القِسمُ الثَاني: مملكَة يَهوذا وَمملكَة إسرائيل

القِسمُ الثَاني
مملكَة يَهوذا وَمملكَة إسرائيل

1- ينقلنا القسم الثاني من موت سليمان إلى دمار السامرة ومملكة الشمال، وهو القسم الأكبر من كتاب الملوك، ويمتدّ من 1 مل 12 إلى 2 مل 17. في فصل أول (12: 1-14: 20) نرافق أحيا ويربعام في المملكة الجديدة التي انفصلت عن مملكة يهوذا انفصالاً دينيًا وسياسيًا. وفي فصل ثان (14: 21-16: 28). نقرأ جملة من اللَمَحات عن ملوك المملكتين المتعاديتين، أي مملكة يهوذا في الجنوب ومملكة السامرة في الشمَال. وتبدأ دورة إيليا (16: 29-22: 54)، وتتداخل مع أعمال آحاب ملك إسرائيل، وتتبعها دورة أليشاع النبي (2 مل 1: 1- 10: 36). ولن يبقى لمملكة إسرائيل إلا قرن من الزمن تعيش فيه، قبل أن تزول في الحرب مع الأشوريين (2 مل 11: 1-41:17).
2- نُلاحظ هنا نظامًا خاصًا لتأريخ الزمن. فبعد أن نقرأ في 6: 1: في السنة 480 لخروج بني إسرائيل من أرض مصر، في السنة الرابعة من ملك سليمان على إسرائيل، ننسى التاريخ العامّ ونرتبط بنظام داخلي، فنؤرّخ للملوك الواحد بالنسبة إلى الآخر. وإليك مثالاً على ذلك: في السنة العشرين ليربعام ملك إسرائيل، مَلَكَ آسا على يهوذا، ودام مُلْكُه إحدى وأربعين سنة بأورشليم (15: 9-10). هذا بالنسبة إلى مَلِكٍ جديد في يهوذا. وإليك مثالاً عن ملك جديد في إسرائيل: في السنة الحادية والثلاثين لآسا ملك يهوذا، مَلَكَ عمري على إسرائيل اثنتي عشرة سنة (23:16). إنّ ذَكَرَ النصُّ ملكًا من مصر أو بلاد الرافدين، فهو لا يحدّد السنة التي فيها اعتلى العرش، بالنسبة إلى ملوك يهوذا وإسرائيل. غير أنّ هناك شواذًا واحدًا في نهاية الكتاب، حيث نقرأ: في السنة السابعة والثلاثين لجلاء يوياكين ملك يهوذا، مَلَك اويل مروداك في بابل.
3- من داود إلى رحبعام، ومن منسّى إلى صدقيا، نقرأ سلسلة من الملوك ونقرأ كلّ مرة، ألزمان الذي دام فيه مُلْك هذا أو ذاك. نقرأه في بداية اللَمحة المخصّصة لكلّ ملك. مثلاً: كان منسى ابن 12 سنة حين ملك، ودام مُلْكه 55 سنة بأورشليم (2 مل 01: 1). أو نقرأه في الخاتمة، فيقول النصّ بالنسبة إلى داود: ملك داود على إسرائيل 40 سنة. ملك بحبرون 7 سنين وبأورشليم 33 سنة (2: 1) ويقول بالنسبة إلى سليمان: وكانت أيّام ملك سليمان على إسرائيل 40 سنة (11: 42). وهكذا نقول عن يربعام (14: 20) وعن ياهو (2 مل 10 : 36). فهؤلاء الملوك الأربعة، بدأ عهدهم في الاضطراب، ولعب الأنبياء دورًا هامًا في إيصالهم إلى الملك، ولهذا جُعل الزمانُ في نهاية اللمحة. وكان بإمكاننا أن نقرأ الشيء ذاته عن زمري وعمري وشلوم ومناحيم وفقح، ولكنّ الكاتب اعتبر أنّ هذه العهود ليست مهمّة أو أنّه لم يجد لها مرجعًا في حَلَقات الأنبياء.
4- ويُقدّم كتاب الملوك معلومات عن كل ملك، تتراوح أهميّتها من خمس آيات إلى 11 فصلاً. ولكنّ الجميع "يتمتعّ " بلَمْحة نموذجية، يُعبّر عنها الكاتب بعبارة مُوحّدة. فيقول مثلاً عن ملوك يهوذا: في السنة... من فلان ابن فلان ملك إسرائيل، صار فلان ابن فلان ملك يهوذا. كان عمره... سنوات حين ملك، ودام مُلْكُه... سنوات بأورشليم. اسم أمّه فلانة (من هذه المدينة أو تلك) صنع القويم (أو الشرّ) في نظر الربّ... وما بقي من أعماله، مُدوّن في كتاب أخبار ملوك يهوذا. ورقد فلان مع آبائه ودُفِنَ (في مدينة داود)، ومَلَكَ فلان مكانه. وعن ملوك إسرائيل يقول النصّ: في السنة... لفلان مَلِكِ يهوذا، صار فلان ابن فلان ملكًا (في السامرة) على إسرائيل ودام مُلْكُه... سنين. صنع الشرّ في نظر الربّ... وما بقي من أخبار فلان وأعماله، مُدوّن في كتاب أخبار ملوك إسرائيل. رقد فلان مع آبائه (ودُفِنَ) فمَلَكَ فلان مكانه. هذه الصورة الجامدة تجعل الملوك على قَدَمِ المُساواة، أمَلكوا 40 سنة أو 8 أيّام، سواء امتلاءت الصفحات بأعمالهم وأخبارهم، أو انحصرت في اللَمْحة المُلخَّصة. هذا يدلّ على أنّ الكتاب يهتمّ بالنظام الملكيّ أكثر منه بشخصيات الملوك. فحركة التاريخ الإجمالية أهمّ من المُبادرات التي يقوم بها هذا الملك أو ذاك.
5- هناك ملوك سيموتون قتلاً (4 ملوك في يهوذا، 9 في إسرائيل)، وأربعة سيُؤخذون إلى المنفى فلا يرقدون مع آبائهم. ثمّ إنّ هناك عبارات مُختلفة، يصف بها الكاتب ملوك يهوذا وملوك إسرائيل. يقول في ملوك يهوذا يوشافاط، يوآش، أمصيا، عزريا، يوتام وسليمان (3:3): صنع ما هو قويم في نظر الربّ (مثل أبيه)، ولكنّه لم يُزِل المشارف. ويقول في يُورام وأحزيا حليفي بني عمري: اقتفى طريق بيت آحاب، وفعل الشرّ في نظر الربّ. ويقول في آسا، حزقيا، يوشيا: صنع القويم في عيني الربّ مثل داود أبيه، ويقول في الملوك الأربعة الأخيرين: فعل الشرّ في نظر الربّ كما فعل آباؤه. أمّا في ملوك إسرائيل، فنحن أمام عبارتين اثنتين. ألأولى: فعل الشرّفي نظر الربّ، وما حاد عن خطايا يربعام بن ناباط الذي جعل شعب إسرائيل يخطأ. ألثانية: فعل الشرّ في نظر الربّ فاقتفى طريق يربعام بخطاياه التي اقترفها، ودفع بني إسرائيل إلى اقترافها.
6- نظام اللَمَحات هذا، يُعطي النصّ بُنيةً ثابتة، ولكنّه يُوقعُنا في الرتابة. إلاّ أنّ الكاتب اتقى هذا الخطر بوسيلتين متباينتين. الأولى: جعل في نصّه أخبارًا مُفصّلة مثل بناء الهيكل (ف 6-7)، واستيلاء ياهو على السُلطة (2 مل 9-10)، وإصلاح يوشيا (2 مل 22-23)، وحصار سنحاريب لأورشليم (2 مل 18-19)، وخاصة أخبار الأنبياء. الثانية: قدّم من وقت إلى آخر، نظرة تأليفية مثل خطاب سليمان وصلاته في الهيكل (ف 8)، أو تأمّلات المؤرخ في دمار السامرة (2 مل 17). وهناك نظرات أخرى قصيرة، نُورد بعضها: في 15: 4؛ 2 مل 8: 19، نُلاحظ أنّ يهوه لا يريد أن يدمّر يهوذا، لأله وعد داود أن يُبقي له سراجًا (مَلِكًا من نسله) في أورشليم. في الحديث عن مملكة إسرائيل، نرى أنّ الربّ يُؤخّر عقابه لأنّ الملك تاب (29:21 ؛ 2 مل 10: 30)، أو لأنّ الربّ لا يُريد إزالة شعبه (2 مل 23:13؛ 14: 26). في 2 مل 21: 12-15، نقرأ قولاً نبويًا مُغْفَلاً، يحكم نهائيًا على سُلالة يهوذا بسبب رجاسات منسّى، ويتردد صدى هذا القول أربع مرّات بأشكال متنوعة: قول حلدة (16:22 17)، خاتمة ملك يوشيا (2 مل 26:23-27)، يوياقيم ( 2 مل 2:24-4)، صدقيا (2 مل 24: 20).
7- ألحروب بين حزائيل وملوك إسرائيل، هو موضوع تأمّلات المؤرخ الاشتراعي. في 2 مل 10: 32 نقرأ: وابتدأ الربّ يقتطع من إسرائيل، فهزمهم حزائيل في جميع أرض إسرائيل. وفي 13: 22: وضايق حزائيل إسرائيل جميع أيّام يوآحاز، وفي آ 23: إلاّ أنّ الربّ رثى لهم ورحمهم، ومال إليهم، وفي 14: 26: رأى الربّ ضيق إسرائيل. هذه الملاحظات تُذكّرنا بالصورة التي نراها في سفر القضاة، حيث يتوالى الخلاص والعِقاب (قض 2: 11-18؛ 6:10-16). وفي اللَمَحات عن ملوك يهوذا، يعود الكاتب إلى المشارف أو المعابد على التلال، فيهيئنا إلى إصلاح حزقيا (2 مل 18: 4، أزال المعابد عن التلال)، ويُوشيا (2 مل 23: 5، 13، 19) الذي هو عنصر أساسيّ في تاريخ مملكة يهوذا. ونلاحظ أيضا في أخبار يهوذا، أهميّة خزائن هيكل الربّ وقصر الملك، فيُورد الكاتب الحالات التي فيها نهبت (26:14؛ 2 مل 14:14؛ 25: 13-17)، أو أخذت لتُدفع جِزْيةً (2 مل 12: 19؛ 18: 15؛ 24: 13)، أو لتَشتري معاهدة (18:15-19؛ 2 مل 3:16). فنتساءل: كيف كانت هذه الخزائن تمتلىء بعد أن أفرِغَت مرارًا؟ أمّا كنوز سليمان فزالت منذ أيّام رحبعام (14: 25-28).
8- وهناك تأمّلات تبدو امتدادًا لأحداث وردت سابقًا. في 12: 19 نقرأ: وتمرّد إسرائيل على بيت داود إلى اليوم. وفي 2 مل 17: 34: وإلى هذا اليوم يعمل بنو السامرة كعاداتهم الأولى، فلا يتقون الربّ. ولكنّ أهم المُلاحظات هي تلك التي تُرافق تحقيق نبؤات الأنبياء. وإليك لائحة بها:
8: 20 (أتمّ الربّ القول، وقام سليمان مكان أبيه) تعود إلى 2 صم 7: 13 (سليمان باني الهيكل).
12: 15 ( ليَتمَّ كلام الربّ ليربعام) تعود إلى 11: 31 ي (تنصيب يربعام ملكًا).
29:14 (حَسَبَ كلام الربّ على لسان احيا) تعود إلى 14: 10، 14 (تصفية سُلالة يربعام).
16: 12 (حَسَبَ كلام الربّ لياهو النبي) تعود إلى 3:16 (تصفية سُلالة بعشا).
38:22 (حَسَبَ كلام الربّ الذي تكلّم به) تعود إلى 21: 23 (ألحُكم على آحاب).
2 مل 1 :17 (مات بحَسَب كلام الربّ إلى إيليا) تعود إلى 2 مل 1 :6 (ألحُكم على أحزيا).
2 مل 9: 36 (كلام الربّ بلسان إيليا) تعود إلى 21: 23 (ألحُكم على آحاب).
2 مل 15: 12 (قول الربّ إلى ياهو) تعود إلى 2 مل 10: 30 (دوام سُلالة ياهو).
2 مل 23: 15-18 (رَجُل الله الذي تنبأ) تعود إلى 2 مل 13: 2 (تدنيس بيت إيل).
2 مل 2:24-3 (قول الربّ على ألسنة أنبيائه) تعود إلى 2 مل 21: 10-14 (إزالة يهوذا).
ويُمكننا أن نُلاحظ هذا الرسم في صورته البدائية في 2 مل 43:4-44 (دورة أليشاع): وافى رجل من بعل شليشة... فقال رجل الله: أعْطِ القوم ليأكلوا، لأنّه كذا قال الربّ: يأكلون ويَفْضُل عنهم. ويُمكننا أن نزيد على هذه النصوص 2 مل 17: 23 الذي يتضمن نصًا أوسع يعود بنا إلى سلسلة من النبوءات، لا نقرأ منها إلاّ ما ورد في 14: 15-16. ثمّ إن 2 مل 14: 25 (حسب قول الرب)، تعود بنا إلى قول يونان بن امتاي النبيّ، وهو قول لا يَرِدُ في الكتاب.
يُنبىء النبيّ فتتحقق نبؤته. نحن هنا أمام لاهوت التاريخ، والربّ هو سيّد الأحداث، فلا يحصل شيء بدون عِلْمه، وبالتالي بدون إرادته.
9- ونتوقّف على بعض أقوال الأنبياء الموسّعة أكثر من غيرها: قولان لاحيا الشيلوني (11: 3-39؛ 14 : 7-16)، قول ياهو بن حناني (16: 1-4)، قول إيليا ضدّ آحاب (21: 19- 2)، قول حلدة ضدّ يُوشيا (2 مل 16:22) وقول الأنبياء عمومًا (2 مل 21: 10-15). ونزيد على هذه الأقوال النبوية أقوالاً وجّهها الله دون وسيط إلى سليمان (6: 11-13؛ 3:9-9) وياهو (2 مل 10: 30). هذه النصوص تعود بنا إلى أنواع أدبيّة مُختلفة: تنصيب ملك (6: 11-13؛ 3:9-9؛ 11: 31-39)، عطيّة من الله لقاء عَمَلٍ حسن (2 مل 10: 30)، دعوى نبوية حسب رسم الاتهام البَسيط (الاتهام+الحُكْم 21: 19-22؛ 2 مل 21: 10-15؛ 22: 16) أو إجراء التحقيق البسيط (تذكير بالعطايا السابقة + إتّهام + حُكْم 14: 7- 14؛ 16: 1- 4).
10- هذه النُصوص تنتظم حول الحُكم المُثلّث على سُلالات الشمَال: يربعام (ف 14) بعشا (ف 16) آحاب (ف 21). وفي الحالات الثلاث يصدر الحُكْم بشكل واحدٍ (ها أنا أجلب...) ويُنبىء بإفناء كلّ السُلالة الملكيّة (16: 4؛ 21: 22). هناك تسلسُل بين سبب ونتيجة، لأنّ كلّ ملك جديد، يتولّى القضاء على السُلالة السابقة. ولكن هناك فرقًا بين سُلالات الشمال وسُلالة داود. فالوعد ليربعام مشروط بوضوح: إن سَمِعْتِ كلّ ما آمرك به، وسَلَكْتَ في طرقي، وعَمِلْتَ ما هو قويم في نظري، حافظًا فرائضي ووصاياي مثل داود عبدي، أكون معك وأبني لك بيتًا ثابتًا. كما بنيت لداود، واعطيك إسرائيل (11: 38). ولكنّ سُلالة داود لن تزول ولن تنقرض بل تُذَلّ فقط (11: 39). قال الله بصيغة الإيجاب: إن حفط بنوك طريقهم القويم، وسلكوا بالحقّ من كلّ قلوبهم... لا ينقطع لك رجل عن عرش إسرائيل (4:2). وعندما يتكلّم بطريقة سلبية، فخيانة ملوك يهوذا تُزيل المدينة والهيكل لا السُلالة الملكية، فنحن نقرأ في 9: 6-8: إنّ حِدتم عن الطريق... أقرض إسرائيل... وأرذُل البيت الذي قدّسته لاسمي. وفي 2 مل 21: 10-14 التي تدلّ على خطايا الملك، لا نقرأ حكمًا على الملك بل على أورشليم ويهوذا. وتؤكّد النبية حلدة الحُكْم على هذا المكان وسُكّانه (2 مل 22: 6) لا على الملك. وَضْعُ مملكة الجنوب يختلف عن وضع مملكة الشمال، بالنسبة إلى علاقة الملك بالشعب. في إسرائيل تزول السُلالة الملكية، ولكنّ الشعب يبقى. في يهوذا تبقى السُلالة حاضرة، وإن زالت الأمّة. في إسرائيل يُعَاقَب الشعبُ بسبب خطاياه، في يهوذا يعاقَبُ الشعبُ بسبب خطايا مَلِكِه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM