الفصْلُ الرابع: تدشِــين الهَيكَل وَنقْل تابوت العَهْد إليَه

الفصْلُ الرابع
تدشِــين الهَيكَل
وَنقْل تابوت العَهْد إليَه
8 : 1 - 66

أ- المقدّمة
1- وعاد الكاتب بعد زمن طويل، وكتب خَبَر تدشين الهيكل بأبهة لا مثيل لها. ضخَّم الأرقام ونسَّق الأخبار، ليجعل من هذا الاحتفال، مرجعًا يعود إليه المؤمنون البعيدون عن أرض الآباء. كان هناك نصّ أساسيّ هو الذي نجده في الترجمة اليونانية. وسيزيد عليه المؤرخ الاشتراعي عبارات خاصّة به.
2- ونقل الملك تابوت العهد من مدينة داود إلى الهيكل (8: 1-13)، ثمّ بدأ خطابه للشعب (آ 14- 21)، ورفع صلاته إلى الربّ (آ 22-53). قبل أن يُبارك الشعب (آ 54- 61)، ويُقدّم الذبائح العديدة. موضوع الصلاة، تحقيق الوعد. نقرأ في آ 15: تبارك الربّ لأنه أتمّ ما وعد به داود أبي. وفي آ 56: تبارك الربّ... لأنّه وهب الراحة لشعبه حسب وعده، فقد أتمّ بالتفاصيل الوعد العجيب الذي وعد به بواسطة موسى عبده. إذًا المواعيد هي لداود، ألمواعيد هي للشعب.
3- بعد أن يُصلّي سليمان من أجل السلالة الملكية، ينتقل إلى الصلاة من أجل الهيكل: أن تُستجاب كلّ صلاة تُتْلى في الهيكل، أكانت صلاة الملك أم صلاة الشعب. وبعد آ 30 تتكرّر الردّة: فاسمع أنت من السماء مكان سُكْناك، وإذا سمعت فاغفِر أو فاعمَل (آ 32، 43، 45). ويرفع سليمان 7 طلبات، من الحاجات الفردية اليومية الى الظروف القاسية والعامة التي يكون فيها الشعب: إذا أساء أحد إلى صاحبه، إذا انهزم شعبك، إذا لم يكن مطر، إذا حَدَث جوع أو وباء... إذا خرج شعبك إلى الحرب، إذا ذهب شعبك إلى المنفى. خلال الحياة في المنفى يستطيع المؤمن أن يتطلعّ إلى الهيكل... وسيتدخّل الله.
4- نُلاحظ في الطِلْبة الخامسة التي لم نذكرها الصورة الشاملة للصلاة: إذا صلّى الأجنبي (الغريب) الذي ليس من شعبك، ويكون قد جاء من مكان بعيد، وسمع باسمك العظيم ويدك القديرة وذراعك الممدودة، إذا صلّى فاسمع له ليعرف جميع أمم الأرض اسمك ويتّقوك مثل شعبك إسرائيل (آ 41-43)، ليعلم جميع شعوب الأرض، أنّ الربّ هو الإله، وليس غيره إله (آ 60).
5- ألمُقابلة بين آ 15 و آ 55 تجعلنا نرى في النصّ مُحاولة لتحديد العلاقات بين العهد السينائي والعهد الداودي، عبر وساطة الهيكل. ولهذا نقرأ آ 51-52: "إنّهم شعبك الذي أخرجته من أرض مصر... لتكن عيناك مفتوحتين إلى تضرّع عبدك (أي الملك) وشعبك إسرائيل، بحيث تسمع لهم كلّ مرّة يدعونك". لقد خلق الخروجُ من مصر، علاقةَ العهد التي إحدى ميزاتها، أنّ يهوه مستعدّ دائمًا لسماع صلاة شعبه (تث 4: 6). غير أنّ هذا الاستعداد لا يتمّ إلا في الهيكل الذي لا يقدر أن يبنيه إلا الملك. فاختيار داود ودوام سُلالته، هما إذًا الوسيلة التاريخية لتحقيق العهد السينائي. وإذ يُشدّد النصّ على "صلاة عبدك" الملك، فهو يدّلنا على دور الملك في علاقة الصلاة بين الشعب والله.
ويُمكننا أن ننظر إلى العلاقة بين العهدين السينائي والداودي، إنطلاقًا من آ 21 (هيّأت هناك مكانًا للتابوت الذي فيه العهد الذي قطعه الربّ لآبائنا، حين أخرجهم من أرض مصر، و آ 27 (هل يسكن الله حقًا على الأرض؟ ألسماوات وسماوات السماوات لا تسعك، فكيف هذا البيت الذي بنيته). ما يحتويه الهيكل ليس الله بل تابوت العهد. وهكذا فالعهد السينائي موجود في هيكل بناه الملك، ومواعيد العهد تتحقّق منذ الآن عَبر الهيكل (آ 30-53). ومتطلباته ستفرض نفسها أولاً على الملك (رج 4:9-6). وإن كان العهد الداودي مُسيطرًا، إلاّ أنّ العهد السينائي يُحيط به. وهكذا يكون العهد الداودي إحدى الوسائل لتحقيق العهد السينائي.
7- إذا كان موضوع هذه الصلاة العهد، فلا بُدّ أن نجد صدىً لتعابير معروفة لكِرازة العهد. إليك بعضها:
أولاً: تذكير بالماضي ليدفع المؤمن إلى الالتزام بالحاضر: ما صنعه الله لداود وسليمان وللشعب، وما يصنعه الملك ليهوه. ثانيًا: تضرّع يتوجّه إلى الله، ويُحدّد برنامجًا يرتبط بمتطلّبات العهد الأساسية: فلتكُن قلوبكم مُخْلِصة للربّ إلهنا، لتسلكوا في رسومه وتحفظوا وصاياه (آ 61). ثالثًا: ألتفاصيل بشكل فتوى: إذا... إذا...
8- هذا النصّ هو عهد يعرضه سليمان على الله، ويُعبّر الله عن قبوله بالقول الذي نقرأه في 9: 3، سمعتُ صلاتك وتضرّعك، وقدّست هذا البيت، وستكون عيناي وقلبي فيه كلّ الأيّام. ولكن لا ننسى أنّ الله يحتفظ بالمُبادرة. فهو سبق وأعلن قبوله، قبل أن يعرض سليمان عليه أيّ شيء (6: 11-13). وحين يقول لسُليمان: سمعت صلاتك، فهو يضع الشروط: إنْ سِرْتَ أمامي كما سار داود أبوك (9: 4-9). ويُمكننا القول إنّ رفض الله لمشروع داود (نذكره في 8: 19)، هو رَفْض لعرض سليمان المُتضمّن في بناء الهيكل. رفض الربُ ثمّ قَبِل، فحافظ على حرّيته.

ب- تفسير الآيات الكتابية
1- نَقْل تابوت العهد إلى الهيكل (8: 1-13)

(آ 8: 1) كان التابوت في مدينة داود في الخيمة التي نصبها له داود (2 صم 17:6).
تابوت العهد هو صُندوق مصنوع من خشب السَنْط، وكان الرمزَ الدينيّ الذي يمثّل حضور الله مع القبائل. في الماضي كان يُحمَل إلى الحرب في معارك القبائل ضِدّ الفلسطيين، بل كان المعبد الدينيّ الذي حمله البدو في حَلّهم وترحالهم. حوى في القديم حجرًا مقدسًا أقام عليه الله (حجر يعقوب في بيت إيل تك 28: 18)، وفي ما بعد ارتبط باللَوْحين الحجريين اللذين كُتِبَت عليهما الوصايا على جبل سيناء. وهكذا أخذ التقليد الدينيّ معنى جديدًا، وصار تجمعّ القبائل وارثًا لتقليد لاهوتي يرتبط بعهد سيناء. ولما جاء التابوت إلى الهيكل، إرتبطت سُلالة داود بعهد سيناء
(آ 2) إيتانيم أو ايلول- تشرين الأول (رج 6: 1). والعيد هو عيد المظالّ الذي تبدّل زمنُ الاحتفال به على مدّ العصور. في هذا العيد كان العبرانيون يحجّون إلى أورشليم، ويُقيمون في خِيام موّقتة.
(آ 3- 5) خيمة الاجتماع كانت تُغطّي تابوت العهد (خر 7:33- 11). نشير هنا إلى أنّ هذه الخيمة زالت بعد أن انتهت الإقامة في البرّية. فمنذ أيام عالي كان التابوت في بيت (1 صم 1: 7؛ 15:3)، بل في معبد (1 صم 1 :9؛ 3:3). تحدّث النصّ أساسًا عن الكهنة، وسيزيد التقليد الكهنوتي اللاويين الذين يَحِقّ لهم وحدهم أن يحملوا تابوت العهد. "جماعة" تعود بنا إلى زمن ما بعد الجلاء، حيث كان بنو إسرائيل يُؤلّفون مُجتمعًا لا يتضمّن عُنْصرًا غريبًا، ويعيش حسب الشريعة بقيادة الكاهن الأعظم.
(آ 6-9) قُدس الأقداس هو المكان الأكثر قداسة والذي يدخله رئيس الكهنة مرّة في السنة. حوريب هو اسم جبل سيناء في التقليد الاشتراعي.
(آ 10- 11) ألسحاب: بهاء مُضيء يدلّ على حضور الله (خر 16:19؛ تث 4: 11؛ عد 9: 5 ا-23). نزل الله في مجده عبر السحاب (خر 16: 10 ؛ 16:24؛ لو 9: 32-34)، فوضع يده على "مسكن البرّية" (خر 40: 34-35) وهيكل حزقيال (حز 11: 22-23 ؛ 43 : 2- 5).
قدّم سليمان العدد الكبير من الذبائح. أبان الربّ أنّه قبلها فنزل في السحاب.
(آ 12-13) أوّل صلاة لسُليمان: أنت تسكن في السحاب، وأنا بنيت لك هذا البيت... هذه الصلاة نقرأها في كتاب النشيد، كما يقوله النصّ اليوناني (رج كتاب ي شر أو المُستقيم؛ يش 10: 13؛ 2 صم 1 :18). ألله يهوه يختلف عن آلهة كنعان، هو الحاضر في هيكله والمُنظِّم لِقوى الطبيعة، والمُهتمّ بأمر شعبه.
2- تدشين الهيكل (8: 14-53)

دشّن سليمان الهيكل لأنّ الملك هو رئيس كهنة أمتّه. هو يمثّل شعبه أمام الله وأمام سائر الشعوب، ويحمل إليهم بركات الله. وقدّم سليمان الهيكل كموضع سُكْنى الله وسط شعبه.
(آ 14- 11) وبدأت حفلة التدشين، فتوجّه سليمان بالكلام إلى شعبه. بارك شعبه على مثال يشوع (يش 22: 6) وداود (2 صم 18:6)، وقال: تبارك الربّ إله إسرائيل... وأعلن السبب الذي لأجله بنى هذا الهيكل، وجعل فيه تابوت العهد.
(آ 22-26) وأطلق سليمان صلاته، فذكَّر الله بعهده... ليس إله مثلك... تعبير ناقص عن وحدانية الله (خر 15: 11؛ تث 3: 24؛ مز 86: 8). هناك يهوه وهناك آلهة أخرى، ولكنّ يهوه أفضل منها. أمّا التعبير المُطلق لوحدانيّة الله، فنجده في أشعيا الثاني. قال الربّ: أنا الأول وأنا الآخِر، ولا إله غيري (اش 44: 6؛ رج 45: 5-6، 21، 22؛ 9:46).
(آ 27- 30) وتابع سليمان صلاته بالطَلَب بعد الشكر: إلتَفتْ إلى صلاة عبدك، واسمع، وإذا سمعت فاغفِرْ.
هل يسكن الله حقًا على الأرض (آ 27)؟ تطرح الصلاةُ مُشكلةَ حضور الله الدائم في مكان من الأمكنة. لا يقوله الكتاب إنّ الله يسكن في الهيكل، بحيث يكون غائبًا عن سائر الأمكنة. فالله لا يُمكن الإحاطة به، ولا الاقتراب منه، وعلاقتنا به علاقة شخصية. لا شكّ في أنّ الله يقبل تحديدًا لحضوره في مكان على الأرض، لأنّ الكائن البشري يحتاج إلى أن يلتقي به في مكان خاصّ بحيث يُدرك حضوره في كلّ مكان. نحن ننطلق من الخاصّ إلى العام، من الهيكل إلى الكون كلّه، وهكذا يسكن الله في الهيكل حقًا، ويستطيع الشعب في شخص مَلِكِهِ أن يلتقي به في الصلاة، وأن يُحِسّ بهذا اللقاء عندما تُغفر خطيئته.
ولكنّ مبدأ الحضور الإلهي هذا، سيفهمه الشعب خطأ، ولهذا سيُوبّخ إرميا شعب أورشليم في أيامه، لأنّ تفكيرهم الخرافي جعلهم يفكّرون أن أورشليم لن تسقط بيد العدو، لأنّ الله يسكن فيها وفي هيكلها (ار 7: 1-15). سيتعلّم الشعب بالخُبْرة معنى هذه الكلمات: حضور الله يحمل البركة فقط إلى الذين يتجاوبون معه بالمحبّة الدائمة. أمّا بالنسبة إلى الباقين، فحضور الله يعني الدينونة. وسيُعبّر حزقيال عن هذا الواقع، فيُصوّر حضور الله مُبتعدًا عن هذا الهيكل، قبل أن تدمّر المدينة (حز 18:10-19؛ 23:11-25). ولكنّ الحُكْمَ بالدمار لم يكن الكلمة الأخيرة، فيتطلع حزقيال إلى اليوم الذي سيُعاد فيه بناء الهيكل، فيعود الله ليسكن وسط شعبه المُقدّس (حز 43: 1-9).
سماء السموات هي أعلى السماوات، وستبتهج الآداب الجِليانية اليهودية بتصويرها ويقول مار بولس (2 كور 12: 2) إنّه خُطف إلى السماء الثالثة.
"ليلاً نهارًا". يبدو أنّه كان هناك صلاة الليل في الهيكل الثاني الذي نُجبَ بعد الجلاء. "هُناك يكون اسمي"، هذا هو تعبير أشتراعي. "نحو هذا المكان". حين يُصلّون كانوا يرفعون أيديهم باتّجاه الهيكل (آ 30، 35، 42).
(آ 31-32) هنا تبدأ صلاة الغُفران، وكلّ طِلْبَةً تبدأ: إذا أساء... إذا حدث... إذا أساء أحد إلى صاحبه، وفرض عليه القسم... أنت يا ربّ احكُم على المنافق وبرىء البار.
(آ 33-34) إذا انهزم شعبك، ثمّ تاب إليك (بدّل موقفه ورجع إلى الربّ. رج تث 30: 2؛ 1 صم 7: 3) فاسمع له وردّه إلى أرضه.
(آ 35-36) إذا انقطع المطر بسبب خطيئة شعبك (واحتباس المطر عِقاب من عند الربّ. تث 28: 20-24؛ لا 18:26-19).
(آ 37-40) وإذا حدثت إحدى هذه المصائب: ألجوع وهو وليد القَحْط والجفاف، الوباء (مز 91: 3، 6؛ ار 14: 12)، إحتراق المزروعات، وصول الجراد، مجيء الأعداء للسَلْب والنَهْب... إذا صلّوا فان واستَجِبْ فيخافك الجميع.
(آ 41-43) إذا جاء الأجنبي الغريب، وصلّى في هذا البيت، فاسمع أنت من السماء... هذه الآيات تجعلنا في زمن الجلاء، حيث بدأ بنو إسرائيل ينفتحون على اسم وشعوب غريبة عنهم... كلّ الشعوب يستطيعون أن يدخلوا في العهد مع الله.
(آ 44-45) إذا ذهب شعبك إلى الحرب...
(آ 46- 51) وإذا خطئوا إليك... وهنا يقودنا الكاتب إلى زمن الجلاء (سنة 587)، يوم كان بنو إسرائيل بعيدين عن أرضهم ومدينتهم وهيكلهم... إغفر لشعبك، وضَعِ الرحمة في قُلوب جلاّديهم فيرحموهم.
(آ 52-53) لتَكُن عيناك مفتوحتين، إسمع تضرّع شعبك... ويعود بنا الكاتب إلى العهد الذي قطعه الله مع شعبه، بواسطة موسى على جبل سيناء.
3- سلمان يُبارك الشعب، ويُقدّم الذبائح (8: 54-66)

(آ 54- 61) وبارك سليمان الشعب وقال: تبارك الربّ الذي وهب شعبه الراحة... كما وعد على لسان عبده موسى. نُشير هنا إلى أنّ سِفْر الأخبار لا يذكر البَرَكة لأنّها وَقْفٌ على الكهنة (رج عد 23:6). أمّا البَرَكة فهي صلاة تدلّ على العلاقة بين الله وشعبه، وهي تعني أنّ الاحتفال في الهيكل سيدوم إلى الأبد. في هذا السبيل سيكون على بني إسرائيل، أن يتجاوبوا والدعوة التي دُعوا إليها، فيَحفظون وصايا الله من كلّ قلوبهم. ولكنّهم لن يستطيعوا إلا إذا أوصى الله إليهم بذلك. فالمُبادرة تعود إلى الربّ الذي يُتمِّم وعده، ويجعل شعبه يميل إليه بالطاعة والمحبّة، فيُصبح أهلاً لأن يكون أمّة كبيرةً.
ونقرأ في آ 60 عبارة تدلّ على وحدانية الله، ألربّ هو الإله وليس غيره. تَعْرِفُ ذلك الشعوب الوثنية، ويُخلِص له أفرادُ شعبه الخاص.
(آ 62-66) وقُدِّمت الذبائح... عدد كبير جدًا. لم يذبح سُليمان وحده كلّ هذه الحيوانات، بل الشعب الوافد من كلّ أنحاء البلاد. ومع ذلك يظلّ العدد مضخمًا، وكثرة الذبائح تدلت على مدى محبّة الشعب لربّه.
جاء الشعب من ليبو (مدخل) حماة في الشمال إلى وادي العريش في الجنوب. هل كانت جاليات خارج أرض كنعان، جاءت فشاركت سليمان في عيده؟ هذا معقول. ودام العيد لا سبعة أيّام ككُلّ عيد مظالّ، بل سبعة وسبعة وأيّام، فدلّ الكاتب بذلك على عظمة الاحتفال، ولكن في الواقع دام سبعة أيّام وفي اليوم الثامن (آ 66) صرف سليمان الشعب، كلّ واحدٍ إلى بيته.

ج- مُلاحظات عن الهيكل في حياة الشعب
1- ألهيكل هو المكان المقدّس حيث يكون الله حاضرًا وسط شعبه. يأتي الله إلى الهيكل، فيتقبّل عبادة الشعب، ويصرف عنهم غضبه، ويُغدِق عليهم إنْعاماته. لا شكّ في أنّ حضور الله لا ينحصر في الهيكل، ولكنّه يمتدّ إلى أرض شعبه، بل يُرافق أفراد شعبه إلى حيث يذهبون. هذا ما حدث لشعب الله، يوم ذهبوا في طريقهم إلى منفى بابل. ألهيكل مسكن الله على الأرض، كما أنّ السماء مسكنه في الأعالي. ولهذا يُبنى الهيكل على مثال قبّة السماء، فيقوم على أربعة عواميد تعلوها قبّة. هكذا بنى الفينيقيون معابدهم وعلى مثال معابدهم بنوا هيكل سليمان.
2- ولكنّ العبرانيين لم يكن لهم هيكل منذ بداية تاريخهم، وقد ظلّوا قرونًا عديدة بَدْواً أو أنصاف بدو، فما كان لهم أن يستقرّوا في مكان من الأمكنة. وسوف ننتظر احتلال داود لأورشليم، وتثبيت سليمان لمُلكه على القبائل، حتى يُبنى هيكل أورشليم الذي سيدوم ما دامت مملكة داود، بل سيُبنى من جديد بعد العودة من الجلاء.
3- كان للعبرانيين أماكن مقدّسة مشتركة مع سائر الشعوب الذين أقاموا بينهم: من أور وحاران، إلى بيت ايل وبئر سبع وشكيم. قال الكتاب: تراءى الربّ لإبراهيم في حاران، وقال له: إنْطلق، ففعل. وجاء إلى شكيم فتجلّى له الربّ وقال: لِنَسْلك أُعطي هذه الأرض. حينئذ بنى إبراهيم للربّ مذبحًا في ذلك المكان (تك 6:12-7). وكذلك فعل في بيت إيل (تك 8:12)، حيث دعا باسم الربّ. ومثله فعل يعقوب، بعد أن رأى ذلك الحُلُم المهيب. قال: ألربّ هو في هذا المكان، وأنا لم أنتبه إلى حضوره. هذا المكان هو بيت الله، بيت إيل (تك 28: 12، 16-17).
4- وفي أثناء الخروج، اعتبر الشعب سيناءَ مسكنَ الله. تراءى الله فيه أولا لموسى: ألموضع الذي أنت قائم فيه أرض مقدسة، فاخْلعَ نَعْلَيْكَ من رجليك (خر 3: 5). ثمّ تراءى للشعب كلّه وسط البروق والرعود: هَبَط الربّ على جبل سيناء (خر 18:19)، وكلّم موسى كما يكلّم الإنسان صاحبه، ثمّ أعطى شعبه وصايا ليحفظوها.
5- وترك الشعب جبل سيناء، وتوغّل في البرّية، فكيف يُحافظ على حُضور الله في وسطه؟ صنع له مذبحًا متنّقلاً هو تابوت العهد، أي ذلك الصُندوق المغطّى بصفيحة ذهبية. ووضع ذلك التابوت في خيمة الاجتماع، حيث كان يجتمع الله بموسى ويكلّمه، فيسمع الشعب كلمة الله (عد 1: 1؛ 9:7). في هذه الخيمة كان حضور الله محسوسًا ومحجوبًا في آنٍ معًا. فوراء السحاب الذي يُحيط بالمكان (خر 7:33- 11)، كان يحتجب مجدُ الله المُضيء (عد 14: 10؛ 19:16).
6- وظلّ تابوت العهد يرافق الشعب في تجوالهم وترحالهم، ويقيم في خيمته، إلى أن دخلوا أرض الميعاد. ترك التابوت الخيمة وأقام في المعبد، في الجِلجال أولاً (يش 30:8-35)، ثمّ في شكيم (يش 24: 1-28)، وأخيرًا في شيلو (1 صم 1-4)، قبل أن ينقله داود إلى أورشليم.
7- فكّر داود في أن يبني للربّ هيكلاً في أورشليم، ولكنّ النبي ناتان ثَنَاهُ عن عزمه، فكلّمه باسم الربّ: لم أسكن بيتًا مذ يوم أخرجت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة فهل سألتكم يومًا: لماذا لم تبنُوا لي بيتًا؟ وقال الربّ: لَسْتَ أنتَ من يبني لي بيتًا بل ابنك الذي يخرج من صُلْبك، هو الذي يبني بيتًا لإسمي، وأنا أُقِرُّ عرشَ مُلْكِهِ إلى الأبد (2 صم 7: 5 ي). هل خاف ناتان أن يكون معبد يهوه كسائر المعابد الوثنية، فيُحصر الله في مكانٍ معيَّن؟
8- ولكن حين أراد سليمان أن يبني هيكلاً للربّ، صم يكن هناك من يُعارضه من الأنبياء (1 مل 5: 15 ي). لذلك ما إن اعتلى العرش حتى قام بعمل، اعتبره الكاتبُ المُلهم أعظم أعماله المَلَكِيّة: بنى بيتًا للربّ، ونقل إليه تابوت العهد. ولكي يُبيّن الله رضاه عمّا فعله سليمان، أظهر مجده وسط السحاب، فما كان الكهنة يستطيعون أن يقفوا للخدمة، لأنّ مجد الربّ ملأ بيت الربّ (1 مل 11:8).
9- وسيكون هيكل أورشليم المعبد الملكيّ، ولكن ستكون معه معابد في البلاد. إلى هيكل أورشليم، سيأتي الجميع ليقفوا بحُضور الله (مز 3:42)، كما يقف العَبْدُ أمام سيّده. إلى هيكل أورشليم، سيحُجّ المؤمنون ثلاث مرّات في السنة: في عيد الفطير، في عيد العنصرة أو الأسابيع السبعة، في عيد المظالّ (تث 16: 16). وسيأتي إصلاح يوشيا فيهدم كلّ المعابد في مملكتي الشمال والجنوب، ويقضي على كهنة المشارف (2 مل 3:22-23: 20)، فلا يبقى إلاّ هيكل أورشليم، ألموضع الوحيد الذي اختاره الله، ليُحِلَّ اسمَه فيه (تث 16: 11).
10- سنة 587 سيُهْدَمُ الهيكل على يد البابليين، بقيادة نبوكد نصر، وسيَفْهَمُ الشعب على خُطى حزقيال أنّ حضور الربّ لا ينحصر داخل جُدران المعبد بل هو يُرافق شعبه أينما حلّ. وبعد العودة من المنفى، سيهتمّ العائدون ببناء هيكل آخر نُسمّيه الهيكل الثاني. في هذا الهيكل ستعود العبادة إلى عهدها السابق، وسيقصد الحُجّاج أورشليم، ويشاركون في الاحتفالات الدينية مع الآتين من كلّ أصقاع الأرض. ولكن أهمّ من هذه الروعة الخارجية التي يُحدّثنا عنها ابن سيراخ (50: 5 ي)، هناك التقوى الخالصة التي تدلّ على عُمْقِ الحياة الروحية عند الآتين ليُشاركوا في شعائر العبادة.
11- وينتقل النظر من هيكل الحجر إلى الهيكل لروحانيّ. كان اليهود يتعلّقون بهيكل الربّ الذي بناه سليمان، ويعتبرون أنّ هذا البناء المادي يفعل كقوة سحرية، فيخلّص المدينة من كلّ عدوّ، رغم شرور أبنائها. هذا ما فكّر به أشعيا وحزقيا، لمّا حاصر سنحاريب أورشليم سنة 701، ولقد وثق المؤمنون فقالوا: هيكل الربّ، هيكل الربّ، وفي ظنّهم أن بناء الحجر يحلّ محلّ التوبة. غير أنّ الأنبياء سيتنبأون بدمار هذا البيت، بعد أن صار مركز الممارسات الوثنية. قال الربّ بلسان أشعيا (1: 11): ما فائدتي من كَثْرَةِ ذبائحكم؟ وقال إرميا (7: 11): هذا البيت صار مغارة للّصُوص، لهذا سأدمّره كما دمّرت شيلو من قبله (ار 7: 14). ورأى حزقيال كلّ الممارسات الرَجِسَة التي تُمارس في الهيكل، فتوعّد شعبه (حز 12:8 ي). يوم يُدمَّر الهيكل، سيتطلعّ المؤمنون إلى أبعد من البناء الحجري، فيجعلون قلبهم في العبادة الروحية التي يطلبها الربّ. قال الربّ بلسان أشعيا: أيّ بيت تبنون لي، وأيّ مكان يُمكنه أن يكون مقرّ راحتي؟ أنا أرتاح مع البائس والمُنْسَحِقِ الروح والمتّقي لكلمتي (اش 66: 1-2).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM