الفصْلُ الخامِس: عَظمَة سُليمان وَالضّعف الذي تميّزت بهِ نهَاية عَهْده

الفصْلُ الخامِس
عَظمَة سُليمان وَالضّعف الذي
تميّزت بهِ نهَاية عَهْده
9: 1- 11: 43

أ- المقدّمة
ويتراءى الله لسُليمان مرةً ثانية ويكلّمه (9: 1-9)، فيتقوّى سُليمان ويُتابع أعماله العظيمة، من بناء مُدُنٍ وتَنْظيم أسطول (آ 10-28)، فيأتي الناس من البعيد، ليروا عظمته وسعة غناه، ومنهم ملكة سبأ (1:10-29). ولكنّ هذه العظمة سيُقابلها الضعف: طَغَت النساء على قَلْب سليمان، فمال عن عبادة ربّه (11: 1-13)، ولهذا عرف الأعداءَ من الخارج (آ 14-25) ومن الداخل، ولا سيّمَا يربعام (آ 26- 41)، قبل أن يموت (آ 42-43). ولكنّ المملكة ستنقَسِمُ بعدْ موته.

ب- تفسير الآيات الكتابية
1- وتجلّى الله لسُلمان (9: 1-9)

نقرأ مثل هذا المقطع في 2 أخ 7: 11-22، وهو يرجع إلى الجوّ الاشتراعي الخالص بعباراته المُتعدّدة: أجعل فيه اسمي (تث 12: 5، 21)، وعبدتم آلهة غريبة، وسجدتم لها (تث 29: 25)، فيقولون: لأنهم تركوا الربّ (تث 29: 24).
(آ 9: 1-3) وتجلّى الربّ لسليمان مرّةً ثانية، لأنّه يُمَثّل الجماعة، ونبّهه ونبّه جماعته، قال: إنّ السلام والبَرَكة يدومان ما دام الصِدْق في حِفْظ وصايا الله. سمعتُ صلاتك وتضرّعك...
(آ 4- 5) إذا سرت أمامي كما سار داود أبوك، أثبّت مُلكك إلى الأبد.
(آ 6-9) أمّا إذا لم تحفظوا وصاياي، فإني أقْرِضُ بني إسرائيل عن وجه الأرض، وأجعل هذا البيت عِبْرةَ لِمَن اعتَبَر.
كُتِب هذا المقطع بعد سنة 587، يوم دُمّرت المدينة والهيكل، فأجاب إلى السؤال: كيف سمح الله لأمّة وثنية أن تُدمّر الهيكل؟ هل كان الله ضعيفًا، فما استطاع الوقوف بوجه البابليين؟ لا، لم يكن الله ضعيفًا ولا مترددًا، فتراجع عن عهده ونسي وعده. بل هو القدير الذي استعمل البابليين كأداة يُعاقب بها شعبه.
يتحمّل بنو إسرائيل مسؤوليّة دمار الهيكل، وإعادة بنائه تَرْتَبِطُ بتبدّل قلوبهم. هذا هو التعليم الذي حمله المؤرخ الاشتراعي إلى مُعاصريه الذين عرفوا ذُلّ الهزيمة والمنفى، فدعاهم من جديد إلى السير على خُطى الله والعمل بوصاياه.
2- بعض أعمال سُليمان (9: 10-28)

(آ 10-14) رج 2 أخ 8: 1-2. كثرت أشغال سليمان، فاحتاج إلى أن يبيع قِسْمًا من أرضه للملك حيرام ويدفع دُيُونه.
دُعيت المنطقة كابول أي الحدود، أما الكاتب ففسّرها: لا تساوي شيئًا. كابول تقع في أشير (يش 27:19) شرقيّ عكا.
(آ 15-19) وبنى سليمان الحُصون العديدة. ملو هو ساحة حول الهيكل والقصر الملكيّ. حاصور تقع جنوبيّ غربيّ مياه ميروم (بحيرة الحولة). مجدّو هي تلّ المتسلم، وتقع جنوبيّ قيشون. جازر هي تلّ جازر وتبعُد 35 كلم إلى الغرب من أورشليم.
بيت حورون السُفلى أو بيت حون التحتا تقع في إفرائيم، وتبعُد 20 كلم إلى الشمال الغربيّ من أورشليم. بعلت تقع في قبيلة دان (يش 19: 44). تامار (أو عين العروس) تقع على حدود يهوذا جنوبيّ البحر الميّت. هل نأخذ بعين الاعتبار نص 2 أخ 8: 4 (وما يجب أن نقرأ هنا) الذي يتحدّث عن تدمر؟ الأمر غير معقول .
(آ 20-23) تنظيم أعمال السُخْرة. يُحاول الكاتب أن يُبرّىء ساحة سلمان، فيقول عنه إنّه لم يُسخّر بني إسرائيل بل أبناء الشعوب الذين بقوا في أرض كنعان، مثل الأموريين والحِثّيين... ولكنّ الواقع هو غير هذا و 5: 35 تقول: سَخّر سليمان ثلاثين ألفًا من بني إسرائيل.
(آ 24-25) ملاحظتان قصيرتان عن بنت فرعون التي صعدت إلى قصرها، وعن الذبائح التي كان يُقدّمها الملك ثلاث مرّات في السنة أي في أعياد الفطير والأسابيع والمظالّ.
(آ 26-28) وابتنى سليمان لنفسه أسطولاً، ليَدُلّ على عظمته من جهة، ومن جهة ثانية ليُؤمّن المال اللازم لمشاريعه العديدة.
عصيون جابر وايلات هما مرفآن في خليج العقبة. أو فيرتقع على الشاطىء الغربيّ لِشبْه الجزيرة العربية (تك 10: 29)، وقد اشتهرت بذهبها (أي 22: 24؛ 28: 16؛ اش 12:13).
3- زيارة ملكة سبأ ( 10: 1-13)

زيارة الملكة سبأ، مثلٌ عن سَعْي المؤرخ الاشتراعي إلى تعظيم الملك سليمان، وإعطاء شخصيته أبعادًا واسعة. فقد كانت حكمته عظيمة ومعروفة، بحيث أنّ ملكة عظيمة تجشَّمت عناء السفر، فجاءت من بلد بعيد، تُقدّم احترامًا لهذا الملك وتتعلّم منه. لا عجب أن يزور ملَكٌ ملكًا، وزيارة ملكة سبأ أمر معقول (لبحث أمور تجارية. مثلا رج حز 27: 22)، ولكنّ المسافة بين سليمان وزائرته امتدت. بَهَرَ سليمان زائرته، فتمنّت أن تكون بين خدمه وحشمه، فترى أفعاله وتسمع أقواله الحكيمة.
نشير هنا إلى أنّ هذه الزيارة كانت مشهورة وقد لمّح إليها يسوع، فقال: ملكة التيمن ستقوم يوم الدين مع هذا الجيل وتحكم عليه، لأنها جاءت من أقاصي الارض لتسمع حكمة سليمان، وههنا أعظم من سليمان (مت 42:12؛ رج لو 11: 31). وقد ذكر القرَآن الملكة بلقيس التي جاءت إلى سليمان الحكيم، لتُلقي عليه الألغاز وتسمع أقوال حكمته.
(آ 10: 1-3) جاءت ملكة سبأ (في منطقة اليمن، مع العلم أنّ القبائل السبأية كانت تتجوّل أيضاً شمالي الجزيرة العربية). وحملت معها الهدايا وطرحت على سليمان الأسئلة، فأجابها على أسئلتها ولم يَخْفَ عليه شيء.
(آ 4- 10) حين رأت الملكة عظمة سليمان ألقت خطابها، فامتدحت الملك ومجدّت الله الذي أجلسه على عرش إسرائيل، وحسدت أفرادَ حاشيته. وقبل أن تعود إلى بلادها، قدمت إلى الملك هداياها.
(آ 11-13) وينقطع الخبر في آ 11-12 بذكر أوفير، وما جلبه أسطول سليمان من هناك، ثم يعود النصّ إلى ملكة سبأ التي رجعت إلى بلادها، مُحمّلة بهدايا سخيّة من الملك سليمان.
4- غنى سليمان (10 : 14 -26)

(آ 14-15) نقرأ هنا سلسلة من العبارات تدلّ على عَظَمة ملك سليمان، وقد ضُخِّمت لتدلّ على غنى هذا الملك العظيم. وأول الغنى هو الذهب: 666 وزنة، والوزنة تساوي 34 كلغ.
(آ 16-17) كَثُرَ الذهب فصنع منه سليمان تُروسًا. حلَّ الذهب محلّ الحديد لكثرته.
(آ 18- 20) والغنى الآخر هو العاج. صنع سليمان عرشه من العاج، وألبسه ذهبًا إبريزًا.
(آ 21-22) وآنية شرب الملك صُنعت هي أيضًا من الذهب الآتي من البُلدان البعيدة. ترشيش مرفأ على شاطىء إسبانيا الغربيّ، عند مصب نهر الوادي الكبير. ولكن المعنى هنا: سفن ضخمة تستطيع أن تصل، إذا أرادت، إلى ترشيش.
(آ 23-27) وعاد الكاتب يُحدّثنا عن عظمة سليمان وغناه وحكمته.
(آ 28-29) خيل سليمان ومركباته. جاءته من مصر وقُوى أي منطقة كيليكية في تركيا... وهكذا دخل رجال سليمان في تيّار تجارة الشرق الأوسط.
5- نساء سلمان وتعبّد الملك للآفة (11: 1-13)

كان سليمان ملكًا عظيمًا وقويًا، هذا ما لا شكّ فيه، ولكن تضخّمت الأخبار عنه، وجُمِّلت صورة ذلك الحكيم الذي بنى الهيكل. بالنسبة إلى المؤرخ الاشتراعي، هذا أمر مهمّ لأنّ البَرَكة والازدهار يُرافقان الملك المُستقيم، والعِقاب بالويلات يُصيب الخطأة. فطِبْقًا لهذا التعليم، سيترك هذا الملك الناجح والعظيم لخلفه مملكةً قوية، ولكن لم يكن الواقع كذلك. فبعد موت سليمان لم يبق لأبنه رحبعام إلا مملكة صغيرة، بعيدة عن الازدهار. كيف نفسّر ذلك؟ وهكذا كُتب ف 11 ليهيّىء القارئ لهذا التبدّل الذي لم تكن أسبابه بشريّة محضة، بل ارتبطت بمخطّط الله في شعبه. ترك المؤرخ الاشتراعي الأسباب الطبيعية، وشدّد على خطيئة سليمان الكبرى التي هي جُحود الربّ والتعلّق بآلهة غريبة. لا يقبل يهوه بهذا السلوك لأله الإله الغيور الذي لا يقبل أن تمتزج عبادة شعبه له بعبادات الكنعانيين.
(آ 11: 1-3) وكان لسُليمان نساء عديدات أكثر من والده (2 صم 3: 2-5؛ 13:5-16)، فدلّ بذلك على عظمته البشرية على غِرار ملوك اسم الشرق.
(آ 4-8) وبدأ يتعبد لآلهة كُلّ امرأة. ويعذر الكاتب سليمان، فيعزو هذا الجحود إلى زمن شيخوخته. عشتاروت هي إلهة الحُبّ والخصْب عند الكنعانيين والفينيقيين (أي الصيدونيين). ملكوم (اي الملك) هو إله بني عمّوَن، كاموش (هل يعود إلى الشمس) هو إله بني موآب. ولكن الكاتب المُلهم يعتبر هذه الآلهة رِجْسًا.
نُشير هنا إلى أنّ سفر الأخبار لم يذكر هذه الصفحة غير المشرِّفة من حياة سليمان.
(آ 9-13) فغضب الربّ على سليمان وهدده: سأشقّ المُلْك وأدفعه إلى عبيدك... ولكن لا في أيّامك بل في أيّام ابنك، وأُبقي لنَسْلك سِبْطًا واحدًا. إرتبطت قبيلة بنيامين بقبيلة داود، فكوّنت القبيلتان سِبْطًا واحدًا.
6- خصوم سلمان (11: 14-43)

(آ 14-22) كان هدد ملك أدوم (تقع جنوبي يهوذا ويفصل البحر الميّت بين المملكتين) أول خصم. أخضعه داود ولكنّه ثار في نهاية حكم سليمان، بعد أن شجّعه فرعون مصر وزوَّجه أخت امرأته.
فاران قسم من شبه جزيرة سيناء. مِدْيان منطقة تقع شماليّ شرقي خليج العَقَبة. (آ 23-25). ألخصم الثاني هو رزون بن الياداع الذي صار ملك دمشق. صوبة: ربّما تكون بعلبك اللبنانية.
(آ 26-28) ألخَصْم الثالث والأهمّ لأنّه من داخل البلاد، هو يربعام الذي كان مسؤولاً عن أعمال السُخْرة تحت يد أدونيرام (4: 6)، وكان رجلاً جبارًا من بيت إفرائيم. الصريدة هي ما يُسمّى فيمَا بعد السامرة. صروعة أي البرص.
(آ 29-39) وجاء أحيا الشيوني أي من شيلو التي تبعُد 30 كلم إلى الشمال من أورشليم، وقد كانت مركزًا دينيًا هامًا قبل أن تُدمّر بعد معركة أفيق (ار 7: 12، 14؛ 26: 6، 9؛ مز 78: 60).
وتنبأ أحيا ليربعام: أشُقّ الملك من يد سليمان، وأعطيك عشرة أسباط. واعطى السبب: عبد عشتاروت وكاموش وملكوم. وحذّر النبي يربعام: إن حفظت وصاياي أجعل نسلك دائمًا مثل نسل داود.
(آ 40) حاول سليمان أن يقبض على يربعام فهرب إلى مصر. شيشاق أو شيشانق (950-929) هو مُؤسس السُلالة الثانية والعشرين.
(آ 41-43) (رج 2 أخ 9: 29- 31). وإذا اردت ايها القارىء أن تعرف المزيد، فارجع إلى أخبار سليمان المحفوظة في القصر الملكي.
ملك سلطان أربعين سنة تقريبًا مثل داود، والأربعون سنة تدلّ على عمر جيل من الناس.

ج- ملاحظات
1- أمسك احيا بالرداء وشقّه اثنتي عشرة قطعة، فكان فعله أوّل مَثَل لتدخّل نبوي نُعبّر عنه بعبارة "عمل رمزي". فالنبي يفعل فعلاً يهدف إلى تمثيل مُسبق لحَدَث عتيد. وتمثيله هذا يُدخل الفعل في عالم الواقع. مثل هذا التعليم "بالعمل" سيكون نافذًا، وسيستعمله الأنبياء مرارًا. فأشعيا سيمشي حافيًا عريانًا مثّل ما سيحصل لمصر وكوش (اش 2:20 ي)، وسيجعل إرميا نيرًا في عنقه، ليدُلّ ملوك الشرق على أنهم سيخضعون لملك بابل (ار 27: 2-13؛ رج 13: 1-14). وسيرسم حزقيال مدينة أورشليم ويُقيم عليها الحصار ويبني مترسة ليدُلّ على الحالة التي ستصير إليها على يد البابليين (حز 4: 1-17؛ رج 24:3-27 ؛ أع 21 : 11).
2- أن يسند نبي الملكَ يربعام أمر مُهمّ. فالانبياء هم بين القواد الدينيين الذين يُعارضون طرق الحياة الكنعانية، وكلّ محاولة لإدخالها في شعب إسرائيل. بعد أن صار الأنبياء ينتقدون بحرية حتى الملوك (2 صم 12: 1-14)، كان من الطبيعيّ أنّ يقف بعضهم ويُعارضوا الملكية. كانوا يعتقدون أنّ ما يطلبه الملك من أعمال سُخْرة، سيبدّل المجتمع من سيء إلى أسوأ. وهكذا كانت مُحاولة يربعام لجرّ قبائل الشمال إلى الثورة. اسنده الانبياء فربح مِقدارًا كبيرًا من السلطة بسبب هذا السَنَد.
3- بما أنّ الانبياء قادوا الحرب على انتشار التأثير الكنعاني في كلّ من إسرائيل ويهوذا، فقد نظر إليهم المؤرخ الاشتراعي نظرة تقدير واحترام. أعطى الله شريعته لمُوسى، وأراد بعد موت موسى أن يقوم نبي يُتابع عمل موسى، فيدعو الشعر ليُخْلِصَ لشريعة الربّ ويفسّر له إرادة الربّ (تث 18: 15). ولكن يبقى أن يميّز الشعب بين الأنبياء الصادقين والأنبياء الكذبة. ألشريعة تعطي الجواب: إن تكلّم النبيّ وتمّ كلامه، يكون الله تكلّم فيه، وإن تكلّم وما تمّ كلامه، فهذا يعني أنّ الله لم يتكلم به (تث 18: 01- 22). وهكذا نتأكّد من صدْق كلام أحيا، ونفهم أنّ يربعام هو أداة اختارها الربّ ليُتمّ بها مُخططه في شعبه. ألإنسان لا يصنع التاريخ بل الله هو الذي يحرّك الناس من أجل خُطّته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM