْر يا رجل الله. وكما سبق له فنزع الموت من مياه أريحا (2: 19- 22)، هكذا أصلح الطعام إذ جعل فيه الدقيق، فأزال منه الموت.
هذا مثل من الأساطير التي ارتبطت بشخص أليشاع كرئيس الانبياء، وهو يُصوّر النبيّ كمُجترح مُعجزات لخير تُبّاعه.
آ 42-44 تكثير الخبز. وجاء رجل من بعل شليشة، وحمل خبزًا من الشعير إلى جماعة الأنبياء. ولكنّه لا يكفي الجماعة كلّها (يو 9:6). قال أليشاع: أَعْطِ القوم ليأكلوا. فأكلوا وفضل عنهم. هنا نذكر مُعجزة تكثير الخبز في مر 35:6-44؛ 8: 1-8، ونلاحظ الوفرة في العطاء: فأكلوا كلّهم حتى شبعوا (مر 6: 43)، ثم رفعوا مما فضل من الكِسَر سبع سِلال (مر 8:8). وقال يوحنا في إنجيله (يو 13:6): "فجمعوا الكِسَرَ وملاؤا اثنتي عشرة قُفّة من الكِسَر التي فضلت عن الآكلين من خمس أرغفة شعير".
أجل، ألله هو من يُؤمّن وفرةً من الخبز لشعبه، لا البَعْل.
5- نعمان السرياني (5: 1-27)

بطلان في هذه المعجزة: نعمان الأبرص وأليشاع النبي الذي يُقيم في السامرة. أمّا ملك آرام (بدد الثاني) وملك إسرائيل (يُورام) فلا يذكر النصّ اسميهما. كُتِبَ الخبر لمجد الله. أمّا جيحزي الذي يتصرّف بداء من طمعه، فسيُعاقَب وينتقل إليه برص نعمان.
يهوه ليس فقط إلهًا في كنعان، بل وفي الأرض كلّها، وعلى الناس جميعًا أن يلتمسوا منه العون والشفاء. هناك أخبار عديدة تدفع بني إسرائيل إلى الخوف من الغُرباء، والتعبير عن بُغضهم لهم (1 مل 17:18-40). أمّا هذا الخبر فهو يُبدّل نظرتنا، وهو يلتقي بتعليم أشعيا (ف 40-55) ويونان الذي يعتبر أنّ الله يهتمّ بكلّ إنسان. أجل، ليس الإسرائيلي وحده مخلوق على صورة الله (تك 27:2)، بل كلّ إنسان.
(آ 5: 1-7) وأصاب نعمان البرص، كيف الشفاء منه؟ أسيرة إسرائيلية في بيته أخبرته عن أليشاع، وهمّها ان يُشفى سيّدها، وفَخْرها أنّها من شعب أليشاع. حمل نعمان رسائل من ملك آرام المنتصر (آ 1) والمُتشامخ إلى ملك إسرائيل. خاف هذا الأخير أن يكون ملك آرام يحاول أن يستدرجه إلى الحرب: هل أنا إله لأُميت وأُحيي؟
(آ 8-14) عرف أليشاع بالأمر، فأمر ملك إسرائيل أن يُرسل إليه نعمان. فجاء نعمان بأبّهة عظيمة، ولكن لم يَرضَ أليشاع بهذا المنظر، فم يذهب لاستقباله بل أرسل رسولاً يقول له: إذهب واغتسل في الأردن سبع مرّات فتطهر. رفض نعمان أن يعمل بما أمره النبيّ. إنتظر أن يتدخّل النبيّ بطريقة يُشاهدها الجميع، فيدلّ على قدر الآتي إليه، ويتصرّف كالشفَّائين هنا وهناك. ولكنّ رجاله أقنعوه، فاغتسل فطَهُرَ.
أبانة هو نهر بردى الذي ينبع في سلسلة جبال لبنان الشرقية. فرفر هو نهر العوج الذي يجري من جبل حرمون، ويسيل جنوبي دمشق.
(آ 15-19) وعاد نعمان إلى أليشاع ليشكره ويقدّم له هدية، فلم يقبل النبيّ. نُلاحظ ثلاثة أمور عند نعمان. أولاً: هو يشهد لله: ألآن علمت أنْ ليس في الأرض كلّها إله إلا في إسرائيل. ثانيًا: عزم نعمان أن لا يُقدّم ذبيحة إلا على أرض نقيّة، هي أرض إله إسرائيل (رج عا 17:7؛ هو 3:9-4)، ولهذا أخذ معه حِمْلَ بغلين من التراب. ثالثًا: هو مُجبر على مرافقة سيّده الملك إلى معبد رمون (أحد أسماء الإله هدد، إله الرعد والشتاء، رج زك 12: 11؛ في 1 مل 18:15 نقرأ طبرمون: ما أطيب الإله رمون). يعذره أليشاع لهذه الحركة الخارجية التي يقوم بها، فيدلّ لا على تعصّب بل على تسامح ديني، قلمّا نجد مثله في التوراة.
(آ 20-24) ولكنّ جيحزي يعرف أن يكذب بسهولة. جرى وراء نعمان وطلب بالحيلة قنطارًا من الفضّة، وثوبين لمعلّمه الذي وفد عليه اثنان من جماعة الأنبياء.
(آ 25-27) وخبّأ جيحزي ما أعطاه نعمان، ولكنّ أليشاع رأى كلّ شيء وعاقب جيحزي: برص نعمان يَعْلَقُ بك.

مُلاحظات (نهر الأردنّ- النبيّ أليشاع)
أولاً: نقرأ في الليتورجيا الحبشية الصلاة التالية: أنت أيّها الربّ، في زمن يشوع بن نون أرجعت أمواج الأردن القوية إلى الوراء، فمن يُقاوم نظرك؟ أعطيت علامة أنّك قَبِلْتَ ذبيحة إيليا في الماء، فأرسلت عليها نارًا من السماء. دللت بواسطة أليشاع على مياه الولادة والحياة، فجعلت نعمان يُطهّر بمياه الأردن. أنت تستطيع كلّ شيء، ولا شيء يستحيل عليك. أعْطِ هذه المياه عطيّة الأردن العظيمة، وليَحُلّ عليها الروح القدس.
توقف آباء الكنيسة عند رموز المعمودية، حين قرأوا دورة إيليا ودورة أليشاع وعلاقة أعمالهما بنهر الأردن. فغريغوريوس النيصي ألقى عظة عن العماد يوم عيد الغطاس، فذكر يشوع وإيليا وأليشاع، وهكذا فعل أوريجانس في شرحه لإنجيل القديس يوحنا. وسيورد أمبروسيوس موضوع نعمان، ويزيد عليه مُعجزة الفأس التي عامت على المياه (6: 1ي).
ثانيًا: يشوع هو صورة عن المسيح. دخل أرض الميعاد مثل يسوع المسيح. قال كيرلس الأورشليمي: يُقدّم يشوع بن نون في كثير من الأمور نموذجًا عن المسيح. فمن الأردن بدأ يُمارس سُلطانه على الشعب، لهذا فالمسيح بعد أن تعمّد بدأ حياته العلنية. ابن نون أقام 12 رجلاً ليقسموا الميراث، ويسوع أرسل إلى العالم كلّه 12 رسولاً يُعلنون الحقيقة. الذي هو الصورة خلّص راحاب الزانية لأنها آمنت، والذي هو الحقيقة قال: ألعشّارون والزُناة يسبقونكم إلى ملكوت الله. أسوار أريحا سقطت على صوت الأبواق في زمن النموذج، وبسبب كلمة يسوع لن يبقى من هيكل أورشليم حجر على حجر، بل يسقط كلّه أمامنا.
وعبُور الأردن يمثّل أيضًا العماد المسيحي. لنسمع غريغوريوس النيصي: أيّها المؤمن لقد تمرّغت في الوحل، أسرع نحو الأردن لا بناءً على نداء يوحنا بل على صوت المسيح. فنهر النعمة يسيل في كلّ مكان. ليست منابعه التي تخرج من فلسطين لتختفي في البحر القريب، ولكنّه يُغطي الأرض كلّها ويَصُبّ في الفردوس. يجري عكس الأنهار الأربعة التي تجري من الفردوس فتحمل معها الأطياب والزرع وخِصْب الأرض. أمّا الأردن فيحمل أناسًا وُلدوا بالروح القدس. إقْتدِ أيّها المُؤمن بيشوع بن نون، إحْمِل الإنجيل كما حمل تابوت العهد. أترك البرّية أي الخطيئة، واعبرُ الأردن، أسرع نحو الحياة بحسب المسيح، نحو الأرض التي تحمل ثمار الفرح والتي فيها يجري اللبن والعسل. إقلب أريحا، ألعادة الذميمة، ولا تتركها محصّنة. كلّ هذه رموز لحقائقَ حاضرة أمامنا الآن.
ثالثاً: ويقابل الآباء بين نار السماء تنزل على محرقة إيليا (1 مل 18: 1-40) والعماد. يقول غريغوريوس النيصي: هذه الذبيحة العجيبة والتي تفوق كلّ عقل، ذبيحة إيليا التشبي، ليست إلاّ نبؤة عمليّة للإيمان بالآب والابن والروح القدس، وبالفداء. ويُتابع غريغوريوس بعد أن يذكر تفاصيل الحدث: بهذا كان إيليا يتنبأ مُسْبقًا عن سرّ المعمودية الذي سيُؤسسَّ في ما بعد. نزلت النار من السماء على الماء الذي سكبه إيليا ثلاث مرّات، فدلّت أنّه حيث يكون الماء السرّي، هناك يكون الروح المُحيى والمتعدّد والمشتعل، الذي يُحرق الكفار ويُضيء على المؤمنين.
هذا التقليد هو قديم، وقد ذكره يُوستينوس نقلاً عن الدياطسرون: حين نزل يسوع في الماء اشتعلت النار في لأردن، وحين صعد من الماء حلّ عليه الروح القدس بشكل حمامة. ويُقابل اوريجانس بين عبور إيليا للأردن قبل اختطافه وبين المعمودية، فيقول: نُلاحظ أيضًا أنّ إيليا، وقد حان الوقت أن يُختطف إلى السماء في العاصفة، أخذ رداءه ونشره وضرب به المياه، فانفتحت أمامه وأمام أليشاع فعبرا. وهكذا صار إيليا اهلاً لأن يُختطَف بعد أن تعمّد في الأردن. أمّا سمّى بولس الرسول العماد عُبُورًا عجيبًا في الماء؟ أجل، إنّ صعود إيليا بعد الأردن، يرمز إلى صعود المسيح بعد عبور الموت.
رابعا: ونتوقّف عند شخص أليشاع. فنذكر أولاً قِصّة الفأس العائمة على الماء (6: 1-7). هنا يتقارب الماء من الخشب فيدّلان على سرّ العماد، حيث الماء يفْعَلُ بقوّة خشبة الصليب. نحن نقرأ في برنابا المُنتحل: رمى أليشاع قطعة من الخشب في مجرى الأردن، فاصطاد حديد الفأس الذي استعمله بنو الأنبياء لبناء بيتهم. وهكذا جلبَنا مسيحنا إلى عماد الخطايا الثقيلة بصلبه على الخشبة وبالعماد في الماء.
ويقول ديديموس: بأليشاع رجل الله الذي يسأل اين سقطت الفأس، ندلّ على الله الذي جاء بين البشر وسأل آدم: أين أنت؟. بالحديد الساقط في الهُوّة المظلمة ندلّ على قوة الطبيعة البشرية التي سقطت من عالم النور، وبالخشب المرمي حيث الفأس الضائعة، نرمز إلى الصليب المجيد. ألأردن هو المعمودية الخالدة. إنّ الذي صنع الأردن تنازل وتعمّد في الأردن من أجلنا. والحديد الذي عام على الماء، ورجع إلى الذي أضاعه، يُشير أنّنا نصعد بالمعمودية إلى مستوى سماوي، فنجد من جديد النعمة القديمة والموطن الحقيقي.
أمّا مُعجزة نعمان السرياني، فنقرأها عند أوريجانس وغريغوريوس النيصي وغيرهما، ونُلاحظ أنّ العلامة البارزة هي التنقية والتطهير. فكما أنّ مياه الجسد تغسل الأوساخ، كذلك الاستحمام المقدّس يطهّر بقوة الله. هذه القوة التي تفعل في مرض الجسم، تفعل أيضًا في نفس المُعَمَّد.
قال أوريجانس: لم يطهر أحد إلا نعمان السرياني (لو 27:4) الذي لم يكن في إسرائيل. انظر الذين اغتسلوا بأليشاع الروحي الذي هو ربّنا ومخلّصنا. لقد تطهروا في سرّ العماد من قذارة الحَرْف. إليكَ يُقال: إنْهض، إذهب إلى الأردن واغتسل فيتجدّد لحمك. قام نعمان وذهب، ولمّا اغتسل كملّ رسم العماد. صار لحمه كلحم طفل. من هو هذا الطفل؟ هو الذي وُلدَ في غَسْلِ الميلاد الجديد.
ويُشدّد ديديموس على أمرين. كان نعمان أجنبيًا، وهذا ما يدلي على شُموليّة العماد. ثمّ إنّ التغطيس سبع مرّات، يُلَمّح إلى الروح القدس بمواهبه السبع. أمّا غريغوريوس النيصي، فيُشدّد على دور الأردن. حين أرسل أليشاع نعمان الأبرص ليغتسل في الأردن طَهُرَ من مرضه. فهو يُلفت أنظارنا إلى المستقبل، باستعمال الماء وبعِمَاد النهر. فالأردن وحده بين الأنهر، إقتبل في مائه بواكير التقديس والبركة، فأفاض، كما من نَبعْ، على العالم كلّه نعمة العماد. وقال أمبروسيوس: ألشعب المؤلّف من أغراب، كان مُبتلى بالبرص قبل أن يتعمّد في النهر السريّ، فتطهّر من قذارات النفس والجسد بعد سرّ العماد. في صورة نعمان نرى الخلاص العتيد مُعلنًا على الأمم. لماذا أمره النبيّ أن يغتسل سبع مرّات، وهذا عدد سري؟ لماذا اختار الأردن؟ هو تَعرَّفٌ إلى العماد الخلاصيّ.
6- ألحرب بين الآراميين والإسرائيليين (6: 1-7: 20)

(آ 6: 1-7) ألفأس العائمة. هذا الخبر يُشبه ما قرأناه في 2: 19-22 (إصلاح مياه أريحا)، وفي 4: 38- 41 (إصلاح الطبيخ). هناك فوضى حاضرة، وأليشاع يضع لها حدًّا بممارسة لا تحمل فاعليّتها في ذاتها، بل في الله الذي يُعطي القوة لنبيّه.
كثرت جماعة الأنبياء، ولا بدّ من مكان يتسع لعددهم الكبير، فاختارو منطقة الأردن. أخذوا يقطعون الخشب. أفلت الحديد من مسكة الفأس وسقط في الماء. إستغاثوا بأليشاع، فاستعاد ما سقط في الماء.
هذا النوع من الخبر العجائبي، معروف عند القوّاد الروحيين. ولكن ما تتميز به أعمال أليشاع، هي أنّها أعمال رحمة في خدمة الشعب.
(آ 8-23) وضرب أليشاع الآراميين بالعمى... هنا يبدأ دور أليشاع السياسيّ الذي بدأه في 3: 11-19، مع حملة ميشع ملك مُوآب. من هم الملوك المذكورون هنا؟ بنهدد الثاني أو الثالث، يُورام، ياهو أو يوآحاز... وهذه الحرب هي سلسلة من المُناوشات، وليست حربًا بكلّ معنى الكلمة.
بما أنّ أليشاع يُفشي أسرار الآراميين، سيُمسك الآراميون أليشاع. عرفوا أنّه في دوتان التي تبعُد 15 كله إلى الشمال من السامرة، فأحاطوا بالمدينة. خاف الخادم، ولكنّ أليشاع لم يخف. قال: الذين معنا هم أكثر من الذين معهم... ثم ضربهم الله بالعمى، فقادهم أليشاع إلى السامرة. ولكن طلب أليشاع إلى الملك، أن يُطعمهم ويسقيهم، ويردّهم إلى سيّدهم، ففعل.
قال أليشاع: إذا كنت لا تقتل أسير الحرب، فكيف تقتل الذين استسلموا؟ هذا يعني أنّ القتل لم يكن القاعدة العامة في هذه الحروب بين الممالك المُجاورة. لقد قال ملك آرام: ملوك إسرائيل ملوك رحماء... نخرج إلى ملك إسرائيل وهو يعفو عنا (1 مل 20: 31). وهذا ما حصل.
(آ 24- 31) وحاصر بنهدد السامرة، ودبّت المجاعة في المدينة، بحيث أكلت بعض النساء أولادهن. غضب الملك على أليشاع لأنّه، على ما يبدو، دفعه إلى مقاومة ملك آرام، ووعده بعون من الله. ولكنّ هذا العون تأخّر.
(آ 32-33) وأرسل ملك السامرة رجلاً ليقتل أليشاع، ثمّ تبعه وقال: إنّ هذا الشرّ من الربّ، فماذا أنتظر منه بعد؟
(آ 7: 1-2) وشجعّ أليشاع الملك. غدًا تتبدّل الأمور. ولكنّ مُرافق الملك لم يُصدّق. قال له أليشاع: سيكون هذا، ولكن لن تراه بعينيك. وفي الواقع مات مُرافق الملك، ساعة خرج أهل المدينة لسَلْب مُخيّم الآراميين (آ 17).
(آ 3- 20) واكتشف رجال برص أنّ مُخيّم الآراميين أُخْليَ، فأكلوا وشربوا وسلبوا، ثمّ أخبروا الملك، فخرج الناس وجمعوا خيرًا كثيرًا.
7- ألشونمية تستعيد بيتها وكلّ مالها (8: 1-29)

(آ 8: 1-2) ونعود إلى ف 4 مع الشونمية. قال لها أليشاع: سيكون جوع يدوم سَبعْ سنين. فذهبت المرأة (وقد تكون ترملّت) وعيالها إلى بلاد الفلسطيين، وأقامت هناك.
(آ 3) وعادت المرأة، فوجدت أن أناسًا أخذوا أرضها وحقلها، فجاءت تستغيث بالملك.
(آ 4- 5) كان جيحزي يروي للملك كيف أقام أليشاع ابن المرأة الشونمية، وحين وصلت قال جيحزي: هذه هي المرأة التي أحدّثك عنها.
لا ننسى أن جيحزي أَبتُلي بالبَرَص (27:5)، فكيف يستطيع أن يحضر أمام الملك؟ إذًا هذا الحَدَث سابق لشفاء نعمان السرياني (5: 1-27).
( آ 6) سأل الملك المرأة فأخبرته، فأرسل معها واحدًا من رجاله، فردّ لها بيتها وحقلها. هكذا يُجازي النبيّ تلك التي أحسنت إليه: أعطاها ولدًا، أقامه لها حين مات، وها هو يردّ إليها بيتها وحقلها حتى بعد موته. ألبَرَكة ترافق المرأة التي خافت رجل الله.
(آ 7-15) ونعود إلى آرام. جاء أليشاع إلى دمشق. أرسل بنهدد حزائيل يسأله إن كان الملك يُشفى من مرضه، فأجاب النبيّ: نعم. ثم زاد: الرب أراني انه سيموت موتًا... كان فكره مشغولاً على شعبه الذي سيتألّم من الآراميين. بكى أليشاع بسبب الشرور التي سيصنعها ملك آرام ببني إسرائيل.
عاد حزائيل وأخبر الملك أنّه يشفى، ولكنّه أخذ غطاء وبلّه بالماء وخنقه وملك مكانه. تنبأ له أليشاع أنّه سيكون ملك آرام، وهكذا كان.
(آ 16- 24) يُورام ملك يهوذا. ونترك أليشاع ونعود إلى خبر الملوك، بعد أن تركناهم في 3: 1.
تزوج يُورام ابنة آحاب، فعلّمته الشرّ. ولكنّ الرب ما أراد أن يُفني يهوذا بسبب داود. تمرّد عليه الأدوميون، فحاول إرجاعهم إلى طاعته، ولكنّه هُزم فعاد إلى بلاده.
صاعير أو صوعر (تك 13: 10؛ 19: 22، 23؛ اش 15: 5) تقع جنوبيّ البحر الميّت في شرقيّ الأردن. لبنة (8:19؛ يش 10: 29؛ 12: 15) تقع في الجنوب الغربيّ لمملكة يهوذا (حاليًا تلّ الصافية).
(آ 25-29) أحزيا ملك يهوذا. إسم أمّه عثليا. سار على خُطى أمّه وجدّه آحاب، فصنع الشرّ في نظر الرب. لهذا لم يملك إلا سنة واحدة، وسيقتله ياهو لأنّه من نسل آحاب.
تحالف أحزيا مع يُورام ملك إسرائيل ليُحارب آرام. وجُرح يُورام، فذهب أحزيا يعوده في مرضه حين قام ياهو بثورته الدامية.
8- ياهو، ملك إسرائيل (9: 1- 10: 36)

وبدأ ياهو حياته السياسية (بعد أن مسحه أليشاع)، فدمّر بيت آحاب. قام بعمله بسرعة ومنهجية، فلم يرفّ له جفن. قتل دون شفقة أفراد السُلالة الملكية الملعونة وعباد البَعْل، وسهر لئلا يُفلَتَ أحد من يده فما تقزز من رائحة الدم. وروى المؤرخ قِصّته وكال له المديح (10: 30). أمّا هوشع فسيكون قاسيَا على ياهو بسبب الدماء التي سفكها في يزرعيل (هو 1 :4).
إنّ مقتل يُورام ملك إسرائيل، وأحزيا ملك يهوذا على يد ياهو، قائد جيش إسرائيل، قد تمّ بإيحاء من أليشاع، فكان مُنْعَطَفًا هامًا في حياة المملكتين. مات ملكا يهوذا وإسرائيل، فانتهى بهما بيت عمري (وآحاب) الذي اتبع سياسة التعاهُد مع ملوك فينيقيا وتأثّر بعباداتهم الدينية. أمّا إيليا وأليشاع فاعتبرا هذه السياسة مُدمّرة للطابع الديني في أرض إسرائيل، فعارضا هذه المُعاهدة وجعلا نفسيهما عدوين لعمري وآحاب. وشجعّ أليشاع ياهو على القيام بثورته. ولكن هل حَسِبَ حساب الدم الذي سيجري؟ تصرّف ياهو كخائن ضدّ مَلِكه، ولكنّ السَنَد الذي وجده في أليشاع، جعله يُقْدِم على عمله مدفوعًا بالروح الوطنية لا بالطموح الشخصيّ. هل ستأخذ يهوذا وإسرائيل خطًا جديدًا في السياسة والدين، أم ستعودان إلى المُثُل التقليدية القديمة التي رمى بها جانبًا عمري وآحاب. وقف إيليا وأليشاع مع المُثُل القديمة فكانت الثورة.
أيّ نجاح كان لهذه الثورة؟ لم يفترق ياهو إلاّ قليلاً عن الملكين اللذين أطاح بهما. لا شكّ في أنّ الثورة كانت في نظر المؤرخ الاشتراعي، محاولة للرجوع بالشعب إلى دعوته الحقيقية. فاللَه أبرز في هذه الأحداث التي جرت على يد ياهو، أنّه لا يسمح لشعبه أن يبتعد عن إخلاصه له، ولهذا فهو يُبْعِدُ عنه كلّ ما يُضلّله. أرسل الأنبياء ليؤثروا على الملك وعلى الشعب، وردّهم بواسطة ياهو إلى ولائهم السابق. ولكنّهم عادوا إلى شرّهم. لهذا سيسمح لجيوش العدو أن تُدمّر المملكتين يهوذا وإسرائيل.
(آ 9: 1-13) ياهو يُمسح ويُعلَن ملكًا. إذا عدنا إلى 1 مل 16:19، نعرف أنّ الربّ أمر إيليا أن يمسح ياهو ملكًا. ولكنّ تلميذ أليشاع هو الذي مسحِ ياهو ملكًا. غير أنّ الكاتب أراد أن يربط ثورة ياهو بشخص إيليا، ليُعطيها ثِقَلاً ووزنَا.
كان ياهو يُحارب في راموت جلعاد مع جيش تركه الملك بسبب جروحه. فاستفاد من غياب الملك، ليقوم بثورة ويستولى على الحُكْم. وصل عمري إلى الحُكْم بقوّة السلاح، وها حفيده يُورام يُعْزَلُ بقوّة السلاح.
ياهو أو يهوه هو الإله الحقيقيّ، جاء من عائلة تتبع مُثُلاً قريبة من مُثُل أليشاع. ولكنّه لم يعمل كثيرًا من أجل هذه المُثُل، فبان أنّه تطلعّ إلى الحُكْم من أجل طموح شخصيّ.
مسح صموئيل شاولَ ثمّ داودَ ملكًا، والمَسْح يكفل النجاح ويؤمّن القوة التي يحتاج إليها ياهو. ألمَسْح يعني أنّ روح الربّ جاء فحلّ على رجل فقوّاه، ومنحه مواهب ضرورية تساعده على الإمساك بمقاليد الحُكْم.
من المعقول أنّ النبيّ الشاب الذي أرسله أليشاع، لم يَقُل الخُطْبة الصغيرة التي نقرأها في آ 7- 10، فهذه الخُطبة زيدت هنا، فرددت تهديدات قِيلت سابقًا.
وما إن عرف القواد المحيطون بياهو بالأمر حتى هتفوا: يحيا الملك ياهو.
(آ 14-28) وقتل ياهو ملكي يهوذا وإسرائيل... جاء إلى يزرعيل حيث كان يُورام... جاء الملكان للقائه ولمّا سألاه: هل الأمور على ما يُرام، أجاب: كيف تسير على ما يُرام وأمّك إيزابيل ملأت الدنيا بفُجُورها. عرف الملكان بالخيانة. حاول يُورام أن يهرب، فأصابه ياهو بسَهْم، ومِثْلُه فعل أحزيا فقتل أيضًا. ثم قتل ياهو ايزابيل وتركها هناك، ولمّا جاؤوا ليدفنوها رأوا أنّ الكلاب أكلتها، فتمّ فيها قول النبيّ إيليا.
أجل، إختار الله ياهو ومسحه، فلم يلق صعوبة لاستلام مقاليد الحُكْم.
(آ 10: 1- 11) وقتل ياهو أبناء الملك آحاب ورجال حاشيته... جاء إلى السامرة وهدّد أهلها، فقطعوا رؤوس أبناء الملك وأرسلوها إليه. وهكذا تمّ العقاب بعائلة آحاب الذي أبعد بني إسرائيل عن إخلاصهم لربّهم. عند تبديل السُلالة، يبدو قَتْل أفراد العائلة الحاكمة أمرًا عاديًا (1 مل 15: 29؛ 16: 11-12؛ 2 مل 11: 1)، وسيقوم ياهو بهذا العمل على أكمل وجه.
ألعدد سبعون لا يدلّ على الدقّة، بل على العدد الكامل (7 × 10). كان أبناء يعقوب في مصر سبعين (تك 27:46)، وكان أبناء جدعون سبعين (قض 30:8).
(آ 12- 14) وقتل ياهو أيضًا إخوة أحزيا ملك يهوذا، وقد جاؤوا ليعودوا يُورام في مرضه.
بيت مجتمع الرعاة يبعُد 5 كلم إلى الشرق من جنين (بيت البُستان 27:9).
(آ 15-27) وأزال ياهو عبادة البَعْل من السامرة. بدأ أولاً فقضى على ما تبقّى من نَسل آحاب في السامرة (آ 15-17). يوناداب بن ريكاب هو مؤسس شيعة تُريد أن تعود ببني إسرائيل إلى حياة الصحراء. ثمّ دعا ياهو أنبياء البعل وتبّاعه وكُهّانه إلى ذبيحة. فلمّا اجتمعوا أمر رجاله أن يقتلوهم ففعلوا.
(آ 28-34) وهنا يُعطي الكاتب حكمه على ياهو. حين صار ملكًا خفّ حماسه لخدمة الرب، وقلّت شجاعته فما عرف أن يدافع عن البلاد.
أزال ياهو البعل، ولكن سار على خُطى يربعام. لهذا عاقبه الله فأرسل عليه حزائيل... وهكذا خسرت مملكة إسرائيل كلّ شرقي الأردن... وتروي حوليات شلمنصّر الثالث أنّ ياهو دفع له الجزية، حين جاء في حملة على دمشق سنة 842.

ج- ملاحظات حول الأنبياء
1- ذكرنا الأنبياء وسنذكرهم، ولا ننسى دورهم في الكتاب. هناك أربعة وجوه أنبياء: أحيا، إيليا، أليشاع، أشعيا، وهناك وجوه أخرى مزروعة في أماكن مختلفة من الكتاب. أمّا أقوالهم فهي من ثلاثة أنواع. الأوّل: أقوال متعلّقة بمستقبل سُلالة ملكية (29:11-39؛ 14: 1-18؛ 16: 1-4؛ 21: 1-29)، ومتأثرة بتعليم سِفْر التثنية. الثاني: أقوال ترتبط بأخبار مفصّلة، يتدخّل النبيّ بواسطتها في الحياة العامة: أقوال للملوك في إطار حربي (20: 1-43؛ 2 مل 3: 4-7: يُعطي النبيّ أوامر ويُعلن قولاً خلاصيًا) لا تتأثّر هذه الأقوال إلا قليلاً باللاهوت الاشتراعي. الثالث: أخبار شعبية تتعلّق بحياة الأنبياء (17: 2-24؛ 3:19- 21؛ 2 مل 2: 1-25؛ 4: 1-44)، فلا تتأثّر إطلاقًا بسِفْر التثنية.
2- ما هي علاقة الملك بالنبي؟ نلاحظ أولاً أنّ كلمة ملك ترد 400 مرة في كتاب الملوك، بينما لا ترد كلمة نبي إلاّ 79 مرّة (منها 43 بصيغة المفرد، 36 بصيغة الجمع). يُزاد الى هذا مرة واحدة كلمة "رائي" (حوزي في العبرية)، و 71 مرّة (43 في المفرد، 28 في الجمع) كلمة "كاهن".
يذكر الكاتب الأنبياء العاملين لحساب الملك (22: 6، هل نحسب بينهم ناتان؟ رج 1: 32) ليُبرز من يحسبهم الأنبياء الحقيقيين، والذين يتميزون أمام الملك بحريّة تمضي بهم بعض المرّات إلى المُعاداة (إيليا 18: 10، 17؛ ميخا: 22: 8). ونتوقّف عند بعض النصوص.
في 18: 16- 20 يُهيمن إيليا. يُعطي أوامر للملك، فيُنفّذها آحاب. ولن يستعيد الملك سلطانَه إلاّ في غياب إيليا، فيُلاحقه ولكن دون جدوى (18: 10-12) سُلطة سياسيّة وعسكريّة (عند الملك)، تُجابه سُلطة كلمة (17: 1) الله (عند إيليا)، وحماية الربّ وقوّته التي تجعل إيليا يتحرّك بطريقة خارقة (12:18، 46).
في 2 مل 5: 1 ي يُهيمن أليشاع. نعمان خاضع لملكه، ولكنّ أليشاع لا يخضع لأوامر ملك إسرائيل. ملك إسرائيل ضعيف وهو لا يستطيع أن يُعطي نعمان إلا عنوان النبيّ أليشاع (2 مل 5: 7). أمّا أليشاع فله سلطان أن يشفي وأن يعرف: يرسل أمره إلى الملك قبل أن ينبّهه أحد. لا يحتاج أن يرى نعمان أو يسمعه، ليصف له الدواء، ويفضح كَذِبَ جيحزي.
2 مل 9- 10، هنا يأخذ ياهو المُبادرة، فيسيّر مخططه بأسلوب وعزم، ولكنّه يبقى خاضعًا للأنبياء. نبي مُبتدئ يمسحه، ويُعيّن له برنامجه. أمّا عمله فيُتم كلام الانبياء، (2 مل 36:9)، وهو قسم من برنامج لم يُكشَف إلا لإيليا.
2 مل 20: 1 ي: يبدأ المشهدان (2 مل 20: 1، 14) بهذه الكلمات: جاءه أشعيا، وهذا يعني أنّ الملك لم يَدعُه. في المشهد الأوّل (2 مل 20: 1- 11)، ينقل أشعيا إلى حزقيا كلمتين من عند الربّ: ستموت، ستُشفى. تراجع الله عن كلامه، بعد أن توسّل إليه حزقيا. في المشهد الثاني (2 مل 13:20 ي)، يتصرّف أشعيا كالقاضي: يستجوب ثُمّ يُعلِنُ الحُكمَ.
في كلّ هذه الأمثلة، نرى أنّ النبيّ أقوى من الملك، وقوته تكمُن في الكلمة. يأمر فيُطيعه الملك، يُعلن ما سيحصل، أمّا الملك فيعرف أنّه لا يستطيع أن يُفلت من مصير يجهله (أما النبيّ فيعرفه) إلاّ بالتوبة والتضرّع.
نُشير هنا إلى أنّ عهد سليمان لم يعرف نبيًا. لأنّ حكمة الملك جعلته بغنى عن الوظيفة النبوية، كما أنّ أيام السامرة الأخيرة لم تعرف نبيًا هي أيضًا، بعد ان استلم ياهو مقاليد الحُكْم. ونُلاحظ أنّ الأنبياء لم يتدخّلوا في مملكة يهوذا، إلا في فترة الانتقال من سليمان إلى رحبعام، وبعد عهد حزقيا. فبالنسبة إلى كتاب الملوك، تبقى المسائل الأساسية مسائل عبادية: بناء الهيكل والمحافظة عليه، ألمشارف التي يجب أن تزول. والحال، لم يتدخّل النبيّ في هذه الأمور بل الكهنة الذين سيلعبون دورًا يوازي دور الأنبياء، وإن اختلف الميدان الذي عملوا فيه، وهو ميدان الإصلاح الديني.
3- ذكرنا النبي والملك، وها نحن نذكر الكاهن والملك. فالكهنة خاضعون كليًا للملك ولا استقلالية لهم. والشواذّ الوحيد هو المُؤامرة التي حَبَكَها يوياداع لينتقد سُلالة داود (2 مل 11) والتي تُقابل ما فعله أليشاع النبيّ لإسقاط سُلالة عمري. وهكذا يبدو دور الكاهن ودور النبيّ وكأنّا يتعارضان. النبيّ يأمر الملك والكاهن يُطيعه (2 مل 16: 10-16؛ 23: 4). النبيّ يُبدّل السُلالات الملكية والكاهن يُؤمّن التواصُل داخل السُلالة الواحدة. النبيّ هو رجل التبديل والزخم ولو وصل إلى الكارثة. أمّا الكاهن فهو المُحافظ ورجل الاستمرارية. وعلى صعيد العبادة تنعكس الأمور: النبيّ أمين للتقاليد (أقلّه إيليا 18: 30؛ 19: 8)، والكاهن مستعدّ للتكيّف مع ظروف الحياة. هذه صورة مختصرة عن علاقة الملك بالنبي والكاهن.
4- وهناك الحكيم الذي نكتشفه في شخص الملك سليمان. حضوره يستبعد وجود النبي. فنحن لا نرى نبيًا في تاريخ سليمان، إلاّ حين برهن الملك أنّه لم يَعُد حكيمًا. فالحكيم لا يحتاج إلى نبيّ يقول له ما يجب عمله، أو يكشف له معنى التاريخ الذي يبنيه. ألحكيم هو الشخص الكامل الذي يكلّمه الله دون وسيط، ولن يحلّ محلّه الا الثنائي الملك والكاهن أو الملك والنبيّ. بعد سليمان سيُعمل بمبدأ فَصْلِ السُلطات، حسب تعليم سِفْر التثنية.
5- والشخص الخامس هو الشعب الحاضر دومًا كمجموعة. سبق وقلنا إنّ الملك يخضع لإرادة الشعب في مملكة إسرائيل، وإن الشعب يخضع لإرادة الملك في مملكة يهوذا. لقد لاحظنا أنّه فوق كلمات وأعمال الاشخاص، هناك شيء يتجاوزهم ويحرّك أعمالهم. هذا ما نسمّيه حركة التاريخ، أو كما يقول الأنبياء مخطط الله، وهو برنامج لا يعرف العاملون به تفاصيله (ألأنبياء يعرفون بعض الأمور القليلة)، وهو يتلخّص بكلمة انحدار. يبدأ كتاب الملوك بنظام ملكيّ، وينتهي بزوال هذا النظام. وهذا الانحدار يمرّ في مراحل عديدة، نلخّصها كما يلي: بعد عهد الحكمة والانشقاق تعيش المملكتان أربع فترات، فترة أولى من الحكمة، فترة ثانية من الانشقاق، فترة ثالثة زوال مملكة اسرائيل وبقاء مملكة يهوذا، وفترة رابعة، آخر ايام مملكة يهوذا. وتبدو هذ الفترات وكأنّها محاولات المملكتين للثبات والاستمرار. فالفترة الأولى تنتهي بنهاية سُلالة عمري وداود، والثانية تبدأ بقيامة سُلالة داود وتنظيم سلالة ياهو، والفترة التي غاب عنها الأنبياء، تنتهي بالاجتياح الأشوري لإسرائيل: من حزقيا إلى أمون، يُحاول يهوذا البقاء بصعوبة، وسيُحاول يوشيا، ولكنّ كلّ هذه المحاولات لا تمنع الانهيار الأخير.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM