الفصْل الثّامِن: آحَاب وايليّا

الفصْل الثّامِن
آحَاب وايليّا
16 : 29 – 22 : 54

أ- المقدّمة
1- يُهيمن على هذا الفصل وجهُ إيليا الذي ظهر في 17: 1 دُون مقدّمة، ويختفي في2 مل 2: 18. غير أنّ نصف هذه الأخبار لا تتحدّث عن إيليا بل عن آحاب وأحزيا. فكتابنا كتاب الملوك لا كتاب الانبياء، رغم الدَوْر الذي لعبه فيه الأنبياء. يبدأ هذا الفصل بلَمْحَة عن آحاب وحُكْم سلبي عليه (16: 30-33)، نتبيّن أساسه في ما بعد. أخبار إيليا عن آحاب تشجب آحاب، ولكنّها لا تنسى احترامه للنبي، وتوبته حين وبخّه إيليا (21: 27). أما سائر الأخبار، فلا تلوم آحاب، إلا لأنّه كان سهلاً مع ملك أرام، بعد أن انتصر عليه مرّتين. وهكذا تكون لنا ثلاث صور عن آحاب: ألملك الشرير، التائب أمام إيليا والضعيف أمام بنهدد.
2- تُبيّن لنا هذه النصوص أنّ إيليا هو رجل الله الذي يقدر أن يجترح المُعجزات الخيّرة (إقامة مَيْت) أو المُؤذية (ألجفاف). إنّه المُتوحّد العائش على حدود المملكة. ويأتي الحَدَثان الرئيسيان: ألمواجهة مع أنبياء البعل على سَفْح جبل الكرمل، والحجّ إلى حوريب. ألحَدَث الأوّل يؤكد سلطان الله على إسرائيل، والثاني يُحرك هذا السلطان. بمَا أنّ قِمّة الظهور هو التعليم الذي يدعو النبيّ ليكون عاملاً لتدخّل الله في التاريخ، يجب القضاء على بيت آحاب حسب برنامج من ثلاثة أقسام (تكليف حزائيل، ياهو، أليشاع).
يُبرز هذا الفصل الصِراع بين آحاب وإيليا، وهو يتضمّن عناصر مأخوذة من أكثر من مرجع: أخذ من الأرشيف الملكي حرب آحاب ضدّ بنهدد ملك آرام، ومن حياة إيليا خبر نابُوت اليزرعيلي. وهناك قِصّة آحاب مع النبيّ ميخا، والهُجوم على راموت جلعاد. هنا يبدو الفرق شاسعًا بين النبيّ الحقيقي وجماعة الأنبياء الذين يُحاولون أن يُرضوا الملك على حساب كلام الله.
4- نحن نعرف من الأرشيف الأشوريّ أنّ الأشوريين قاموا بحملة أولى، على ما يُسمّى فيما بعد، بالهلال الخصيب: هاجموا كلّ هذه الممالك الصغيرة، ليصلوا إلى مصر. ولكنّ تَحَالَفَ هؤلاء الملوك بقيادة بنهدد الآرامي، فَدَحرهم الأشوريون في قرقر (853 ق. م.). ويذكر شلمنصّر الثالث أنّ الملك آحاب دخل في المعركة ومعه ألفا عربة وعشرة آلاف مقاتل. هذا الخبر الذي يدلّ على عظمة آحاب، لم يدخل في كتاب الملوك، لأنّه لا يَهمّ هدف المؤرخ الاشتراعي. فابن عمري كان خير خَلَف لخير سَلَف، ولأنّه كان قويًا تصادم والانبياء. سياسة آحاب كانت مثل سياسة سليمان، بالنسبة إلى أعمال السُخْرة، فلم يكن الواحد أفضل من الآخر. غير أنّ كتاب الملوك لام آحاب على أعماله، وتجاهل أعمال سليمان الشريرة، لأنّه من قبيلة يهوذا، وهو الذي بنى الهيكل. أمّا آحاب فهو من مملكة الشمَال، ولهذا رأى فيه المؤرخ الاشتراعي، صورة عن خطر يحمله الملك الذي يحسب نفسه سيّد التقليد لا خادمًا له. تزوج بامرأة غريبة (ايزابيل الصَيْدونيّة) فتحمّل بنفسه مسؤولية سياسته.
5- أخبار إيليا وأليشاع حفظها تلاميذهما، ونقلوها إلى الأجيال اللاحقة. فلا نعجب إنْ رأينا الطابع الأسطوري لبعضها، وذِكْرًا لعجائب كثيرة. إنّ دورة إيليا ودورة أليشاع تحتويان عددًا من المُعجزات، ولهذا لا يُجاريهما في هذا إلا خَبَرُ الخروج. في هذه المُعجزات ننظر إلى الهدف والقِيمَة الروحية. إستعمل الرب العجائب، ليُعلّمنا حقائق عن نفسه وطبيعته وهدفه. أما العجائب في قِصّة إيليا وأليشاع، فهي أخبار شعبية ضخّمتها الأجيال اللاحقة، لترفع قامة مُؤسس جماعة التلاميذ.
6- كان هدف آحاب أن يبني دَوْلَةً حديثةً لتقف على قَدَم المساواة مع جيرانها. ولهذا جمع السلطة كلّها في يده، وطلب من كلّ صاحب سُلطان أن يُساعده على بسط سُلطتِه كاملةً. أمّا التقاليد القديمة، فكانت تعود بالدولة إلى الوراء، لتُصبح لُقمَةً سائغة في فَمِ جيرانها مثل أرام أو غيرها من الممالك. أمّا ممثّل هذه التقاليد القديمة، فهم الريكابيون المذكورون في 2 مل 10: 15 وار 35: 11. كانوا يقولون: إنّ الحياة في كنعان، ستكون كما كانت في البريّة بالعيش مع القُطْعان، والإقامة في الخيام لا في البيوت، ورَفْض المحاصيل الزراعية كالنبيذ مثلاً. تُجاه هذا الاخلاص للتقاليد القديمة، قدّم آحاب طريقة حياة جديدة، تُؤمِّن الرخاء للشعب في المستقبل، وذلك على حساب التخلّي عن هذه التقاليد. أمّا إيليا والأنبياء فقدّموا طريقًا ثالثًا ينظر إلى ازدهار الأمة في المستقبل، ولا يرفض التقاليد بل يُكيّفها حسب ظروف الحياة الجديدة. وهكذا يُجاري بنو إسرائيل جيرانهم، ولكنّهم يُحافظون على طابعهم المميّز، كشعب ارتبط بعهد مع الله. تعلّق الريكابيون بالماضي، فتخنّوا عن المستقبل، أمّا إيليا فأراد الحِفاظ على قِيَم الماضي في المستقبل. من أجل كلّ هذا كان الصِراع بين آحاب وإيليا، وسوف ينتصر إيليا في النهاية، لأنّه حَامِلٌ كلامَ الله.
7- هذا هو النبيّ إيليا. شخصية خارقة تقف بين التاريخ والأسطورة. كلّ نشاطه يتمُّ في جو من السرّية، منذ ظهوره المُفاجىء إلى غيابه العجيب. هو مجترح المُعجزات، فيتصرّف كما يشاء بعناصر الكون حتى بنار السماء. مُتعبّد جريء ليهوه، يتحدّى الملوك وأنبياء البعل، فيخلّد اسمه في مشهد الكرمل المُذْهل. هو يُحسّ بشدة الصراع، ولكنّه يتابع الصِراع حتى النهاية. وبعد أن اختار له خلفًا، خُطف في العاصفة، وما عاد يظهر لإنسان. اختفى عن عين البشر، فدفنته يَدُ الله بالذات.
8- يبدو هذا الفصل الثامن على الشكل التالي: بعد مقدّمة عن آحاب ملك إسرائيل (16: 29-34)، نُرافق إيليا خلال سَنوات الجوع (17: 1- 24)، ثمّ على جبل الكرمل حيث سينتقم من كُهّان البعل (18: 1-46). بعد هذا يهرب إيليا من وجه الملك، فيلتقي بالله ويتشّجع، ليُعاود الصراع من أجل تقاليد شعبه (19: 1- 21). ونترك إيليا موقتًا، لنُشاهد الحرب بين الإسرائيليين والآراميين (20: 1-43)، ثمّ نعود إليه فنراه يُدافع عن نابوت اليزرعيلي الذي أخذ له آحاب كرمه وبيته بعد أن قتله (21: 1-29). ونقرأ أخيرًا عن الحرب بين يهوذا وإسرائيل من جهة، ومَلِك آرام من جهة ثانية (22: 1-54)، وينتهي سِفْر الملوك الأوّل بالحديث عن موت آحاب.

ب- تفسير الآيات الكتابية
ا- آحاب مَلك إسرائيل (16: 29-34)

(آ 16: 29- 30) آحاب هو ابن عمري. ملك 22 سنة في السامرة. صنع الشرّ أمام الربّ، بل فاق جميع الذين سبقوه بالشرور التي اقترفها.
(آ 31-33) ما هي الشرور التي صنعها؟ ترك تقاليد الأباء، واتخذ له امرأة من خارج شعبه، وتعبّد لإلهها بعل، فبنى له هيكلاً، وجعل له كهنة، كما أقام الأوتاد المكرّسة (رمز الإلهة اشيرة)، على مثال الكنعانيين.
اتبعل أو اتو بعل كان كاهن عشتار. قُتل الملك فصار ملكَ صور وصيدون. وانتماؤه إلى الطبقة الكهنوتية، يُفسّر اهتمام ابنته إيزابيل بنَشر عبادة البعل في إسرائيل.
نُشير هنا إلى أنّ آحاب لم يترك يهوه، ولكنّه عبد البعل معه، فكان كمن يَعْرُجُ بين الجانبين (18: 14). ولكنّ يهوه إله غيور.
(آ 34) قدّم حيئيل (تلخيص احيئيل أي إيل أخي) ذبيحتين ليؤسس المدينة ومدخلها: ذبح ابنيه ليُؤمّن حماية الآلهة للبناء، ودفنهما في الأساس. ولكنّ يشوع كان قد قال: ملعُون الرجل الذي يبني مدينة أريحا (يش 26:6). بناء أريحا مهمّ لأنّه يحمي الأرض من هجمات الموآبيين المُقيمين شرقيّ الأردن.
بعل هو اسم الإله الكنعاني في التوراة، وهو يدلّ على عبادة أهل كنعان. ألبعل هو السيد أو الزوج، وكلّ ضيعة في كنعان كان لها بعلها الذي يُحامي عن أرضها. وبعل الضيعة هو "زوج" الأرض، يُخصبها سنويًا، فتحمل الثمار وتزدهر الضيعة. من جهة ثانية يبدو بعل كالإله الخالق، كسيّد كلّ كنعان، كالإله العظيم الذي يَطلب من شعبه الإخلاص والخُضُوع.
2- سنوات الجوع (17: ا-24)
(آ 17: 1-6) وأعلن إيليا الجوع بسبب انقطاع المطر. وهكذا كان. فذهب إيليا الى نهر كريت شرقيّ الأردن.
إيليا أو إيلياهو أي يهوه هو إلهي . هو من تشبي في جلعاد (أي شرقيّ الأردن) وهي غير تشبي موطن طوبيط (طو 1 :2)، تبعُد 13 كلم إلى الشمال من يبوق، وتقع على السفح الجنوبي لجبل عجلون، حيث بُنيت كنيسة على اسم إيليا.
يظهر إيليا فجأة (من دون مقدّمة) ويختفي فجأة (18: 12؛ 2 مل 2: 6). ولماذا تدخل لدى آحاب؟ لأنّه اضطهد أنبياء الربّ (13:18، 22؛ 19: 10).
يقول النصّ "في هذه السنين" لن يكون مطر. أمّا التفسير المدراشي فقال ثلاث سنين وستة أشهر (لو 4: 25؛ يع 5: 17)، مُستوحيًا من زمن اضطهاد أنطيوخس أبيفانيوس الذي صار رمزًا لفترات الشقاء في شعب الله (دا 25:7؛ 7:12؛ رؤ 6:12).
لا ندى ولا مطر (2 صم 1: 21). سيكون الجفاف قاسيًا، والجفاف عقاب من عند الله (تث 22:28؛ 1 مل 35:8؛ ار 14: 1، 7؛ عا 7:4؛ حج 1: 11؛ زك 17:14). نشير أيضًا إلى الجَفاف الذي حصل في أيام أليشاع (2 مل 8: 1 ي)، فحمل معه الجوع.
نهر كريت يقع شمالي تشبي، وهو واد يجفّ في الصيف ويسيل في الشتاء.
من حمل الخبز واللحم إلى ايليا؟ ألعرب أم الغربان. الكلمة العبرية "عربيم " تعني الاثنين والذين يقولون "الغربان" يُشددون على طابع المُعجزة. أمّا الذين يقولون العرب، فيرون أنّ الله يلجأ إلى البشر من أجل مخططه. فكما أنّ أرملة صرفت صيدا، ألفقيرة والغريبة عن شعب الله، أضافت ايليا، كذلك فعل العرب في الصحراء، فمنعوا عن نفوسهم وأطعموه.
مهما يكن من أمر، نحن أمام مُعجزة تدلّ على عناية الله بنبيّه وحمايته له. فكمَا أنّ بني إسرائيل ساروا بقيادة موسى عَبْر البرية، فأعطاهم الرب خُبزًا ولحمًا (ألمنّ والسلوى. رج خر 8:16، 12 ي) هكذا سيعطي خبزًا وخمرًا إيليا المُختبىء في البرية، خوفًا من الملك الظالم.
(آ 7-16) إلتجأ إيليا خارج أرض آحاب، (الذي يُهدّد حياته رج 13:18؛ 19: 10)، مرّة شرقي الأردن، ومرّة شمالي أرض إسرائيل عند أرملة في صرفت صيدا التي هي الصرفند الحالية، والتي تبُعد 15 كلم إلى الجنوب من صيدا.
كانت هذه المرأة غنّية وفي بيتها عليّة، ولكنّها صارت إلى الفقر بعد أن مات زوجها. قدّمت هذه المرأة من القليل الذي بقي لإيليا، فجازاها الله خير مُجازاة: لم تفرغ جرّة الدقيق ولم تَنْقُص قارورة الزيت. نحن هنا أمام المعجزة الثانية في دورة إيليا، وهي تدلّ على أنّ الله يُرسل أشخاصًا ضعفاء ليهتموا بأحبائه.
(آ 17- 24) أقام إيليا عند الأرملة، فحمل إليها البَرَكة. وكان من المُنتظر أن يُبْعِد عنها كلّ شرّ، ولكن العكس هو الذي حدث: مات ابن الأرملة، فخافت من رَجُل الله (أرسله الله وأعطاه وَحيَه. أليشاع هو رجل الله؛ 2 مل 7:4، 9، 16، 21، 22، 25، 27؛ 9:6، 15؛ 2:7) الذي جاء يُذَكّرها بخطاياها الخفيّة، ويجلب عليها العِقاب الذي تَستحق. في نظرة العهد القديم، كلّ خطيئة تحمل معها عِقابها على الأرض. ولكنّ يسوع سيرفُض هذا المبدأ (يو 9: 2).
ولكنّ إيليا سيُقيم ابن الأرملة، ويسلّمه إلى أمّه فتقتنع بطريقة أعمق، أنّها حقًا أمام رجل الله. نُشير هنا أنّ أليشاع سيفعل مثل مُعلّمه إيليا، فيُعيد إلى الحياة ابن المرأة الشُونمية التي استضافته (2 مل 4: 32-37).
لا، ليس البَعْل هو سيّد المطر والخِصْب، بل الله الذي حَبَس المطر ساعة شاء، وأرسله يوم أراد. ليس البعل ربّ الحياة والموت، كما كان يقول عُبّاده، بل يهوه وحده الذي يُطْعم شعبه وأصفياءه، ويُعيد موتاهم إلى الحياة. وهكذا سيبدأ الصراع: من هو الإله الحقيقيّ ؟ يهوه أم بعل؟
3- على جبل الكرمل (18: 1-46)

صفحة مشهورة في التوراة. في الوسَط نجدُ جبل الكرمل، حيث سيتجلّى انتصار يهوه على البَعْل (آ 20-40). وقبله لقاء إيليا بعوبديا (آ 1-19)، وبعده سُقوط المطر (آ 41-46).
(آ 18: 1 ) في السنة الثالثة. إذًا مرّت سنتان دون مطر. وكان إيليا قد اختبأ من وجه آحاب، وها هو الآن يخرج من مخبأه.
(آ 2-6) وذهب آحاب وعوبديا قيّم القصر، يبحثان عن الماء
من قتل أنبياء الربّ؟ ايزابيل أم أبناء إسرائيل (19: 10؛ رج 2 مل 7:9)؛ كان الأنبياء كثيرين، وقد اخفى عوبديا مئة واحد منهم. أما أنبياء البعل فلم يكن عددهم أقل من أنبياء يهوه. كانت المغاور عديدة في جبل الكرمل، يسكنها بعض الناس ويلجأ إليها آخرون.
كانت الخيل للمركبات، وكان لأحاب ألفا مركبة. أما البغال فكانت مطيّة الملوك والأمراء. كان عوبديا، رغم وجوده في القصر، مُتّقياً للربّ، رافضًا عبادة البعل مثل سيّده.
(آ 7-15) إفترق عوبديا عن آحاب، فجاء إليه إيليا، فعرفه عوبديا. قال إيليا: إذهب وقُلْ لسيّدك: إيليا هنا. خاف عوبديا: تكون هنا وتختفي. ولكنّ إيليا أكّد لعوبديا أنّه سيلتقي بأحاب.
ربّ الجنود أو الربّ إله الجنود، عبارة نقرأها في التوراة 217 مرّة، وقد ترجمها البعض الربّ القدير، على خُطى السبعينية.
(آ 16-19) وحضر إيليا أمام آحاب. أنت مُقْلِقُ إسرائيل، تحمل إليه الشرّ والبلاء. ولكن سبب الشرّ هو آحاب عابد البعل.
ودعا إيليا آحاب إلى مبارزة: إيليا وحده أمام 450 نبيّ للبَعْل، و400 نبيّ لعشتاروت. هؤلاء الأنبياء يرتبطون بإيزابيل وهي تُعِيلُهم. ونُشير هنا إلى أنّ النصّ لن يعود يذكُر كُهّان عشتاروت.
(آ 20-24) وبدأت المباراة بين إيليا وأنبياء البَعْل بحضور الشعب. من هو الإله الحقيقيّ فنتبعه. لماذا تَعْرجُون بين الجانبين، أي لماذا تقفون تارةً بجانب يهوه، وتارةً بجانب بَعْل؟
يقول إيليا: بقيت وحدي. لا ننسى أنّ هناك مئة نبيّ أخفاهم عوبديا، ولكنّ إيليا ظلّ يُقاوم وحده أنبياء البَعْل وإيزابيل. وها هو يطلب حُكم الربّ: الإله الذي يُجيب بالنار هو الإله الحقّ.
(آ 25-29) وبدأ أنبياء البعل يتوسّلون إلى الههم من الصباح إلى الظهر: يصرخون ويرقصون (هناك بعل الرقص بين الآلهة الفينيقية) ولا من يُجيب. هَزىء منهم إيليا: إرفعوا أصواتكم لعلّه نائم فيستيقظ.
هشّموا نفوسهم. هي عادة معروفة عند الفينيقين وبني إسرائيل (هو 7: 14؛ ار 6:16؛ 41: 5؛ 47: 5) وممنوعة في الشريعة (لا 28:19؛ تث 14: 1). وكان سَيَلان الدم قسمًا من شعائر العبادة التي لا تزال باديةً في بعض مُحيطات الشرق.
أخذوا يتنبأون، أي استسلموا إلى الهَذَيان: رَقص جنونيّ ينتقل من واحد إلى آخر كالعَدوى، تُرافقه وتدفعه آلات الموسيقى (1 صم 10: 5-6، 10 ؛ 19: 20-24). هذه المظاهر القريبة من الهِسْتيريا الجَمَاعيّة تذكّرنا بحلقات الدروايش.
في مشهد الكرمل، ألمذبح والخشب والتَقْدِمة، كلّ هذا يذكّرنا بحفلة إيقاظ ملقارت في صور. غير أنّ النار، العُنْصُر الضروريّ للذبيحة، لم تُعْطَ لأنبياء البعل. فهل ستَنْزِلُ من السماء؟ كلاّ، لأنّ السماء أصمَّت أذُنيها عن صلاة أنبياء البعل، ومِلْقارت ظلّ مُستَغْرِقًا في نومه.
وانتظر إيليا ساعة إصعاد التَقْدِمة، أي حوالي الساعة الثالثة بعد الظُهْر (أع 3: 1).
(آ 30-35) وبدأ إيليا، فرمّم مذبح الربّ المهدوم، وبنى مذبحًا جديدًا من اثني عَشرَ حجرًا، على عدد الأسباط الاثني عشر. وصبَّ إيليا الماء مرّة ومرّتين وثلاثة، ليتأكّد الشعب أنّه لم يُضلّل.
(آ 36- 40) وبدأ إيليا صلاته: يا إله إبراهيم وإسحق ويعقوب وإسرائيل (1 أخ 18:29؛ 2 أخ 6:30)، هناك عبارة مع يعقوب بدل إسرائيل (خر 6:3، 15، 16؛ 4: 5). ولكن لا ننسى أنّنا في مملكة إسرائيل، حيث يهوه هو السيّد المُطلق. أمّا الملك فخاضع للربّ، والبَعل لا سُلطان له.
وهبطت نار الربّ (عد 11: 1، 3)، ونار الله (أي 1: 16) تدلّ على البرق، كما يدلّ صوت الله على الرَعْد. نتذكّر هنا ذبيحة هارون (لا 9: 24) وجدعون (قض 21:6).
وذبح إيليا الأنبياء. هذا لا يعني أنّه ذبحهم بيده، بل أمر الشعب أن يذبح أنبياء البَعْل، كما أمرت إيزابيل الشعب أن يذبحوا أنبياء الله (أ 13). ذُبِحَ الأنبياء في الوادي، لئلا ينجّسوا الجبل المُقدّس. نهر قيشون يسيل في سهل يزرعيل على السَفْح الشرقيّ للكرمل، ويَصُبّ في البحر المتوسط قُرْب حيفا.
(آ 41-46) وانتهى الجفاف وسيأتي المطر. انتهى عِقاب الله بعد أن اقتص إيليا من أنبياء البَعْل، وأعاد الشعب إلى ربّه.
كان الشعب قد صام للحصول على الماء، وها إيليا يُحِسّ بالمطر آتياً، فيقول للملك: إذهب كُلْ واشْرَب. وذهب إيليا وآحاب، آحاب ليأكل ويشرب وإيليا ليصلّي... وراح خادمه سبع مرّات ينظر إلى البحر لعلّ المطر يأتي. وفي المرة السابعة رأى سحابة صغيرة، فكانت العلامة أنّ المطر آتٍ . فأسرع الخادم وأخبر آحاب، فشدّ مركبته وسار إلى يزرعيل، ألمدينة الصيفيّة التي تُبعد 30 كلم عن المكان المُفترض للذبيحة في أعلى تِلال الكرمل.
حَسِبَ إيليا أنّه ردّ آحاب إلى نقاوة الإيمان ليره، فركض أمامه بقوّة الروح، وبعزم الشباب، ولكنّ آحاب سيعود إلى امرأته، ويُخْبرها بما حدث.
4- لقاء إيليا بالله على جبل حوريب (19: 1- 21)

(آ 9: 1-3) عرفت إيزابيل أنّ إيليا قتل أنبياء البعل، فأرادت له أن يختفي من البلاد، فأرسلت رسولاً يُهدّده. ولو أرادت قتله لأرسلت جلادًا، لكنّها خافت من ردّة الفعل الشعبية. ومع ذلك خاف إيليا كما خاف موسى قبله (عد 11: 11-15)، وذهب إلى جنوبيّ بلاد يهوذا، إلى بئر سبع، تاركًا وراءه خادمه.
(آ 4-8) أجل، ألشعب مُتقلّب. هو الذي هتف للربّ، وها هو يسير على خُطى الملك، وهذا ما جعل إيليا قريبًا من اليأس. حينئذ سلّم إيليا أمره إلى الربّ بإيمان عميق. لم تكفِ المعجزات، إذًا سينتقم الله ويُفني شعبه، ويُزيل السُلالة الملكية الخاطئة، وينتصر المُؤمنون الحقيقيّون. لن يرى إيليا هذا الانتصار، ولكنّه هيّأ له الطريق، وهو سيمضي وعيناه مُعلّقتان بذلك الضياء الآتي.
تمنّى إيليا الموت لنفسه مثل يونان (يون 8:4)، ونام تحت شجرة صغيرة. أيقظه ملاك الربّ مرّة بل مرّتين، وهو العارف بطول الطريق: قُمْ وكُلْ، فقام إيليا وأكل، فاستعاد قواه ووصل إلى منابع الإيمان بيهوه.
هذا الطعام السرّي المُقوّي، صار للآباء الروحيين رمزًا إلى الإفخارستيا: 40 يومًا، 40 ليلةً ، تذكرنا بصوم موسى قبل أن يحصل على لوحي الوصايا ( خر 34 : 28 ؛ تث 9 : 29 ، 18 ، 25 ) ، وبصوم يسوع قبل أن يبدأ حياته العلنيّة ( مت 4 : 2 ؛ لو 4 : 2 ) .
حوريب هو في التقليد الألوهيمي والاشتراعي اسم جبل الله الذي تدعوه تقاليد أخرى جبل سيناء. ما ذهب إيليا إلى يهوذا لسقيم هناك، بل كانت وجهته حوريب، ليطلب عون الله الذي تجلّى لموسى هناك.
(آ 9- 14) ذهب إيليا الى حوريب (أو سيناء) يلتمس الربّ. هذا لا يعني أن حضور الربّ محصور في ذاك الجبل أو أن معبدًا معروفا يؤمّه الحجاج، إجتذب رجل الله. أراد إيليا أن يحافظ على العهد، ويعيد الايمان إلى نقاوته، فذهب إلى حيث تجلّى الله لموسى. وهكذا يتم التواصل بين ديانة موسى وديانة الأنبياء، ويظهر التقارب بين موسى وإيليا: كلاهما التقيا الرب على جبل حوريب، وكلاهما رافقا يسوع المسيح على جبل التجلي.
في المكان الذي فيه التقى الرب موسى عبر البروق والرعود، سيلتقي بإيليا عبر النسيم اللطيف، فيدلّ على أنّه يشرك الأنبياء في روحه وفي حياته الحميمة. دخل المغارة (لا مغارة من المغاور) المعروفة التي اختبأ فيها موسى، لئلا يرى وجه الله الذي لا يرى (خر 33: 21-23).
ظهور الربّ لإيليا، يجمع في لوحة واحدة عناصر ظهورين في سفر الخروج. في خر 19 : 16 نزل الله في سحابة من نور، خيط به الرعود والبروق، وفي خر 22:33 مر الربّ أمام موسى المختبىء في فتحة الصخر. أنّا في ظهور الرب لإيليا، فالريح والزلزلة هما مقدّمة عبور الله ورسولاه (مز 104: 4). بعد الريح حدث هدوء نسيم لطيف. لم يكن هذا صوت الله، بل دلّ أن الله يتكلّم في الهدوء والسكينة.
أحسن إيليا بحضور الله، فأخفى وجهه مثل موسى (خر 3: 6؛ رج اش 6: 2)، لأن الخليقة لا تقدر أن ترى وجه الله (في خر 33: 22-23، الربّ هو الذي ظلل موسى بيده).
قال الربّ: ما بالك هنا يا إيليا؟ يسأل الرب إيليا، كما يسأله الصديق صديقه.
أجاب إيليا: قلبي يحترق غيرة على الإيمان. بنو إسرائيل تركوك، هدموا مذابحك، قتلوا أنبياءك وبقيت أنا وحدي. فكيف تتركني وحدي، كيف تسمح لهم أن يبحثوا عني ليقتلوني؟ من سيُدافع عن الإيمان الحق؟
(آ 15-18) وأجاب الله إيليا: إرجع في الطريق التي جئت منها ولا تيأس، فالربّ لن يترك الشرّ ينتصر. إمْسَح حزائيل وياهو وأليشاع، وهم يثأرون لكرامة الربّ ونبيّه. ثم إنّه بقيت جماعة أمينة للربّ لم تعبد البعل، فهذه ستحمل مِشْعَل الإيمان.
صار إيليا في نهاية حياته، وانتهى القتال بالنسبة إليه، وسيكون النصر للرجال الذين اختارهم. أليشاع سيكون من يدفع حزائيل إلى عرش آرام دون أن يمسحه (2 مل 7:8)، أليشاع سيُرسل أحد تلاميذه، فيمسح ياهو ملكًا على إسرائيل (2 مل 9: 1). أمّا أليشاع نفسه، فسيختاره إيليا خادمًا له (آ 19- 21)، ثم وارثًا لروحه (2 مل 9:2).
آبل محولة تبعُد 5 كلم إلى الجنوب من بيت شان. هي المرّة الأولى نسمع أنّ نبيًّا مسح في أرض إسرائيل.
(آ 19- 21) دعوة أليشاع. كان أليشاع رجلاً غنيًا (أمامه اثنا عَشَر فدان تفلح أرضًا واسعة). رمى إيليا عليه رداءه، فترك البَقَر وجرى وراء إيليا.
قال أليشاع: دعني أقبِّل أبي وأمي، ثمّ أتبعك. أما يسوع فطلب أكثر من إيليا. قال له أحد تلاميذه: "اسمح لي أولا أن أوّدع أهل بيتي". فقال له يسوع: "ما من أحد يضع يده على المحراث، ثمّ يلتفت إلى الوراء، يَصْلُحُ لملكوت الله " (لو 9: 61- 62). وأولم أليشاع وليمة الوداع، كما فعل لاوي ليسوع (لو 5: 29). وكان أليشاع خادم إيليا، كما كان يشوع خادم موسى (خر 13:24؛ 33: 11؛ عد 11 : 28؛ يش 1:1).
ألرداء يرمز إلى الشخصيّة وحقوق الملكية. أمّا حركة إيليا برمي الرداء، فهي تدلّ أنّ له حقًا على أليشاع (رج ار 9:3؛ حز 8:16). ثم إنّ رداء إيليا يتمتع بسُلطة المُعجزات، لهذا لمّا لمَس إيليا أليشاع، ما استطاع أليماع أن يُفْلِتَ من سُلطة إيليا.
5- ألحرب بين آرام وإسرائيل (20: 1-43)

تتضمّن نهاية سفر الملوك الأول، خبر ثلاث حملات على الآراميين، تُقْحَمُ بينها قصّة نابوت. جعل النصّ اليوناني قصّة نابوت في النهاية. أمّا نحن فنتبع نظام النصّ العبري. يبدو ف 20 وكأنّه لا يرتبط بما سبقه أو بما يتبعه (ف 21). هو لا يأتي على ذكر إيليا، ويُعطينا صورة محبّبة عن آحاب. يروي لنا بعض حروب آحاب مع جاره الملك الآرامي، وكيف مات فتمّ الكلام الذي قاله الربّ على لسان إيليا.
نرى في ف 20 وف 22 كيف أنّ الله يصل إلى هدفه عبر البشر. هو يستعمل الملوك كخدم له، وحين يرفضون، يُرسل إليهم الأنبياء لينبّههم إلى الخضوع له. في هذه القصة نرى صراعًا بين آحاب وبنهدد، حيث ميزان القِوى لصالح بنهدد. فرض بنهدد على آحاب سِلْمًا مُذلاً، فرفض ملك إسرائيل، ولما شجّعه النبيّ أليشاع، إنتصر انتصارًا صم يكن هو بنفسه ينتظره. حسب الآراميون أنّ يهوه إله جبال لا إله سهول. ولكنّ الرب انتصر في الجبل وفي السهل، فدلّ على أنّه إله كلّ البُلدان والمناطق، وأنّ شعبه يستطيع أن يتمتعّ بحمايته في كلّ مكان.
في أيّام التحالف القبليّ، كانت تُدعى القبيلة إلى الحرب باسم الله ضدّ الاجتياح الغريب، وكانت هذه الحرب تُعتبر حربًا مقدسة. ولقد اهتم المؤرخ الاشتراعي بفكرة الحرب المقدسة، كما كانت في زمن القبائل، يوم كان الشعب أمينًا لربّه، رافضًا لإغراءات العبادات الكنعانية. وفي ف 20 هذا، يُصوّر لنا الكاتب حرب آحاب، كحرب مقدّسة، لانه انتصر على من هو أقوى منه، بفضل الربّ الذي حارب عنه. فكان عليه إذًا أن يُخلِصَ لتقاليد التحالف القبلي، ومنها أن يُفني العدو. لم يفعل آحاب، بل ترك عدّوه حرًا دون أن يسأل النبيّ، فأبان بعمله المُتعالي أنّه يحتقر تقاليد إسرائيل، وبالتالي يحتقر الله. مثل هذا الملك يجب أن يستقيل. ولكن هذا غير مُمكن، إذًا يجب أن يموت، وهذا ما سيحصل.
(آ 10: 1-6) وجمع بنهدد الثاني كلّ جيشه، ومعه اثنان وثلاثون ملكًا من الملوك الصغار الذين هم أشبه بالامراء منهم بالملوك، وضرب الحصار على السامرة. إستسلم آحاب وقَبِلَ بشروط بنهدد الأولى. ولكن زاد بنهدد شروطًا أخرى، هي أن يُعطيه آحاب الفضّة والذهب...
(آ 7-12) رفض آحاب الشروط، بناء على نصيحة الشيوخ وكلّ الشعب. فهدّد بنهدد وتوعد، وأعاد الحصار على المدينة.
(آ 13- 21) وجاء نبيّ يُشجعّ آحاب... فبدأ آحاب الحرب: هجم فجأة عند الظهيرة، وكان الجيش في قيلولة بعد الطعام والشراب، فانتصر آحاب وهرب الآراميون.
(آ 22- 34) وعاد بنهدد إلى الحرب في الربيع كعادة الملوك في ذلك الزمان... وأراد أن يجرّ إسرائيل إلى السهل فينتصر عليهم، لأن يهوه هو إله الجبال.
وجاء رجل الله فنبّه آحاب أنّ بنهدد سيعود، ثم قال له: يقول الآراميون إنّ يهوه هو إله الجبال، من أجل هذا أسلّمهم إلى يدك.
أفيق تقع في شرقيّ الأردن (2 مل 13: 17)، شرقيّ بُحيرة جناشر. هرب إليها بنهدد واختبأ فيها، ثمّ استسلم فعفا عنه ملك إسرائيل وتعاهد الملكان. ولكنّ المؤرّخ الاشتراعي لم يرض عن هذا العفو، ولا عن هذه المُعاهدة.
ألأرقام هنا مضخّمة، وقد أراد الكاتب أن يدلّ على سلطة الله التي لا تقف بوجهها قوة.
(آ 35-43) وندخل هنا في جماعة الأنبياء، لنصل إلى ما قاله أحدهم للملك آحاب، بعد أن مثّل له مثلاً: لأنّك أطلقت بنهدد، فسأطلب نفسك بدل نفسه. كانت حياة بنهدد مكرّسة لله ومحرّمة على البشر، فتصرف بها آحاب دون الرجوع إلى الله، فأخطأ وسينال عِقاب خطيئته.
6- كَرم نابوت (21: 1-29)

(آ 21: 1-3) أقام آحاب في السامرة، ولكن كان له مصيف في يزرعيل شرقيّ المدينة (رج 2 مل 9: 17). كان نابوت رجلاً شريفًا، يمتلك كَرْمًا مُحاذيًا لقصر الملك. طلبه الملك فرفض أن يتخلّى عنه. هذا الكرم ورثه عن آبائه، وهو يعتبر المُحافظة عليه واجبًا مقدسًا. فالميراث يجب أن يبقى في القبيلة التي وُلدْنا فيها (عد 7:36-9).
(آ 4-7) وبدا آحاب كئيبًا، لأنّه تأثّر بكلام نابوت، ولكنّه لم يفعل شيئًا. إلا أنّ امرأته أوحت إليه بالشرّ. أهذه هي سُلطتك في إسرائيل؟ أسلم آحاب نفسه إلى امرأته، فشاركها في عمل الشرّ الذي دبّرته لنابوت.
(آ 8-16) مقتل نابوت. كتبت إيزابيل رسائل باسم الملك، وأمرت بصوم في يزرعيل، ودفعت شهود زور ليشهدوا على نابوت أنّه جدّف على الله وعلى الملك. تحت الحيلة، وحكم على نابوت أهلُ مدينته، وعاقبوه العِقاب المفروض في الشريعة: اللاعن يُرْجَم ( لا 24: 24). حافظت الملكة على مظاهر العدالة، ووضع الملك يده على خيرات من حُكم عليه بالإعدام لأسباب سياسية.
جُعل نابوت في المقدّمة وهو شريف النسب وملاّك كبير، ولكنّه جدف على الملك وعلى الله (خر 27:22)، فاشتدّ غضب الشعب عليه. بعد هذا الصوم، أقرّت الجماعة المتمتّعة بسلطانٍ قضائي بموته.
(آ 17-26) لم يشكّ أحد بهذه العدالة، ولكنّ الله يرى، وها إيليا يأتي باسمه، فيُعلن حكم الله على القاتل. جاء فجأة كالبرق إلى كَرْم نابوت (17: 1؛ 7:18)، فوبّخ آحاب وأعلن عقاب الله له ولزوجته. كلام آحاب إلى إيليا، يُشبه كلام أحيا ليربعام (14: 10- 11)، وياهو لبعشا (3:16-4).
وتأتي آ 25-26 كتفسير عن مُجْمَل عهد آحاب: لم يكن أحد كآحاب الذي باع نفسه لعَمَل الشرّ.
(آ 27-29) توبة آحاب. تأثّر آحاب بكلام إيليا فمزّق ثيابه (تك 37: 29، 34؛ 13:44؛ عد 6:14؛ قض 35:11؛ 2 صم 1 :2، 11) ولبس المسوح (تك 37: 34؛ اش 22: 12 ؛ ار 48: 37؛ حز 27: 31) ؛ وصام (2 صم 12: 16 ؛ 23:21؛ يون 3: 5)، ومشى مُتباطئًا، علامة خضوعه وذلّه أمام الرب.
7- حرب يوشافاط وآحاب على الآراميين (22: 1-54)

(آ 22: 1-14) ثلاث سنين من الراحة، لم يكن فيها حرب بين آرام وإسرائيل. ولكن كانت حرب من نوع آخر، بين تحالُف ملوك المنطقة وبين شلمنصّر الثالث الذي انتصر في قرقر سنة 853. وبعد ذلك تفرّغ آحاب للآراميين لأنهم يُشكّلون خطرًا عليه، فتقرّب من ملك يهوذا. إذًا زوّج ابنته عثليا (2 مل 18:8؛ 2 أخ 6:21) وحفيدة عمري (2 مل 8: 26) بيورام ابن يوشافاط ملك يهوذا، وهكذا تمّت المصالحة.
راموت جلعاد (في شرقيّ الأردن بين يبوق واليرموك)، كانت جُزءًا من مملكة سليمان (13:4). أخذها بنهدد الثاني، ولم يردّها بعد هزيمة أفيق (20: 34).
أراد الملكان قبل الحرب، أن يسألا الانبياء العائشين في ظلّ بلاط الملكي. ولكنّ يوشافاط لا يثق بهؤلاء الأنبياء الذين تأثّروا بالتفكير الكنعاني، الذي ساد البلاط طوال عهد آحاب. فدلّوه على ميخا (من هو مثل الله) بن يملة الذي هو غير ميخا المورشتي، في القرن الثامن. ولكنّ ملك إسرائيل لا يُحِبّ هذا النبيّ.
قال الأنبياء للملك: إصعد إلى راموت جلعاد. ونبّهوا ميخا، ولكنّ ميخا قال: ما يقوله الربّ لي إيّاه أقول.
أمّا صدقيا بن كنعنة فغضب على ميخا ولطمه على وجهه، وكان صنع قرون حديد، فقال: بهذه تنطح الآراميين. أمّا آحاب فجعل ميخا في السجن إلى أن يرجع هو وجيشه بالسلامة. ولكن ميخا قال: إنّ رجعتَ بالسلامة فالربّ لم يتكلّم فيّ.
(آ 29- 40) موت آحاب. أمّا آحاب فتنكّر لئلا يعرفه المقاتلون، وترك يوشافاط في لباسه الملكيّ. قال ملك آرام لجيشه: أطلبوا ملك إسرائيل وحده. ولكن من يُفلت من مصيره كما تنبأ عليه النبيّ؟ أصابه سهم غير متعمّد بين الدرع والورك، وانكسر إسرائيل ويهوذا أمام الآراميين، وعاد كلّ واحد إلى أرضه.
وزاد الكاتب آ 38، ليُبيّن أنّ النبوءة قد تمّت في آحاب. ولكنّ التتمة الحقيقية ستكون في 2 مل 9: 25-26، حين قتل ياهو يورام بن آحاب في يزرعيل، وترك جثته على الأرض.
في آ 39- 40 نعرف عظمة هذا الملك الذي بنى المُدُن العديدة، وشيّد قصرًا ولبّسه العاج. ولكنّ الكاتب حكم عليه لشر أعماله وضعف إيمانه وتعبّده للبَعْل.
(آ 41- 51) يوشافاط ملك يهوذا. رج 2 أخ 20: 31- 21: 1. وهكذا عاد الكاتب إلى مملكة يهوذا، وأرّخ كعادته تنصيب يوشافاط، حسب سنة ملك إسرائيل. ولكن ان قابلنا ما يُقال هنا (آ 41) مع آ 52؛ 16: 29، نجد صعوبة لم يجد لها الشراح حلاًّ بعد.
ماذا يقول في يوشافاط؟ صنع القويم، ولكنّه لم يُزلِ المشارف. كان صديقًا لملك إسرائيل بسبب الزواج الذي تحدّثنا عنه، فلم تكن حرب بين المملكتين.
وضع يده على أدوم، وعيَّن من قِبَلِهِ عليها وكيلاً. وحاول أن يكمّل ما بدأه سليمان، فأرسل سُفنًا إلى أوفير، ولكنّها انكسرت في عصيون جابر (رج 26:9).
(آ 51-53) أحزيا ملك إسرائيل. ملك سنتين، صنع الشرّ أمام الرب مثل أبيه وأمّه ويربعام.
هنا ينتهي السفر الأوّل من كتاب الملوك، لا بعد قصّة أحزيا ولا قصّة ايليا. قلنا إنّ كتاب الملوك كان كتابًا واحدًا، وقسم قسمين للاستعمال الليتورجي، غير أنّ هذا التقسيم ظلّ مُصطنعًا، وسنتابع في سفر الملوك الثاني ما بدأنا الحديث عنه في نهاية سفر الملوك الأول.

ج- شخصية إيليا النبيّ في التقاليد الدينية
1- إيليا في التقاليد اليهودية

كان اليهود في القرن الأول ق. م.، يُؤمنون أنّ إيليا سيأتي قبل يوم الربّ العظيم، أو قبل مجيء المسيح.
أوّل قول يَذْكر ما يقوم به النبيّ ليهيّئ طريق الربّ، نقرأه في أشعيا الثاني: "صوتُ صارخ أعدّوا في البرّية طريقًا للربّ، واجعلوا سُبُله قويمةً في الصحراء... فيتجلّى مجد الرب وتراه كلّ الخلائق " (اش 40: 3- 5). من هو هذا الذي يهيّئ الدرب؟ قال الأسيانيون: شعب إسرائيل أو بالأحرى الأتقياء في الشعب يعتزلون في البرّية، ويُهيّئون مجيء الربّ. ينفصلون عن عالم البشر وما فيه من شرور، ويذهبون إلى الصحراء فيستعدون هناك بدرس شريعة موسى والعمل بموجبها بدقة.
وهناك تقليد آخر، يُعلن مجيء رسول فرد، يهيّئ القلوب لمجيء المسيح. قال ملاخي بلسان الله: ها أنا مرسل رسولي فيهيّئ الطريق أمامي، وحالاً يدخل إلى هيكله الرب الذي تلتمسونه، ويأتي ملاك العهد الذي تتشوقون إليه (ملا 3: 1). الله، ملاك العهد، سيعود إلى هيكله الذي دُمِّر وأُعيد بناؤه. ولكن من يكون الرسول؟ سيكون إيليا، يقول سفر ملاخي (4: 5): "ها أنا أرسل إليكم إيليا النبيّ، قبل أن يجيء يوم الربّ العظيم الرهيب ".
هذا النبي اتخذ مركزًا هامًا في التقليد اليهودي، لا لأنّه اجترح المُعجزات فحسب، بل لأنّه اخِذَ إلى السماء، فلم تكن له بعد الموت حياة منقوصة في الشيول أو عالم الظلمة، بل عاش بجسده في السماء قرب الله، أو في الفردوس الأرضي. ظلّ إيليا حيًا، ولهذا بقي مهتمًا بشعبه، يحميهم ويتضرّع إلى الله من أجلهم.
وسيعود إيليا في يوم غضب الرب. هذا ما قاله أيضًا ابن سيراخ (48: 1-12): وقام إيليا النبيّ كالنار، وتوقّد كلامه كالمِشْعَل. بعث عليهم الجوع... أغلق السماء... ما أعظم مجدك يا إيليا، ومن له فخر كفخرك... عيَّنك الرب لتُسَكِّنَ غضبه قبل حِدّته، وتردّ قلب الأباء إلى البنين، وتُعيد إلى الربّ أسباط يعقوب (رج 1 مك 57:2-58)
2- إيليا في العهد الجديد

يحتلّ شخص إيليا مكانة هامة في الأناجيل، وهو يرتبط بشخص يوحنا المعمدان. لا شكّ انه كان جدال بين المسيحيين واليهود. هؤلاء يقولون: لو كان يسوع الناصري هو المسيح، لكان إيليا جاء قبله. فيُجيب المسيحيون: جاء إيليا في شخص يوحنا المعمدان (مت 13:17).
في الأناجيل يأخذ شخص يوحنا المعمدان معناه بالرجوع إلى ايليا. إنّه إيليا وقد عاد حيًّا. فحين بمثّر الملاك زكريا، قال له: هذا الولد سيمتلىء من الروح القدس وهو في حشا أمّه، ويتقدّمه وفيه روح إيليا وقوّته، فيردّ قلوب الأباء إلى البنين، والعُصاة إلى حكمة الأبرار، ويُعِدُّ للربّ شعبًا صالحًا (لو 1: 15-17).
وبعد ثلاثين سنة تقريبًا، أخذ يوحنا يَعِظُ بمعمودية التوبة، فصوّره الإنجيليون على مثال إيليا، لابسًا ثوبًا من وَبَر الإبِل، قائلاً: "أعِدّوا للربّ طريقًا في البرّية. يمشي يوحنا أمام آخر، يُهيئ له الطريق (رج يو 1 :27).
وكان ليسوع أن يتكلّم مرارًا عن يوحنا المعمدان، فقال مرّة لتلاميذه: "ماذا خرجتم إلى البرّية تنظرون؟ أقصبة تهزّها الريح؟ بل ماذا خرجتم ترون؟ أرجلاً يلبس الثياب الناعمة؟... بل لماذا خرجتم؟ ألِكي تروا نبيًا؟ أقول لكم: أجل، بل أكرم من نبيّ، فهذا الذي كُتِبَ عنه: ها أنا أرسل رسولي قُدّامك، ليُعِّد الطريق أمامك" (مت 7:11-9). يوحنا هو الرسول على مثال إيليا. وسيُحدد يسوع فكرته فيقول: "توالت جميع نبوءات الأنبياء وآيات الشريعة، حتى انتهت إلى يوحنا. فإذا شئتم أن تصدّقوني، فاعلموا أنّه إيليا الذي ينتظر الناس رجوعه" (مت 13:11-15). ولمّح يسوع أيضًا إلى يوحنا المعمدان، إيليا الجديد، بعد مشهد التجلّي. سأله التلاميذ: "لماذا يقول الكتبة: يجب أن يأتي إيليا أولاً"؟ إذا كان هذا هو المسيح، فلماذا لم يأت إيليا أمامه، ليُهيئ له الطريق؟ أجابهم يسوع: "سيأتي إيليا ويُصْلِحُ كلّ شيء (رج ملا 3: 10؛ سي 48: 10 ). ولكن أقول لكم: إن إيليا جاء فلم يعرفوه، بل فعلوا به ما أرادوا... ففهم التلاميذ أنّه عنى بكلامه يوحنا المعمدان (مت 17: 9-13).
ونتوقّف خاصة عند مشهد التجلّي، حيث يظهر إيليا وموسى حول يسوع. تجلّي يسوع على جبل طابور، يُشبه ظهور الله على جبل سيناء. في الحالتين الجبل عالٍ ومجد الرب يظهر عبر السحاب. هدف الظهور على سيناء أن يُعرّفنا شخصية الله الحقّة، والتجلّي على جبل طابور أن يُعرّفنا إلى شخصية المسيح. في سيناء قال الربّ: يهوه، يهوه، الإله الرحيم والأمين. في طابور قال الآب: "هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا". وكما رأى موسى وإيليا مجد الله، سيتعرّف الرسل إلى ابن الله يسوع المسيح.
لماذا حضور موسى وإيليا على الجبل مع يسوع؟ ألأول يمثّل الشريعة، والثاني الأنبياء. ألأول قطع عهدًا مع الله باسم شعبه، والثاني ثبَّت هذا العهد حين جاء إلى حوريب، ليأخذ القوة من الله. وتجلّي المسيح على طابور هو تسبيق للعهد الجديد. ظهر يسوع بجسد ممجّد، فكان أول انعكاس على جسده، لهذا الدخول في المجد الذي تحقّق يوم القيامة والصعود. إذًا مشهد طابور تسبيق ليوم القيامة، وتأكيد على العهد الجديد. وموسى وإيليا حاضران هنا كشاهدين (رؤ 11: 4-6)، لأنهما كانا الرجلين العظيمين في العهد القديم. حضورهما يدلّ على أنّ الملكوت الآتي هو امتداد للعهد القديم الذي عُقد مع موسى، وأُعيد إلى مناعته مع إيليا.
3- إيليا عند الآباء اليونان

تكلّم الآباء اليونان عن إيليا مرارًا، بسبب دوره في العهد الجديد، فشدّد بعضهم على علاقته بيوحنا المعمدان، وآخرون تحدّثوا عن رجوع إيليا في نهاية العالم، وأخرون أيضًا أبرزوا شخصيته كمثالٍ للحياة الكاملة. إكتفى الأباء أولاً بشرح النصوص الكتابية، ولمّا توسعت الحياة النسكية رأوا في إيليا مثالاً يتبعونه.
قال اكليمنضس الروماني: لنقتدِ أيضا بالذين ساروا، لابسين ثياب الماعِز والغَنم، يُبشرّون بمجىِء المسيح. ونحن نعني بكلامنا الأنبياء إيليا وأليشاع وحزقيال، وكلّ الذين نالوا شهادة حسنة من الربّ. ويورد يوستينس اسم إيليا مرارًا: سيأتي إيليا حين يستعدّ المسيح لأن يظهر بالمجد من أعلى السماء. كان روح الربّ على يوحنا في الظهور الأول، ويكون على إيليا في الظهور الثاني. وقال يوستينس: إذا كان الله لم يُنْزِل عقابه بإسرائيل بسبب 7 آلاف رجل لم يسجدوا للبعل، فهو الآن لا يُنفّذ عقابه بسبب المسيحيين. وقال أخيرًا: كان لسُليمان روح الحكمة، ولدانيال روح الفَهْم والمشورة، ولموسى روح القوة والتقوى، ولإيليا روح لمخافة، ولأشعيا روح العِلْم. أمّا ايريناوس فشدّد على أنّ الله اخذ جسدي أحنوخ وإيليا، ليدلّ على قيامة الأجساد في الحياة الأبدية.
ويتوقّف أريجانس على شخص إيليا في تفاسيره وعظاته، فيُبيّن معنى الأحداث، ويستخلص العِبَر من أجل الحياة اليومية. ويقول أوسابيوس الحمصي: إصعَد بالفكر إلى الجبل مع الربّ، وليسبقك الربّ بالجسد، ويصعد إلى الجبل، وهو الحاضر في كلّ مكان، والذي نراه حيث نشاء. هناك ترى الرب. وهناك أيضًا موسى وإيليا، شاهدا العهد الجيد. وهناك بطرس ويعقوب ويوحنا شهود العهد الجديد... هنا تجد موسى المُشترع الذي يترك مكانه للرب، وإيليا المشترع الذي يترك مكانه لآدم السماوي... يُسمع الابُ صوتَه فيدلّ لا على موسى أو إيليا بل على ابنه. أمّا كيرلَس أورشليمي، فيذكر في الكرازة الثانية إيليا الداعي آحاب إلى التوبة ؛ وفي الكرازة الثالثة المكرّسة للمعمودية يقول: رُفع إيليا إلى السماء، بعد أن عَبَر الأردن (رمز العماد). وفي الكرازة الثانية عشرة يتحدّث عن تجسّد الكلمة، ويُلْمِح إلى مشهد التجلّي، فيقول: لنا شاهدان وقفا أمام الربّ على جبل سيناء: موسى وإيليا. ولما تجلّى يسوع على جبل طابور، كان هذان الشاهدان هنا يُحادثانه عن موته الذي سيتحّمله في أورشليم. ولكن يسوع أعظم من إيليا... يبدو إيليا وكأنه صعد إلى السماء، أمّا يسوع فصعد حقًا إلى السماء. أعطى إيليا سهمين من روحه لتلميذه أليشاع، أمّا المسيح فمنح تلاميذه غزارة الروح فامتلكوه، بل نقلوه إلى المؤمنين بوضع الأيدي. ويُمكننا أن نذكر باسيليوس: أُنظر ايليا. كم ارتاع، كم عرق، قبل أن يستحق أن يرى الله؟ ويقول تيودوريتس القورشي الذي يشرح كتاب الملوك ويطرح الأسئلة المتعلّقة بإيليا: أما أبان عن جرأة حين حبس المطر؟ أمرت الشريعة ان يُعبَد الله في مكان واحد، فلماذا بنى إيليا مذبحًا على جبل الكرمل؟ كيف خاف إيليا القوي من إيزابيل وحدها.
4- إيليا في التقليد السرياني

إهتمّ الآباء السريان بإيليا، ولكنّهم لم يُقدّموا لنا تعليمًا أو لاهوتًا، يدلّ على مسيرة هذا النبيّ العظيم. كلّ ما نجده تأملات موزّعة في كتبهم، تعكس آراءهم في إيليا. في هذا السبيل يُعطينا افرام أمثولات ادبية، ويُقدّم أفراهاط إيليا لرهبان عصره كقِّمة من قمم الكمال.
كان إيليا نبيًا وأب الأنبياء. كان نشيطًا مثلهم بل أكثر منهم. إنخرط في صراع ضدّ الشِرْك، فلم يكن لحياته إلا هدف واحد: محاربة الشِرْك وعبادة الأوثان. ظهوراته المُفاجئة في التاريخ، كانت كالصاعقة لأنّ الاختلاء كان يسبقها ويتبعها. هو عنيف لا يُساوم، ولقد كان دمّر كلّ شيء لو لم ينقله الله من العالم. طبعه قوي يُحطّم كلّ شيء ولا يلوي. هذا ما فعل يوم قتل أنبياء البَعْل، عملاً بشريعة موسى (تث 15:13؛ 2:17-6) التي تطلب القتل للمُشْركين.
رجل إرادة لا يقف شيء بوجهه. درّبه الربّ، وقوّمه بيد ناعمة وقويّة، فدجّنه بعض الشيء. جرّده من افكاره الخاصة، ليُدخله في نظرته الإلهية. حرمه أولاً من بعض الأشياء الصغيرة، ثمّ أرسل إليه الاضطهاد: امرأة (هي ايزابيل) جمّدت نشاطه وجعلت شجاعته تفرّ من قلبه، فهرب إلى البريّة، حيث لا يجد أملاً بل انتظارًا يائسًا للموت.
ولكن هذا الرجل النشيط لم يكن مُستسلمًا للأحداث، بل وجهّها في خط الله. فأغنى ما في شخصيته لا يُلمَس بالأيدي. هو رجل البرّية والتجرّد والصلاة والنقاوة الباطنية، هو كائن حقق في شخصه روح النُسْك. في العزلة تعلّم الأمانة لربّه، وجمع بين المُناجاة والعمل. بعد رسالاته الصاخبة، كان يُحِسّ بضرورة الصمت والمُناجاة، ليعرف أننا لا نحصل على خلاص البشر بالغيرة العاصفة بل وأيضًا بالصلاة.
هذا القديس كان أول من أقام في البرية في الأزمنة القديمة. قال إفرام: "عاش رجال العُزلة في المغاور والكهوف". عاش إيليا في كهف، وأليشاع على رأس الجبل. عاش يوحنا في البرية، وربنا صلّى في الأماكن المُقفرة". فالعزلة هي الشرط الأساسيّ لنموّ الزَخَم الروحي. يكفي أن نضع أمام اعيننا هذه العزلة، لنخلق المناخ الموآتي لانطلاقة نحو الكمال الرهباني. "فركض إيليا وراء هذا الكمال شادًّا وسطه بعُذوبة ومحبّة".
غير أنّ أحداث حياة إيليا الباهرة، تتلاشى أمام السؤال الذي تطرحه نهاية حياته. لم يكن لحياته حدّ عادي في الزمن، وهي لن تنتهي إلا عندما يصل الزمن إلى عمر الأبدية. فالله بسرّ لا يُسبَر، أنقذ هذا النبيّ من دمار الجسد، فكانت نهاية حياته هجرة وانتقالاً. إنّ الأحداث المتعلقة باختطاف إيليا ترتبط بالتوراة، ولكن الكتّاب السريان زيّنوها بصُوَر من مخيلّتهم. قال الله: أمّا أنت، فلا أحد يقدر أن ينتزع منك نفسك. سأحملك مع جسدك إلى السماء. وشقّ إيليا نهر الأردن وعبره كما على اليابسة مع تلميذه أليشاع، وهناك اختُطِف إلى السماء. "بعد أن جاهد بغيرة متقدة ارتفع إلى السماء على مركبة نارية وخَيْل نارٍ وسَحاب صاعد".
ونتوقّف أخيرًا على إكرام الكنائس السريانية لإيليا النبيّ. كان عيد مار إيليا يرتبط بالأعياد التي تحتفل بظهور المسيح في العالم وتساميه على العالم. فالختان الذي تحتفل به الكنيسة السريانية، كان يُرافقه تذكار طويل لإيليا. وكذا الأمر بالنسبة إلى عيد التجلّي (6 آب) الذي يرمز إلى ظهور الرب المجيد. مع الربّ حضر إيليا وموسى، فدلاّ على الأحياء والموتى. مرّات كانوا يعيدون إيليا في السابع من شهر آب، كما تقول الروزنامات القديمة. ويحتفل السريان أيضًا بعيد إيليا في 2 تشرين الأول، بهدف تربية ليتورجية نفهم معناها في ما يلي: كان تشرين الأول كشهر أوّل مكرسًا لموسى. وهكذا فالدورة السنوية التي ترمز إلى الزمن الذي في نهايته سيتجلّى المسيح في ارتفاع الصليب، يصل بنا إلى شهر أيلول الذي يرمز إلى نهاية الزمن. ولكنّ إيليا السابق الموعود به، سيعود ليُهيئ انتصار المسيح النهائي، ولهذا تذكره الآحاد المتوالية من 6 آب إلى 14 أيلول. وإذا كانت الليتورجيا، تُعيّده في 2 تشرين الأول، فلِتُكرّمَه مع موسى بعد أن ارتبط مصيرهما في تشرين الأول، ألشهر الأول من السنة الذي هو رمز السنة الأبدية: موسى يمثّل الموت، وإيليا الدخول في الحياة.
5- إيليا في التقليد الإسلامي

يذكر القرآن الكريم إيليا مرّتين بصورة واضحة: في سورة الصافات (37: 123-132) وفي سورة الأنعام (6 / 85) . النصّ الأوّل هو خبر قصير من المرحلة المكية الثانية. وهذا الخبر جزء من سلسلة أخبار تضع أمامنا نوحًا وإبراهيم وموسى وهارون وإيليا ولوطًا ويونان. وإليك الخبر المتعلّق بإيليا: إنّ الياس (النبي) هو من الناس الذين أرسلهم الرب، وبرزت رسالته يوم قال لقومه: ألا تتقّون الله وتخافونه؟ ووبخهم لأنهم يدعون البعل، ويرفعون الصلاة إليه ويتركون الخالق، ألله ربهم وربّ آبائهم الأولين. فعدّوه كاذبًا. لذلك حكم الله عليهم، ولم ينجُ من حُكْمه إلاّ عُبّاد الله المُخْلصون. وهكذا بقي ذكر الياس حيًا في الأجيال اللاحقة. ألسلام عليه. وقال الله فيه أخيرًا: هكذا نُجازي الذين يُحسنون فعلاً، وإنّ إيليا من العُبّاد المؤمنين.
هذا الخبر يهدف إلى التهديد والتعليم. والسامعون مدعوون الى الأخذ بامثال هؤلاء. ألله خلصهم وجازاهم، وترك الشعوب الذين أرسلوا إليهم، يقاسون العقاب الإلهيّ.
اما النص الثاني فيذكر إيليا بين الأنبياء في سياق الحديث عن ارتداد إبراهيم: ووهبنا لإبراهيم اسحق ويعقوب، وهَدينا كُلاًّ من هؤلاء، كما هدينا نُوحًا من قبل. وهدينا أيضًا من ذُرية إبراهيم داود وسليمان وأيوب وموسى وهارون. هكذا نُجازي الذين يُحسنون فِعْلاً. وهدينا زكريا ويوحنا المعمدان وعيسى وإلياس الذين كانوا من الصالحين. جعل إيليا في نهاية لائحة أنبياء العهد الجديد.
وإذا رجعنا الى سورة الكهف وغيرها من السور، نتعرّف إلى ايليا خادم الله والنموذج الكامل للنبيّ ومعلّم الأنبياء. هو أداة بيد ربّه، وقد أرسله ليقود في سبيل الله كلّ الذين قبلوا من لَدُنه أعمالاً نبوية وتشريعيّة مثل موسى. إكتشف هذا السبيل الذي نهجوه دون أن يعرف، فعلم أن يُدرجهم في سرّ مشيئة الله على الكون، وأن يفسّر لهم خططه على الأشخاص. لهذا يدعوهم إلى الصبر الذي هو الطاعة على مرّ الزمان. إذًا حضور إيليا يرتبط بإرادة الله على الكون

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM