الفصْلُ السَّادِس: رَحبعَام ، أحيا ويربعَام

الفصْلُ السَّادِس
رَحبعَام ، أحيا ويربعَام
12 : 1 – 14 : 20

أ- المُقدّمة
1- إنّ بداية هذا القسم الإخباري الذي يبدأ في 11: 26- 43، قد جُعلت خاتمة ملك سليمان، وهكذا يتم الانتقال من قِسْم إلى آخر. ولكن هناك سببًا آخر لهذا الترتيب: حضور الأنبياء وتولية يربعام، هما من عناصر انحطاط مملكة سليمان (الذي بدأ في 11: 14)، ثُمّ إنّ المؤرخ يُحاول أن يفصل بين الإعلان النبويّ وخبر تحقيق هذا الاعلان.
فيربعام الذي لا يعتمد على سُلالة ملكية، ليَسْنُدَ ترشيحه لهذا المنصب، يحتاج إلى إسناد شرعي، سيأتيه بقوله نبويّ وفِعْل رمزي: رجوع إلى الوراء، إعتراف به كملك باسم يهوه، وعد بدوام نَسْلِه مع شروط (رج 2 صم 7). ألرجوع إلى الوراء يسير مع الحُكْم على مملكة سليمان، وكأني بالربّ اختار يربعام ليُنفّذ هذا الحُكْم. وهذا الحُكْم هو جزئي، لأنّ سُلالة داود تحتفظ بقبيلة أو قبيلتين: قبيلة لداود هي يهوذا، وقبيلة لأورشليم هي بنيامين (وأورشليم تقع في أرض بنيامين).
2- ألخبر في ف 12 يتعارض مع أخبار سليمان. ففي شكيم لا في أورشليمَ تمّ التنصيب الملكيّ. وهكذا يستعيد تقليد قبائل وسط البلاد سيطرته على ما قام به سُليمان من تجديد. ورحبعام هو نقيض المَلك الحكيم، وهذا يعني أن زمن الحكمة قد مضى. ولكنّ الانشقاق ليس فقط نتيجة رعونة الملك الشاب، بل هو يشكّل جُزءًا من مخطّط يهوه. هذا ما يجب أن يعرفه رحبعام، فيمتنع عن حرب خاسرة حتمًا، وسيقوله له شمعيا رجل الله (22:12-24).
ونصّبت قبائلُ الوسط والشمال يربعام ملكًا (12: 20- 21)، فبدأ عهده مثل داود وسليمان: بنى عاصمته ومعابده، وهذا ما لا يغفره له كتاب الملوك. فإقامة معابد تُزاحم معبد أورشليم، وإن كانت لأسباب سياسية (12: 26- 29)، تبقى أصل كلّ الخطايا في مملكة إسرائيل. وسيُذكّرنا الكاتب بهذه الخطيئة مرارًا قبل نظرته اللاهوتية في 2 مل 17، وسيُبيّن لنا أنّها كانت السبب الرئيسيّ لزوال مملكة الشمَال.
4- ويُدخلنا ف 13 في عالم مُختلف مع خلاصة عن أساطير نبوية: أشخاص مجهولون، عالم من المُعجزات، تطبيق العقوبات بطريقة مُباشرة. بالنسبة إلى جماعة الأنبياء، يبدو الانشقاق وكأنه ما تمّ بعد. وهكذا يُورد الكاتب خبرًا قديمًا، ولم يحاول أن ينسِّقه مع قول آحيا الشيلوني الذي يُعطي صفةً شرعية ليربعام.
5- بعد مقطع انتقالي يُواصل اللَمْحة عن يربعام (33:13- 34)، نعود إلى دورة أحيا في ف 14. في هذه المرّة يتدخّل النبيّ ليعلن الحُكْمَ على الملك، لأنّه عَمِلَ شرًا أكثر من الذين سبقوه، ويُعلن الحكم على إسرائيل الذي سيذهب إلى المنفى سنة 722 (14: 15). ونعرف بطريق الصُدْفة أنّ الملك جعل عاصمته في ترصة.

ب- تفسير الآيات الكتابية (12: 1- 14: 20)
(آ 12: 1- 19) وجاء رحبعام إلى شكيم (نابلس الحديثة التي تبعد 50 كلم إلى الشمال من أورشليم) المشهورة بمرور الآباء فيها (تك 6:12؛ 18:33- 20؛ 34: 1ي؛ 12:37). كانت مركز عبادة جميع قبائل إسرائيل حول يشوع (يش 24: 1). وكان لا بدّ أن ينادوا برحبعام ملكًا في هذه المدينة المقدّسة. نادت به قبيلة يهوذا، ولكنّ قبائل الشمال أخذت عليه تعنّته، ونادت بيربعام ملكًا، فنظّم الانشقاق السياسيّ، وأرفقه بانفصال ديني. كلّ المحاولات لإعادة المتمردين باءت بالفشل. ولمّا مات أدورام المُولّى على الخراج، خاف رحبعام وهرب إلى أورشليم.
(آ 20- 25) إنشقاق سياسي. صار يربعام ملكًا على عَشْر قبائل. ويبدو أنّ قبيلة بنيامين بقيت مع قبيلة يهوذا. أراد رحبعام أن يحارب فمنعه شمعيا رجل الله. (ألذي أرسله الله وحمّله وحيه 13: 1؛ 17: 24): لا تُقاتلوا إخوتكم بني إسرائيل.
فنوئيل تقع في شرقيّ الأردن، وتبعد 8 كلم عن سكوت. هناك بنى يربعام حصنًا ليُراقب الطريق التجارية الذاهبة من جلعاد إلى يهوذا.
(آ 26- 33) لا نجد ما يُوازي هذه الآيات في 2 أخ. اتخذ يربعام إجراءات دينية لأسباب سياسية: أراد أن يمنع قبائل الشمال من الذهاب إلى أورشليم، وذهابها سيقودها إلى الالتحاق بملك أورشليم. ولهذا بنى يربعام معبدين، وجعل فيهما تمثالين، ونظّم الكهنة للخدمة الدينية. وهكذا سيجد أبناء مملكته نُظُما دينية مرتبة ومكيّفة على عادا تهم، ومُوافِقةً لشعورهم.
وكما دشّن سليمان (8: 2) هيكل أورشليم في الشهر الثامن، كذلك فعل يربعام. وكما قدّم سليمان ذبائح، كذلك فعل يربعام، فبان للشعب وكأنّ شيئًا لم يتغيّر. هناك عيدٌ في أورشليم، وهنا عيدٌ في بيت إيل.
(آ 13: 1- 10) رجل الله يلعن مذبح بيت إيل. هذا الخبر يرتبط بقصّة يوشيا الذي عفّ عن قبر رجل الله، فلم يُعامله كما عامل سائر القبور هناك (2 مل 23: 16- 18). هل هذه القِصّة أسطورة؟ بل هي مدراش وتعليم يستند إلى حدث واقعيّ، كُتِب بعد إصلاح يوشيا، فأراد أن يشدّد على خطيئة يربعام الذي جعل من بيت إيل معبدًا ملكيًا على غِرار هيكل أورشليم.
كلمة رجل الله فاعلة هي: إنشقّ المذبح، عادت يدُ الملك إلى طبيعتها.
كذا قال الربّ: عبارة يعلن بها النبيّ قولاً أوحى به الله إليه.
يوشيا (آ 2) هو ملك يهوذا (640- 609) الذي سيهدم المعابد، ولا يُبقي إلا على هيكل أورشليم.
دعا الملك رجل الله إلى بيته فلم يقبل، ولو قبل لبان وكأنّه تراجع عن حكم الله على الملك.
(آ 11- 32) موت رجل الله. دعاه نبيّ شيخ إلى بيته، فما كان له أن يقبل دعوته بل أن يعود إلى منزله ولا يتوقف عند أحَدٍ من سُكّان المكان. هل كذب النبيّ الشيخ؟ ألمهم أنّ رجل الله عصى أمر الله، فكان الموت نتيجة عصيانه.
يرد هنا اسم السامرة التي لم تكن قد بُنيت في عهد يربعام الأول، وهذا ما يجعلنا نقول إنّ هذه الرواية كُتِبَت بعد موت يربعام بزمن طويل.
(آ 33- 34) وزاد يربعام خطيئة على خطيئة، حين أقام كهنة من الشعب لا من قبيلة لاوي، ولهذا سيُعاقبه الله ويستأصل نَسْلَهُ.
(آ 14: 1- 18) ومرض ابن يربعام، فأرسل الملكُ امرأتَه إلى رجل الله احيا، وطلب منها أن تتنكّر لئلا يعرفها النبيّ ويرفض طلبها. ولكنّ احيا عرفها وحمّلها رسالة إلى زوجها. باسم الربّ ذكّره كيف رفعه الله، ولكنّه اخطأ فحكم الله عليه وعلى نَسْلِهِ بالموت.
(آ 19- 20) لمحة عن حكم يربعام. ملك 32 سنة. دُفن مع آبائه. خَلفه ابنه ناداب.

ج- مُلاحظات حول الفصل السادس
ا- وعمل يربعام عجلين من الذهب، وقال: هذه آلهتكم يا إسرائيل. وهكذا قدّم يربعام العجلين كما فعل هارون يوم غياب موسى على الجبل (خر 32: 4 ؛ نح 18:9). هذه التماثيل ترتبط بشعائر العبادة الكنعانية. فقد وجدت في النصوص الأوغاريتية عبارة: "ثورايل"، وقرأنا في التوراة عبارات مُستوحاة من هذه النصوص مثل "عزيز يعقوب" (تك 49: 24، في العبرية "ابير" ترتبط بعملية التلقيح، رج كلمة "أبر" في العربية. رج اش 1: 24). ولكنّ تمثيل يهوه بهذه الصورة، كان معارضاً لروح موسى، وهو يحمل خطر الشِرْك في داخله. نشير هنا أنّ العجل (أو الثور الذي سمّي العجل تحقيرًا) هو موطىء قَدَم الله، كما أن الكاروبيم مطيّته.
2- ألمشارف هي معابد مبنية على التلال، وتُشرف على المدينة. كانت تتألّف من مذبح ونُصبٍ وَوَتَدٍ مكرس، وحوضاً يحوي ماء الاغتسال والوُضُوء. هذه المشارف تعود إلى الزمن السابق لإقامة بني إسرائيل في كنعان. ما الذي فعله يربعام؟ أعاد بناء ما تهدّم وزاد عليها فتقرَّب من عالم فينيقيا مبتعدًا عن تقاليد أورشليم.
3- قال يربعام: إذا صعد شعبي إلى أورشليم ليُقدّم ذبائح في هيكل الربّ، فسترجع قلوبهم إلى رحبعام ملك يهوذا... فاستشار حاشيته، فأشاروا عليه فعمل عجلين من الذهب. يعكس هذا المقطع وُجهة نظر المؤرخ الاشتراعي، التي تُعارض كلّ معبد غير معبد أورشليم. كانت معابدُ عديدة في أرض إسرائيل، ومنها بيت إيل الذي كان أقدم من هيكل أورشليم. ولكن ما إن بُنيَ هيكل أورشليم حتى غطّى بظلّه على سائر المعابد. لا شكّ في أنّ يربعام لم يبن معابد جديدة بل بسط رعايته على معبدين قديمين في مملكته، فزاحما معبد أورشليم وصارا معبدين ملكيين. لم يكن في هذين المعبدين اللذين ارتبطا بالآباء ما يعارض تقاليد القبائل، كما وأنّ إيليا وعاموس لم يحكما على وجودهما وعدم شرعيتهما. ولكنّ المؤرخ الاشتراعي رفضهما، لأنّ كلّ معبد غير هيكل أورشليم لا يُمكن أن يكون شرعيًا، ولا يَحِقُّ أن تُقَدَّم فيه شعائر العبادة. وقد زاد المؤرخ الاشتراعي فقال: إنّ هذه المعابد وثنية، والعبادات التي تقام فيها هي عبادات كنعانية.
4- قِصّة النبيّ الشيخ ورجل الله، تُظهر لنا الله بشكل رجل مُستبدّ، لا بشكل إله رحيم أقام عهدًا مع شعبه. إنّ طبيعة الله قاسية وبعيدة عن كلّ شعور بشريّ في هذه القِصّة، وهي تتعارض وما نعرفه عن أجمل تقاليد التوراة. ولكن لا ننسى أنّنا امام مدراش (أو تعليم) أخذ به الكاتب، وحمله تعليمًا عن خطر المُشاركة في العبادات الكنعانية، وعن أهميّة الطاعة لله، مهما كانت الإغراءات ألمقدّمة إلينا. أطاع النبيّ أمر الله، فقوّاه الله في عمله، عصى النبيّ أمر الله، فعاقبه بالموت.
5- وأقام يربعام كهنة من عامة الشعب (33:13). كان عمله هذا أسوأ عمل قام به بالنسبة إلى المؤرخ الاشتراعيّ، لأنّه يقطع الشعب لا عن الهيكل وحسب، بل وعن كهنوت أورشليم. أقام يربعام كهنوتًا جديدًا، فأقام تعليمًا معارضاً لتعليم أورشليم، ومال بأكثرية إسرائيل عن الإخلاص للعهد الذي قطعه الله مع شعبه. مثل هذا العمل لا يمرّ من دون عقاب: سيُبيد الله نسل يربعام ويستأصله عن وجه الأرض.
6- نقرأ في 14: 1- 18 قصة يحكم فيها نبيّ على بيت يربعام ونسله، لأنّه أغرى شعب إسرائيل، فأبعده عن الإخلاص لإيمانه. هذا النبيّ هو احيا الذي شجع يربعام في طموحاته (11: 29- 39). أمّا هدف الكاتب المُلهم من هذه القصّة، فلكي يُبيّن لنا أنّ الله اختار يربعام حقًا، ولكنّ يربعام فَقَدَ رضى الله بجُحوده. وهكذا استحق حُكم الله القاسي. أن ينال يربعام العرش، وأن يُضيّعه خلفاؤه، كلّ هذا يُحدّده الله ويُعلنه بواسطة نبيّه. ثم إنّ موت الصبيّ يُعتبر كعقاب لخطيئة آبائه. هذا ما حدث أيضا لداود: عاقبه الله بموت الصبي (2 صم 14:12).
7- مع هذه اللَمْحَة (14: 19- 20) عن ملك يربعام، يُقدّم لنا الكاتب المواد التي تناسب هدفه، فإذا أردنا مزيدًا من المعلومات، فما علينا إلا أن نعود إلى أخبار ملوك إسرائيل. ولكنّ هذه الكتب ضاعت، إلا أنّه بقي لنا بعض المعلومات. منها: حملة شيشاق، فرعون مصر، على يهوذا وأورشليم (25:14) باب على مملكة الشمَال. هذا الفرعون دفع يربعام إلى الانتقال من شكيم إلى فنوئيل (بعد عودته سيُقيم في ترصة المنيعة). وقد وُجدت كتابة في الكرنك بمصر، ونُصُب في مجدو، يُعلنان احتلال مصر لمُدُن الشمَال. ويروي النصّ أيضاً معارك بين ملك إسرائيل وملك يهوذا (14: 30)، وأنّ يربعام انهزم أمام أبيام ملك يهوذا (2 أخ 13). هذه الأخبار مُجتزأة، ولكنّها تكفي لتدلّ على أنّ المؤرخ الاشتراعي لم يأخذ من الأخبار التي حوله، إلا تلك التي تُوافق هدفه في كتابة تاريخ شعبه على ضوء كلمة الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM